Вы находитесь на странице: 1из 2411

‫تفسَت القرآن الكريم‬

‫للشيخ متويل الشعراوي ر‪ٛ‬ته اهلل‬

‫أعده لل ‪Apple iPOD Touch‬‬

‫ا‪١‬تهندس ‪٤‬تمد مبدع عبسي ا‪ٟ‬تلبي‬


‫سورة البقرة‬
‫من ‪ 216‬إىل ‪286‬‬
‫‪ٛ‬ت ِن ال َّر ِح ِ‬
‫يم‬ ‫بِس ِم َ ِ‬
‫اّلل ال َّر ْ َ‬
‫ْ ّ‬
‫ال َو ُه َو ُك ْر ٌه ل َ ُك ْم‬‫ب عَلَي ْ ُك ُم الْقِت َ ُ‬
‫َ‬
‫ُكتِ‬
‫ع َ‬
‫َو َ ََس أ ْن تَك َْر ُهوا َشيْئًا َو ُه َو َخ َْتٌ‬
‫ل َ ُك ْم َو َع ََس أ َ ْن ُ ِٖتبُّوا َشيْئًا َو ُه َو َش ٌّر‬
‫َ‬
‫اّلل يَعْل َ ُم َوأن ْ ُت ْم َال تَعْل َ ُم َ‬
‫ون‬ ‫ل َ ُك ْم َو َّ ُ‬
‫(‪)216‬‬

‫إن كراهية القتال هي قضية‬


‫فطرية يقو‪٢‬تا الذي خلق اإلنسان‬
‫فهو سبحانه ال يعاًف األمر عبلجا‬
‫سوفسطائيا ‪ٔ ،‬تعٌت أن يقول ‪:‬‬
‫وماذا يف القتال؟ ال ‪ ،‬إن ا‪٠‬تالق‬
‫يقول‪ :‬أعلم أن القتال مكروه ‪.‬‬
‫وحىت إذا ما أصابك فيه ما تكره‬
‫فأنت قد علمت أن الذي شرعه‬
‫يُقدر ذلك ‪ .‬ولو لم يقل ا‪ٟ‬تق إن‬
‫القتال كره ‪ :‬لفهم الناس أن اهلل‬
‫يصور ‪٢‬تم األمر العسَت يسَتا ‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل يقول للذين‬
‫آمنوا‪ :‬اعلموا أنكم مقبلون عىل‬
‫مشقات ‪ ،‬وعىل متاعب ‪ ،‬وعىل أن‬
‫تًتكوا أموالكم ‪ ،‬وعىل أن تًتكوا‬
‫لذتكم و٘تتعكم ‪ .‬ولذلك ‪٧‬تد‬
‫كبار الساسة الذين برعوا يف‬
‫السياسة و‪٧‬تحوا يف قيادة ‪٣‬تتمعاهتم‬
‫كانوا ال ٭تبون لشعوبهم أن ٗتوض‬
‫ا‪١‬تعارك إال مضطرين ‪ ،‬فإذا ما‬
‫اضطروا فهم يوضحون ‪ٞ‬تندهم‬
‫أهنم يدرأون بالقتال ما هو أكثر‬
‫شرا ًمن القتال ‪ ،‬ومعٌت ذلك أهنم‬
‫يعبئون النفس اإلنسانية حىت‬
‫تواجه ا‪١‬توقف ّتماع قواها ‪،‬‬
‫وّتميع ملكاهتا ‪ ،‬وكل إرادهتا ‪.‬‬
‫واٌفق سبحانه وتعاىل يقول ‪{ :‬‬
‫ب عَلَي ْ ُك ُم القتال َو ُه َو ُك ْر ٌه ل َّ ُك ْم‬ ‫ُكتِ‬
‫َ‬
‫} إنه سبحانه يقول لنا ‪ :‬أعلم أن‬
‫القتال كره لكم ولكن أردت أن‬
‫أشيع فيكم قضية ‪ ،‬هذه القضية هي‬
‫أال ٖتكموا يف القضايا الكبَتة يف‬
‫حدود علمكم؛ ألن علمكم دائما‬
‫ناقص ‪ ،‬بل خذوا القضايا من‬
‫خبلل ع‪١‬تي أنا؛ ألنٍت قد أشرع‬
‫مكروها ‪ ،‬ولكن يأيت منه ا‪٠‬تَت ‪.‬‬
‫وقد تَ َرون حبا يف شيء ويأيت منه‬
‫الشر ‪ .‬ولذلك ينبهنا ا‪ٟ‬تق إىل أن‬
‫كثَتا ًمن األمور ا‪١‬تحبوبة عندنا‬
‫يأيت منها الشر ‪ ،‬فيقول الواحد منا ‪:‬‬
‫« كنت أتوقع ا‪٠‬تَت من هذا األمر ‪،‬‬
‫لكن الشر هو ما جاءين منه » ‪.‬‬
‫وهناك أمور أخرى نظن أن الشر‬
‫يأيت منها ‪ ،‬لكنها تأيت با‪٠‬تَت ‪.‬‬
‫ولذلك يًتك ا‪ٟ‬تق فلتات يف‬
‫ا‪١‬تجتمع حىت يتأكد الناس أن اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل ال ُ‪٬‬تري أمور ا‪٠‬تَت‬
‫عىل مقتضيات ومقاييس علم العباد‬
‫‪ ،‬إ‪٪‬تا ُ‪٬‬تري ا‪ٟ‬تكم عىل مقتىض‬
‫ومقاييس وعلم رب العباد ‪.‬‬
‫ولننظر إىل ما رواه ا‪ٟ‬تق مثبل للناس‬
‫ال موىس ل ِ َفت َ ُاه ال‬
‫عىل ذلك ‪َ { :‬وإِذْقَ َ‬
‫أَب ْ َر ُح حىت أَبْل ُ َغ َ‪٣‬ت ْ َم َع البحرين أ َ ْو‬
‫أ َ ْم ِض َي ُح ُقبا ً* فَل َ َّما بَلَغَا َ‪٣‬ت ْ َم َع بَي ْ ِن ِه َما‬
‫ن َ ِسيَا ُحوهتَ ُ َما فاٗتذ َسبِيل َ ُه ِيف البحر‬
‫ال ل ِ َفت َ ُاه آتِنَا‬
‫اوزَا قَ َ‬ ‫َس َربا ً* فَل َ َّما َج َ‬
‫َ َدآءَ َانلَقَ ْد لَقِينَا ِمن َس َف ِرنَا هذا‬
‫ال أ َ َرأَي ْ َت إِذْ أ َ َويْنَآ إ َِىل‬
‫ن َ َصبا ً* قَ َ‬
‫يت ا‪ٟ‬توت َو َمآ‬ ‫الصخرة فَإ ِِّين ن َ ِس ُ‬
‫يه إِال َّالشيطان أ َ ْن أَذْ ُك َر ُه‬ ‫َ ِ‬
‫أن ْ َسان ُ‬
‫واٗتذ َسبِيل َ ُه ِيف البحر َع َجبا ً* قَ َ‬
‫ال‬
‫ِ‬
‫ذَل ِ َ‬
‫ك َما ُكنَّا نَب ْ ِغ فارتدا عىل آثَا ِر َ‬
‫‪٫‬تا‬
‫َق َصصا ً} ػ الكهف ‪] 64-60 :‬‬
‫إن موىس عليه السبلم يسَت مع فتاه‬
‫إىل ‪٣‬تمع البحرين ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إنه‬
‫ملتىق ْترين يف جهة ا‪١‬تشرق ‪ ،‬وكان‬
‫معهما طعام هو حوت ‪٦‬تلوح‬
‫يأكبلن منه ‪ ،‬لكن السفر وا‪١‬تشقة‬
‫أنسا‪٫‬تا ا‪ٟ‬توت وانطلق ا‪ٟ‬توت بآية‬
‫من اهلل إىل البحر ‪ ،‬وعندما وصل‬
‫موىس إىل ‪٣‬تمع البحرين طلب من‬
‫فتاه أن يأيت بالطعام بعد طول‬
‫التعب ‪ ،‬لكن الفىت يقول ‪١‬توىس ‪:‬‬
‫إنه نسي ا‪ٟ‬توت ‪ ،‬ولم ينسه إياه إال‬
‫الشيطان ‪.‬‬

‫وإن ا‪ٟ‬توت اٗتذ طريقه إىل البحر ‪،‬‬


‫فقال موىس ‪ :‬إن هذا ما كنا نطلبه‬
‫عبلمة عىل وصولنا إىل ايتنا وهي‬
‫‪٣‬تمع البحرين ‪ ،‬أي أمر ا‪ٟ‬توت‬
‫وفقده هو الذي نطلب ‪ ،‬فإن‬
‫الرجل الذي جئنا من أجله هناك‬
‫يف هذا ا‪١‬تكان ‪ ،‬وارتد موىس والغبلم‬
‫عىل آثار‪٫‬تا مرة أخرى ‪.‬‬
‫فما الذي ٭تدث؟ يلتقي موىس عليه‬
‫السبلم بالعبد الصاٌف ا‪٠‬تضر ‪ ،‬وهو‬
‫ويل من أولياء اهلل ‪ ،‬علمه اهلل العلم‬
‫الرباين الذي يهبه اهلل لعباده ا‪١‬تتقُت‬
‫كثمرة لئلخبلص والتقوى ‪.‬‬
‫ويطلب موىس عليه السبلم من‬
‫العبد الرباين سيدنا ا‪٠‬تضر عليه‬
‫السبلم أن يتعلم منه بعض الرشد‪.‬‬
‫لكن العبد الرباين الذي وهبه اهلل‬
‫من العلم ما يفوق استيعاب القدرة‬
‫البشرية يقول ‪١‬توىس عليه السبلم ‪:‬‬
‫ال إِن ّ ََك لَن تَ ْست َ ِطي َع َمعِ َي َص ْْبا ً*‬
‫{ قَ َ‬
‫ص ُر عىل َما ل َ ْم ُ ِٖت ْط بِ ِه ُخ ْْبا ً‬
‫و َكي َف تَ بِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫} ػ الكهف ‪] 68-67 :‬‬
‫لقد كان موىس عىل علم سابق بأن‬
‫ضياع ا‪ٟ‬توت هو مسألة يف ظاهرها‬
‫شر لكن يف باطنها خَت؛ ألن ذلك‬
‫هو السبيل والعبلمة اليت يعرف بها‬
‫موىس كيف يلتقي بالعبد الصاٌف ‪.‬‬
‫ويستمر السياق نفسه يف قصة‬
‫موىس والعبد الصاٌف ‪ ،‬قصة ظاهرها‬
‫الشر وباطنها ا‪٠‬تَت ‪ ،‬سواء يف قصة‬
‫السفينة اليت خرقها أو الغبلم الذي‬
‫قتله ‪ ،‬أو ا‪ٞ‬تدار الذي أقامه ‪.‬‬
‫لقد كان علم العبد الصاٌف علما ً‬
‫ربانيا ً‪ ،‬لذلك أراد موىس أن يتعلم‬
‫بعضا ًمن هذا العلم لكن العبد‬
‫الصاٌف ينبه موىس عليه السبلم أن‬
‫ما قد يراه هو فوق طاقة الصْب؛ ألن‬
‫الذي قد يراه موىس من أفعال إ‪٪‬تا‬
‫قد يرى فيها شرا ًظاهرا ً‪ ،‬لكن يف‬
‫باطنها كل ا‪٠‬تَت ‪.‬‬
‫وقَبِل موىس عليه السبلم أن يقف‬
‫موقف ا‪١‬تتعلم بأدب مع العالم‬
‫الذي وهبه اهلل العلم الرباين‪.‬‬
‫ويشًتط العبد الرباين عىل موىس أال‬
‫يسأل إال بعد أن ٭تدثه العبد‬
‫الرباين عن األسباب ‪ .‬ويلتقي موىس‬
‫والعبد الرباين بسفينة فيصعدان‬
‫عليها ‪ ،‬وٮترق العبد الرباين السفينة‬
‫‪ ،‬فيقول موىس ‪ { :‬أ َ َخ َرقْتَهَا ل ِ ُتغ ْ ِر َق‬
‫أ َ ْهلَهَا لَقَ ْد ِجئ ْ َت َشيْئا ًإِ ْمرا ً} ػ‬
‫الكهف ‪] 71 :‬‬
‫فَتد العبد الصاٌف ‪ { :‬أَل َ ْم أ َ ُق ْل إِن ّ ََك‬
‫لَن تَ ْست َ ِطي َع َم ِع َي َص ْْبا ً} ػ الكهف‬
‫‪] 72 :‬‬
‫ويتذكر موىس أنه وعد العبد الصاٌف‬
‫بالصْب ‪ ،‬لكن ما الذي يفعله موىس‬
‫وقد وجد العبد الصاٌف ٮترق سفينة‬
‫ٖتملهم يف البحر؟ إنه أمر شاق عىل‬
‫النفس ‪ .‬ولذلك يقول موىس ‪ { :‬ال َ‬
‫يت َوال َ ُت ْر ِه ْق ٍِت ِم ْن‬ ‫ِ ِ‬
‫ُت َؤاخ ْذ ِين ٔتَا ن َ ِس ُ‬
‫أ َ ْم ِري ُع ْسرا ً} ػ الكهف ‪] 73 :‬‬
‫إن موىس يعود إىل وعده للعبد الصاٌف‬
‫‪ ،‬ويطلب منه فقط أال يكلفه بأمور‬
‫تفوق قدرته ‪ .‬وينطلق العبد الصاٌف‬
‫ومعه موىس عليه السبلم ‪ ،‬فيجد‬
‫العبد الصاٌف بلما فيقتله ‪ ،‬فيقول‬
‫موىس ‪ { :‬أَقَتَل ْ َت ن َ ْفسا ًزَ ِكيَةً بِغ َ ْ ِ‬
‫َت‬ ‫ّ‬
‫ن َ ْف ٍس ل َّ َق ْد ِجئ ْ َت َش ْيئا ًنُّكْرا ً} ػ‬
‫الكهف ‪] 74 :‬‬
‫ويُذكر العبد الصاٌف موىس أنه لن‬
‫يستطيع الصْب معه ‪ ،‬ويعتذر موىس‬
‫عما ال يعلم ‪.‬‬
‫وٯتر العبد الصاٌف ومعه موىس‬
‫بقرية فطلبا من أهل القرية‬
‫الضيافة ‪ ،‬لكن أهل القرية‬
‫يرفضون الضيافة ‪ ،‬و‪٬‬تد العبد‬
‫الصاٌف جدارا مائبل يكاد يسقط‬
‫فيبدأ يف بنائه ‪ ،‬فيقول موىس ‪ { :‬ل َ ْو‬
‫ِشئ ْ َت لتَّ َخ ْذ َت عَلَي ْ ِه أ َ ْجرا ً} ػ‬
‫الكهف ‪ ] 77 :‬ويكون الفراق‬
‫بُت العبد الصاٌف وموىس‪ .‬وٮتْب‬
‫العبد الصاٌف موىس ٔتا لم يعلمه‬
‫ولم يصْب عليه ‪ .‬إن خرق السفينة‬
‫كان إلنقاذ أصحابها من اغتصابها‬
‫منهم؛ ألن هناك ملكا كان يأخذ‬
‫كل سفينة صا‪ٟ‬تة غصبا ً‪ ،‬فأراد أن‬
‫يعيبها ليًتكها ا‪١‬تلك ‪٢‬تؤالء‬
‫ا‪١‬تساكُت ‪.‬‬
‫وقتل الغبلم كان ر‪ٛ‬تة بأبويع‬
‫ا‪١‬تؤمنُت ‪ ،‬كان هذا االبن سيجلب‬
‫‪٢‬تما الطغيان والكفر ‪ ،‬وأراد اهلل‬
‫أن يبدله خَتا ًمنه ‪.‬‬
‫وأن ا‪ٞ‬تدار الذي أقامه كان فوق‬
‫كزن ‪ ،‬وكان ليتيمُت من هذه القرية‬
‫وكان والد الغبلمُت صا‪ٟ‬تا ً‪ ،‬لذلك‬
‫كان البد من إعادة بناء ا‪ٞ‬تدار حىت‬
‫يبلغ الغبلمان أشدهم ويستخرجا‬
‫الكزن ويقول العبد الصاٌف عن كل‬
‫هذه األعمال ‪َ { :‬و َما فَعَل ْ ُت ُه َع ْن‬
‫ك تَأ ْ ِو ُيل َما ل َ ْم تَ ْس ِطع عَّلَي ْ ِه‬
‫أ َ ْم ِري ذَل ِ َ‬
‫َص ْْبا ً} ػ الكهف ‪] 82 :‬‬
‫إن العبد الصاٌف ال ينسب هذا‬
‫العمل الرباين لنفسه ‪ ،‬ولكن‬
‫ينسبه إىل ا‪٠‬تالق الذي علمه ‪ .‬إذن‬
‫فا‪ٟ‬تق يطلق بعضا ًمن قضايا الكون‬
‫حىت ال يظن اإلنسان أن ا‪٠‬تَت دائما ً‬
‫فيما ٭تب ‪ ،‬وأن الشر فيما يكره ‪،‬‬
‫ولذلك يقول سبحانه ‪ { :‬وعَس‬
‫أَن تَك َْر ُهوا ْ َشيْئا ً َو ُه َو َخ َْتٌ ل َّ ُك ْم‬
‫وعَس أَن ُ ِٖتبُّوا ْ َشيْئا ً َو ُه َو َش ٌّر ل َّ ُك ْم }‬
‫فإن كان القتال كرها ًلكم ‪ ،‬فلعل‬
‫فيه خَتا ًلكم ‪ .‬ؤتناسبة ذكر‬
‫ال ُكره نوضح أن هناك « َكره » و «‬
‫ُكره » ‪ .‬إن « الكَره » بفتح الكاف ‪:‬‬
‫هو الشيء ا‪١‬تكروه الذي ُٖتمل‬
‫و ُتك َْر ُه عىل فعله ‪ ،‬أما « ال ُكره »‬
‫بضم الكاف فهو الشيء الشاق ‪.‬‬
‫وقد يكون الشيء مكروها وهو َت‬
‫شاق ‪ ،‬وقد يكون شاقا ًولكن َت‬
‫ِ‬ ‫مك‬
‫روه ‪ .‬وا‪ٟ‬تق يقول ‪ُ { :‬كت َ‬
‫ب‬
‫عَلَي ْ ُك ُم القتال َو ُه َو ُك ْر ٌه ل َّ ُك ْم } ‪.‬‬
‫ولنبلحظ أن ا‪ٟ‬تق دائما ًحينما‬
‫ِ‬ ‫يش‬
‫ب } وال‬ ‫رع فهو يقول ‪ُ { :‬كت َ‬
‫يقول ‪َ « :‬كتبت » ذلك حىت نفهم‬
‫أن اهلل لن يشرع إال ‪١‬ت َ ْن آمن به؛‬
‫فهو سبحانه لم يكتب عىل الكافرين‬
‫أي تكاليف ‪ ،‬وهل يكون من‬
‫ا‪١‬تنطقي أن يكلف اهلل َم ْن آ َمن به‬
‫ويًتك الكافر ببل تكليف؟‬
‫نعم ‪ ،‬إنه أمر منطقي؛ ألن التكليف‬
‫خَت ‪ ،‬وقد ينظر بعض الناس إىل‬
‫التكليف من زاوية أنه ُمقيِ ّد ‪ ،‬نقول‬
‫‪٢‬تم ‪ :‬لو كان التكليف اإلٯتاين يقيد‬
‫لكلف اهلل به الكافر ‪ ،‬ولكن اهلل ال‬
‫يكلف إال َم ْن ٭تبه ‪ ،‬إنه سبحانه ال‬
‫يأمر إال با‪٠‬تَت ‪ ،‬ثم إن اهلل ال يكلف‬
‫إال َم ْن آمن به؛ ألن العبد ا‪١‬تؤمن مع‬
‫ربه يف عقد اإلٯتان ‪.‬‬
‫إذن فاهلل حُت يقول ‪ُ « :‬كتب »‬
‫فمعٌت ذلك أنه سبحانه يقصد أنه‬
‫لم يقتحم عىل أحد حركة اختياره‬
‫ا‪١‬توهوبة له ‪ ،‬واهلل سبحانه وتعاىل‬
‫قد ترك للناس حرية االختيار يف‬
‫أن يؤمنوا أو ال يؤمنوا ‪.‬‬

‫ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد‬


‫دخل مع اهلل يف عقد إٯتان ‪،‬‬
‫ؤتقتىض هذا العقد كتب اهلل عليه‬
‫التكاليف ‪ .‬ومن هذه التكاليف‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫القتال ‪ ،‬فقال سبحانه ‪ُ { :‬كت َ‬
‫عَلَي ْ ُك ُم القتال } ‪.‬‬
‫وقوله ‪ { :‬عَل َْي ُك ُم } يعٍت أن القتال‬
‫ساعة يكتب ال يبدو من ظاهر أمره‬
‫إال ا‪١‬تشقة فجاءت { عَلَي ْ ُك ُم }‬
‫لتناسب األمر ‪ .‬وبعد انتهاء القتال‬
‫إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم ‪،‬‬
‫وإذا اهنزمنا واستشهدنا فلنا ا‪ٞ‬تنة ‪.‬‬
‫ويعْب ا‪ٟ‬تق عن ظاهر األمر يف‬
‫القتال فيقول عنه ‪َ { :‬و ُه َو ُك ْر ٌه‬
‫ل َّ ُك ْم وعَس أَن تَك َْر ُهوا ْ َشيْئا ً َو ُه َو‬
‫َخ َْتٌ ل َّ ُك ْم وعَس أَن ُ ِٖتبُّوا ْ َشيْئا ً َو ُه َو‬
‫َش ٌّر ل َّ ُك ْم } ‪ .‬إهنا قضية عامة كما‬
‫قلنا ‪ .‬لذلك فعلينا أن نرد األمر إىل‬
‫من يعلمه ‪ { ،‬واهلل يَعْل َ ُم َوأَن ْ ُت ْم ال َ‬
‫ون } فكل أمر علينا أن نرده‬ ‫تَعْل َ ُم َ‬
‫إىل حكمة اهلل الذي أجراه؛ ألنه‬
‫هو الذي يعلم ‪.‬‬
‫وهناك قصة من الًتاث اإلنساين‬
‫ٖتكي قضية رجل من الصُت ‪،‬‬
‫وكان الرجل ٯتلك مكانا متسعا‬
‫وفيه خيل كثَتة ‪ ،‬وكان من ضمن‬
‫ا‪٠‬تيل حصان ٭تبه ‪ .‬وحدث أن هام‬
‫ذلك ا‪ٟ‬تصان يف ا‪١‬تراعي ولم يعد ‪،‬‬
‫فحزن عليه ‪ ،‬فجاء الناس ليعزوه يف‬
‫فقده ا‪ٟ‬تصان ‪ ،‬فابتسم وقال ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫ومن أدراكم أن ذلك شر لتعزوين‬
‫فيه؟‬
‫وبعد مدة فوجئ الرجل با‪ٞ‬تواد‬
‫ومعه قطيع من ا‪ٞ‬تياد ‪٬‬تره خلفه ‪،‬‬
‫فلما رأى الناس ذلك جاءوا ليهنئوه‬
‫‪ ،‬فقال ‪٢‬تم ‪ :‬وما أدراكم أن ذلك‬
‫خَت ‪ ،‬فسكت الناس عن التهنئة ‪.‬‬
‫وبعد ذلك جاء ابنه لَتكب ا‪ٞ‬تواد‬
‫فانطلق به ‪ ،‬وسقط الولد من فوق‬
‫ا‪ٟ‬تصان فانكسرت ساقه ‪ ،‬فجاء‬
‫الناس مرة أخرى ليواسوا الرجل‬
‫فقال ‪٢‬تم ‪ :‬ومن أدراكم أن ذلك‬
‫شر؟‬
‫وبعد ذلك قامت حرب فجمعت‬
‫ا‪ٟ‬تكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا‬
‫العدو ‪ ،‬وتركوا هذا االبن؛ ألن‬
‫ساقه مكسورة ‪ ،‬فجاءوا يهنئونه ‪،‬‬
‫فقال ‪٢‬تم ‪ :‬ومن أدراكم أن ذلك‬
‫خَت؟ فعلينا أال نأخذ كل قضية‬
‫بظاهرها ‪ ،‬إن كانت خَتا ًأو شرا ً‪،‬‬
‫لكن علينا أن نأخذ كل قضية من‬
‫قضايا ا‪ٟ‬تياة يف ضوء قول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ل ِ ّ َكيْبل َتَأ ْ َس ْوا ْعىل َما فَاتَ ُك ْم َوال َ‬
‫تَ ْف َر ُحوا ْ ِٔتَآ آتَا ُك ْم } ػ ا‪ٟ‬تديد ‪:‬‬
‫‪] 23‬‬
‫وا‪ٟ‬تق هو القائل ‪ { :‬واهلل يَعْل َ ُم‬
‫َ‬
‫ون } ‪ .‬وهلل ا‪١‬تثل‬ ‫َوأن ْ ُت ْم ال َتَعْ َ ُمل َ‬
‫األعىل ‪ ،‬سبق لنا أن ضربنا ا‪١‬تثل من‬
‫قبل بالرجل ا‪ٟ‬تنون الذي ٭تب‬
‫ولده الوحيد ويرجو بقاءه يف الدنيا‬
‫‪ ،‬لذلك عندما ٯترض االبن فاألب‬
‫يعطيه الدواء ا‪١‬تر ‪ ،‬وساعة يعطيه‬
‫ا‪ٞ‬ترعة فاالبن يكره الدواء ولكنه‬
‫خَت له ‪ .‬وبعد ذلك يتحدث ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل عن سؤال آخر يقول‬
‫فيه ‪ { :‬ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ك َع ِن الشهر‬
‫ا‪ٟ‬ترام قِت َ ٍال فِي ِه ‪} . . .‬‬
‫ك َع ِن ال َّشهْ ِر ا ْ‪ٟ‬ت َ َرا ِم قِت َ ٍال‬ ‫ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ال فِي ِه كَبَِتٌ َو َص ٌّد َع ْن‬ ‫فِي ِه ُق ْل قِت َ ٌ‬
‫اّلل َو ُك ْف ٌر بِ ِه َوا ْ‪١‬ت َ ْس ِج ِد‬
‫ِيل َ ِ‬
‫َسب ِ ّ‬
‫ْب ِعن ْ َد‬ ‫ا ْ‪ٟ‬ت َ َرا ِم وإِ ْخ َر ُ َ ِ ِ ِ َ‬
‫اج أ ْهله من ْ ُه أكْ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ْب ِم َن ال ْ َقت ْ ِل َو َال‬
‫اّلل َوال ْ ِفتْن َ ُة أ َ ْك َُ‬
‫َِ‬
‫ّ‬
‫ون يُقَاتِلُون َ ُك ْم َح َّىت ي َ ُر ّدُو ُك ْم‬ ‫ي َ َزال ُ َ‬
‫َع ْن ِدي ِن ُك ْم إ ِِن ْاست َ َطا ُعوا َو َم ْن‬
‫ي َ ْرتَ ِددْ ِمن ْ ُك ْم َع ْن ِدي ِن ِه فَي َ ُم ْت َو ُه َو‬
‫ك َحبِ َط ْت أ َ ْع َما ُ‪٢‬ت ُ ْم ِيف‬ ‫كَافِ ٌر فَأُولَئِ َ‬
‫اب‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ص‬ ‫ك أَ‬
‫َ‬ ‫ال ُّدنْيا و ْاْل ِخ َر ِة وأُولَئِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ون (‪)217‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫النَا ِر هم فِيها َخال ِ‬
‫َ‬ ‫ّ ُ ْ َ‬
‫والسؤال هنا ليس عن الشهر‬
‫ا‪ٟ‬ترام؛ ألنه كان معروفا عندهم‬
‫من أيام ا‪ٞ‬تاهلية ولكن السؤال عن‬
‫القتال يف الشهر ا‪ٟ‬ترام ‪ ،‬فما‬
‫جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال‬
‫استفزازي ‪ ،‬وا‪١‬تسألة ‪٢‬تا قصة ‪.‬‬
‫ونعرف أن للسنة أثٌت عشر شهرا ً‪،‬‬
‫وقد جعل اهلل فيها أربعة أشهر‬
‫حرم ‪ :‬شهر واحد فرد وه و رجب ‪،‬‬
‫وثبلثة سرد ‪ ،‬هي ذو القعدة وذو‬
‫ا‪ٟ‬تجة وا‪١‬تحرم ‪ .‬ومعٌت أشهر حرم‬
‫أي أن القتال ‪٤‬ترم فيها ‪.‬‬
‫لقد علم اهلل كْبياء ا‪٠‬تلق عىل ا‪٠‬تلق‬
‫‪ ،‬لذلك جعل اهلل ‪٠‬تلقه ساترا ٭تمي‬
‫كْبياءهم ‪ ،‬ومن هذه السنن اليت‬
‫سنها اهلل هي حرمة القتال يف‬
‫األشهر ا‪ٟ‬ترم ‪ ،‬واألماكن ا‪ٟ‬ترم ‪،‬‬
‫فيج وز أن ا‪ٟ‬ترب تضر ا‪١‬تحارب ‪،‬‬
‫لكن كْبياءه أمام عدوه ٯتنعه من‬
‫وقف القتال ‪ ،‬فيستمر يف ا‪ٟ‬ترب‬
‫مهما كان الثمن ‪ ،‬فيأيت ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل ويقول للمتحاربُت‬
‫‪ :‬ارفعوا أيديكم يف هذه الشهور‬
‫ألين حرمت فيها القتال ‪ .‬ورٔتا كان‬
‫ا‪١‬تحاربون أنفسهم يتمنون من‬
‫أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف‬
‫ا‪ٟ‬ترب ‪ ،‬ولكن كْبياءهم ٯتنعهم‬
‫من الًتاجع ‪ ،‬وعندما يتدخل‬
‫حكم السماء سيجد كل من‬
‫الطرفُت حجة ليًتاجع مع حفاظه‬
‫عىل ماء الوجه ‪ .‬وكذلك جعل اهلل‬
‫أماكن ‪٤‬ترمة ‪ ،‬٭ترم فيها القتال‬
‫حىت يقول الناس إن اهلل هو الذي‬
‫حرمها ‪ ،‬وتكون ‪٢‬تم ستارا ً٭تمي‬
‫كْبياءهم ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل الذي خلق‬
‫اإلنسان أراد أن يصون اإلنسان‬
‫حىت ٭تقن الدماء ‪ ،‬فإذا ظل الناس‬
‫ثبلثة أشهر ببل حرب ‪ ،‬ثم شهرا ً‬
‫آخر ‪ ،‬فنعموا يف هذه الفًتة‬
‫بالسبلم والراحة وا‪٢‬تدوء ‪ ،‬فرٔتا‬
‫يألفون السبلم ‪ ،‬وال يفكرون يف‬
‫ا‪ٟ‬ترب مرة أخرى ‪ ،‬لكن لو‬
‫استمرت ا‪ٟ‬ترب ببل توقف لظل‬
‫سعار ا‪ٟ‬ترب يف نفوسهم ‪ ،‬وهذه هي‬
‫ميزة األشهر ا‪ٟ‬ترم ‪.‬‬
‫واألشهر ا‪ٟ‬ترم ُح ُر ٌم يف الزمان‬
‫وا‪١‬تكان؛ ألن الزمان وا‪١‬تكان ‪٫‬تا‬
‫ظرف األحداث ‪ ،‬فكل حدث ٭تتاج‬
‫زمانا ومكانا ‪ .‬وعندما ٭ترم الزمان‬
‫و٭ترم ا‪١‬تكان فكل من طريف القتال‬
‫يأخذ فرصة للهدوء ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعرض هنا‬
‫قضية أراد بها خصوم اإلسبلم من‬
‫كفار قريش واليهود أن يثَتوها؛‬
‫فقد كان رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يرسل بعض السرايا‬
‫لبلستطبلع ‪ ،‬والسرية هي عدد‬
‫‪٤‬تدود من ا‪١‬تقاتلُت ‪ ،‬فجاء رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأرسل‬
‫سرية عىل رأسها عبد اهلل بن جحش‬
‫األسدي ابن عمة رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وأرسل معه‬
‫‪ٙ‬تانية أفراد ‪ ،‬وجعله أمَتا عليهم ‪،‬‬
‫وأعطاه كتابا وأمره أال يفتحه إال‬
‫بعد مسَتة يومُت ‪ ،‬وذلك حىت ال‬
‫يعلم أحد أين تذهب السرية ‪ ،‬ويف‬
‫ذلك احتياط يف إخفاء ا‪٠‬تْب ‪.‬‬
‫فلما سارت السرية ليلتُت فتح‬
‫عبد اهلل الكتاب وقرأه فإذا به ‪:‬‬
‫اذهب إىل « بطن ‪٩‬تلة » وهو مكان‬
‫بُت مكة والطائف واستطلع عَت‬
‫قريش ‪ ،‬وال ُتكره أحدا ‪٦‬تن معك‬
‫عىل أن يسَت مرغما ‪ٔ ،‬تعٌت أن‬
‫يكون لكل فرد يف السرية حرية‬
‫ا‪ٟ‬تركة ‪ ،‬فمن يفضل عدم السَت‬
‫فله هذا ا‪ٟ‬تق ‪.‬‬
‫وبينما هم يف الطريق ضل بعَت‬
‫لسعد بن أيب وقاص وعقبة بن‬
‫َغ ْزوان ‪ ،‬وذهبا يْتثان عن البعَت ‪،‬‬
‫وبىق ستة مقاتلُت مع عبد اهلل ‪،‬‬
‫وذهب الستة إىل « بطن ‪٩‬تلة »‬
‫فوجدوا « عمرو بن ا‪ٟ‬تضرمي »‬
‫ومعه ثبلثة عىل عَت لقريش ‪،‬‬
‫فدخلوا معهم يف معركة ‪ ،‬وكان هذا‬
‫اليوم يف ظنهم هو آخر ‪ٚ‬تادى‬
‫اْلخرة ‪ ،‬لكن تبُت ‪٢‬تم فيما بعد‬
‫أنه أول رجب أي أنه أحد أيام‬
‫شهر حرام ‪.‬‬
‫وقتل ا‪١‬تسلمون ابن ا‪ٟ‬تضرمي ‪،‬‬
‫قتله واقد بن عبد اهلل من أصحاب‬
‫عبد اهلل ابن جحش ‪ ،‬وأسروا اثنُت‬
‫‪٦‬تن معه ‪ ،‬وفر واحد ‪ ،‬فلما حدث‬
‫هذا ‪ ،‬وتبُت ‪٢‬تم أهنم فعلوا ذلك يف‬
‫أول رجب ‪ ،‬عند ذلك اعتْبوا أن‬
‫قتا‪٢‬تم وغنائمهم ‪٥‬تالفة ‪ٟ‬ترمة‬
‫شهر رجب ‪.‬‬
‫وردا ًبُت‬
‫وثارت ا‪١‬تسألة أخذا ّ‬
‫ا‪١‬تسلمُت قبل أن تتحدث فيها‬
‫قريش حيث قالوا ‪ :‬إن ‪٤‬تمدا ً‬
‫يدعي أنه ٭تًتم ا‪١‬تقدسات و٭تًتم‬
‫األشهر ا‪ٟ‬ترم ‪ ،‬ومع ذلك قاتل يف‬
‫األشهر ا‪ٟ‬ترم ‪ ،‬وسفك دمنا ‪ ،‬وأخذ‬
‫أموالنا ‪ ،‬وأسر الرجال ‪ .‬فامتنع‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم عن‬
‫الغنائم واألسرى حىت يفصل اهلل يف‬
‫القضية فزنل حكم السماء يف‬
‫القضية بهذا القول ا‪ٟ‬تكيم ‪:‬‬
‫ك َع ِن الشهر ا‪ٟ‬ترام‬ ‫{ ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ال فِي ِه َكبَِتٌ َو َص ٌّد‬ ‫قِت َ ٍال فِي ِه ُق ْل قِت َ ٌ‬
‫ِيل اهلل َو ُك ْف ٌر بِ ِه وا‪١‬تسجد‬ ‫َعن َسب ِ‬
‫ْب ِعن َد‬‫اج أ َ ْهلِ ِه ِمن ْ ُه أ َ ْك َُ‬
‫ا‪ٟ‬ترام َوإِ ْخ َر ُ‬
‫ْب ِم َن القتل َوال َ‬ ‫اهلل والفتنة أ َ ْك َُ‬
‫ون يُقَاتِلُون َ ُك ْم حىت ي َ ُر ّدُو ُك ْم‬ ‫يَال ُ َ‬‫ز‬
‫َعن ِدي ِن ُك ْم إِن ْاست َ َطا ُعوا ْ َو َمن‬
‫ي َ ْرتَ ِددْ ِمن ْ ُك ْم َعن ِدي ِن ِه فَي َ ُم ْت َو ُه َو‬
‫كَافِ ٌر فأوالئك َحبِ َط ْت أ َ ْع َما ُ‪٢‬ت ُ ْم ِيف‬
‫اب‬ ‫َ‬ ‫خ‬
‫الدنيا واْل رة وأوالئك أ ْص َح ُ‬
‫ون } ػ البقرة ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النار ُه ْم فيهَا َخال ُد َ‬
‫‪] 217‬‬
‫نحن ُمسلّمون أن القتال يف الشهر‬
‫ا‪ٟ‬ترام أمر كبَت ‪ ،‬ولكن انظروا يا‬
‫كفار قريش إىل ما صنعتم مع عبادنا‬
‫وقارنوا بُت ِك ْْب هذا و ِك ْْب ذاك ‪.‬‬
‫أنتم تقولون ‪ :‬إن القتال يف الشهر‬
‫ا‪ٟ‬ترام مسألة كبَتة ‪ ،‬ولكن‬
‫صدكم عن سبيل اهلل وكفركم به‬
‫‪ ،‬ومنعكم ا‪١‬تسلمُت من ا‪١‬تسجد‬
‫ا‪ٟ‬ترام ‪ ،‬وإخراج أهل مكة منها‬
‫أكْب عند اهلل من القتال يف الشهر‬
‫ا‪ٟ‬ترام ‪ ،‬فبل تفعلوا ما هو أكْب من‬
‫القتال يف الشهر ا‪ٟ‬ترام ‪ ،‬ثم‬
‫تأخذكم الغَتة عىل ا‪ٟ‬ترمات ‪.‬‬
‫فكأن ا‪ٟ‬تق أراد أن يضع قضية‬
‫واضحة هي ‪ :‬ال تؤخذوا من‬
‫جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا‬
‫فيها خلف كلمة حق وأنتم‬
‫تريدون الباطل فالواقع يعرض‬
‫األشياء ‪ ،‬و‪٨‬تن نقول ‪ :‬نعم إن‬
‫القتال يف الشهر ا‪ٟ‬ترام كبَت‪.‬‬
‫ولكن يا كفار قريش اعلموا أن‬
‫فتنة ا‪١‬تؤمنُت يف دينهم وصدهم‬
‫عن طريق اهلل ‪ ،‬وكفركم به‬
‫سبحانه وإهداركم حرمة البيت‬
‫ا‪ٟ‬ترام ٔتا تصنعون فيه من عبادة‬
‫َت اهلل ‪ ،‬وإخراجكم أهله منه ‪ ،‬إن‬
‫هذه األمور اْل‪ٙ‬تة هي عند اهلل‬
‫اكْب جرما ًوأشد إ‪ٙ‬تا ًمن القتال يف‬
‫األشهر ا‪ٟ‬ترم السًتداد ا‪١‬تسلمُت‬
‫بعض حقهم لديكم ‪.‬‬

‫و‪٢‬تذا يرد ا‪ٟ‬تق سهام ا‪١‬تشركُت يف‬


‫ون يُقَاتِلُون َ ُك ْم‬
‫‪٨‬تورهم { َوال َي َ َزال ُ َ‬
‫حىت ي َ ُر ّدُو ُك ْم َعن ِدي ِن ُك ْم إِن‬
‫ْاست َ َطا ُعوا ْ} أي إياكم أن تعتقدوا‬
‫أهنم سيحًتمون الشهر ا‪ٟ‬ترام وال‬
‫ا‪١‬تكان ا‪ٟ‬ترام ‪ ،‬بل { َوال َي َ َزال ُ َ‬
‫ون‬
‫يُقَاتِلُون َ ُك ْم } أي وسيصرون ‪،‬‬
‫ويداومون عىل قتالكم { حىت‬
‫ي َ ُر ّدُو ُك ْم َعن ِدي ِن ُك ْم إِن ْاست َ َطا ُعوا ْ‬
‫} ‪ .‬وتأمل قوله ‪ { :‬إِن ْاست َ َطا ُعوا ْ‬
‫} إن معناها ٖتد ‪٢‬تم بأهنم لن‬
‫إن » تأيت‬ ‫يستطيعوا أبدا ف « ْ‬
‫دائما يف األمر ا‪١‬تشكوك فيه ‪.‬‬
‫ويتبع ا‪ٟ‬تق { َو َمن ي َ ْرتَ ِددْ ِمن ْ ُك ْم َعن‬
‫ِدي ِن ِه فَي َ ُم ْت َو ُه َو كَافِ ٌر فأوالئك‬
‫َحبِ َط ْت أ َ ْع َما ُ‪٢‬ت ُ ْم ِيف الدنيا واْلخرة‬
‫اب النار ُه ْم فِيهَا‬ ‫ُ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ص‬
‫ْ‬
‫وأوالئك أ َ‬
‫ون } سيظلون يقاتلونكم‬ ‫ِ‬
‫َخال ُد َ‬
‫حىت يردوكم عن دينكم إن‬
‫استطاعوا ‪ .‬ثم ٮتتم ا‪ٟ‬تق اْلية‬
‫بقضية يقول فيها ‪َ { :‬و َمن ي َ ْرتَ ِددْ‬
‫ِمن ْ ُك ْم َعن ِدي ِن ِه } هذه اْلية يقابلها‬
‫آية أخرى يقول ا‪ٟ‬تق فيها ‪َ { :‬و َمن‬
‫ي َ ْك ُف ْر باإلٯتان فَ َق ْد َحبِ َط َع َمل ُ ُه َو ُه َو‬
‫ِيف اْلخرة ِم َن ا‪٠‬تاسرين } ػ ا‪١‬تائدة‬
‫‪]5:‬‬
‫وإذا قارنّا بُت اْليتُت ‪٧‬تد أن اْلية‬
‫اليت ‪٨‬تن بصدد خواطرنا عنها قد‬
‫ورد فيها قوله ‪ { :‬فَي َ ُم ْت َو ُه َو كَافِ ٌر‬
‫} ويف سورة ا‪١‬تائدة لم يرد هذا‬
‫وإ‪٪‬تا ورد قوله ‪َ { :‬و َمن ي َ ْك ُف ْر‬
‫باإلٯتان فَ َق ْد َحبِ َط َع َمل ُ ُه } وقد‬
‫اختلف العلماء يف ا‪١‬تسألة‬
‫اختبلفات ‪ٚ‬تيلة ‪ .‬ولكنهم اتفقوا‬
‫أ َ َّوال عىل أن أي إنسان يرتد عن‬
‫اإلسبلم ثم ٯتوت مرتدا ًفقد‬
‫حبطت أعماله ‪ .‬ولكن اختبلفهم‬
‫تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية‬
‫‪ ،‬أي لم ٯتت وهو كافر ‪ ،‬بل رجع‬
‫فآمن بعد ردته ‪ ،‬فهل حبط عمله‬
‫أم لم ٭تبط؟ ‪.‬‬
‫ولئلمام الشافعي رأي يقول ‪ :‬إن‬
‫الذي يرتد عن الدين ٖتبط أعماله‬
‫إن مات عىل الكفر ‪ ،‬أما إن عاد‬
‫وأسلم مرة أخرى فإن أعماله اليت‬
‫كانت قبل االرتداد تكون ‪٤‬تسوبة‬
‫له ‪ .‬واإلمام أبو حنيفة له رأي‬
‫‪٥‬تتلف فهو يقول ‪ :‬ال ‪ ،‬إن آية سورة‬
‫ا‪١‬تائدة ليس فيها { فَي َ ُم ْت َو ُه َو‬
‫كَافِ ٌر } وعليه فإننا ‪٨‬تملها عىل آية‬
‫سورة البقرة اليت ذكر فيها ذلك من‬
‫باب ‪ٛ‬تل ا‪١‬تطلق عىل ا‪١‬تقيد ‪ ،‬وعىل‬
‫ذلك فالذي يكفر بعد إٯتانه عمله‬
‫‪٤‬تبط سواء رجع إىل اإلٯتان بعد‬
‫ذلك أو لم يرجع ‪ ،‬فبل ٭تتسب له‬
‫عمل ‪.‬‬
‫أين موضوع ا‪٠‬تبلف إذن؟ ‪ .‬هي أن‬
‫إنسانا ًآمن وأدى فريضة ا‪ٟ‬تج ثم ال‬
‫قدر اهلل كفر وارتد ‪ ،‬ثم رجع فآمن‬
‫أتظل له ا‪ٟ‬تجة اليت قام بها قبل‬
‫الكفر أم ٖتبط ويطلب منه حج‬
‫جديد؟ هذه هي نقطة ا‪٠‬تبلف ‪.‬‬
‫فالشافعي يرى أنه ال ٭تبط عمله‬
‫مادام قد َرجع إىل اإلٯتان ألن اهلل‬
‫قال ‪ { :‬فَي َ ُم ْت َو ُه َو كَافِ ٌر } فمعٌت‬
‫ذلك أنه إن لم ٯتت عىل الكفر فإن‬
‫عمله ال ٭تبط ‪ .‬ولكن ال يأخذ ثوابا‬
‫عىل ذلك ا‪ٟ‬تج الذي سبق له أن أداه ‪،‬‬
‫لقد التفت اإلمام الشافعي رضي‬
‫اهلل عنه إىل شيء قد يغفل عنه كثر‬
‫من الناس ‪ ،‬وهو أن ا‪ٟ‬تج ركن من‬
‫أركان اإلسبلم ‪ ،‬فالذي ال ٭تج وهو‬
‫قادر عىل ا‪ٟ‬تج فاهلل يعاقبه عىل‬
‫تقصَته ‪ ،‬والذي حج ال يعاقب‬
‫ويأخذ ثواب فعله ‪.‬‬

‫فكأن األعمال اليت طلبها ا‪ٟ‬تق‬


‫سبحانه وتعاىل إن لم تفعلها وكانت‬
‫يف استطاعتك عوقبت ‪ ،‬وإن فعلتها‬
‫ٯتر عملك ٔترحلتُت ‪ ،‬ا‪١‬ترحلة‬
‫األوىل هي أال ُتعاقب ‪ ،‬وا‪١‬ترحلة‬
‫الثانية هي أن ُتثاب عىل الفعل ‪.‬‬
‫فالشافعي قال ‪ :‬إن الشخص إذا‬
‫فعل فعبل ًيُثاب عليه اإلنسان ‪ ،‬ثم‬
‫كفر ‪ ،‬ثم عاد إىل اإلسبلم فهو ال‬
‫يُعاقب ‪ ،‬ولكنه يُثاب ‪ .‬أما اإلمام‬
‫أبو ة‬
‫حنيففقد قال ‪ :‬إنه ال عْبة‬
‫بعمله الذي سبق الردة مصداقا‬
‫لقوله تعاىل ‪َ { :‬حبِ َط ْت أ َ ْع َما ُ‪٢‬ت ُ ْم }‬
‫أي أبطلت وزالت ‪ ،‬وكأهنا لم تكن‬
‫‪ .‬إن القرآن استخدم هنا كلمة «‬
‫حبط » ‪ ،‬وهي تستخدم تعبَتا عن‬
‫األمر ا‪١‬تحسوس فيقال ‪ « :‬حبطت‬
‫ا‪١‬تاشية » أي أصابها مرض ا‪ٝ‬ته‬
‫ا‪ٟ‬تباط ‪ ،‬ألهنا تأكل لونا من الطعام‬
‫تنتفخ به ‪ ،‬وعندما تنتفخ فقد ٘توت‬
‫‪ .‬والنبي عليه الصبلة والسبلم‬
‫يقول ‪ « :‬إن ‪٦‬تا ينبت الربيع ما‬
‫يقتل حبطا ًأو يلم » ‪.‬‬
‫إنه صىل اهلل عليه وسلم ٭تذرنا من‬
‫أن ا‪٠‬تَت قد يندس فيه شر ‪ ،‬مثلما‬
‫٭تدث يف الربيع الذي ينبت فيه من‬
‫النبات الذي يعجب ا‪١‬تاشية فتأكله‬
‫فيأتيها مرض « ا‪ٟ‬تُباط » ‪ ،‬فتنتفخ‬
‫ثم ٘توت ‪ ،‬أو « يلم » أي توشك‬
‫أن ٘توت ‪ ،‬وكذلك األعمال اليت‬
‫فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل‬
‫انتفاخ البطن ‪ ،‬وكل هذه العمليات‬
‫الباطلة ستحبط كما ٖتبط ا‪١‬تاشية‬
‫اليت أكلت هذا اللون من ا‪٠‬تضر ‪،‬‬
‫ثم انتفخت فيظن ا‪١‬تشاهد ‪٢‬تا أهنا‬
‫‪ٝ‬تنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض‬
‫‪ .‬لقد أعطانا اهلل من هذا القول‬
‫ا‪١‬تعٌت ا‪١‬تحسوس لتشابه‬
‫الصورتُت؛ فا‪١‬تاشية عندما ٖتبط‬
‫تبدو وكأهنا ‪٪‬تت و‪ٝ‬تنت ‪ ،‬لكنه ‪٪‬تو‬
‫َت طبيعي إنه ليس شحما ًأو ‪ٟ‬تما ‪،‬‬
‫لكنه ورم ‪ ،‬كذلك عمل الذين‬
‫كفروا؛ عمل حابط ‪ ،‬وإن بدا أهنم‬
‫قد قاموا بأعمال ضخمة يف‬
‫ظاهرها أهنا طيبة وحسنة ‪.‬‬
‫ويقول بعض الناس ‪ :‬وهل يُعقل‬
‫أن الكفار الذين صنعوا إ‪٧‬تازات‬
‫قد استفادت منها البشرية ‪ ،‬هل من‬
‫ا‪١‬تعقول أن تصَت أعما‪٢‬تم إىل هذا‬
‫ا‪١‬تصَت؟ ‪ .‬لقد اكتشفوا عبلجا‬
‫ألمراض مستعصية وخففوا آالم‬
‫الناس ‪ ،‬وصنعوا اْلالت ا‪١‬تر٭تة‬
‫والنافعة ‪ .‬ونقول ألصحاب مثل‬
‫هذا الرأي ‪ :‬مهبل ً‪ ،‬فهناك قضية‬
‫‪٬‬تب أن نتفق عليها وهي أن الذي‬
‫يعمل عمبلً؛ فهو يطلب األجر ‪٦‬تن‬
‫عمل له ‪ ،‬فهل كان هؤالء يعملون‬
‫ويف با‪٢‬تم اهلل أم يف با‪٢‬تم اإلنسانية‬
‫وا‪١‬تجد والشهرة ‪ ،‬وما داموا قد‬
‫نالوا هذا األجر يف الدنيا فليس ‪٢‬تم‬
‫أن ينتظروا أجرا ًيف اْلخرة ‪ .‬لذلك‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬والذين كفروا‬
‫اب بِقِيعَ ٍة َ٭ت ْ َسب ُ ُه‬
‫أ َ ْع َما ُ‪٢‬ت ُ ْم كَ َس َر ٍ‬
‫الظمآن َمآء ًحىت إِذَا َجآءَ ُه ل َ ْم َ ِ‪٬‬ت ْد ُه‬
‫َشيْئا ً َو َو َج َد اهلل ِعن َد ُه فَ َو َّف ُاه ِح َساب َ ُه‬
‫واهلل َسرِي ُع ا‪ٟ‬تساب } ػ النور ‪:‬‬
‫‪] 39‬‬
‫إن الكافر يظن أن أعماله صا‪ٟ‬تة‬
‫نافعة لكنها يف اْلخرة كالسراب‬
‫الذي يراه اإلنسان يف الصحراء‬
‫فيظنه ماء ‪ ،‬و‪٬‬تد نفسه يف اْلخرة‬
‫أمام ‪ٟ‬تظة ا‪ٟ‬تساب فيوفيه اهلل‬
‫حسابه بالعقاب ‪ ،‬وليس ‪٢‬تم من‬
‫جزاء إال النار ‪ ،‬وينطبق عليهم ما‬
‫ينطبق عىل كل الكافرين باهلل ‪ ،‬وهو‬
‫اب النار ُه ْم فِيهَا‬ ‫َ‬
‫{ وأوالئك أ ْص َح ُ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َخال ُد َ‬
‫هذا وإن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يوضح‬
‫حقيقة األمر للمؤمنُت به وبرسوله‬
‫صىل اهلل عليه وسلم حىت يعطيهم‬
‫مناعة إٯتانية ضد آمال الكافرين‬
‫يف اإلضرار با‪١‬تؤمنُت ‪ ،‬فيعلمنا‬
‫أهنم لن يدخروا وسعا حىت يردوكم‬
‫عن دينكم؛ ألن منهج اهلل دائما ًال‬
‫ٮتيف إال ا‪١‬تبطلُت؛ فاإلنسان‬
‫السوي الذي يريد أن يعايش‬
‫العالم يف سبلم ويأخذ من ا‪٠‬تَت عىل‬
‫قدر حركته يف الوجود ال ترهقه‬
‫سيادة مبادئ اإلسبلم ‪ ،‬إ‪٪‬تا ُترهق‬
‫مبادئ اإلسبلم هؤالء الذين‬
‫يريدون أن يسرقوا عرق وك ّد‬
‫َتهم وهم يبذلون كل ا‪ٞ‬تهد‬
‫ويستخدمون كافة األساليب اليت‬
‫تصرف ا‪١‬تسلمُت عن دينهم ‪،‬‬
‫ولكن هل يُم ّكنهم اهلل من ذلك؟‬
‫ال؛ فبل يزال هناك أمل يف ا‪٠‬تَت إن‬
‫٘تسكت أمة اإلسبلم با‪١‬تنهج ا‪ٟ‬تق‬
‫‪.‬‬
‫إنه سبحانه يعطي ا‪١‬تناعة للمؤمنُت‬
‫‪ ،‬وا‪١‬تناعة كما نعرف هي أن تنقل‬
‫للسليم ميكروب ا‪١‬ترض بعد‬
‫إضعافه ‪ ،‬وبذلك تأخذ أجهزة‬
‫جسمه فرصة ألن تنتصر عىل هذا‬
‫ا‪١‬تيكروب؛ لذلك قال ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫َو َمن ي َ ْرتَ ِددْ ِمن ْ ُك ْم َعن ِدي ِن ِه فَي َ ُم ْت‬
‫َو ُه َو كَافِ ٌر فأوالئك َحبِ َط ْت‬
‫أ َ ْع َما ُ‪٢‬ت ُ ْم } ‪ .‬إن ا‪٠‬تبلف ا‪ٞ‬توهري‬
‫بُت ا‪١‬تؤمن والكافر ‪ ،‬هو أن ا‪١‬تؤمن‬
‫إ‪٪‬تا يعمل العمل الصاٌف ويف نيته‬
‫أن ا‪١‬تكافئ هو اهلل ‪ ،‬وهو يتجه بنية‬
‫خالصة يف كل عمل ‪ .‬ويأخذ‬
‫بأسباب اهلل يف العلم لينتفع به َته‬
‫من الناس؛ فتكون الفائدة عميمة‬
‫وعظيمة ‪ ،‬وعىل ا‪١‬تؤمن أن يكون‬
‫سباقا ًإىل االكتشاف واالخًتاع‬
‫وهنضة العالم ا‪١‬تسلم ‪ ،‬وأن يكون‬
‫ا‪١‬تؤمن العالم منارة تشع بضوء‬
‫اإلٯتان أمام الناس ‪ ،‬ال أن يًتك‬
‫َته من الكافرين يصلون إىل‬
‫ا‪١‬تكتشفات العلمية وهو متواكل‬
‫كسبلن ‪.‬‬
‫إن عىل ا‪١‬تؤمن أن يأخذ بأسباب اهلل‬
‫يف ا‪ٟ‬تياة؛ ألن اإلسبلم هو دين ودنيا‬
‫‪ ،‬وهو دين العلم والتقدم ‪ ،‬ويضمن‬
‫‪١‬تن يعمل ٔتنهجه سعادة الدنيا‬
‫وسعادة اْلخرة ‪ .‬وإذا كان ا‪١‬تؤمن‬
‫يستمتع بإنتاج يصنعه الكافر‬
‫فليعلم أن الكافر إ‪٪‬تا أخذ أجره‬
‫ُمسخرا ً‪٦‬تن عمل له ‪ ،‬أما ا‪١‬تؤمن‬
‫فحُت يتفوق يف الصناعة والزراعة‬
‫والعلم واالكتشاف فهو يأخذ‬
‫األجر يف الدنيا ويف اْلخرة؛ ألن‬
‫الذي يعطي هنا هو اهلل ‪.‬‬
‫أما عمل الكافر فهو عمل من‬
‫مسخر كا‪١‬تطايا وكا‪ٞ‬تماد والنبات‬
‫وا‪ٟ‬تيوان ا‪١‬تسخر ‪٠‬تدمة اإلنسان ‪.‬‬
‫وإذا كان اهلل قد ميز ا‪١‬تؤمن عىل‬
‫الكافر باألجر يف الدنيا وحسن‬
‫الثواب يف اْلخرة ‪ ،‬أال يليق با‪١‬تؤمن‬
‫أن يسبق الكافر يف تنمية ا‪١‬تجتمع‬
‫اإلسبلمي ‪ ،‬وأن يكون بعمله منارة‬
‫هداية ‪١‬تن حوله؟! ويقول ا‪ٟ‬تق من‬
‫بعد ذلك ‪ { :‬إ َِّن الذين آ َم ُنوا ْ‬
‫والذين َها َج ُروا ْ َو َج َ‬
‫اه ُدوا ْ ِيف َسب ِ‬
‫ِيل‬
‫‪ٛ‬ت َت اهلل ‪. .‬‬ ‫اهلل أوالئك ي َ ْر ُج َ‬
‫ون َر ْ َ‬
‫‪}.‬‬

‫إ َِّن ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا َوال َّ ِذي َن َها َج ُروا‬


‫ِيل َ ِ‬
‫اّلل أُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫اه ُدوا ِيف َسب ِ ّ‬ ‫َو َج َ‬
‫‪ٛ‬ت َت َ ِ‬
‫اّلل َغ ُف ٌ‬
‫ور‬ ‫اّلل َو ّ َُ‬ ‫ي َ ْر ُج َ‬
‫ون َر ْ َ ّ‬
‫يم (‪)218‬‬ ‫ِ‬
‫َرح ٌ‬
‫إن اْلية قد عددت ثبلثة أصناف ‪:‬‬
‫الصنف األول هم الذين آمنوا ‪،‬‬
‫والصنف الثاين هم الذين هاجروا ‪،‬‬
‫والصنف الثالث هم الذين جاهدوا‬
‫‪ .‬إن الذين آمنوا إٯتانا ًخالصا ًلوجه‬
‫اهلل ‪ ،‬وهاجروا لنصرة الدين ‪،‬‬
‫وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة‬
‫اإلسبلم هؤالء قد فعلوا كل ذلك‬
‫وهم يرجون ر‪ٛ‬تة اهلل ‪ .‬ولقائل‬
‫أن يقول ‪ :‬أليست الر‪ٛ‬تة مسألة‬
‫متيقنة عندهم؟‬
‫ونقول ‪ :‬ليس للعبد عند اهلل أمر‬
‫متيقن؛ ألنك قد ال نفطن إىل بعض‬
‫ذنوبك اليت لم ُٖتسن التوبة منها ‪،‬‬
‫وال التوبة عنها ‪ .‬وعليك أن نضع‬
‫ذلك يف بالك دائما ً‪ ،‬وأن تتيقن من‬
‫استحضار نية اإلخبلص هلل يف كل‬
‫عمل تقوم به؛ فقد ٖتدثك‬
‫نفسك بشيء قد يفسد عليك‬
‫عملك ‪ ،‬وكذلك رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم وهو سيد ا‪٠‬تلق‬
‫وسيد ا‪١‬توصولُت بربهم يقول ‪« :‬‬
‫اللهم إين أعوذ بك من علم ال ينفع‬
‫وعمل ال يُرفع ودعاء ال يُسمع » ‪.‬‬
‫إن الرسول الكريم وهو سيد‬
‫ا‪١‬تحتسبُت يف كل أعماله يعلمنا أن‬
‫النفس قد ٗتالط صاحبها بشيء‬
‫يفسد الطاعة ‪ .‬وعىل ا‪١‬تسلم أن‬
‫يظل يف ‪٤‬تل الرجاء ‪ .‬وا‪١‬تؤمن‬
‫الذي يثق يف ربه اليقول ‪ :‬إن عىل‬
‫اهلل واجبا ًأن يعمل يل كذا؛ ألن‬
‫أصل عبادتك هلل سبق أن دفع ‪ٙ‬تنها‬
‫‪ ،‬وما تناله من بعد ذلك هو فضل من‬
‫اهلل عليك ‪ ،‬مدفوع ‪ٙ‬تنها لك إ‪٬‬تادا ً‬
‫من عدم وإمدادا ًمن ُع ْدم ‪،‬‬
‫ومدفوع ‪ٙ‬تنها بأن متعك اهلل بكل‬
‫هذه األشياء ‪ ،‬فلو قارنت بُت ما‬
‫طلبه اهلل منك عىل فرض أنك ال‬
‫تستفيد منه فقد أفدت ‪٦‬تا قدم لك‬
‫أوال ‪ ،‬وكل خَت يأتيك من بعد ذلك‬
‫هو من فضل اهلل عليك ‪ ،‬والفضل‬
‫يرىج وال يُتيقن ‪.‬‬
‫وعظمة ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يف أنك‬
‫تدعوه خوفا ًوطمعا ً‪ .‬ويقول هذا‬
‫ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل األعىل إن من‬
‫عظمتك أمام والدك أنك ٕتد لك‬
‫أبا ًٗتاف منه ‪ ،‬وترغب أن ٭تقق لك‬
‫بعضا ًمن أحبلمك ‪ ،‬ولو اختلت‬
‫واحدة من االثنتُت الختلت األبوة‬
‫والبنوة ‪.‬‬
‫كذلك عظمة الرب يُرغب‬
‫ويُرهب ‪ :‬إن رغبت فيه ولم‬
‫ترهبه فأنت ناقص اإلٯتان ‪ ،‬وإن‬
‫رهبت ولم ترغب فإٯتانك ناقص‬
‫أيضا ً‪ ،‬لذلك البد من تبلزم‬
‫االثنتُت ‪ :‬الرهبة والرغبة ‪ .‬ولو‬
‫تبصر اإلنسان ما فرضه اهلل عليه‬ ‫ّ‬
‫من تكاليف إٯتانية لوجد أنه يفيد‬
‫من هذه التكاليف أضعافا ًمضاعفة ‪.‬‬
‫فكل ما ‪٬‬تازي به اهلل عباده إ‪٪‬تا هو‬
‫الفضل ‪ ،‬وهو الزيادة ‪ .‬وكل رزق‬
‫لئلنسان إ‪٪‬تا هو ‪٤‬تض الفضل ‪.‬‬
‫و‪٤‬تض الفضل يُرىج وال يُتيقن ‪.‬‬
‫وها هو ذا ا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬ادعوا‬
‫ب‬ ‫تض ُّرعا ً َو ُخ ْفيَةًإِن ّ َُه ال َ ُ٭ت ِ ُّ‬
‫َربَّ ُك ْم َ‬
‫ا‪١‬تعتدين * َوال َ ُت ْف ِس ُدوا ْ ِيف األرض‬
‫بَعْ َد إ ِْصبل َ ِحهَا وادعوه َخ ْوفا ً َو َط َمعا ً‬
‫يب ِّم َن ا‪١‬تحسنُت‬
‫‪ٛ‬ت َت اهلل قَ ِر ٌ‬
‫إ َِّن َر ْ َ‬
‫}‬

‫ػ األعراف ‪] 56-55 :‬‬


‫إن الدنيا كلها مسخرة ٖتت قهر‬
‫الر‪ٛ‬تن ومشيئته وتسخَته ‪ ،‬وله‬
‫٘تام التصرف يف كل الكائنات وهو‬
‫ا‪٠‬تالق البديع ‪ ،‬لذلك فليدع‬
‫اإلنسان اهلل ٓتشوع وخضوع يف‬
‫السر والعبلنية ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق ال ٭تب من‬
‫يعتدي بالقول أو الرياء أو اإليذاء ‪.‬‬
‫إن اإلٯتان ‪٬‬تب أن يكون خالصا‬
‫هلل ‪ ،‬فبل يفسد اإلنسان األرض‬
‫بالشرك أو ا‪١‬تعصية؛ ألن ا‪ٟ‬تق قد‬
‫وضع ا‪١‬تنهج ا‪ٟ‬تق لصبلح الدنيا وهو‬
‫القرآن ‪ ،‬ورسالة رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ور‪ٛ‬تة اهلل قريبة‬
‫من ا‪١‬تطيعُت للحق جل وعبل ‪.‬‬
‫إن عظمة الرب يف أنه يُرغب‬
‫ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه‬
‫فعملك َت مقبول ‪ ،‬وإن رهبته‬
‫ولم ترغبه فعملك َت مقبول‪ .‬إن‬
‫الرغب والرهب مطلوبان معا ً‪،‬‬
‫فالممن ا‪١‬تجاهد يف سبيل‬‫لذلك ؤ‬
‫اهلل يرجو ر‪ٛ‬تة اهلل ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬أوالئك ي َ ْر ُج َ‬
‫ون‬
‫‪ٛ‬ت َت اهلل } ما هي الر‪ٛ‬تة؟‬
‫َر ْ َ‬
‫الر‪ٛ‬تة أال تبتىل باأللم من أول‬
‫األمر ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يقول ‪:‬‬
‫{ ون ُ َ ِ ّ ِ‬
‫زن ُل م َن القرآن َما ُه َو ِش َف ٌ‬
‫آء‬ ‫َ‬
‫ُت } ػ اإلسراء ‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫‪ٛ‬ت ٌة ل ّل ْ ُم ْؤمن َ‬
‫َو َر ْ َ‬
‫‪] 82‬‬
‫الشفاء هو أن تكون مصابا بداء‬
‫ويْبئك اهلل منه ‪ ،‬لكن الر‪ٛ‬تة ‪،‬‬
‫هي أال يأيت الداء أصبل { واهلل‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫َغ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫ٌ‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل يعلم عن عباده‬
‫أن أحدا ًمنهم قد ال يْبأ من أن‬
‫يكون له ذنب ‪ .‬فلو حاسبنا‬
‫با‪١‬تعايَت ا‪١‬تضبوطة ٘تاما فلسوف‬
‫يتعب اإلنسان منا ‪ ،‬ولذلك أحب‬
‫أن أقول دائما مع إخواين هذا‬
‫الدعاء ‪ « :‬اللهم بالفضل ال‬
‫بالعدل وباإلحسان ال با‪١‬تيزان‬
‫وبا‪ٞ‬تْب ال با‪ٟ‬تساب » ‪ .‬أي عاملنا‬
‫بالفضل ال بالعدل ‪ ،‬وبإحسانك ال‬
‫با‪١‬تيزان ‪ ،‬ألن ا‪١‬تيزان يتعبنا ‪.‬‬
‫ولقد علمنا رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم أن دخول ا‪ٞ‬تنة ال يكون‬
‫باألعمال وحدها ‪ ،‬ولكن بفضل‬
‫اهلل ور‪ٛ‬تته ومغفرته ‪ .‬إن الرسول‬
‫الكريم يقول ‪ « :‬لن يدخل‬
‫أحدكم ا‪ٞ‬تنة بعمله ‪ .‬فقالوا ‪ :‬وال‬
‫أنت يا رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬وال أنا‬
‫حىت يتغمدين اهلل بر‪ٛ‬تته » ‪.‬‬
‫إذن فا‪١‬تؤمن يرجو اهلل وال يشًتط‬
‫عىل اهلل ‪ ،‬إن ا‪١‬تؤمن يتجه بعمله‬
‫خالصا هلل يرجو التقبل وا‪١‬تغفرة‬
‫والر‪ٛ‬تة ‪ ،‬وكل ذلك من فضل اهلل ‪.‬‬
‫ويأيت ا‪ٟ‬تق لسؤال آخر ‪{ :‬‬
‫ك َع ِن ا‪٠‬تمر وا‪١‬تيسر ُق ْل‬‫ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫فِي ِه َمآ إِث ٌْم كَبَِتٌ‪} . . .‬‬
‫ك َع ِن ا‪٠‬تْ َ ْم ِر َوا ْ‪١‬تَي ْ ِس ِر ُق ْل‬ ‫ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫اس‬ ‫فِي ِه َما إِث ٌْم كَبَِت َو َمنَافِ ُع لِلنَّ ِ‬
‫ٌ‬
‫ْب ِم ْن ن َ ْفعِ ِه َما‬ ‫َوإ ِْ‪ٙ‬ت ُ ُه َما أ َ ْك َُ‬
‫ون ُق ِل الْعَ ْف َو‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ف‬‫ك ماذَا يُن ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫و‬‫ُ‬ ‫ل‬‫ويسأ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫اّلل ل َ ُكم ْاْلي َ ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫ُت‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫َك َذل ِ‬
‫ُ ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ون (‪)219‬‬ ‫لَعَل َّ ُك ْم تَت َ َف ّك ُر َ‬
‫وا‪٠‬تمر كما نعرف مأخوذة من‬
‫السًت ‪ ،‬ويقال ‪ « :‬دخل فبلن ‪ٜ‬ترة‬
‫» أي يف أيكة من األشجار ملتفة‬
‫فاختبأ فيها ‪ .‬و « ا ٍِفمار » هو‬
‫القناع الذي ترتديه ا‪١‬تسلمة لسًت‬
‫رأسها ‪ ،‬وهو مأخوذ أيضا من نفس‬
‫ا‪١‬تادة ‪ .‬و « خامرة األمر » أي‬
‫خالطه ‪ .‬وكل هذه ا‪١‬تعاين مأخوذة‬
‫من عملية السًت ‪ .‬و « ا‪١‬تيسر »‬
‫مأخوذ من اليسر؛ ألنه يظهر‬
‫للناس ٔتكاسب يسَتة ببل تعب ‪.‬‬
‫وا‪٠‬تمر وا‪١‬تيسر من األمور اليت‬
‫كانت معروفة يف ا‪ٞ‬تاهلية ‪.‬‬
‫واإلسبلم حُت جاء ليواجه ن ُ ُظما‬
‫جاهلية واجه العقيدة ببل هوادة ‪،‬‬
‫ولم ‪٬‬تابهها ويواجهها عىل مراحل‬
‫بل أزا‪٢‬تا من أول األمر ‪ ،‬ورفع راية‬
‫« ال إله إال اهلل ‪٤‬تمد رسول اهلل » ‪،‬‬
‫ثم جاء اإلسبلم يف األمور اليت‬
‫ُتعتْب من العادات فبدأ يهوهنا؛ ألن‬
‫الناس كانت تألفها ‪ ،‬لذلك أخذها‬
‫بشيء من الرفق وا‪٢‬توادة ‪ .‬وكان‬
‫هذا من حكمة الشرع ‪ ،‬فلم ‪٬‬تعل‬
‫األحكام يف أول األمر عملية‬
‫قسرية فقد يًتتب عليها ا‪٠‬تلل يف‬
‫ا‪١‬تجتمع ويف الوجود كله ‪ ،‬وإ‪٪‬تا أخذ‬
‫األمور با‪٢‬توادة ‪.‬‬
‫وإذا كانت ا‪٠‬تمرة مأخوذة من‬
‫السًت ‪ ،‬فماذا تسًت؟ إهنا تسًت‬
‫العقل بدليل أن من يتعاطاها‬
‫يغيب عن وعيه ‪ .‬وال يريد اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل لئلنسان الذي‬
‫كرمه اهلل بالعقل أن يأيت للشيء‬
‫الذي كرمه به ويُ َس ِ َّت به أمور‬
‫ا‪٠‬تبلفة يف األرض ويسًته ِ‬
‫ويغيّبه ‪،‬‬
‫ألن من يفعل ذلك فكأنه رد عىل اهلل‬
‫النعمة اليت أكرمه بها ‪ ،‬وهذا هو‬
‫ا‪ٟ‬تمق ‪.‬‬
‫ثم إن كل الذي يتعاطون ا‪٠‬تمر‬
‫يْبرون فعلهم بأهنم يريدون أن‬
‫ينسوا ‪٫‬توم الدنيا ‪ ،‬ونسأل هؤالء‬
‫‪ :‬وهل نسيان ا‪٢‬تموم ٯتنع‬
‫مصادرها؟ ال ‪ ،‬ولذلك فاإلسبلم‬
‫يطلب منك أن تعيش ‪٫‬تومك‬
‫لتواجهها ّتماع عقلك ‪ ،‬فإذا كانت‬
‫هناك ‪٫‬توم ومشكبلت فاإلسبلم ال‬
‫يريد منك أن تنساها ‪ ،‬ال ‪ ،‬بل البد‬
‫أن توظف عقلك يف مواجهتها ‪ ،‬وما‬
‫دام ا‪١‬تطلوب منك أن تواجه‬
‫ا‪١‬تشكبلت بعقلك فبل تأيت ‪١‬تركز‬
‫إدارة األمور ا‪ٟ‬تياتية وهو العقل ‪،‬‬
‫والذي يعينك عىل مواجهة‬
‫ا‪١‬تشكبلت وتقهره بتغييبه عن‬
‫العمل ‪.‬‬
‫وهل النسيان ٯتنع ا‪١‬تصائب؟ إن‬
‫الذي ٯتنع ا‪١‬تصائب هو أن ٖتاول‬
‫ّتماع فكرك أن ٕتد السبيل‬
‫للخروج منها ‪ ،‬فإذا كان األمر ليس‬
‫يف استطاعتك فمن ا‪ٟ‬تمق أن تفكر‬
‫فيه؛ ألن اهلل يريد منك أن تريح‬
‫عقلك يف مثل هذه األمور ‪ ،‬وإن‬
‫كان األمر له حل ويف استطاعتك‬
‫حله ‪ ،‬فأنت ٖتتاج للعقل بكامل‬
‫قوته ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يرشدنا يف‬
‫هذه القضية ْتكمة ا‪ٟ‬تكيم ‪،‬‬
‫ويعطينا عطاء لنحكم ‪٨‬تن يف األمر‬
‫قبل أن يطلب منا ‪ .‬إنه سبحانه‬
‫ٯتنت علينا ويقول ‪ { :‬و ِمن ‪ٙ‬تَ َ َر ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬
‫ون ِمن ْ ُه‬ ‫ِ‬
‫النخيل واألعناب تَتَّخ ُذ َ‬
‫َسكَرا ً َو ِرزْقا ً َح َسنا ً} ػ النحل ‪:‬‬
‫‪] 67‬‬
‫فعندما ذكر اهلل { َسكَرا ً} مر‬
‫عليها ببل تعليق ‪.‬‬

‫وعندما قال ‪ِ { :‬رزْقا ً} وصفه بأنه‬


‫{ َح َسنا ً } فكان ‪٬‬تب أن نتنبه إىل‬
‫أن اهلل ٯتهد ‪١‬توقف اإلسبلم من‬
‫ا‪٠‬تمر؛ فهو لم يصف « السكر »‬
‫بأي وصف ‪ ،‬وجعل للرزق وصفا‬
‫هو ا‪ٟ‬تسن؛ فالناس عندما‬
‫يستخرجون من هذه الثمرات‬
‫سكرا ً‪ ،‬فهم قد أخرجوها عن‬
‫الرزق ا‪ٟ‬تسن ‪ ،‬ألن هناك فرقا بُت‬
‫أن تأخذ من العنب ذاء ًوبُت أن‬
‫ٗتمره فتفسده وٕتعله ساترا ًللعقل‬
‫‪.‬‬
‫وبعد ذلك فهناك فرق بُت تشريع‬
‫ونصح ‪ .‬فعندما تنصح شخصا فأنت‬
‫تقول له ‪ :‬سأدلك عىل طريق ا‪٠‬تَت‬
‫وأنت حر يف أن تسَت فيه أو ال تسَت‬
‫‪ .‬وعندما تشرع وتضع ا‪ٟ‬تكم ‪،‬‬
‫فأنت تأمر هذا الشخص أو ذاك‬
‫بأن يفعل األمر وال شيء سواه ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل عندما قال ‪:‬‬
‫ك َع ِن ا‪٠‬تمر وا‪١‬تيسر }‬ ‫{ ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫‪ ،‬ذكر لنا ا‪١‬تفاسد وترك لنا ا‪ٟ‬تكم‬
‫عليها ‪ ،‬قال سبحانه ُمبَلغّا ًرسوله ‪:‬‬
‫{ ُق ْل فِي ِه َمآ إِث ٌْم َكبَِتٌ َو َمنَافِ ُع‬
‫اس } ولو لم يقل { َو َمنَافِ ُع‬ ‫لِلنَّ ِ‬
‫اس } الستغرب الناس وقالوا ‪:‬‬ ‫لِلنَّ ِ‬
‫‪٨‬تن نأخذ من ا‪٠‬تمر منافع ‪،‬‬
‫ونكتسب منها ‪ ،‬وننَس بها ‪٫‬تومنا‬
‫‪ ،‬كانت هذه هي ا‪١‬تنافع بالنسبة ‪٢‬تم‬
‫‪ ،‬لكن ا‪ٟ‬تق يوضح أن إ‪ٙ‬تهما أكْب‬
‫من نفعهما ‪ ،‬أي أن العائد من وراء‬
‫تعاطيهما أقل من الضرر ا‪ٟ‬تادث‬
‫منهما ‪ ،‬وهذا تقييم عادل ‪ ،‬فلم‬
‫تكن ا‪١‬تسألة قد دخلت يف نطاق‬
‫التحريم ‪ ،‬ألهنا مازالت يف منطقة‬
‫النصح واإلرشاد ‪.‬‬
‫ْب ِمن‬
‫وقوله تعاىل ‪َ { :‬وإ ِْ‪ٙ‬ت ُ ُه َمآ أ َ ْك َُ‬
‫ن َّ ْفعِ ِه َما } ‪٬‬تعل فيهما نوعا من‬
‫الذنب ‪ ،‬لقد كان التدرج يف ا‪ٟ‬تكم‬
‫أمرا ًمطلوبا ًألنه سبحانه يعاًف أمرا ً‬
‫بإلف العادة ‪ ،‬فيمهد سبحانه‬
‫ليخرجه عن العادة ‪ .‬والعادة شيء‬
‫يقود إىل االعتياد؛ ْتيث إذا مر وقت‬
‫ولم يأت ما تع ّودَ ْت عليه نفسيتْك‬
‫ودمك ٭تدث لك اضطراب ‪ .‬وما‬
‫دامت ا‪١‬تسألة تقود إىل االعتياد ‪،‬‬
‫فاألفضل أن تسد الباب من أوله‬
‫و٘تنع االعتياد ‪.‬‬
‫لقد كانت بداية ا‪ٟ‬تكم يف أمر‬
‫ا‪٠‬تمر أن أحدا ًمن ا‪١‬تسلمُت‬
‫شرب ا‪٠‬تمر قبل أن ُٖترم هنائيا ً‪،‬‬
‫وجاء ليصلي ‪ ،‬فقال ‪ُ « :‬ق ْل ياأيها‬
‫َ‬
‫ون »‬‫الكافرون * أ ْعب ُ ُد َما تَعْب ُ ُد َ‬
‫وبعدها نزل تأديب ا‪ٟ‬تق بقوله ‪{ :‬‬
‫يَا أَيُّهَا الذين آ َم ُنوا ْال َتَ ْق َر ُبوا ْالصبلة‬
‫َوأَن ْ ُت ْم سكارى حىت تَعْل َ ُموا ْ َما‬
‫ون ‪ } . .‬ػ النساء ‪] 43 :‬‬ ‫تَ ُقول ُ َ‬
‫ويف ذلك تدريب ‪١‬ت َ ْن اعتاد عىل‬
‫ا‪٠‬تمر أال يقربها؛ فاإلنسان الذي‬
‫يصلي صدر عليه ا‪ٟ‬تكم أال يقرب‬
‫الصبلة وهو سكران ‪ ،‬فمىت ٯتتنع‬
‫إذن؟ إنه يصحو من نومه فبل يقرب‬
‫ا‪٠‬تمر حىت يصلي الصبح ‪ ،‬ويقًتب‬
‫الظهر فيستعد للصبلة ‪ ،‬ثم العصر‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬ويليه ا‪١‬تغرب فالعشاء ‪،‬‬
‫أي لن يصبح عنده وقت ليشرب يف‬
‫األوقات اليت ينتظر فيها الصبلة ‪،‬‬
‫صح عنده فرصة إال يف‬ ‫إذن فبل ت ب‬
‫آخر الليل ‪ ،‬فإذا ما جاء الليل‬
‫يشرب له كأسا ًثم يغط يف نومه ‪.‬‬
‫ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن‬
‫ا‪٠‬تمر أطول من الوقت الذي‬
‫يتعاىط فيه ا‪٠‬تمر ‪.‬‬
‫و‪١‬تا بدأ تعودهم عىل ا‪٠‬تمر يتزعزع‬
‫‪ ،‬حدثت بعض ا‪٠‬تبلفات‬
‫وا‪١‬تشكبلت اليت دفعتهم ألن يطلبوا‬
‫من رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫أن يوضح ‪٢‬تم حكما ًفاصبل ًيف‬
‫ا‪٠‬تمر فزنل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫{ ياأيها الذين آ َم ُنوا ْإ َِّ‪٪‬تَا ا‪٠‬تمر‬
‫وا‪١‬تيسر واألنصاب واألزالم‬
‫ر ِْج ٌس ِّم ْن َع َم ِل الشيطان‬
‫ون * إ َِّ‪٪‬تَا‬ ‫ح‬ ‫فاجتنبوه لَعل َّ ُكم ُت ْفلِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫يد الشيطان أَن يُوقِ َع بَيْن َ ُك ُم‬ ‫يُ ِر ُ‬
‫العداوة والبغضآء ِيف ا‪٠‬تمر وا‪١‬تيسر‬
‫َوي َ ُص َّد ُك ْم َعن ِذكْ ِر اهلل َو َع ِن‬
‫َ‬
‫الصبلة فَهَ ْل أن ْ ُت ْم ُّمنت َ ُه َ‬
‫ون } ػ‬
‫ا‪١‬تائدة ‪] 91-90 :‬‬
‫فقالوا ‪ :‬انتهينا يا رب ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أراد‬
‫بتحريم ا‪٠‬تمر أن ٭تفظ عىل‬
‫اإلنسان عقله؛ ألن العقل هو مناط‬
‫التكليف لئلنسان ‪ ،‬وهو مناط‬
‫االختيار بُت البدائل ‪ ،‬فأراد ا‪ٟ‬تق‬
‫أن يصون لئلنسان تلك النعمة ‪.‬‬
‫إن هدف الدين يف ا‪١‬تقام األول‬
‫سبلمة الضرورات ا‪٠‬تمس اليت ال‬
‫يستغٍت عنها اإلنسان ‪ :‬سبلمة‬
‫النفس ‪ ،‬وسبلمة العرض ‪ ،‬وسبلمة‬
‫ا‪١‬تال ‪ ،‬وسبلمة العقل ‪ ،‬وسبلمة‬
‫الدين ‪ .‬وكل التشريعات تدور‬
‫حول سبلمة هذه الضرورات‬
‫ا‪٠‬تمس ‪ ،‬ولو نظرت إىل هذه‬
‫الضرورات ٕتد أن ا‪ٟ‬تفاظ عليها‬
‫يبدأ من سبلمة العقل ‪ ،‬فسبلمة‬
‫العقل ٕتعله يفكر يف دينه ‪ .‬وسبلمة‬
‫العقل ٕتعله يفكر يف حركة ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫وسبلمة العقل ٕتعله ٭تتاط لصيانة‬
‫العرض ‪.‬‬
‫إذن فالعقل هو أساس العملية‬
‫التكليفية اليت تدور حو‪٢‬تا هذه‬
‫ا‪١‬تسألة ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫يريد أال ٮتمر اإلنسان عقله بأي‬
‫شيء ُمسكر ‪ .‬حىت ال ٭تدث عدوان‬
‫عىل هذه الضرورات ا‪٠‬تمس ‪.‬‬
‫وقد ‪ٚ‬تع اهلل يف هذه اْلية اليت ‪٨‬تن‬
‫بصدد خواطرنا عنها بُت ا‪٠‬تمر‬
‫وا‪١‬تيسر ‪ ،‬وهو جل وعبل يريد أن‬
‫٭تمي غفلة الناس ‪ .‬فلعب ا‪١‬تيسر‬
‫يتمثل يف صورته البسيطة يف اثنُت‬
‫‪٬‬تلسان أمام بعضهما البعض ‪،‬‬
‫وكل واحد منهما حريص عىل أن‬
‫يأخذ ما يف جيب اْلخر ‪ ،‬فأي أخوة‬
‫تبىق بُت هؤالء؟ إن كبل ًّمنهما‬
‫حريص عىل أن يعيد اْلخر إىل‬
‫مزنله خاوي ا‪ٞ‬تيوب فأي أخوة‬
‫تكون بُت االثنُت؟‬
‫ومن العجيب أنك ترى الذين‬
‫يلعبون ا‪١‬تيسر يف صورة األصحاب‬
‫‪ ،‬و٭ترص كل منهما عىل لقاء اْلخر‬
‫‪ ،‬فأي خيبة يف هذه الصداقة؟!‬
‫ومن العجيب أن يقر كل من‬
‫الطرفُت صاحبه عىل فعله ‪ ،‬يأخذ‬
‫ماله ويبىق عىل صداقته ‪ ،‬والعجيب‬
‫األكْب هو التدليس والسرقة بُت‬
‫الذين يتعودون عىل لعب ا‪١‬تيسر ‪.‬‬
‫ولو الحظت حياة هؤالء الذين‬
‫يلعبون ا‪١‬تيسر ٕتدهم ق‬
‫ينفون‬
‫ويبذرون ببل احتياط وال ينتفعون‬
‫أبدا ًٔتا يصل أيديهم من مال‬
‫مهما كان كثَتا ً‪١ ،‬تاذا؟‬
‫ألن ا‪١‬تال حُت يُكتسب بيسر ‪،‬‬
‫يُصرف منه ببل احتياط ‪ ،‬هذا هو‬
‫حال من يكسب ‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫للخاسر فتجده يعيش يف ا‪ٟ‬تسرة‬
‫واأللم عىل ما فقد ‪ ،‬وٕتده يف فقر‬
‫دائم ‪ ،‬ورٔتا اضطر إىل التضحية‬
‫بعرضه وشرفه ‪ ،‬إن لم يبع مبلبسه‬
‫‪ ،‬وأعز ما ٯتلك ‪ ،‬و٭تدث كل ذلك‬
‫بأمان زائفة ‪ ،‬وآمال كاذبة يزينها‬
‫الشيطان للطرفُت ‪ ،‬الذي كسب‬
‫والذي خسر ‪ ،‬فالذي كسب يتمٌت‬
‫زيادة ما معه من مال أكثر وأكثر ‪،‬‬
‫والذي خسر يأمل أن يسًتد ما‬
‫خسره ويكسب ‪.‬‬
‫وعندما يتعود اإلنسان أن يكسب‬
‫بدون حركة فكل شيء يهون عليه ‪،‬‬
‫ويعتاد أن يعيش عىل الكسب‬
‫السهل الرخيص ‪ ،‬وحُت ال ‪٬‬تد من‬
‫يستغفله ليلعب معه رٔتا سرق أو‬
‫اختلس ‪.‬‬
‫وهذا هو حال الذين يلعبون‬
‫ا‪١‬تيسر؛ إهنم أصحاب الرذائل يف‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬فهم الذين يرتشون‬
‫ويسرقون ويعربدون ‪ ،‬وال أخبلق‬
‫عندهم وليس ‪٢‬تم صاحب وال‬
‫صديق ‪ ،‬وبيوهتم منهارة ‪،‬‬
‫وأسرهم مفككة ‪ ،‬وعليهم اللعنة‬
‫حىت يف هيئتهم وهندامهم ‪.‬‬
‫ك َع ِن‬ ‫ولذلك قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ِ‬
‫ا‪٠‬تمر وا‪١‬تيسر ُق ْل في ِه َمآ إِث ٌْم َكبَِتٌ‬
‫ْب ِمن‬ ‫َو َمنَافِ ُع لِلنَّ ِ‬
‫اس َوإ ِْ‪ٙ‬ت ُ ُه َمآ أَكْ َُ‬
‫ن َّ ْفعِ ِه َما } وما دام اإلثم أكْب من‬
‫النفع ‪ ،‬فقد رجح جانب اإلثم ‪ .‬هذا‬
‫يف العملية الذاتية ‪ ،‬أما يف العملية‬
‫الزمنية فقد قال سبحانه ‪ { :‬ال َ‬
‫تَ ْق َر ُبوا ْالصبلة َوأَن ْ ُت ْم سكارى} ػ‬
‫النساء ‪] 43 :‬‬
‫وبعد ذلك أهنى سبحانه ا‪١‬تسألة‬
‫٘تاما بقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ياأيها الذين‬
‫آ َم ُنوا ْإ َِّ‪٪‬تَا ا‪٠‬تمر وا‪١‬تيسر‬
‫واألنصاب واألزالم ر ِْج ٌس ِّم ْن‬
‫َع َم ِل الشيطان فاجتنبوه لَعَل َّ ُك ْم‬
‫ون } ػ ا‪١‬تائدة ‪] 90 :‬‬ ‫ح‬ ‫ُت ْفلِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ثم ٘تضي اْلية إىل سؤال آخر هو {‬
‫ون ُق ِل العفو }‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫ك ماذَا يُن ِ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫ل‬‫ويسأ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ْ‬
‫إنه السؤال نفسه من عمرو بن‬
‫ا‪ٞ‬تموح وكان ا‪ٞ‬تواب عليه من ُ‬
‫قبل‬
‫هو { ُق ْل َمآ أَن ْ َف ْق ُت ْم ِّم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت‬
‫فَلِل ْ َوال ِ َدي ْ ِن واألقربُت واليتاىم‬
‫وا‪١‬تساكُت وابن السبيل } وهنا‬
‫جواب بشكل وصورة أخرى { ُق ِل‬
‫العفو } والعفو معناه الزيادة ويف‬
‫ذلك يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪{ :‬‬
‫َو َمآ أ َ ْر َسلْنَا ِيف قَ ْري َ ٍة ِّمن نَّبِ ٍّي إِال َّأ َ َخ ْذنَا‬
‫أ َ ْهلَهَا بالبأسآء والضرآء لَعَل َّ ُه ْم‬
‫ان السيئة‬ ‫ي َ َّض َّر ُع َ‬
‫ون * ُث َّم ب َ ّدَلْنَا َمكَ َ‬
‫ا‪ٟ‬تسنة حىت َع َف ْوا ْ َّوقَالُوا ْقَ ْد َم َّس‬
‫آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأ َ َخ ْذن َ ُاه ْم‬
‫ون } ػ‬‫بَغْتَةً َو ُه ْم ال َي َ ْش ُع ُر َ‬
‫األعراف ‪] 95-94 :‬‬
‫إن اهلل جلت قدرته ٭تذر وينذر‬
‫لعل الناس تتذكر وتعتْب ‪ ،‬إنه‬
‫سبحانه لم يرسل نبيًّا إىل قو ٍم‬
‫فقابلوه بالتكذيب والنكران إال ّ‬
‫أخذهم وابتبلهم بالفقر والبؤس‬
‫وا‪١‬ترض والضر لعلهم يتوبون إىل‬
‫ربهم ويتذلّلون له سبحانه لَتفع‬
‫عنهم ما ابتبلهم به ‪ ،‬ثم ‪١‬تا لم‬
‫يرجعوا ويقلعوا عما هم فيه من‬
‫الكفر والعناد اختْبهم وامتحنهم‬
‫بالنعم؛ باٍفصب والثراء والعافية‬
‫والرخاء حىت كثروا وزادت‬
‫أموا‪٢‬تم وخَتاهتم ‪ ،‬وقالوا وهم يف‬
‫ظل تلك النعم ‪ :‬إن ما يصيبنا من‬
‫سراء وضراء وخَت وشر إ‪٪‬تا هو سنة‬
‫الكون ‪ ،‬وعادة الدهر ‪ ،‬فأسبلفنا‬
‫وآباؤنا كان يعًتيهم مثل ما‬
‫يصيبنا ‪ ،‬و‪١‬تا أصروا عىل كفرهم‬
‫باغتهم اهلل بالعذاب ‪ ،‬وأنزلبهم‬
‫العقاب ا‪١‬تفاجئ ‪ .‬قلبهم اهلل بُت‬
‫الشدة والرخاء ‪ ،‬وعا‪ٞ‬تهم بالضر‬
‫واليسر ‪ ،‬حىت ال تكون ‪٢‬تم حجة‬
‫عىل اهلل ‪ ،‬و‪١‬تا ظهرت خسة طبعهم‬
‫وأقاموا عىل باطلهم أخذهم اهلل‬
‫أخذ عزيز مقتدر ‪ .‬ولنتأمل قوله‬
‫تعاىل يف ذلك ‪َ { :‬ول َ َق ْد أ َ ْر َسلنَآ إىل‬
‫ك فَأ َ َخ ْذن َ ُاه ْم بالبأسآء‬ ‫أُ َم ٍم ِّمن قَبْلِ َ‬
‫ون* فلوال‬‫والضرآء لَعَل َّ ُه ْم يَت َ َض َّر ُع َ‬
‫إِذْ َجآءَ ُه ْم بَأ ْ ُسنَا تَ َض َّر ُعوا ْولكن‬
‫وب ُه ْم َوزَي ّ ََن َ‪٢‬ت ُ ُم الشيطان‬ ‫قَ َس ْت ُقل ُ ُ‬
‫ون * فَل َ َّما ن َ ُسوا ْ َما‬
‫َما كَانُواّيَعْ َمل ُ َ‬
‫اب كُ ّ ِل‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫ُذ ِ ّكروا ْبِ ِه فَتَحنَا عَلَي ِهم أ َ‬
‫ْ ْ ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫َش ْيءٍ حىت إِذَا فَر ُِحوا ْ ِٔتَآ أوتوا‬
‫ون }‬ ‫س‬ ‫أ َ َخ ْذنَاهم بغْتةً فَإِذَا هم ُمبلِ‬
‫ُ ْ ّْ ُ َ‬ ‫ُ َْ َ‬
‫ػ األنعام ‪] 44-42 :‬‬
‫أي لم نعجل بعقابهم بل‬
‫تركناهم فتمادوا يف ا‪١‬تعصية حىت‬
‫إذا فرحوا ٔتا أتوا من النعمة‬
‫والثروة وكثرة العدد ‪ {،‬أ َ َخ ْذن َ ُاه ْم‬
‫ون } أي‬ ‫س‬ ‫بغْتةً فَإِذَا هم ُمبلِ‬
‫ُ ْ ّْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫يائسون من ر‪ٛ‬تة اهلل أو نادمون‬
‫متحسرون ‪ ،‬وال ينفعهم الندم‬
‫حينئذ ‪ .‬فقد فاتت الفرصة‬
‫وضيّعوها عىل أنفسهم ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يزنل هذا األمر كعقاب‬
‫وبه تكون النقلة صعبة ‪ ،‬إهنم‬
‫يتمادون فيعاقبهم ا‪ٟ‬تق عقابا ً‬
‫صاعقا ً‪ ،‬كالذي يرفع كائنا ًيف الفضاء‬
‫ثم يًتكه ليهوى عىل األرض ‪،‬‬
‫والعفو هنا ٯتكن أن يكون ٔتعٌت‬
‫أهنم ازدادوا يف الطغيان ‪ .‬وهناك‬
‫معٌت آخر للعفو فقد يأيت ٔتعٌت‬
‫الًتك ‪ { :‬فَ َم ْن ُع ِف َي ل َ ُه ِم ْن أ َ ِخي ِه‬
‫َش ْي ٌء فاتباع با‪١‬تعروف } ػ البقرة ‪:‬‬
‫‪] 178‬‬
‫أي فمن ترك له أخوه شيئا‬
‫فليأخذه ‪ .‬إذن فالعفو تارة يكون‬
‫ٔتعٌت الزيادة ‪ ،‬وتارة أخرى يكون‬
‫ٔتعٌت الًتك ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق هنا يقول ‪{ :‬‬
‫ون ُق ِل العفو }‬ ‫ِ‬ ‫َوي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ك َماذَا يُنف ُق َ‬
‫أي أن اإلنفاق إ‪٪‬تا يكون من‬
‫الزائد عن ا‪ٟ‬تاجة ‪ ،‬فيكون معٌت‬
‫العفو هنا هو الزائد أو ا‪١‬تًتوك ‪،‬‬
‫وهكذا نرى أن العفو واحد يف كبل‬
‫األمرين ‪ ،‬فبل تظن أن ا‪١‬تعاين‬
‫تتضارب؛ ألن بها يتحقق ا‪١‬تعٌت‬
‫ا‪١‬تقصود يف النهاية ‪ .‬فالعفو هو‬
‫الزيادة ‪ ،‬والعفو أيضا يؤخذ ٔتعٌت‬
‫الصفح ‪.‬‬
‫إذن فاإلنفاق من الزائد عن ا‪ٟ‬تاجة‬
‫٭تقق الصفح و٭تقق الرفاهية يف‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪ .‬فالذي يزرع أرضا‬
‫وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد ‪،‬‬
‫فهل يًتك ما يزيد عن حاجته‬
‫ليفسد أم ينفق منه عىل قريبه أو‬
‫جاره ا‪١‬تحتاج؟ أيهما أقرب إىل‬
‫العقل وا‪١‬تنطق؟ وكان ذلك قبل أن‬
‫يشرع ا‪ٟ‬تق الزكاة بنظامها‬
‫ا‪١‬تعروف ‪ .‬وما سر تبديلها من عفو‬
‫إىل زكاة؟‬
‫ألن ا‪ٟ‬تق أراد أن يقدر حركة‬
‫ا‪١‬تتحرك ‪ ،‬فجعل حركته ٗتفف‬
‫عنه وال تثقل عليه ‪ .‬ألن حركة‬
‫ا‪١‬تتحرك تنفع ا‪١‬تتحرك ‪ ،‬أراد‬
‫ا‪١‬تتحرك أو لم يرد؛ ولذلك ‪٧‬تد «‬
‫زكاة الركاز » وهي الزكاة‬
‫ا‪١‬تفروضة عىل ما يوجد يف باطن‬
‫األرض من ثروات كا‪١‬تعادن‬
‫النفيسة والبًتول و َتها ‪ ،‬لقد‬
‫جعل ا‪ٟ‬تق نصاب تلك الزكاة‬
‫عشرين يف ا‪١‬تائة ‪ ،‬أي ا‪٠‬تمس‬
‫بينما الذي ٭ترث األرض ويبذر‬
‫فيها ا‪ٟ‬تب ويًتكها حىت يزنل ا‪١‬تطر‬
‫فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر عىل‬
‫ما أنتجته زراعته ‪.‬‬
‫وأما الذي يزرع عىل ماء الري فعليه‬
‫نصف العشر ‪ .‬والذي يتاجر كل‬
‫يوم ويتعب فيذهب للمنتج‬
‫ويشًتي منه ‪ ،‬ثم يوفر السلعة عىل‬
‫البائع فيشًتيها ‪ ،‬هذا نقول له ‪:‬‬
‫عليك اثنان ونصف يف ا‪١‬تائة ( ‪. 2‬‬
‫‪ ) %5‬فقط ‪.‬‬
‫إذن فالزكاة متناسبة مع ا‪ٟ‬ت ة‬
‫رك‬
‫وا‪ٞ‬تهد ‪ ،‬كأن ا‪ٟ‬تق ٭تمي ا‪ٟ‬تركة‬
‫اإلنسانية من ‪ٛ‬تق التقنُت البشري‬
‫‪ .‬إن ا‪١‬تتحرك القوي يدفعه اهلل‬
‫ليزيد من حركته لينتفع ا‪١‬تجتمع ‪،‬‬
‫وأوكل اهلل للحاكم الذي يتبع‬
‫منهج اإلسبلم أن يأخذ من األثرياء‬
‫ما يقيم به كرامة الفقراء ‪ .‬إ ِْن َ ِٓت َل‬
‫األغنياء بفضل اهلل عليهم ‪ ،‬ولم‬
‫ينفقوا عىل الفقراء من رزق اهلل؛‬
‫فا‪١‬تنهج ا‪ٟ‬تق ٭تمي ا‪١‬تال من فساد‬
‫الطمع ‪ ،‬ومن فساد الكسل ‪ ،‬ويريد‬
‫ا‪ٟ‬تياة مستقيمة وآمنة للناس ‪.‬‬

‫فالذي ينفق من ماله عىل أهله ٭تيا‬


‫وهو آمن ‪ .‬وكذلك من ينفق عىل‬
‫أهله وتوابعه فتزداد دائرة األمان ‪،‬‬
‫وهكذا لقد ‪ٛ‬تى اهلل بالزكاة طموح‬
‫البر من ‪ٛ‬تق التقنُت من البشر ‪،‬‬
‫ش‬
‫فا‪١‬تقنن من البشر يأيت للمتحرك‬
‫أكثر ويزيد عليه األعباء ‪ ،‬نقول له‬
‫‪ :‬إن هذا ا‪١‬تتحرك إن لم يقصد أن‬
‫ينفع ا‪١‬تجتمع فا‪١‬تجتمع سينتفع‬
‫ّتهده بالرغم عنه؛ فاإلنسان‬
‫الذي ٯتلك ماال يُلقي اهلل خاطرا يف‬
‫باله ‪ ،‬فيقول ‪ « :‬ماذا لو بنيت‬
‫عمارة من عشرة أدوار ‪ ،‬ويف كل‬
‫دور أربع شقق » و٭تسب كم‬
‫تعطيه تلك العمارة من عائد كل‬
‫شهر ‪ .‬إن هذا الرجل لم يكن يف‬
‫باله إال أن يربح ‪ ،‬فنًتكه يفكر يف‬
‫الربح ‪ ،‬وعندما نراقب الفائدة اليت‬
‫ستعود عىل ا‪١‬تجتمع منه فسنجد‬
‫الفائدة تعود عىل ا‪١‬تجتمع من هذا‬
‫العمل ‪ ،‬ولنا أن ‪٨‬تسب كم فردا‬
‫سوف يعمل يف بناء تلك العمارة‬
‫ا‪ٞ‬تديدة؟ ابتداء من البنائُت‬
‫ومرورا بالنجارين وا‪ٟ‬تدادين‬
‫وا‪١‬تبيضُت والسباكُت و َتهم ‪.‬‬
‫إن كل طبقات ا‪١‬تجتمع الفقَتة‬
‫تكون قد أفادت واستفادت من مال‬
‫هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه‬
‫مليم واحد؛ لقد ألىق اهلل يف نفسه‬
‫خاطرا ً‪ ،‬فأخرج كل ما يف جيبه ‪،‬‬
‫وألقاه يف جيوب اْلخرين قبل أن‬
‫توجد له عمارة ‪ .‬وهكذا ٭تمي اهلل‬
‫حركة ا‪١‬تتحرك ألن حركته‬
‫ستفيد سواه قصد إىل ذلك أو لم‬
‫يقصد ‪.‬‬
‫أما إذا قلنا له ‪ :‬سنأخذ ما يزيد عن‬
‫حاجتك قسرا ًفبل بد أن يقول‬
‫لنفسه ‪ « :‬سأجعل حركيت عىل قدر‬
‫حاجيت وال أزيد إال قليبل » ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫عز وجل ال يريد أن يشيع هذا‬
‫ا‪١‬تنطق بُت الناس ‪ ،‬ولكن يريد ‪٢‬تم‬
‫أن يتحركوا يف ا‪ٟ‬تياة با‪ٞ‬تدية‬
‫وا‪ٟ‬تبلل ‪ ،‬وكلما تكثر حركتهم‬
‫تقل الزكاة ا‪١‬تفروضة عليهم ‪ ،‬ألن‬
‫ا‪ٟ‬تركة ال يستفيد منها صاحبها‬
‫فقط ولكن يستفيد منها ا‪ٞ‬تميع ‪،‬‬
‫فبعضه يسكن ‪ ،‬وآخر يزرع ‪،‬‬
‫وثالث يعمل ‪ ،‬وخَت لئلنسان أن‬
‫يأكل من عمل يديه من أن يأكل‬
‫من صدقات الناس وزكاهتم ‪.‬‬
‫عن ا‪١‬تقدام بن معد يكرب أن‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال‬
‫‪ « :‬ما أكل أحد طعاما ًقط خَتا ًمن‬
‫أن يأكل من عمل يده ‪ ،‬وإن نبي‬
‫اهلل داود عليه السبلم كان يأكل من‬
‫عمل يده » ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق من بعد ذلك ‪ِ { :‬يف‬
‫الدنيا واْلخرة َوي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ك َع ِن‬
‫اليتاىم ُق ْل إ ِْصبل َ ٌح َّ‪٢‬ت ُ ْم َخ َْتٌ‪} . . .‬‬
‫ك َع ِن‬ ‫ِيف ال ُّدنْيَا َو ْاْل ِخ َر ِة َوي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫الْيَت َ َاىم ُق ْل إ ِْص َبل ٌح َ‪٢‬ت ُ ْم َخ َْتٌ َوإ ِْن‬
‫وه ْم فَإِ ْخ َوان ُ ُك ْم َو ّ َُ‬
‫اّلل يَعْل َ ُم‬ ‫ط‬‫ُ‬ ‫ُٗتَال ِ‬
‫ُ‬
‫ا ْ‪١‬تُ ْف ِس َد ِم َن ا ْ‪١‬تُ ْصلِ ِح َول َ ْو َشاءَ ّ َُ‬
‫اّلل‬
‫ِ‬
‫يم‬‫اّللَ َعزِي ٌز َحك ٌ‬ ‫َأل َ ْعنَت َ ُك ْم إ َِّن َّ‬
‫(‪)220‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يبدأ هذه اْلية بقوله ‪{ :‬‬
‫ِيف الدنيا واْلخرة } وكأنه يقول لنا‬
‫‪ :‬إياك أن تعتقدوا أن كل تكليف‬
‫من اهلل جزاؤه يف اْلخرة فقط ‪ ،‬أبدا‬
‫إن ا‪ٞ‬تزاء سيصيبكم يف الدنيا أيضا‬
‫‪.‬‬
‫وتأمل سَتة ا‪١‬تستقيمُت‬
‫ا‪١‬تلتزمُت ٔتنهج دينهم ومنهج‬
‫األخبلق يف حياهتم ٕتدهم قد‬
‫أخذوا جزاءهم يف الدنيا رضا‬
‫وسعادة وأمنا حىت أنك ٕتد الناس‬
‫تتساءل ‪ :‬كيف رىب فبلن أوالده ‪،‬‬
‫وكيف علمهم برغم أن مرتبه‬
‫بسيط؟‬
‫هم ال يعلمون أن يد اهلل معه‬
‫بالْبكة يف كل حركات حياته ‪ .‬فبل‬
‫تظن أن ا‪ٞ‬تزاء مقصور عىل اْلخرة‬
‫فقط ‪ ،‬بل يعجل اهلل با‪ٞ‬تزاء يف‬
‫الدنيا ‪ ،‬أما اْلخرة فهي زيادة و‪٨‬تن‬
‫نأخذ متاع اْلخرة بفضل اهلل ‪ .‬قال‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪« :‬‬
‫لن يدخل أحدكم ا‪ٞ‬تنة بعمله ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬وال أنت يا رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫وال أنا إال أن يتغمدين اهلل بر‪ٛ‬تته »‬
‫‪.‬‬
‫وأحب أن يتأمل كل منا أحوال‬
‫الناس ا‪١‬تستقيمُت يف منهج ا‪ٟ‬تياة ‪،‬‬
‫ويرى كيف يعيشون وكيف‬
‫ينفقون عىل أوالدهم ‪ ،‬ويتأمل‬
‫البشر والرضا الذي يتمتعون به‬
‫وكيف ٗتلو حياهتم من ا‪١‬تشاكل‬
‫والعقد النفسية ‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه وتعاىل يلفتنا إىل أن‬
‫كل ما جاء يف ا‪١‬تنهج القويم ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫جاء لينظم لنا حركة ا‪ٟ‬تياة وٮترجنا‬
‫من أهواء النفوس ‪.‬‬
‫ونقول بعد أن استكمل ا‪ٟ‬تق‬
‫الكبلم عن ا‪ٟ‬تج وهو الركن ا‪٠‬تامس‬
‫من أركان اإلسبلم ‪ ،‬بُت لنا صنفُت‬
‫من ا‪١‬تجتمع ‪ :‬أما الصنف األول فهو‬
‫الصنف ا‪١‬تنافق الذي ال ينسجم‬
‫منطقه مع واقع قلبه ونفسه ‪{ :‬‬
‫ك َق ْول ُ ُه ِيف‬ ‫َو ِم َن الناس َمن يُعْ ِجب ُ َ‬
‫ا‪ٟ‬تياة الدنيا َويُ ْش ِه ُد اهلل عىل َما ِيف‬
‫قَلْبِ ِه َو ُه َو أَل َ ُّد ا‪٠‬تصام * َوإِذَا توىل سىع‬
‫ك‬‫ِيف األرض لِي ُ ْف ِس َد فِيِهَا َويُهْلِ َ‬
‫ب الفساد‬ ‫ا‪ٟ‬ترث والنسل واهلل ال َ ُ٭ت ِ ُّ‬
‫} ػ البقرة ‪] 205-204 :‬‬
‫وليت هذا الصنف حُت يتنبه إىل‬
‫ذلك يرتدع ويرجع ‪ ،‬ال ‪ ،‬إنه إذا‬
‫قيل له من ناصح ‪٤‬تب مشفق ‪« :‬‬
‫اتق اهلل » أخذته العزة باإلثم!! ‪.‬‬
‫والصنف اْلخر يف ا‪١‬تجتمع هو من‬
‫يشري نفسه ابتغاء مرضاة اهلل ‪،‬‬
‫ويتمثل ذلك يف أنه إما أن يبيع‬
‫نفسه يف القتال فيكون شهيدا ً‪،‬‬
‫وإما أن يستبقيها استبقاء ًيكون‬
‫سبحان ‪:‬‬
‫ه‬ ‫فيه ا‪٠‬تَت ‪١‬تنهج اهلل ‪ .‬فقال‬
‫{ َو ِم َن الناس َمن ي َ ْش ِري ن َ ْف َس ُه‬
‫وف‬
‫ات اهلل واهلل َر ُؤ ٌ‬ ‫ابتغآء َم ْر َض ِ‬
‫بالعباد} ػ البقرة ‪] 207 :‬‬
‫ثم تكلم ا‪ٟ‬تق عن الدخول يف السلم‬
‫كافة ‪ ،‬والدخول يف السلم أي‬
‫اإلسبلم يطلب منا أن ندخل ‪ٚ‬تيعا ً‬
‫يف كل أنواع السلم يف ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬سلم‬
‫مع نفسك فبل تتعارض ملكاتك ‪،‬‬
‫فبل تقول قوال ًيناقض قلبك ‪ ،‬و ِس ٌ‬
‫لم‬
‫مع ا‪١‬تجتمع الذي تعيش فيه ‪،‬‬
‫وسلم مع الكون الذي ٮتدمك‬
‫‪ٚ‬تادا ًونباتا ًوحيوانا ً‪ ،‬وسلم مع‬
‫أمتك اليت تعيش فيها ‪ ،‬فقال‬
‫سبحانه ‪ { :‬ياأيها الذين آ َم ُنوا ْ‬
‫ادخلوا ِيف السلم كَآ َّفةً َوال َتَتَّبِ ُعوا ْ‬
‫ك ْم ع َ ُد ٌّو‬‫ات الشيطان إِن ّ َُه ل َ ُ‬‫ُخ ُطو ِ‬
‫َ‬
‫ُت }‬‫ُّمبِ ٌ‬
‫ػ البقرة ‪] 208 :‬‬
‫كل ذلك يدلنا عىل أن ا‪ٟ‬تق حُت‬
‫خلق ا‪٠‬تلق ‪ ،‬وضع ‪٢‬تم ا‪١‬تنهج الذي‬
‫يضمن ‪٢‬تم السبلمة واألمن يف كل‬
‫أطوار هذه ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬فإن رأيت خلبل ً‬
‫أو اضطرابا ًيف الكون ‪ ،‬أو رأيت‬
‫خوفا ًأو قلقا ًفاعلم أن منهجا ًمن‬
‫مناهج اإلسبلم قد ُعطل ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل حينما يأمرنا أن‬
‫ندخل يف السلم كافة فهو سبحانه‬
‫٭تذرنا أننا إن زللنا عن ا‪١‬تنهج فإن‬
‫اهلل عزيز حكيم فبل يغلبه أحد ‪،‬‬
‫وال يقدر عليه أحد ‪ ،‬فهو القادر‬
‫القوي الذي ُ‪٬‬تري كل شيء ْتكمة‬
‫‪ ،‬فبل تظنوا أنكم بذلك تسيئون‬
‫إىل اهلل بالزلل عن منهجه ‪ ،‬وإ‪٪‬تا‬
‫تسيئون إىل أنفسكم وإىل أبناء‬
‫جنسكم؛ ألن اهلل ال يُغلب ‪.‬‬
‫وينبهنا ا‪ٟ‬تق سبحانه تنبيها آخر ‪،‬‬
‫إنه يلفتنا إىل أننا ال ‪٪‬تلك أمر‬
‫الساعة ‪ ،‬فالساعة تأيت بغتة‬
‫ومفاجئة ‪ ،‬وصاخة طامة ‪ ،‬مرجفة‬
‫مزلزلة ‪ .‬فاحذروا أن تصيبكم‬
‫هذه الرجفة وأنتم يف غفلة عنها ‪.‬‬
‫وكل ذلك لندخل أيضا يف السبلم يف‬
‫اليوم اْلخر ‪ ،‬وكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫يلفتنا إىل أن كلمات القرآن ليست‬
‫‪٣‬ترد كلمات نظرية ‪ ،‬ولكنها‬
‫كلمات ا‪ٟ‬تكيم ا‪٠‬تبَت اليت حكمت‬
‫تاريخ األمم اليت سبقت دعوة ‪٤‬تمد‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فكم من آيات أرسلها ا‪ٟ‬تق إىل بٍت‬
‫إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان‬
‫‪ ،‬وشقوا ه م ‪ ،‬وشقي بهم ا‪١‬تجتمع ‪،‬‬
‫إذن فالكبلم ليس كبلما ًنظريا ً‪.‬‬
‫ويريد اهلل لنا أن ننظر بعمق إىل‬
‫أمور ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وأال ننظر إىل‬
‫سطحيات األمور ‪ ،‬فيجب أال‬
‫ٗتدعنا زينة ا‪ٟ‬تياة الدنيا عن ا‪ٟ‬تياة‬
‫اْلخرة؛ ألن ا‪ٟ‬تياة الدنيا أ َ َم ُدها‬
‫قصَت ‪ ،‬وعلينا أن نقيس عمر‬
‫الدنيا بأعمارنا منها ‪ ،‬وأعمارنا‬
‫فيها قصَتة؛ ألن منا من ٯتوت‬
‫كبَتا ًومنا من ٯتوت صغَتا ً‪.‬‬
‫ويبُت لنا ا‪ٟ‬تق سبحانه أنه لم يًتك‬
‫رسبل ً‬
‫خلقه ‪٫‬تبل ً‪ ،‬وإ‪٪‬تا أرسل ‪٢‬تم ُ‬
‫يبينون ‪٢‬تم منهج اهلل ‪ ،‬فكان الناس‬
‫أمة واحدة ‪٣‬تتمعة عىل ا‪ٟ‬تق إىل أن‬
‫ٖتركت األهواء يف نفوسهم ‪ ،‬ومع‬
‫ذلك ر‪ٛ‬تهم اهلل فلم يسلمهم إىل‬
‫األهواء ‪ ،‬بل استمر موكب‬
‫الرساالت يف البشر ‪ ،‬وكلما لبتهم‬
‫األهواء وطم الفساد ‪ ،‬أرسل ا‪ٟ‬تق‬
‫بر‪ٛ‬تته رسوال لينبه إىل أن جاء‬
‫الرسول ا‪٠‬تاتم الذي ميزه اهلل ٓتلود‬
‫منهجه ‪ ،‬وجعل القيم يف أمته ‪.‬‬
‫وصارت األمة ا‪١‬تحمدية هي‬
‫حاملة أمانة حراسة ا‪١‬تنهج الذي‬
‫يصون حركة ا‪ٟ‬تياة يف األرض؛ ألن‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه لم يأمن أمة سواها ‪،‬‬
‫ولذلك كان رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم خاتم األنبياء ‪.‬‬
‫ثم نبهنا اهلل من بعد ذلك إىل أن‬
‫هناية اإلنسان إىل نعيم اهلل يف ا‪ٞ‬تنة‬
‫لن يأيت سهبل ًميسورا ً‪ ،‬بل هو‬
‫طريق ‪٤‬تفوف با‪١‬تكارة ‪ ،‬فيجب أن‬
‫تنبهوا أنفسكم وتروضوها‬
‫وتدربوها عىل ٖتمل هذه ا‪١‬تكاره ‪،‬‬
‫وتوطنوها عىل ٖتملها لتلك ا‪١‬تشاق‬
‫‪ .‬كما قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬حفت ا‪ٞ‬تنة با‪١‬تكاره‬
‫وحفت النار بالشهوات » ‪.‬‬

‫وٯتنت ا‪ٟ‬تق من بعد ذلك عىل خلقه‬


‫أنه أهدى لئلنسان ا‪٠‬تليفة يف‬
‫األرض عقبل ًيفكر به ‪ ،‬وطاقة‬
‫تنفذ ٗتطيط العقل ‪ ،‬وكونا ًماديا ً‬
‫أمامه يتفاعل معه يف ا‪ٟ‬تركة ‪:‬‬
‫فالعقل ٮتطط ‪ ،‬والطاقة تنفذ يف‬
‫ا‪١‬تادة ا‪١‬تخلوقة ا‪١‬تسخرة هلل ‪ .‬إذن‬
‫فكل أدوات ا‪ٟ‬تركة موجودة هلل ‪،‬‬
‫وليس لك أيها اإلنسان أن ٗتلق‬
‫توجه طاقات‬ ‫شيئا ًفيها إال أن ُ ُ‬
‫‪٥‬تلوقة للعمل يف مادة ‪٥‬تلوقة ‪،‬‬
‫فأنت ال توجد شيئا ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يطلب ا‪ٟ‬تق منك أيها‬
‫ا‪١‬تسلم أن ٖتافظ عىل حركة ا‪ٟ‬تياة ‪،‬‬
‫بأن تقدر للعاجز عن هذه ا‪ٟ‬تركة‬
‫نصيبا ًمن حركتك؛ لذلك فعليك‬
‫أن تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة حركة تسعك‬
‫‪ ،‬وتسع من تعول ‪ ،‬وتسع العاجز عن‬
‫ا‪ٟ‬تركة ‪ .‬وبذلك تؤ ّمن السماء كل‬
‫عاجز عن ا‪ٟ‬تركة ْتركة‬
‫ا‪١‬تتحركُت من إخوانه ا‪١‬تؤمنُت ‪،‬‬
‫وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا‬
‫فعلت ذلك وأ َ َّمن ْ َت العاجز ‪ ،‬فهو‬
‫جل وعبل يؤمنك حُت يطرأ عليك‬
‫العجز ‪.‬‬
‫لقد جعل اهلل سبحانه حالة ا‪ٟ‬تياة‬
‫دوال ًبُت الناس ‪ ،‬فبل يوجد قوم‬
‫قادرون دائما ًوال قوم عاجزين‬
‫دائما ً‪ ،‬بل ‪٬‬تعل ا‪ٟ‬تق من القادرين‬
‫باألمس عاجزين اليوم؛ ومن‬
‫العاجزين باألمس قادرين اليوم؛‬
‫حىت تتوزع ا‪ٟ‬تركة يف الوجود ‪.‬‬
‫وحىت يعلم كل منا أن اهلل يطلب‬
‫منك حُت تقدر؛ ليعطيك حُت‬
‫تعجز ‪ .‬لذلك طلب منا أن ننفق ‪،‬‬
‫والنفقة عىل الغَت ال تتأىت إال بعد‬
‫استيفاء اإلنسان ضروريات حياته‬
‫‪ ،‬فكأن ا‪ٟ‬تق يقول لك ‪ :‬إن عليك‬
‫ركتسعك‬ ‫أن تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة ح ة‬
‫وتسع أن تنفق عىل من تعول ‪ ،‬وإال لو‬
‫ٖتركت حركة عىل قدرك فقد ال‬
‫ٕتد ما تنفقه ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل‬
‫مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية‬
‫اإلنفاق عىل الدائرة القريبة منه؛‬
‫ليتحمل كل موجود يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫مسئولية قطاع من ا‪١‬تجتمع مربوط‬
‫والين‬
‫به رباطا ن َ َسبِيّا ً؛ كال د‬
‫واألقربُت ‪ .‬وأن ‪٧‬تعل الضعفاء من‬
‫األيتام مشاعا ًعىل ا‪١‬تجتمع‬
‫مطلوبُت من ا‪ٞ‬تميع ‪ .‬س ٌ‬
‫واء كانت‬
‫تربطهم بنا قرابة أو ال تربطنا بهم‬
‫قرابة فهم ‪ٚ‬تيعا ًأقاربنا؛ ألن اهلل‬
‫كلفنا بأن نرعاهم ‪.‬‬
‫ولكن هل ٯتكن أن يستقر منهج‬
‫اهلل دون أن يعاديه أحد؟ طبعا ًال؛‬
‫لذلك ينبهنا ا‪ٟ‬تق إىل أننا سنجد‬
‫أقواما ًال يسعدهم أن يطبق منهج‬
‫اهلل يف الوجود؛ ألهنم ال يعيشون إال‬
‫عىل مظالم الناس ‪ ،‬هؤالء قوم‬
‫سيسوؤهم أن يُطبق منهج اهلل ‪،‬‬
‫فلتنتبهوا ‪٢‬تؤالء؛ ولذلك فرض‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه القتال حىت ‪٪‬تنع‬
‫الفتنة بالكفر من األرض؛ ألن‬
‫الكفر يعدد اْل‪٢‬تة يف الكون وسيتبع‬
‫كل إنسان ا‪٢‬توى ‪ ،‬ويصبح إ‪٢‬ته‬
‫هواه وستتعدد اْل‪٢‬تة بتعدد األهواء‬
‫‪ ،‬ولذلك كتب اهلل عىل ا‪١‬تؤمنُت‬
‫القتال وقال ‪َ { :‬و ُه َو ُك ْر ٌه ل َّ ُك ْم } ‪،‬‬
‫كل ذلك ليضمن لنا الغاية اليت‬
‫يريدها ‪ ،‬وهي الدخول يف السلم‬
‫والسبلم واإلسبلم كافة ‪ .‬وبعد‬
‫ذلك يطلب منا أن ‪٧‬تاهد بأموالنا‬
‫وأنفسنا وأن هنجر أوطاننا وأهلنا‬
‫إن احتاجت إىل ذلك ا‪ٟ‬تركة‬
‫اإلٯتانية فقال ‪ { :‬إ َِّن الذين آ َم ُنوا ْ‬
‫والذين َها َج ُروا ْ َو َج َ‬
‫اه ُدوا ْ ِيف َسب ِ‬
‫ِيل‬
‫‪ٛ‬ت َت اهلل‬ ‫اهلل أوالئك ي َ ْر ُج َ‬
‫ون َر ْ َ‬
‫يم }‬ ‫واهلل َغ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ػ البقرة ‪] 218 :‬‬
‫ويلفتنا ا‪ٟ‬تق بعد ذلك إىل قمة‬
‫ا‪ٞ‬تهاز التخطيطي يف اإلنسان‬
‫ليحميه و‪٬‬تعله جهازا ًسليما ًقادرا ً‬
‫عىل التخطيط بصفاء وحكمة وقوة‬
‫‪ ،‬وهو العقل ‪ ،‬ويلفتنا بضرورة أن‬
‫‪٪‬تنع عن العقل كل ما ٮتمره أي‬
‫يسًته عن ا‪ٟ‬تركة ‪٪‬تنع عنه ا‪٠‬تمر‬
‫‪١‬تاذا؟ ليظل العقل كما يريده اهلل‬
‫أداة االختيار بُت البدائل ‪.‬‬
‫وما دام العقل هو الذي ٮتطط‬
‫للطاقة ا‪١‬توجودة يف اإلنسان لتعمل‬
‫يف ا‪١‬تادة ا‪١‬توجودة يف الكون فيجب‬
‫أن يظل هذا العقل ا‪١‬تخطط سليما ً‬
‫‪ ،‬فبل ٭تاول اإلنسان أن يسًته ‪ ،‬وال‬
‫يقل أحد ‪ « :‬إين أسًته من فرط‬
‫زيادة ا‪١‬تشكبلت » ‪ ،‬ال ‪ :‬ألن‬
‫ا‪١‬تشكبلت ال تريد عقبل ًواحدا ً‬
‫منك فقط ‪ ،‬ولكنها تريد عقلُت ‪،‬‬
‫فبل تأيت للعقل الواحد لتطمسه‬
‫با‪٠‬تمر ‪ ،‬فمواجهة ا‪١‬تشكبلت‬
‫تقتضي أن ‪٩‬تطط ٗتطيطا ًقويا ً‪.‬‬
‫وبعد ذلك ٭تذرنا ا‪ٟ‬تق أن نأخذ من‬
‫حركة اْلخرين بغَت عرق وبغَت‬
‫جهد ‪ ،‬فيحذرنا من ا‪١‬تيسر وهو‬
‫الرزق السهل ‪ ،‬والتحذير من‬
‫ا‪١‬تيسر إ‪٪‬تا جاء ليضمن لكل‬
‫إنسان أن يتحرك يف ا‪ٟ‬تياة حركة‬
‫سليمة ال خداع فيها ‪ .‬وكأن كل ما‬
‫تقدم هو من إشراقات قوله ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ ِيف الدنيا واْلخرة } ومن بعد‬
‫ذلك يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪{ :‬‬
‫ك َع ِن اليتاىم ُق ْل إ ِْصبل َ ٌح‬ ‫َوي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ِ‬
‫َّ‪٢‬ت ُ ْم َخ َْتٌ َوإ ِْن ُٗتَال ُط ُ‬
‫وه ْم فَإِ ْخ َوان ُ ُك ْم‬
‫واهلل يَعْل َ ُم ا‪١‬تفسد ِم َن ا‪١‬تصلح َول َ ْو‬
‫َشآءَ اهلل أل َ ْعنَت َ ُك ْم إ َِّن اهلل َعزِي ٌز‬
‫يم } ػ البقرة ‪] 220 :‬‬ ‫ِ‬
‫َحك ٌ‬
‫ونعرف أن اليتاىم قد ال يدخلون يف‬
‫دائرة ا‪١‬تحتاجُت لكن اهلل ينبهنا إىل‬
‫أن ا‪١‬تسألة يف اليتيم ليست مسألة‬
‫احتياج إىل االقتيات ‪ ،‬ولكنه يف‬
‫حاجة إىل أن نعوضه بالتكافل‬
‫اإلٯتاين عما فقده من األب ‪ ،‬وذلك‬
‫ٯتنع عنه ا‪ٟ‬تقد عىل األطفال الذين‬
‫لم ٯتت آباؤهم ‪ .‬وحُت ‪٬‬تد‬
‫اليتيم أن كل ا‪١‬تؤمنُت آباء له‬
‫فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان‬
‫األب وال يعاين من نظرة األىس اليت‬
‫ينظر بها إىل أقرانه ا‪١‬تتميزين عليه‬
‫بوجود آبائهم ‪ ،‬وبذلك ٗتلع منه‬
‫ا‪ٟ‬تقد ‪.‬‬
‫وكان ا‪١‬تسلمون القداىم ٮتلطون‬
‫أموا‪٢‬تم بأموال اليتاىم ليسهلوا عىل‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وعىل أمر حركة اليتيم‬
‫مئونة العمل ‪ ،‬فلو أن يتيما ًدخل‬
‫ٖتت وصاية إنسان ‪ ،‬وأراد هذا‬
‫اإلنسان أن ‪٬‬تعل لليتيم القاصر‬
‫حياة مستقلة وإدارة مستقلة‬
‫ومسلكا ًمستقبل ًيف ا‪ٟ‬تياة لشق ذلك‬
‫عىل نفس الرجل ‪ ،‬ولذلك أذن اهلل‬
‫أن ٮتلط الوصي ماله ٔتال اليتيم ‪،‬‬
‫وأن ‪٬‬تعل حركة هذا ا‪١‬تال من‬
‫حركة ماله ‪ٔ ،‬تا ال يوجد عند‬
‫الوصي مشقة ‪ .‬و‪١‬تا نزل قوله تعاىل‬
‫ال اليتيم إِال َّباليت‬ ‫‪َ { :‬وال َتَ ْق َر ُبوا ْ َم َ‬
‫ِه َي أ َ ْح َس ُن } ػ األنعام ‪] 152 :‬‬
‫وٖترج الناس ‪ ،‬وتساءلوا كيف‬
‫يعاملون اليتيم خصوصا أن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل قال ‪ { :‬إ َِّن الذين‬
‫ْ‬
‫ال اليتاىم ُظلْما ًإ َِّ‪٪‬تَا‬‫ون أ َ ْم َو َ‬‫يَأكُل ُ َ‬
‫ون ِيف ُب ُط ِ ِ‬ ‫ْ‬
‫وهن ْم نَارا ً} ػ النساء ‪:‬‬ ‫يَأكُل ُ َ‬
‫‪] 10‬‬
‫وكف الناس أيديهم عن أمر‬
‫اليتاىم ‪ ،‬وأراد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫أن يسهل األمر ‪ ،‬فأنزل القول‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ُ { :‬ق ْل إ ِْصبل َ ٌح ل َّ ُه ْم َخ َْتٌ َوإ ِْن‬
‫وه ْم فَإِ ْخ َوان ُ ُك ْم } وا‪١‬تخالطة‬ ‫ط‬‫ُ‬ ‫ُٗتَال ِ‬
‫ُ‬
‫تكون عىل أساس أن اليتاىم‬
‫إخوانكم واحذروا جيدا ًأن يكون‬
‫يف هذا ا‪٠‬تلط شيء ال يكون فيه‬
‫إصبلح لليتيم ‪.‬‬

‫وإياكم أن تفهموا أن الشكلية‬


‫االجتماعية تكفي الوصي يف أن‬
‫يكون مشرفا ًعىل مال اليتيم دون‬
‫حساب؛ ألن اهلل يعلم ا‪١‬تفسد من‬
‫ا‪١‬تصلح ‪ .‬فبل ٭تاول أحد أن يقول‬
‫أمام الناس ‪ :‬إنه قد فتح بيته‬
‫لليتيم وإنه يرىع اليتيم بينما‬
‫األمر عىل َت ذلك؛ ألن اهلل يعلم‬
‫ا‪١‬تفسد من ا‪١‬تصلح ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬ول َ ْو َشآءَ اهلل‬
‫أل َ ْعنَت َ ُك ْم } واإلعنات هو أن توقع‬
‫َتك وتدخله يف أمر فيه مشقة ‪،‬‬
‫فلو لم يبح اهلل لكم ‪٥‬تالطتهم‬
‫ألصابتكم مشقة فيسر اهلل‬
‫للمؤمنُت من األوصياء أن ٮتالطوا‬
‫اليتاىم ‪ ،‬ومعٌت ا‪١‬تخالطة ‪ :‬هو أن‬
‫يُوحد الوصي حركة اليتيم مع‬
‫حركته ‪ ،‬وأن يوحد معاش اليتيم‬
‫مع معاشه ‪ ،‬بدال ًمن أن يكون‬
‫لليتيم عىل سبيل ا‪١‬تثال أدوات‬
‫طعام مستقلة ‪ ،‬وقد كان هذا هو‬
‫ا‪ٟ‬تاصل ‪.‬‬
‫وكان يفسد ما يتبىق من الطعام؛‬
‫فلم تكن هناك وسائل صيانة‬
‫وحفظ األطعمة مثل الثبلجات ‪،‬‬
‫وكان ذلك ضررا ًباليتيم ‪ ،‬وضررا ً‬
‫أيضا ٔتن يشرف عليه ‪ .‬لكن حُت‬
‫وه ْم } ‪ ،‬فكان‬ ‫ط‬
‫ُ‬ ‫قال ‪ { :‬وإِن ُٗتَال ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ذلك توفَتا للمشقة عىل األوصياء ‪.‬‬
‫فا‪١‬تخالطة هي ا‪١‬تعاشرة اليت ال‬
‫يتعثر فيه التمييز ‪.‬‬
‫وقد درسنا يف طفولتنا درسا بعنوان‬
‫« ا‪٠‬تلط وا‪١‬تزج » فا‪٠‬تلط هو أن‬
‫ٗتلط عىل سبيل ا‪١‬تثال حبوب الفول‬
‫مع حبوب العدس ‪ ،‬أو حبوب األرز‬
‫مع حبوب البندق ‪.‬‬
‫وعندما تأيت لتمييز صنف من آخر‬
‫‪ ،‬فأنت تستطيع ذلك ‪ ،‬وتستطيع‬
‫بض‬ ‫أن تفصل الصنفُت بعضا عن ع‬
‫بالغربال؛ ولذلك فا‪١‬تخالطة تكون‬
‫بُت ا‪ٟ‬تبوب و‪٨‬توها ‪.‬‬
‫أما ا‪١‬تزج فهو يف السوائل ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه يرشدنا أن ‪٩‬تالط اليتاىم ال‬
‫أن ‪٪‬تزج ما‪٢‬تم ٔتالنا؛ ألن اليتيم‬
‫سيصل يوما إىل سن الرشد ‪،‬‬
‫وسيكون عىل الوصي أن يفصل ماله‬
‫عن مال اليتيم ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬واهلل يَعْل َ ُم ا‪١‬تفسد‬
‫ِم َن ا‪١‬تصلح } ألن الوصي قد يدعي‬
‫أمام الناس أنه يرىع حق اليتيم ‪،‬‬
‫وأنه يقوم ٔتصا‪ٟ‬ته و٭تًتم ماله ‪،‬‬
‫لكن األمر قد ٮتتلف يف النية وهو‬
‫سبحانه لم يكل األمر إىل ظواهر‬
‫فهم ا‪١‬تجتمع لسلوك الوصي مع‬
‫اليتيم وعن ا‪١‬تخالطة ‪ ،‬بل نسب‬
‫ذلك كله إىل رقابته سبحانه ‪ ،‬وذلك‬
‫حىت ٭تتاط اإلنسان ويعرف أن‬
‫رقابة اهلل فوق كل رقابة ‪ ،‬ولو شاء‬
‫ا‪ٟ‬تق ألعنت األوصياء وجعلهم‬
‫يعملون لليتيم وحده ‪ ،‬ويفصلون‬
‫بُت حياة اليتيم وحياهتم ومعاشهم‬
‫‪ .‬ويف ذلك مشقة شديدة عىل النفس‬
‫‪ .‬وحىت نفهم معٌت العنت بدقة‬
‫فلنقرأ قول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪ { :‬لَقَ ْد‬
‫ول ِّم ْن أ َ ُنف ِس ُك ْم َعزِي ٌز‬
‫َجآءَ ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫عَلَيْه َما َعنتُّ ْم َحرِي ٌ‬
‫ص عَلَي ْ ُك ْم‬
‫يم } ػ التوبة‬ ‫با‪١‬تؤمنُت رء ٌ ِ‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫َُ‬
‫‪] 128 :‬‬
‫لقد جاءكم أيها ا‪١‬تؤمنون رسول‬
‫منكم ‪ ،‬عريب ومن قريش يبلغكم‬
‫رسالة اهلل سبحانه وتعاىل ‪ .‬٭ترص‬
‫عليكم كيبل تقعوا يف مشقة أو‬
‫تعيشوا يف ضنك الكفر ‪ ،‬حريص‬
‫عىل أن تكونوا من ا‪١‬تهتدين ‪.‬‬

‫فالرسول صىل اهلل عليه وسلم لم‬


‫يأيت من جنس ا‪١‬تبلئكة ‪ ،‬ولكن جاء‬
‫من جنس البشر ‪ ،‬فبل يقولن أحد ‪:‬‬
‫إنه ال يصلح أسوة يل ‪ .‬إنه نشأ يف‬
‫مكة اليت تعيش بها قريش ‪،‬‬
‫وتارٮته معروف لقومه ‪ :‬بدليل‬
‫أهنم خلعوا عليه أول األوصاف‬
‫واجبللرسالة وهي‬
‫ا‪١‬تطلوبة وال ة‬
‫األمانة ‪ ،‬فا‪ٟ‬تق جاء به من البشر‬
‫وليس بغريب عليهم ‪ ،‬ؤتجرد أن‬
‫أخْب بالوحي وجد أناسا آمنوا به‬
‫قبل أن يقرأ قرآنا ‪ ،‬وقبل أن‬
‫يأتيهم بتح ٍد ‪ « .‬فعندما جاءه‬
‫جْبيل عليه السبلم يف ار‬‫ك ُ‬ ‫ا‪١‬تَل َ ُ‬
‫حراء ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأ ‪ .‬قال ‪ :‬ما أنا‬
‫بقارئ ‪ .‬فأخذين فغطٍت حىت بلغ‬
‫مٍت ا‪ٞ‬تهد ‪ ،‬ػ أي ضمٍت وعصرين ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تكمة فيه شغله عن االلتفات‬
‫ليكون قلبه حاضرا ً] ثم أرسلٍت‬
‫فقال ‪ :‬اقرأ ‪ ،‬قلت ‪ :‬ما أنا بقارئ‬
‫فأخذين فغطٍت الثانية حىت بلغ مٍت‬
‫ا‪ٞ‬تهد ثم أرسلٍت وقال ‪ :‬اقرأ ‪.‬‬
‫فقلت ‪ :‬ما أنا بقارئ ‪ .‬فأخذين‬
‫الثالثة فغطٍت ثم أرسلٍت فقال ‪{ :‬‬
‫اقرأ باسم َر ِبّ َ‬
‫ك الذي َخل َ َق* َخل َ َق‬
‫ك‬‫اإلنسان ِم ْن عَل َ ٍق * اقرأ َو َربُّ َ‬
‫األكرم * الذى عَل َّ َم بالقلم* عَل َّ َم‬
‫اإلنسان َما ل َ ْم يَعْل َ ْم } فرجع بها‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫يرجف فؤاده فدخل عىل خد‪٬‬تة‬
‫بنت خويلد رضي اهلل عنها فقال ‪٢‬تا‬
‫‪ » :‬زملوين ‪ .‬زملوين « ‪ .‬فزملوه‬
‫حىت ذهب عنه الروع ‪ ،‬فقال ‪٠‬تد‪٬‬تة‬
‫وأخْبها ا‪٠‬تْب ‪ » :‬لقد خشيت عىل‬
‫نفسي « لكن خد‪٬‬تة رضي اهلل‬
‫عنها ْتسن استنباطها تقول ‪ » :‬كبل‬
‫واهلل ال ٮتزيك اهلل أبدا إنك لتصل‬
‫الرحم وٖتمل الكل وتكسب‬
‫ا‪١‬تعدوم وتقري الضيف وتعُت عىل‬
‫نوائب ا‪ٟ‬تق « » ‪.‬‬
‫إن خد‪٬‬تة رضوان اهلل عليها‬
‫تستنبط أن من فيه هذه ا‪٠‬تصال‬
‫إ‪٪‬تا هو مهيأ للرسالة ‪ { .‬لَقَ ْد‬
‫ول ِّم ْن أ َ ُنف ِس ُك ْم َعزِي ٌز‬
‫َجآءَ ُك ْم َر ُس ٌ‬
‫عَلَي ْ ِه َما َع ِنتُّ ْم } ػ التوبة ‪] 128 :‬‬
‫أي ‪٤‬تب لكم يشق عليه ويتعبه ما‬
‫يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك‬
‫كان الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬
‫مشغوال بأمته ‪ .‬ويروي عنه صىل‬
‫اهلل عليه وسلم أنه قال ‪ « :‬أميت ‪.‬‬
‫أميت ‪ .‬أميت » ‪ .‬وا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل يعلم أن رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم مشغول بأمته ‪ « .‬عن‬
‫عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم تبل قول‬
‫اهلل عز وجل يف إبراهيم { َر ِ ّب‬
‫كَتا ً ِّم َن الناس فَ َمن‬ ‫إِ َّهن ُ َن أ َ ْضلَل ْن َثِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تَبِعَ ٍِت فَإِن ّ َُه ِم ِ ٍّت ‪ } . .‬اْلية ‪ .‬وقال‬
‫عيَس عليه السبلم ‪ { :‬إِن ُتعَ ِ ّذب ْ ُه ْم‬
‫ك َوإِن تَغ ْ ِف ْر َ‪٢‬ت ُ ْم فَإِن ّ ََك‬‫فَإ َِّهن ُ ْم ِعب َ ُاد َ‬
‫نت العزيز ا‪ٟ‬تكيم } فرفع يديه‬ ‫أَ َ‬
‫وقال ‪ :‬اللهم أميت أميت وبىك ‪.‬‬
‫فقال اهلل عز وجل ‪ » :‬يا جْبيل‬
‫اذهب إىل ‪٤‬تمد وربك أعلم فسله‬
‫ما يبكيك ‪ .‬فأتاه جْبيل عليه‬
‫الصبلة والسبلم فسأله فأخْبه‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ٔتا‬
‫قال وهو أعلم فقال اهلل ‪ :‬يا جْبيل‬
‫اذهب إىل ‪٤‬تمد فقل ‪ :‬إنا‬
‫سنرضيك يف أمتك وال نسوؤك «‬
‫»‪.‬‬

‫إننا عندما نتأمل دقة ا‪ٞ‬تواب‬


‫النبوي نعرف أن الرسول الكريم‬
‫مشغول بأمته ‪ ،‬ولكنه ينظر إىل‬
‫نفسه عىل أنه أخ لكل مؤمن ‪ .‬واألخ‬
‫قد يتغَت عىل أخيه؛ لذلك لم يشأ‬
‫الرسول الكريم أن ُٮترج أمر‬
‫ا‪١‬تسلمُت من يد اهلل ور‪ٛ‬تته وهو‬
‫ا‪٠‬تالق الكريم إىل أمره هو صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫إن الرسول يعرف أن اهلل أرحم‬
‫ٓتلقه من أي إنسان ‪ ،‬حىت الرسول‬
‫نفسه ‪ .‬نقول ذلك يف معرض‬
‫حديثنا عن العنت الذي ٯتكن أن‬
‫يصاحب اإلنسان أن لم يرع حق‬
‫اهلل يف مال اليتيم؛ ألن اهلل عزيز‬
‫حكيم ‪ ،‬وهو ا‪ٟ‬تق الذي يغلب وال‬
‫يغلبه أحد ‪ .‬ونرى يف قول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ِ‬
‫يم } أن صفة‬‫إ َِّن اهلل َعزِي ٌز َحك ٌ‬
‫العزة متآزرة بصفة ا‪ٟ‬تكمة ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يدخل معنا ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل يف مسألة جديدة لو نظرنا‬
‫إليها لوجدناها أساس أي حركة يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة ويف ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬إهنا مسألة‬
‫الزواج ‪ .‬ويريد سبحانه أن يضمن‬
‫االستقرار والسعادة للكائن الذين‬
‫كرمه وجعله خليفة يف األرض ‪،‬‬
‫وجعل كل األجناس مسخرة‬
‫‪٠‬تدمته ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يريد أن يصدر ذلك الكائن‬
‫عن ينبوع منهجي واحد؛ ألن‬
‫األهواء ا‪١‬تتضاربة هي اليت تفسد‬
‫حركة ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬فأراد أن يصدر‬
‫ا‪١‬تجموع اإلنساين كله عن ينبوع‬
‫عقدي واحد ‪ ،‬وأراد أن ٭تمي ذلك‬
‫الينبوع من أن يتعثر بتعدد‬
‫الزنعات واألهواء ‪ ،‬لذلك ينبهنا‬
‫ا‪ٟ‬تق إىل هذا ا‪١‬توقف ‪ .‬إنه سبحانه‬
‫يريد سبلمة الوعاء الذي سيوجد‬
‫ذلك اإلنسان ‪ ،‬من بعد الزواج ‪،‬‬
‫فبالزواج ينجب اإلنسان وتستمر‬
‫ا‪ٟ‬تياة بالتكاثر ‪ .‬ولذلك البد من‬
‫الدقة يف اختيار الينبوع الذي يأيت‬
‫منه النسل ‪ .‬فهو سبحانه يقول ‪{ :‬‬
‫َوال َتَن ْ ِك ُحوا ْا‪١‬تشركات حىت يُ ْؤ ِم َّن‬
‫َوأل َ َم ٌة ُّم ْؤ ِمن َ ٌة َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِر َك ٍة َول َ ْو‬
‫أ َ ْع َجبَت ْ ُك ْم ‪} . . .‬‬

‫ات َح َّىت يُ ْؤ ِم َّن‬ ‫و َال تَن ْ ِك ُحوا ا ْ‪١‬ت ْش ِرك َ ِ‬


‫ُ‬ ‫َ‬
‫َو َأل َ َم ٌة ُم ْؤ ِمن َ ٌة َخ َْتٌ ِم ْن ُم ْش ِر َك ٍة َول َ ْو‬
‫ُت‬ ‫ك‬‫أ َ ْع َجبت ْ ُكم و َال ُتن ْ ِك ُحوا ا ْ‪١‬ت ْش ِر ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫َح َّىت يُ ْؤ ِم ُنوا َولَعَب ْ ٌد ُم ْؤ ِم ٌن َخ َْتٌ ِم ْن‬
‫ُم ْش ِر ٍك َول َ ْو أ َ ْع َجب َ ُك ْم أُولَئِ َ‬
‫ك‬
‫اّلل ي َ ْد ُعو إ َِىل ا‪ٞ‬تَْنَّ ِة‬ ‫ِ‬
‫ون إ َِىل النَّار َو َّ ُ‬ ‫ي َ ْد ُع َ‬
‫اس‬ ‫َوا ْ‪١‬تَغ ْ ِف َر ِة بِإِذْنِ ِه َويُب ُِّت آيَاتِ ِه لِلنَّ ِ‬
‫َ ُ‬
‫َ‬
‫ون (‪)221‬‬ ‫لَعَل َّ ُه ْم يَت َ َذ ّك ُر َ‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬وال َتَن ْ ِك ُحوا ْ‬
‫ا‪١‬تشركات حىت يُ ْؤ ِم َّن } ‪ ،‬وهذه‬
‫أول لبنة يف بناء األسرة وبناء‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬ألهنا لو لم تكن مؤمنة ‪،‬‬
‫فماذا سوف ٭تدث؟ إهنا ستشرف‬
‫عىل تربية الطفل الوليد إشرافا ً‬
‫يتناسب مع إشراكها ‪ ،‬وأنت‬
‫مهمتك كأب ومرب لن تتأىت إال‬
‫بعد مدة طويلة تكون فيها ا‪١‬تسائل‬
‫قد ُغرست يف الوليد ‪ ،‬فإياك أن‬
‫يكون الرجل مؤمنا وا‪١‬ترأة‬
‫مشركة؛ ألن هذا ٮتل بنظام‬
‫األسرة فعمل األم مع الوليد يؤثر يف‬
‫أوليات تكوينه إنه يؤثر يف قيمه ‪،‬‬
‫وتكوين أخبلقه ‪ .‬وهذا أمر يبدأ‬
‫من ‪ٟ‬تظة أن يرى ويعي ‪ ،‬والطفل‬
‫يقضي سنواته األوىل يف حضن أمه ‪،‬‬
‫وبعد ذلك يكْب؛ فيكون يف حضن‬
‫أبيه ‪ ،‬فإذا كانت األم مشركة‬
‫واألب مؤمنا فإن اإلٯتان لن يلحقه‬
‫إال بعد أن يكون الشرك قد أخذ‬
‫منه و٘تكن وتسلط عليه ‪.‬‬
‫ونعرف أن الطفولة يف اإلنسان هي‬
‫أطول أعمار الطفولة يف الكائنات‬
‫كلها ‪ ،‬فهناك طفولة ٘تكث ساعتُت‬
‫اثنتُت مثل طفولة الذباب ‪،‬‬
‫وهناك طفولة أخرى تستغرق‬
‫شهرا ً‪ ،‬وأطول طفولة إ‪٪‬تا تكون يف‬
‫اإلنسان؛ ألن هذه الطفولة مناسبة‬
‫للمهمة اليت سيقوم بها اإلنسان ‪،‬‬
‫كل الطفوالت اليت قبلها طفوالت‬
‫‪٢‬تا مهمة سهلة جدا ‪ ،‬إ‪٪‬تا اإلنسان‬
‫هو الذي ستأيت منه القيم ‪٢ ،‬تذا‬
‫كانت طفولته طويلة؛ إهنا تستمر‬
‫حىت فًتة بلوغ ا‪ٟ‬تلم ‪ .‬وا‪ٟ‬تق هو‬
‫القائل ‪َ { :‬وإِذَا بَلَغَ األطفال ِمن ُك ُم‬
‫تنُوا ْ َك َما استأذن‬‫ا‪ٟ‬تلم فَلْي َ ْس أ ْ َ ِذ‬
‫ي ِم ِ‬
‫الذ ن ن قَبْل ِه ْم كذلك يُب َ ِّ ُ‬
‫ُت اهلل‬
‫يم } ػ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫ل َ ُك ْم آيَاته واهلل عَل ٌ‬
‫النور ‪] 59 :‬‬
‫فكأن الطفل يظل طفبل ًإىل أن يبلغ‬
‫ا‪ٟ‬تلم ‪ ،‬فكم سنة إذن ستمر عىل‬
‫الطفل؟ ‪ .‬وكم سنة سوف يتغذى‬
‫هذا الطفل من ينابيع الشرك إن‬
‫كانت أمه مشركة؟ ا‬
‫إنه فًتة طويلة‬
‫ال ٯتكن له من بعد ذلك أن يكون‬
‫مؤمنا َت مضطرب ا‪١‬تلكات ‪ .‬وإن‬
‫صلح مثل هذا اإلنسان أن يكون‬
‫مؤمنا فسيقوم إٯتانه عىل القهر‬
‫والقسر والوالية لؤلب وسيكون‬
‫مثل هذا اإلٯتان عملية شكلية‬
‫وليست مرتكزة وال معتمدة عىل‬
‫أساس صادق ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن نعرف أن الثمرات اليت ننعم‬
‫‪٨‬تن بأكلها ال يكون نضجها إال حُت‬
‫تنضج البذرة اليت تتك ّون منها‬
‫شجرة جديدة ‪ ،‬وقبل ذلك تكون‬
‫‪٣‬ترد فاكهة فِجة وليس ‪٢‬تا طعم ‪.‬‬
‫وقد أراد ا‪ٟ‬تق أن ينبهنا إىل هذا‬
‫األمر ليحرص اإلنسان عىل أن‬
‫يستبىق الثمرة إىل أن تنضج ويصَت‬
‫‪٢‬تا بذور ‪.‬‬
‫إن ا‪١‬ترأة ال تكون ‪ٙ‬ترة طيبة إال إذا‬
‫أ‪٧‬تبت مثلها ولدا ًصا‪ٟ‬تا نافعا ‪،‬‬
‫يريد ا‪ٟ‬تق للنشء أن يكون َت‬
‫مضطرب اإلٯتان؛ لذلك يقول ‪:‬‬
‫{ َوال َتَن ْ ِك ُحوا ْا‪١‬تشركات حىت‬
‫يُ ْؤ ِم َّن } أي إياكم أن تنخدعوا‬
‫با‪١‬تعايَت ا‪٢‬تابطة النازلة ‪ ،‬وعىل كل‬
‫منكم أن يأخذ حكم اهلل ‪{ :‬‬
‫َوأل َ َم ٌة ُّم ْؤ ِمن َ ٌة َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِركَ ٍة َول َ ْو‬
‫أ َ ْع َجبَت ْ ُك ْم } ألن إعجاب اإلنسان‬
‫با‪١‬ترأة بصرف النظر عن اإلٯتان‬
‫سيكون إعجابا قصَت العمر ‪.‬‬

‫إن عمر االستمتاع با‪ٞ‬تمال ا‪ٟ‬تسي‬


‫للمرأة إن ‪ٚ‬تعنا ‪ٟ‬تظاته فلن يزيد‬
‫‪٣‬تموعه عن شهر من ‪٣‬تموع‬
‫سنوات الزواج ‪ .‬فكل أسبوع يتم‬
‫لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها‬
‫يذبل ا‪ٞ‬تمال ‪ ،‬وتبىق القيم هي‬
‫ا‪١‬تتحكمة ‪ ،‬و‪٨‬تن ‪٧‬تد ا‪١‬ترأة حُت‬
‫تتزوج ‪ ،‬ثم يبطئ ا‪ٟ‬تمل فإهنا تعاين‬
‫من القلق وكذلك أهلها ‪.‬‬
‫إن الرجل إن كان قد تزوجها‬
‫للوسامة والقسامة والقوام‬
‫والعينُت ‪ ،‬فهذا كله سيْبد ويهدأ‬
‫بعد فًتة ‪ ،‬ثم توجد مقاييس‬
‫أخرى الستبقاء ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وعندما‬
‫يلتفت إليها اإلنسان وال ‪٬‬تدها فهو‬
‫يغرق يف الندم؛ ألهنا لم تكن يف باله‬
‫وقت أن اختار ‪.‬‬
‫لذلك تريد ا‪١‬ترأة أن ُ٘تكن لنفسها‬
‫بأن يكون عندها ولد لًتبط‬
‫الرجل بها ‪ ،‬وحىت يقول ا‪١‬تجتمع ‪:‬‬
‫« عليك أن تتحملها من أجل‬
‫األوالد »! فالرجل بعد الزواج‬
‫يريد قيما ًأخرى َت القيم ا‪ٟ‬تسية‬
‫اليت كانت ناشئة أوال ً‪ ،‬لذلك‬
‫٭تذرنا اهلل قائبل ً‪َ { :‬وال َتَن ْ ِك ُحوا ْ‬
‫ا‪١‬تشركات حىت يُ ْؤ ِم َّن } ‪ .‬وجاء‬
‫قوله { حىت يُ ْؤ ِم َّن } ألن اإلسبلم‬
‫ب ما قبله ما دامت قد آمنت فقد‬ ‫َ‪٬‬ت ُ ُّ‬
‫انتهت ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫وانظروا إىل دقة قوله سبحانه ‪{ :‬‬
‫َوال َتَن ْ ِك ُحوا ْا‪١‬تشركات حىت يُ ْؤ ِم َّن‬
‫َوأل َ َم ٌة ُّم ْؤ ِمن َ ٌة َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِر َك ٍة } أي‬
‫إن األمة ا‪١‬تسلمة خَت من حرة‬ ‫ّ‬
‫مشركة ‪َ { ،‬ول َ ْو أ َ ْع َجبَت ْ ُك ْم } لقد‬
‫جاء قول ا‪ٟ‬تق هنا ٔتقاييس‬
‫اإلعجاب ا‪ٟ‬تسي ‪ .‬ليلفتنا إىل أننا ال‬
‫يصح أن هنمل مقاييس خالدة‬
‫ونأخذ مقاييس بائدة وزائلة ‪.‬‬
‫ثم يقول ا‪ٟ‬تق ‪ « :‬وال تنكحوا‬
‫ا‪١‬تشركُت حىت يؤمنوا » وهذا هو‬
‫النظَت يف ا‪٠‬تطاب وهو ليس متقاببل‬
‫فهو لم ٮتاطب ا‪١‬تؤمنات أال ينكحن‬
‫ا‪١‬تشركُت ‪ ،‬إ‪٪‬تا قال { َوال َ ُتن ْ ِك ُحوا ْ‬
‫ا‪١‬تشركُت حىت يُ ْؤ ِم ُنوا ْ} وتلك دقة‬
‫يف األداء هنا؛ ألن الرجل له الوالية‬
‫يف أن يُنْكح ‪ ،‬فيأمره بقوله ‪ :‬ال ُتنكح‬
‫‪ ،‬لكن ا‪١‬ترأة ليس ‪٢‬تا والية أن‬
‫ُتنكح نفسها ‪ .‬فنحن نعرف‬
‫القاعدة الشرعية اليت تقول ‪ « :‬ال‬
‫نكاح إال بويل » ‪ ،‬وهو لم يوجه‬
‫حديثه للنساء؛ ألن ا‪١‬ترأة تتحكم‬
‫فيها عاطفتها لكن وليها ينظر لؤلمر‬
‫من ‪٣‬تموعة زوايا أخرى ٖتكم‬
‫ا‪١‬توقف ‪.‬‬
‫صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي‬
‫نضمن أن عاطفتها ليست‬
‫مصدودة عن هذا الزواج ‪ ،‬لكن‬
‫األب أو ويل األمر الرجل يقيس‬
‫ا‪١‬تسائل ٔتقاييس أخرى ‪ ،‬فلو‬
‫تركنا للفتاة مقياسها لتهدم الزواج‬
‫ٔتجرد هدوء العاطفة ‪ ،‬وساعة تأيت‬
‫ا‪١‬تقاييس العقلية األخرى فلن ٕتد‬
‫ذلك الزواج مناسبا ً‪٢‬تا فتفشل‬
‫ا‪ٟ‬تياة الزوجية ‪ .‬لذلك يطالبنا‬
‫اإلسبلم أن نستشَت ا‪١‬ترأة ‪ ،‬كي ال‬
‫نأتيها بواحد تكرهه ‪ ،‬ولكن الذي‬
‫يزوجها إىل ذلك الرجل هو وليها؛‬
‫ألن له ا‪١‬تقاييس العقلية‬
‫واالجتماعية وا‪٠‬تلقية اليت قد ال‬
‫تنظر إليها الفتاة؛ فقد يبهرها يف‬
‫الشاب قوامه وحسن شكله‬
‫وجاذبية حديثه ‪ ،‬لكن عندما‬
‫تدخل ا‪١‬تسألة يف حركة ا‪ٟ‬تياة‬
‫ودوامتها قد ٕتده إنسانا ً َت جدير‬
‫بها ‪.‬‬
‫ولكي تكون ا‪١‬تسألة مز‪٬‬تا ًمن‬
‫عاطفة بنت ‪ ،‬وعقل أب ‪ ،‬وخْبة أم‬
‫‪ ،‬كان البد من استشارة الفتاة ‪ ،‬وأن‬
‫يستنَت األب برأي األم ‪ ،‬ثم يقول‬
‫األب رأيه أخَتا ً‪ ،‬وكل زواج يأيت‬
‫بهذا األسلوب فهو زواج ٭تالفه‬
‫التوفيق ‪ ،‬ألن ا‪١‬تعايَت كلها مشًتكة‬
‫‪ ،‬ال يوجد معيار قد اختل؛ فاألب‬
‫بٌت حكما عىل أساس موافقة االبنة‬
‫‪ ،‬أما إذا رفضت الفتاة وكانت‬
‫معايَت األب صحيحة ‪ ،‬لكن االبنة‬
‫ليس ‪٢‬تا تقبل ‪٢‬تذا الرجل؛ لذلك‬
‫فبل يصح أن يتم هذا الزواج ‪.‬‬
‫وكثَت من الز‪٬‬تات قد فشلت ألننا‬
‫لم ‪٧‬تد من يطبق منهج اهلل يف‬
‫الدخول إىل الزواج ‪ .‬وحُت ال‬
‫يطبقون منهج اهلل يف الدخول إىل‬
‫الزواج ثم يُ َقابَلون بالفشل فهم‬
‫يصرخون منادين قواعد اإلسبلم‬
‫لتنقذهم ‪.‬‬
‫ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬وهل دخلتم الزواج‬
‫عىل دين اهلل؟ إنكم مادمتم قد‬
‫دخلتم الزواج بآرائكم ا‪١‬تعزولة‬
‫عن منهج اهلل فلتحلوا ا‪١‬تسألة‬
‫بآرائكم ‪ .‬فالدين ليس مسئوال ًإال‬
‫عمن يدخل ٔتقاييسه ‪ ،‬لكن أن‬
‫تدخل عىل الزواج بغَت مقاييس‬
‫اهلل ثم تريد من اهلل أو من‬
‫القائمُت عىل أمر اهلل أن ٭تلوا لك‬
‫ا‪١‬تشاكل فذلك ظلم منك لنفسك‬
‫وللقائمُت عىل أمر اهلل ‪ .‬وإن لم‬
‫ٖتدث مثل هذه ا‪١‬تشكبلت لكنا قد‬
‫اهتمنا منهج اهلل ‪ .‬ولقلنا ‪ :‬قد ترك ان‬
‫منهج اهلل وسعدنا يف حياتنا ‪ .‬ولذلك‬
‫كان البد أن تقع ا‪١‬تشكبلت ‪.‬‬
‫إذن فقول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪{ :‬‬
‫َوال َتَن ْ ِك ُحوا ْا‪١‬تشركات حىت يُ ْؤ ِم َّن }‬
‫هذه قضية ‪٢‬تا سبب ‪ ،‬لكن العْبة‬
‫فيها بعموم موضوعها ال ٓتصوص‬
‫سببها ‪ ،‬لقد كان السبب فيها هو ما‬
‫اسم‬
‫روى أنه كان هناك صحايب ه‬
‫مرثد بن أيب مرثد الغنوي بعثه‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم إىل‬
‫مكة ليخرج منها ناسا من‬
‫ا‪١‬تسلمُت ‪ .‬وكان يهوى امرأة يف‬
‫ا‪ٞ‬تاهلية ا‪ٝ‬تها « عناق » وكانت‬
‫ٖتبه ‪ ،‬وساعة رأته أرادت أن ٗتلو‬
‫به فقال ‪٢‬تا ‪ :‬و٭تك إن اإلسبلم قد‬
‫حال بيننا ‪ ،‬فقالت له ‪ :‬تزوجٍت ‪،‬‬
‫فقال ‪٢‬تا ‪ :‬أتزوجك لكن بعد أن‬
‫أستأمر وأستأذن النبي صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فلما استأمره نزل‬
‫قوله تعاىل ‪َ { :‬وال َتَن ْ ِك ُحوا ْ‬
‫ا‪١‬تشركات حىت يُ ْؤ ِم َّن َوأل َ َم ٌة ُّم ْؤ ِمن َ ٌة‬
‫َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِر َك ٍة َول َ ْو أ َ ْع َجبَت ْ ُك ْم } ‪.‬‬
‫وقيل إن قوله تعاىل ‪َ { :‬وأل َ َم ٌة‬
‫ُّم ْؤ ِمن َ ٌة َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِركَ ٍة َول َ ْو‬
‫أ َ ْع َجبَت ْ ُك ْم } نزلت يف خنساء‬
‫وليدة سوداء كانت ‪ٟ‬تذيفة بن‬
‫اليمان ‪ ،‬فقال ‪٢‬تا حذيفة ‪ :‬يا‬
‫خنساء قد ذكرت يف ا‪١‬تؤل األعىل مع‬
‫سوادك ودمامتك وأنزل اهلل‬
‫ذكرك يف كتابه ‪ ،‬فأعتقها حذيفة‬
‫وتزوجها ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق فيقول ‪َ { :‬وال َ ُتن ْ ِك ُحوا ْ‬
‫ا‪١‬تشركُت حىت يُ ْؤ ِم ُنوا ْ َولَعَب ْ ٌد ُّم ْؤ ِم ٌن‬
‫م} ‪.‬‬ ‫َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِر ٍك َول َ ْو أ َ ْع َجب َ ُك ْ ُْ‬
‫إن ا‪١‬تقاييس واحدة يف اختيار‬
‫شريك ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬إهنا الرغبة يف بناء‬
‫ا‪ٟ‬تياة األسرية عىل أساس من ا‪٠‬تَت ‪،‬‬
‫و اية كل شيء هي اليت ٖتدد قيمته‬
‫‪ ،‬وليست الوسيلة هي اليت ٖتدد‬
‫قيمة الشيء ‪ ،‬فقد تسَت يف سبيل‬
‫وطريق خطر و ايته فيها خَت ‪،‬‬
‫وقد تسَت يف سبيل مفروش بالورود‬
‫والرياحُت و ايته شر ‪ ،‬ولذلك‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬أولئك ي َ ْد ُع َ‬
‫ون إ َِىل‬
‫النار واهلل يدعوا إ َِىل ا‪ٞ‬تنة وا‪١‬تغفرة‬
‫بِإِذْنِ ِه َويُب ُِّت آيَاتِ ِه لِلنَّ ِ‬
‫اس لَعَل َّ ُه ْم‬ ‫َ ُ‬
‫َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫يَت َ َذ ّك ُر َ‬
‫والذين يدعون إىل النار هم أهل‬
‫الشرك ‪ .‬أما اهلل فهو يدعو إىل ا‪ٞ‬تنة‬
‫‪ ،‬وا‪١‬تغفرة تأيت بإذن اهلل أي بتيسَت‬
‫اهلل وتوفيقه ‪ .‬ونعرف ‪ٚ‬تيعا ً‬
‫ا‪ٟ‬تكمة اليت قا‪٢‬تا اإلمام « علي »‬
‫كرم اهلل وجهه ‪ :‬ال خَت يف خَت بعده‬
‫النار ‪ ،‬وال شر يف شر بعده ا‪ٞ‬تنة ‪.‬‬
‫َ‬
‫وقوله ا‪ٟ‬تق؛ { لَعَل َّ ُه ْم يَت َ َذ ّك ُر َ‬
‫ون }‬
‫ترد كثَتا ً‪ ،‬هذا التذكر ماذا يفعل؟‬
‫إن التذكر يُشعرك بأن القضية‬
‫كانت معلومة والغفلة هي اليت‬
‫طرأت ‪ ،‬لكن الغفلة إذا تنبهت‬
‫إليها ‪ ،‬فهي تذكرك ما كنت قد‬
‫نسيته من قبل ‪ ،‬لكن إن طالت‬
‫الغفلة ‪ ،‬نَُس األصل فهذه هي‬
‫الطامة ‪ ،‬اليت تنطمس بها ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫إذن فالتذكر يشمل مراحل ‪:‬‬
‫ا‪١‬ترحلة األوىل ‪ :‬أن تعرف إن لم‬
‫تكن تعرف ‪ ،‬أو تعلم إن كنت‬
‫ٕتهل ‪ ،‬وا‪١‬ترحلة الثانية ‪ :‬هي أن‬
‫تتذكر إن كنت ناسيا ً‪ ،‬أو توائم‬
‫بُت ما تعلم وبُت ما تعمل؛‬
‫فالتذكر يوحي لك بأن توائم ما‬
‫بُت معرفتك وسلوكك حىت ال تقع‬
‫يف ا‪ٞ‬تهل ‪ ،‬وا‪ٞ‬تهل معناه أن تعلم ما‬
‫يناقض ا‪ٟ‬تقيقة ‪ .‬لقد أراد اهلل أن‬
‫يصون اإلنسان الذي اختار‬
‫اإلٯتان عندما حرم عليه الزواج‬
‫بواحدة من أهل الشرك ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫يضمن ‪١‬تن جعله خليفة يف األرض‬
‫عقيدة واحدة يصدر عنها السلوك‬
‫اإلنساين؛ ألن العقائد إن توزعت‬
‫حسب األهواء فسيتوزع السلوك‬
‫حسب األهواء ‪ .‬وحُت يتوزع‬
‫السلوك تتعاند حركة ا‪ٟ‬تياة وال‬
‫تتساند ‪.‬‬
‫فَتيد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن‬
‫يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر‬
‫يؤثر فيها؛ فشرط يف بناء اللبنة‬
‫األوىل لؤلسرة أال ّينكح مؤمن‬
‫مشركة؛ ألن ا‪١‬تشركة يف مثل هذه‬
‫ا‪ٟ‬تالة ستتوىل حضانة الطفل ‪١‬تدة‬
‫طويلة هي كما قلنا أطول أعمار‬
‫الطفولة يف الكائن ا‪ٟ‬تي ‪ .‬ولو كان‬
‫األب مؤمنا ًواألم مشركة فاألب‬
‫سيكون مشغوال ًْتركة ا‪ٟ‬تياة‬
‫فتتأصل عن طريق األم معظم‬
‫القيم اليت تتناقض مع اإلٯتان ‪.‬‬
‫وأراد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أيضا أال‬
‫تتزوج ا‪١‬تؤمنة مشركا ً؛ ألهنا ْتكم‬
‫زواجها من مشرك ستنتقل إليه‬
‫وإىل بيئته ا‪١‬تشركة وإىل أسرته ‪.‬‬
‫وسينشأ طفلها الوليد يف بيئة‬
‫شركية فتتأصل فيه األشياء‬
‫القيمية اليت تناقض اإلٯتان ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل بهذه‬
‫الصيانة ‪ ،‬أي بعدم زواج ا‪١‬تؤمن‬
‫من مشركة ‪ ،‬وبعدم زواج ا‪١‬تؤمنة‬
‫من مشرك ‪ ،‬أن ٭تمي ا‪ٟ‬تاضن‬
‫األول للطفولة ‪ .‬وحُت يحمي‬
‫ا‪ٟ‬تاضن األول للطفولة يكون‬
‫الينبوع األول الذي يصدر عنه‬
‫تربية عقيدة الطفل ينبوعا واحدا ً‬
‫‪ ،‬فبل يتذبذب بُت عقائد متعددة ‪.‬‬
‫لذلك جاء قول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ َوال َتَن ْ ِك ُحوا ْا‪١‬تشركات حىت‬
‫يُ ْؤ ِم َّن َوأل َ َم ٌة ُّم ْؤ ِمن َ ٌة َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِر َك ٍة‬
‫َول َ ْو أ َ ْع َجبَت ْ ُك ْم َوال َ ُتن ْ ِك ُحوا ْ‬
‫ا‪١‬تشركُت حىت يُ ْؤ ِم ُنوا ْ َولَعَب ْ ٌد ُّم ْؤ ِم ٌن‬
‫َخ َْتٌ ِّمن ُّم ْش ِر ٍك َول َ ْو أ َ ْع َجب َ ُك ْم‬
‫ون إ َِىل النار واهلل يدعوا‬ ‫أولئك ي َ ْد ُع َ‬
‫ُت آيَاتِ ِه‬ ‫ِِ‬ ‫‪١‬تغف‬
‫إ َِىل ا‪ٞ‬تنة وا رة بِإِذْنه َويُب َ ِّ ُ‬
‫ون } ػ البقرة‬ ‫ر‬ ‫اس لَعَل َّ ُهم يَت َ َذ َّ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫لن‬‫لِ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫‪] 221 :‬‬
‫كل ذلك حىت يصون ا‪ٟ‬تق البيئة‬
‫اليت ينشأ فيها الوليد ا‪ٞ‬تديد ‪.‬‬
‫وعلينا أن نفهم أن ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل رخص للمؤمنُت يف أن‬
‫ينكحوا أهل الكتاب بقوله ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫ام‬ ‫لي ُ ِ َ‬
‫{ ا وم أح ّل ل َ ُك ُم الطيبات َو َطعَ ُ‬
‫الذين أُو ُتوا ْالكتاب ِح ٌّل ل َّ ُك ْم‬
‫َو َطعَ ُام ُك ْم ِح ٌّل َّ‪٢‬ت ُ ْم وا‪١‬تحصنات‬
‫ِم َن ا‪١‬تؤمنات وا‪١‬تحصنات ِم َن‬
‫الذين أُو ُتوا ْالكتاب ِمن قَبْلِ ُك ْم إِذَآ‬
‫ِِ‬ ‫ُ‬
‫ور ُه َّن ُ‪٤‬تْصن َ‬
‫ُت َ َْت َ‬ ‫آتَي ْ ُت ُمو ُه َّن أ ُج َ‬
‫ُت َوال َمتخذي أ َ ْخ َدانٍ َو َمن‬ ‫ِِ‬
‫ُم َسافح َ‬
‫ي َ ْك ُف ْر باإلٯتان فَقَ ْد َحبِ َط َع َمل ُ ُه َو ُه َو‬
‫ِيف اْلخرة ِم َن ا‪٠‬تاسرين } ػ ا‪١‬تائدة‬
‫‪]5:‬‬
‫وقد وقف العلماء من مسألة‬
‫ترخيص ا‪ٟ‬تق للمؤمنُت يف أن‬
‫يتزوجوا من أهل الكتاب موقفُت ‪:‬‬
‫ا‪١‬توقف األول ‪ :‬هو موقف مانع؛ ألن‬
‫بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب‬
‫قد ينحرفون يف معتقداهتم إىل ما‬
‫‪٬‬تعلهم يف الشرك ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬وهل‬
‫هناك شرك أكثر من أن ُتدىع‬
‫الربوبية لبشر؟ وا‪١‬توقف الثاين ‪:‬‬
‫أجاز بعض العلماء أن يتزوج‬
‫اإلنسان من كتابية و‪٬‬تب عليه أن‬
‫يسأ‪٢‬تا أهي تدين بألوهية أحد من‬
‫البشر أم تدين باهلل الواحد‬
‫القهار؟ فإن كانت ا‪١‬تسألة ‪٣‬ترد‬
‫ا‪٠‬تبلف يف الرسول فاألمر يهون ‪،‬‬
‫أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من‬
‫البشر ّتانب اهلل فقد دخلت يف‬
‫الشرك وعىل ا‪١‬تؤمن أن ٭تتاط ‪.‬‬
‫وإذا كان للرجل الوالية وله أن‬
‫يتزوج بكتابية فهو البا ًما ينقلها‬
‫إىل بيئته هو وستكون البيئة ا‪١‬تؤثرة‬
‫واحدة ‪ ،‬ووجود الوالية لؤلب مع‬
‫الوجود يف البيئة اإلٯتانية سيؤثر‬
‫وٮتفف من تأثَت األم الكتابية عىل‬
‫أوالدها ‪ ،‬وإن كان عىل اإلنسان أن‬
‫يتيقظ إىل أن هناك مسالك تتطلف‬
‫وتتسلل ناحية الشرك ‪ ،‬فمن‬
‫ا‪٠‬تَت أن يبتعد ا‪١‬تسلم عن ذلك ‪،‬‬
‫وأن يتزوج ويعصم ّ‬
‫ويعف فتاة‬
‫مسلمة ‪.‬‬
‫وحُت ٭تمي ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫ا‪ٟ‬تضانة األوىل للطفل فهو يريد أن‬
‫يريب يف الطفل عدم التوزع ‪ ،‬وعدم‬
‫التمزق ‪ ،‬وعدم التنافر بُت ملكاته‬
‫‪ .‬وحُت نضمن للطفل التواجد‬
‫والنشأة يف بيئة متآلفة فهو ينشأ‬
‫طفبل ًسويا ً‪ .‬واإلسبلم يريد أن‬
‫٭تافظ عىل سويَّة هذا الطفل ‪.‬‬
‫ويقول بعض الناس ‪ :‬و‪١‬تاذا ال نوجد‬
‫‪٤‬تاضن ‪ٚ‬تاعية؟ وكأهنم بذلك‬
‫يريدون أن ٭تلوا اإلشكال ‪.‬‬
‫نقول ‪٢‬تم ‪ :‬إن اإلشكال لم ٭تل عند‬
‫الذين فعلوا ذلك من قبلنا ‪ ،‬ولذلك‬
‫فعندما نقرأ مؤلفاهتم مثل كتاب «‬
‫أطفال ببل أسر » فسنجد أن‬
‫الطفولة عندهم معذبة ‪ .‬و‪١‬تاذا‬
‫نذهب بعيداً؟ إننا عندما نتتبع‬
‫كيفية النشأة ا‪ٞ‬تماعية لؤلطفال يف‬
‫إسرائيل فالبحوث العلمية تؤكد‬
‫عىل أن األطفال يعيشون يف بؤس‬
‫رهيب لدرجة أن التبول البلإرادي‬
‫ينتشر بينهم حىت سن الشباب ‪.‬‬
‫وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل‬
‫يظل حىت تصل سنه إىل عامُت أو‬
‫أكثر وهو يطلب أال يشاركه يف أمه‬
‫أحد ‪ ،‬حىت وإن كان أخا ًله فهو يغار‬
‫منه فما بالك بأطفال متعددين‬
‫تقوم امرأة ليست أمهم‬
‫برعايتهم؟ وال يغٍت عن حنان األم‬
‫حنان مائة مربية؛ فليس‬
‫للمربيات ‪ٚ‬تيعا ًقلب األم اليت‬
‫فا‪ٟ‬تنان الذي‬
‫ُ‬ ‫ولدت الطفل ‪،‬‬
‫تعطيه األم ليس حنانا ًشكليا ًوال‬
‫وظيفيا ً‪ ،‬ولكنه طبيعة حياة خلقها‬
‫اهلل لتعطي العطاء الصحيح ‪ ،‬لذلك‬
‫البد من إعطاء الطفل فًتة يشعر‬
‫فيها بأن أمه اليت ولدته له وحده ‪،‬‬
‫وال يشاركه فيها أحد حىت لو كان‬
‫أخا له ‪ ،‬و٘تر عليه فًتة بعد أن‬
‫ٮترج من مهد الطفولة األوىل إىل‬
‫الشارع ليجد حركة ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬و‪٬‬تد‬
‫القائمُت عىل حركة ا‪ٟ‬تياة هم‬
‫الرجال وآباء أمثاله من األطفال‬
‫فيجب بعد ذلك أن ينسب إىل أب‬
‫له كيان معروف يف ا‪١‬تجتمع‬
‫ا‪٠‬تارجي ‪.‬‬
‫فمن مقومات تكوين الطفل أن‬
‫يشعر أن له ّأما ًال يشاركه فيها أحد‬
‫‪ ،‬وأن له أبا ًال يشاركه فيه أحد ‪.‬‬
‫وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته‬
‫ويضمهم ويشملهم ‪ٚ‬تيعا حنان‬
‫األم ورعاية األب ‪ .‬لقد اعًتف‬
‫أهل العلم بًتبية األطفال أن‬
‫احتياج الطفل ألمه هو احتياج‬
‫هام وأساسي للًتبية ‪١‬تدة عامُت‬
‫وبضعة من الشهور ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق تبارك‬
‫وتعاىل حُت أنزل عىل رسوله قبل‬
‫أربعة عشر قرنا ًمن اْلن؛ القول‬
‫ا‪ٟ‬تكيم الصادق بُت هذه ا‪ٟ‬تقيقة‬
‫واضحة يف أجىل صورها ‪{ :‬‬
‫َو َو َّصيْنَا اإلنسان بِ َوال ِ َدي ْ ِه إ ِْح َسانا ً‬
‫‪ٛ‬تلَت ْ ُه أُ ُّم ُه ُك ْرها ً َو َو َضعَت ْ ُه ُك ْرها ً‬
‫ََ‬
‫ُون َشهْرا ًحىت‬ ‫وَْ ِ‬
‫‪ٛ‬تل ُ ُه َوف َصال ُ ُه ثَبلَث َ‬ ‫َ‬
‫َ ِ‬ ‫َ‬
‫ال‬
‫ُت َسنَةًقَ َ‬ ‫إِذَا بَلَغَ أ ُش ّد َُه َوبَلَغَ أ ْربَع َ‬
‫ك اليت‬ ‫َر ِ ّب أوزعٍت أ َ ْن أَش ُك َر نِعْ َمت َ َ‬
‫أَنْعَ ْم َت عَل ََّي وعىل َوال ِ َد َّي َوأ َ ْن‬
‫أ َ ْع َم َل َص ِا‪ٟ‬تا ًتَ ْر َض ُاه َوأ َ ْصلِ ْح ِيل ِيف‬
‫ك َوإ ِِّين ِم َن‬
‫ذرييت إ ِِّين ُتب ْ ُت إِلَي ْ َ‬
‫ا‪١‬تسلمُت } ػ األحقاف ‪] 15 :‬‬
‫إن األم هي ا‪ٟ‬تاضنة الطبيعية‬
‫للطفل كما أرادها ا‪ٟ‬تق ‪ .‬إذن ‪،‬‬
‫فا‪ٟ‬تق يريد أن ٭تمي اللبنة األوىل‬
‫يف تكوين ا‪١‬تجتمع وهي األسرة يف‬
‫البناء العَ َقدي من أن تتأثر‬
‫بالشرك ‪ ،‬ويريد أن ٭تفظ لؤلسرة‬
‫كيانا ًسليما ً‪.‬‬
‫ويعاًف ا‪ٟ‬تق بعد ذلك قضية‬
‫التواصل مع ا‪١‬ترأة أثناء فًتة‬
‫ا‪ٟ‬تيض فيأيت التشريع ليقنن هذه‬
‫المسألة ألن اإلسبلم جاء ويف ا‪ٞ‬تو‬
‫االجتماعي تياران ‪:‬‬
‫تيار يرى أن ا‪ٟ‬تائض هي امرأة‬
‫تعاين من قذارة ‪ ،‬لذلك ال ٯتكن‬
‫للزوج أن يأكل معها أو يسكن‬
‫معها أو يعاشرها أو يعيش معها يف‬
‫بيت واحد وكذلك أبناؤه ‪ .‬وتيار‬
‫آخر يرى ا‪١‬ترأة يف فًتة ا‪ٟ‬تيض‬
‫امرأة عادية ال فرق بينها وبُت كوهنا‬
‫َت حائض أي تباشر حياهتا‬
‫الزوجية مع زوجها دون ٖتوط أو‬
‫ٖتفظ ‪ .‬كان ا‪ٟ‬تال إذن متأرجحا بُت‬
‫اإلفراط والتفريط ‪ ،‬فجاء اإلسبلم‬
‫ليضع حدا ً‪٢‬تذه ا‪١‬تسألة فيقول ا‪ٟ‬تق‬
‫ك َع ِن‬‫سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬وي َ ْسأَلُون َ َ‬
‫ا‪١‬تحيض ُق ْل ُه َو أَذًى فاعتزلوا‬
‫النسآء ِيف ا‪١‬تحيض ‪} . . .‬‬

‫ك َع ِن ا ْ‪١‬ت َ ِحي ِض ُق ْل ُه َو‬ ‫َوي َ ْسأَلُون َ َ‬


‫أَذًى فَا ْعت َ ِزلُوا ال ِن ّ َساءَ ِيف ا ْ‪١‬ت َ ِحي ِض َو َال‬
‫تَ ْق َر ُبو ُه َّن َح َّىت ي َ ْط ُه ْر َن فَإِذَا تَ َط ّه َْر َن‬
‫ث أ َ َم َر ُك ُم ّ َُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫اّلل إ َِّن‬ ‫فَأ ُتو ُه َّن م ْن َحي ْ ُ‬
‫ب ا ْ‪١‬تُت َ َط ِّهرِي َن‬
‫ُت َو ُ٭ت ِ ُّ‬ ‫اّللَ ُ٭ت ِ ُّ‬
‫ب التّ ََّوابِ َ‬ ‫َّ‬
‫(‪)222‬‬

‫حُت تقرأ { ُه َو أَذًى } فقد أخذت‬


‫ا‪ٟ‬تكم ‪٦‬تن يُؤم ُن عىل األحكام ‪ ،‬وال‬
‫تناقش ا‪١‬تسألة ‪ ،‬مهما قال الطب‬
‫من تفسَتات وتعليبلت وأسباب‬
‫نقل له ‪ :‬ال ‪ ،‬الذي خلق قال ‪ُ { :‬ه َو‬
‫أَذًى } ‪ .‬وا‪١‬تحيض يطلق عىل الدم ‪،‬‬
‫ويراد به أيضا ًمكان ا‪ٟ‬تيض ‪ ،‬ويراد‬
‫به زمان ا‪ٟ‬تيض ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل عن ا‪١‬تحيض إنه أذى‬
‫يهيئ الذهن ألن يتلىق حكما يف‬
‫هذا األذى ‪ ،‬وبذلك يستعد الذهن‬
‫للخطر الذي سيأيت به ا‪ٟ‬تكم ‪ .‬وقد‬
‫جاء ا‪ٟ‬تكم با‪ٟ‬تظر وا‪١‬تنع بعد أن‬
‫سبقت حيثيته ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل وهو ا‪٠‬تالق‬
‫أراد أن تكون عملية ا‪ٟ‬تيض يف‬
‫ا‪١‬ترأة عملية كيماوية ضرورية‬
‫‪ٟ‬تياهتا وحياة اإل‪٧‬تاب ‪ .‬وأمر‬
‫الرجال أن يعتزلوا النساء وهن‬
‫حوائض؛ ألن ا‪١‬تحيض أذى ‪٢‬تم ‪.‬‬
‫لكن هل دم ا‪ٟ‬تيض أذى للرجال أو‬
‫للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء‬
‫معا؛ ألن اْلية أطلقت األذى ‪ ،‬ولم‬
‫ٖتدد من ا‪١‬تقصود به ‪ .‬والذي يدل‬
‫عىل ذلك أن ا‪ٟ‬تيض يعطي قذارة‬
‫للرجل يف مكان حساس هو موضوع‬
‫اإلنزال عنده ‪ ،‬فإذا وصلت إليه‬
‫ا‪١‬تيكروبات تصيبه بأمراض‬
‫خطَتة ‪.‬‬
‫والذي ٭تدث أن ا‪ٟ‬تق قد خلق رحم‬
‫ا‪١‬ترأة ويف مبيضيها عدد ‪٤‬تدد‬
‫معروف له وحده سبحانه وتعاىل من‬
‫البويضات ‪ ،‬وعندما يفرز أحد‬
‫ا‪١‬تبيضُت البويضة فقد ال يتم تلقيح‬
‫البويضة ‪ ،‬فإن بطانة الرحم‬
‫ا‪١‬تكون من أنسجة دموية تقل فيها‬
‫نسبة ا‪٢‬ترمونات اليت كانت تثبت‬
‫بطانة الرحم ‪ ،‬وعندما تقل نسبة‬
‫ا‪٢‬ترمونات ٭تدث ا‪ٟ‬تيض ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تيض هو دم ٭تتوي عىل أنسجة‬
‫َت حية ‪ ،‬وتصبح منطقة ا‪١‬تهبل‬
‫والرحم يف حالة هتيج ‪ ،‬ألن منطقة‬
‫ا‪١‬تهبل والرحم حساسة جدا لنمو‬
‫ا‪١‬تيكروبات ا‪١‬تسببة لبللتهابات‬
‫سواء للمرأة ‪ ،‬أو للرجل إن جامع‬
‫زوجته يف فًتة ا‪ٟ‬تيض ‪ .‬وا‪ٟ‬تيض‬
‫يصيب ا‪١‬ترأة بأذى يف قوهتا‬
‫وجسدها؛ بدليل أن اهلل رخص ‪٢‬تا‬
‫أال ّتصوم وأال ّتصلي إذن فا‪١‬تسألة‬
‫منهكة ومتعبة ‪٢‬تا ‪ ،‬فبل ‪٬‬توز أن‬
‫يرهقها الرجل بأكثر ‪٦‬تا هي عليه ‪.‬‬
‫إذن فقوله تعاىل ‪ُ { :‬ه َو أَذًى }‬
‫تعميم بأن األذى يصيب الرجل‬
‫وا‪١‬ترأة ‪ .‬وبعد ذلك بُت ا‪ٟ‬تق أن‬
‫كلمة « أذى » حيثية تتطلب‬
‫حكما يرد ‪ ،‬إما باإلباحة وإما‬
‫با‪ٟ‬تظر ‪ ،‬وما دام هو أذى فبلبد أن‬
‫يكون حظرا ً‪.‬‬
‫يقول عز وجل ‪ { :‬فاعتزلوا‬
‫النسآء ِيف ا‪١‬تحيض َوال َتَقْ َر ُبو ُه َّن }‬
‫والذي يقول ‪ :‬إن ا‪١‬تحيض هو مكان‬
‫ولبأن ا‪١‬تحرم هو‬ ‫ا‪ٟ‬تيض يبٍت ق ه‬
‫ا‪١‬تباشرة ا‪ٞ‬تنسية ‪ ،‬لكن ما فوق‬
‫السرة وما فوق ا‪١‬تبلبس فهو مباح ‪،‬‬
‫فقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َتَقْ َر ُبو ُه َّن } أي‬
‫ال تأتوهن يف ا‪١‬تكان الذي يأيت منه‬
‫األذى وهو دم ا‪ٟ‬تيض ‪ { .‬حىت‬
‫ي َ ْط ُه ْر َن فَإِذَا تَ َط ّه َْر َن فَأ ْ ُتو ُه َّن ِم ْن‬
‫ث أ َ َم َر ُك ُم اهلل } ‪ .‬و « يطهرن‬ ‫َحي ْ ُ‬
‫» من الطهور مصدر طهر يطهر ‪،‬‬
‫وعندما نتأمل قوله ‪ { :‬فَإِذَا‬
‫تَ َط ّه َْر َن } ‪٧‬تد أنه لم يقل ‪ « :‬فإذا‬
‫طهرن » ‪ ،‬فما الفرق بُت « طهر »‬
‫و « تطهر »؟‬
‫إن « يطهرن » معناها امتنع عنهن‬
‫ّ‬
‫ا‪ٟ‬تيض ‪ ،‬و « تطهرن » يعٍت‬
‫ا تسلن من ا‪ٟ‬تيض؛ ولذلك نشأ‬
‫خبلف بُت العلماء ‪ ،‬هلٔتجرد‬
‫انتهاء مدة ا‪ٟ‬تيض وانقطاع الدم‬
‫ٯتكن أن يباشر الرجل زوجته ‪ ،‬أم‬
‫البد من االنتظار حىت تتطهر ا‪١‬ترأة‬
‫باال تسال؟ ‪.‬‬

‫وخروجا من ا‪٠‬تبلف نقول ‪ :‬إن‬


‫قوله ا‪ٟ‬تق ‪ « :‬تطهرن » يعٍت‬
‫ا تسلن فبل مباشرة قبل اال تسال‬
‫‪ .‬ومن عجائب ألفاظ القرآن أن‬
‫الكلمات تؤثر يف استنباط ا‪ٟ‬تكم ‪،‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعاىل ‪ { :‬إِن ّ َُه‬
‫يم * ِيف ِكت َ ٍ‬
‫اب َّم ْك ُنونٍ *‬ ‫آن كَ ِر ٌ‬
‫ل َ ُق ْر ٌ‬
‫ال َّ َٯت َ ُّس ُه إِال َّا‪١‬تطهرون } ػ الواقعة ‪:‬‬
‫‪] 79-77‬‬
‫ما ا‪١‬تقصود إذن؟ هل ا‪١‬تقصود أن‬
‫القرآن ال ٯتسكه إال ا‪١‬تبلئكة‬
‫الذين طهرهم اهلل من ا‪٠‬تبث ‪ ،‬أو‬
‫أن للبشر أيضا حق اإلمساك‬
‫با‪١‬تصح ف ألهنم يتطهرون؟ بعض‬
‫العلماء قال ‪ :‬إن ا‪١‬تسألة البد أن‬
‫ندخلها يف عموم الطهارة ‪ ،‬فيكون‬
‫معٌت { إِال َّا‪١‬تطهرون } أي الذين‬
‫طهرهم من شرع ‪٢‬تم التطهر؛‬
‫ولذلك فا‪١‬تسلم حُت يغتسل أو‬
‫يتوضأ يكون قد حدث له أمران ‪:‬‬
‫التطهر والطهر ‪.‬‬
‫فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو‬
‫اال تسال ‪ ،‬والطهر بتشريع اهلل ‪،‬‬
‫فكما أن اهلل طهر ا‪١‬تبلئكة أصبل‬
‫فقد طهرنا معشر اإلنس تشريعا ‪،‬‬
‫وبذلك نفهم اْلية عىل إطبلقها‬
‫ونرفع ا‪٠‬تبلف ‪ .‬وقول ا‪ٟ‬تق يف اْلية‬
‫اليت ‪٨‬تن بصدد خواطرنا عنها ‪{ :‬‬
‫حىت ي َ ْط ُه ْر َن } أي حىت يأذن اهلل‬
‫‪٢‬تن بالطهر ‪ ،‬ثم يغتسلن استجابة‬
‫لتشريع اهلل ‪٢‬تن بالتطهر ‪{ .‬‬
‫ث أ َ َم َر ُك ُم اهلل }‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫فَأ ُتو ُه َّن م ْن َحي ْ ُ‬
‫يعٍت يف األماكن ا‪ٟ‬تبلل ‪.‬‬
‫ب‬ ‫{ إ َِّن اهلل ُ٭ت ِ ُّ‬
‫ب التوابُت َو ُ٭ت ِ ُّ‬
‫ا‪١‬تتطهرين } وأراد ا‪ٟ‬تق تبارك‬
‫وتعاىل أن يدخل عليك أنسا ‪،‬‬
‫فكما أنه طلب منك أن تتطهر‬
‫ماديا فهو سبحانه قبل أيضا ًمنك‬
‫أن تتطهر معنويا بالتوبة ‪ ،‬لذلك‬
‫جاء باألمر حسيا ومعنويا ‪ .‬وبعد‬
‫ذلك جاء ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ْتكم‬
‫جديد ‪ ،‬هذا ا‪ٟ‬تكم ينهي إشكاال‬
‫أثاره اليهود ‪.‬‬
‫وقد كان اليهود يثَتون أن الرجل‬
‫إذا أىت امرأته من خلف ولو يف ُقبلها‬
‫بضم القاف جاء الولد أحول ‪« .‬‬
‫ال ُقبل » هو مكان اإلتيان ‪ ،‬وليس‬
‫معناه اإلتيان يف الدبر والعياذ باهلل‬
‫كما كان يفعل قوم لوط ‪ .‬و ّ‪١‬تا كان‬
‫هذا اإلشكال الذي أثاره اليهود ال‬
‫أساس له من الصحة فقد أراد ا‪ٟ‬تق‬
‫أن يرد عىل هذه ا‪١‬تسألة فقال ‪{ :‬‬
‫آؤ ُك ْم َح ْر ٌث ل َّ ُك ْم فَأ ْ ُتوا ْ‬
‫نِ َس ُ‬
‫َح ْرثَ ُك ْم أىن ِشئ ْ ُت ْم َوقَ ِ ّد ُموا ْ‬
‫ألَن ْ ُف ِس ُك ْم واتقوا اهلل ‪} . . .‬‬

‫نِ َس ُاؤ ُك ْم َح ْر ٌث ل َ ُك ْم فَأ ْ ُتوا َح ْرثَ ُك ْم‬


‫أ َ َّىن ِشئ ْ ُت ْم َوقَ ِ ّد ُموا ِألَن ْ ُف ِس ُك ْم َواتَّ ُقوا‬
‫وه َوب َ ِّش ِر‬
‫اّللَ َواعْل َ ُموا أَن َّ ُك ْم ُم َبل ُق ُ‬‫َّ‬
‫ِِ‬
‫ُت (‪)223‬‬ ‫ا ْ‪١‬تُ ْؤمن َ‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يفسح‬
‫ا‪١‬تجال للتمتع للرجل وا‪١‬ترأة عىل‬
‫أي وجه من األوجه شريطة أن يتم‬
‫اإلتيان يف ‪٤‬تل اإلنبات ‪ .‬وقد جاء‬
‫ا‪ٟ‬تق بكلمة { َح ْر ٌث } هنا ليوضح‬
‫أن ا‪ٟ‬ترث يكون يف مكان اإلنبات ‪.‬‬
‫{ فَأ ْ ُتوا ْ َح ْرثَ ُك ْم } وما هو ا‪ٟ‬ترث؟‬
‫ا‪ٟ‬ترث مكان استنبات النبات ‪ ،‬وقد‬
‫ك ا‪ٟ‬ترث‬ ‫قال تعاىل ‪َ { :‬ويُهْلِ َ‬
‫والنسل } ػ البقرة ‪] 205 :‬‬
‫فأتوا ا‪١‬ترأة يف مكان الزرع ‪ ،‬زرع‬
‫الولد ‪ ،‬أما ا‪١‬تكان الذي ال ينبت منه‬
‫الولد فبل تقربوه ‪ .‬وبعض الناس‬
‫فهموا خطأ أن قوله ‪ { :‬فَأ ْ ُتوا ْ‬
‫َح ْرثَ ُك ْم أىن ِشئ ْ ُت ْم } معناه إتيان‬
‫ا‪١‬ترأة يف أي مكان ‪ ،‬وذلك خطأ؛ ألن‬
‫قوله ‪ { :‬نِ َس ُ‬
‫آؤ ُك ْم َح ْر ٌث ل َّ ُك ْم }‬
‫يعٍت ‪٤‬تل استنبات الزرع ‪ ،‬والزرع‬
‫بالنسبة للمرأة والرجل هو الولد ‪،‬‬
‫فأهتا يف ا‪١‬تكان الذي ينجب الولد‬
‫عىل أي جهة شئت ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وقَ ِ ّد ُموا ْألَن ْ ُف ِس ُك ْم‬
‫} أي إياك أن تأخذ ا‪١‬تسألة عىل‬
‫أهنا استمتاع جنسي فحسب ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫يريد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل بهذه‬
‫اللذة ا‪ٞ‬تنسية أن ٭تمي متاعب ما‬
‫ينشأ من هذه اللذة؛ ألن الذرية‬
‫اليت ستأيت من أثر اللقاء ا‪ٞ‬تنسي‬
‫سيكون ‪٢‬تا متاعب وتكاليف ‪ ،‬فلو‬
‫لم يربطها اهلل سبحانه وتعاىل بهذه‬
‫اللذة لزهد الناس يف ا‪ٞ‬تماع ‪.‬‬
‫ومن هنا يربط ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫بُت كدح اْلباء وشقائهم يف تربية‬
‫أوالدهم بلذة الشهوة ا‪ٞ‬تنسية حىت‬
‫يضمن بقاء النوع اإلنساين ‪ .‬ومع‬
‫هذا ٭تذرنا ا‪ٟ‬تق أن نعتْب هذه اللذة‬
‫ا‪ٞ‬تنسية هي األصل يف إتيان النساء‬
‫فقال ‪َ { :‬وقَ ِ ّد ُموا ْألَن ْ ُف ِس ُك ْم } ‪،‬‬
‫يعٍت انظروا جيدا ًإىل هذه ا‪١‬تسألة‬
‫عىل أال تكون هي الغاية ‪ ،‬بل هي‬
‫وسيلة ‪ ،‬فبل تقلبوا الوسيلة إىل الغاية‬
‫‪َ { ،‬وقَ ِ ّد ُموا ْألَن ْ ُف ِس ُك ْم } أي‬
‫ادخروا ألنفسكم شيئا ًينفعكم يف‬
‫األيام ا‪١‬تقبلة ‪.‬‬
‫إذن فاألصل يف العملية ا‪ٞ‬تنسية‬
‫اإل‪٧‬تاب ‪َ { .‬وقَ ِ ّد ُموا ْألَن ْ ُف ِس ُك ْم }‬
‫أي ال تأخذوا ا‪١‬تتاع اللحظي‬
‫العاجل عىل أنه هو الغاية بل خذوه‬
‫‪١‬تا هو آت ‪ .‬وكيف نقدم ألنفسنا أو‬
‫ماذا نفعل؟ حىت ال نشىق ٔتَ ْن يأيت ‪،‬‬
‫وعليك أن تتبُت هذه العملية‬
‫فقدم لنفسك شيئا ًير٭تك ‪ ،‬وافعل‬
‫ما علمنا رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ . .‬ساعة تأيت هذه النعمة‬
‫وتقًتب من زوجتك البد أن‬
‫تسمي اهلل ويقول ‪ « :‬اللهم جنبٍت‬
‫الشيطان وجنب الشيطان ما‬
‫رزقتٍت » ‪ ،‬وعندما يأيت ا‪١‬تسلم‬
‫أهله وينشأ وليده فلن يكون‬
‫للشيطان عليه دخل ‪ .‬وقال بعض‬
‫العلماء ‪ :‬ال ٯتكن أن يؤثر فيه‬
‫سحر ‪١ ،‬تاذا كل ذلك؟ ‪.‬‬
‫ألنك ساعة استنبته أي زرعته ‪،‬‬
‫ذكرت ا‪١‬تُنْبِ َت وهو اهلل عز وجل ‪.‬‬
‫وما دمت ذكرت ا‪١‬تنبت ا‪٠‬تالق فقد‬
‫جعلت البنك حصانة أبدية ‪ .‬وعىل‬
‫عكس ذلك ينشأ الطفل الذي‬
‫ينَس والده اهلل عندما يباشر أهله‬
‫فيقع أوالده فريسة للشياطُت ‪.‬‬
‫{ َوقَ ِ ّد ُموا ْألَن ْ ُف ِس ُك ْم } أي قدموا‬
‫‪٢‬تا ما ير٭تكم وما يطيل أمد‬
‫حياتكم وأعمالكم يف ا‪ٟ‬تياة؛‬
‫ألنك عندما تقبل عىل ا‪١‬تسألة بنية‬
‫إ‪٧‬تاب الولد ‪ ،‬وتذكر اهلل وتستعيذ‬
‫من الشيطان فينعم عليك ا‪٠‬تالق‬
‫بالولد الصاٌف ‪ ،‬هذا الولد يدعو لك‬
‫‪ ،‬ويعلم أوالده أن يدعوا لك ‪،‬‬
‫وأوالده يدعون لك ‪ ،‬وتظل‬
‫ا‪١‬تسألة مسلسلة فبل ينقطع عملك‬
‫إىل أن تقوم الساعة ‪ ،‬وهنا تكون‬
‫قدمت لنفسك أفضل ما يكون‬
‫التقديم ‪.‬‬
‫وهب أنك ُرزقت ا‪١‬تولود ثم مات‬
‫ففج عت به واسًتجعت واحتسبته‬
‫عند ربك ‪ ،‬إنك تكون قد قدمته ‪،‬‬
‫ليغلق عليك بابا من أبواب النَتان‬
‫‪ .‬إذن فكل أمر البد أن تذكر فيه {‬
‫َوقَ ِ ّد ُموا ْألَن ْ ُف ِس ُك ْم } ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬واتقوا اهلل واعلموا‬
‫وه َوب َ ِّش ِر ا‪١‬تؤمنُت }‬
‫أَن َّ ُك ْم ُّمبل َ ُق ُ‬
‫معٌت { اتقوا اهلل } أي إياكم أن‬
‫تغضبوا ربكم يف أي عمل من هذه‬
‫األعمال ‪ ،‬وكن أيها ا‪١‬تسلم يف هذه‬
‫التقوى عىل يقُت من أنك مبليق اهلل‬
‫‪ ،‬وال تشك يف هذا اللقاء أبدا ً‪ .‬وما‬
‫دمت ستتقي اهلل وتكون عىل يقُت‬
‫أنك تبلقيه لم يبىق لك إال أن ُتب َ َّشر‬
‫با‪ٞ‬تنة ‪ .‬وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه ‪َ { :‬وال َ َٕتْ َعلُوا ْاهلل ُع ْر َضةً‬
‫أل َ ْٯتَانِ ُك ْم ‪} . . .‬‬
‫اّللَ ُع ْر َضةً ِأل َ ْٯتَانِ ُك ْم أ َ ْن‬
‫َو َال َٕتْعَلُوا َّ‬
‫ُت النَّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اس‬ ‫ْبوا َوتَتَّ ُقوا َو ُت ْصل ُحوا ب َ َْ‬‫تَ َ ُّ‬
‫و َ ِ ِ‬
‫يم (‪)224‬‬ ‫اّلل َ‪ٝ‬تي ٌع عَل ٌ‬
‫َ ُّ‬
‫ويف اْلية ثبلثة أشياء ‪ :‬أوال ‪ :‬أن‬
‫تْبوا ‪ ،‬أي أن تفعلوا الْب ‪ .‬والْب قد‬
‫يكرهه اإلنسان ألنه شاق عىل‬
‫النفس ‪ .‬ثانيا ‪ :‬أن تتقوا ‪ ،‬أي أن‬
‫تتجنبوا ا‪١‬تعاصي ‪ ،‬والتقوى تكون‬
‫أيضا شاقة يف بعض األحيان ‪ .‬ثالثا ‪:‬‬
‫أن تصلحوا بُت الناس ‪ ،‬أي أن‬
‫البُت ‪ ،‬وقد يكون يف‬‫تصلحوا ذات ْ‬
‫اإلصبلح بُت الناس مئونة وذلك‬
‫بعد أن ٘تتنعوا أن ٕتعلوا اهلل‬
‫عرضة للقسم ‪.‬‬
‫وحُت يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ َٕتْعَلُوا ْاهلل‬
‫ُع ْر َضةًأل َ ْٯتَانِ ُك ْم } فالعرضة هي‬
‫ا‪ٟ‬تجاب ‪ ،‬وهي ما يعًتض بُت‬
‫شيئُت ‪ُ { ،‬ع ْر َضةً} هي أيضا‬
‫األمر الصاٌف لكل شيء ‪ ،‬فيقال ‪« :‬‬
‫فبلن عرضة لكل ا‪١‬تهمات » ‪ .‬أي‬
‫صاٌف ‪ .‬والعرضة كما عرفنا هي ما‬
‫اعًتض بُت شيئُت ‪ ،‬كأن يضع‬
‫اإلنسان يده عىل عينيه فبل يرى‬
‫الضوء ‪ ،‬هنا تكون اليد « ُع ْرضة »‬
‫بُت عيٍت اإلنسان والشمس إن‬
‫اإلنسان ٭تجب بذلك عن نفسه‬
‫الضوء ‪.‬‬
‫كأن ا‪ٟ‬تق يقول ‪ « :‬أنا ال أريد أن‬
‫ٕتعلوا اليمُت عرضة بُت اإلنسان‬
‫وفعل ا‪٠‬تَت والْب والتقوى » ‪.‬‬
‫فعندما يطلب منك واحد أن تْب‬
‫من أساء إليك فقد تقول ‪ « :‬أنا‬
‫أقسمت أال أبر هذا اإلنسان »‬
‫إنك بذلك جعلت اليمُت باهلل‬
‫مانعا ًبينك وبُت الْب ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق بذلك القول أن ينبهنا‬
‫إىل أن القسم به ال ‪٬‬توز يف منع الْب أو‬
‫صلة الرحم أو إصبلح بُت الناس‪.‬‬
‫‪ .‬ومن حلف عىل شيء فرأى َته‬
‫خَتا منه فليفعل ا‪٠‬تَت وليكفر عن‬
‫ٯتينه ‪١‬تاذا؟ ألن ا‪١‬تؤمن عندما ٭تلف‬
‫عىل أال يفعل خَتا ًفهو يضع اهلل‬
‫مانعا ًبينه وبُت ا‪٠‬تَت ‪ ،‬وبذلك‬
‫يكون قد ناقض ا‪١‬تؤمن نفسه بأن‬
‫جعل ا‪١‬تانع هو ا‪ٟ‬تلف باهلل ‪ .‬إن اهلل‬
‫هو صاحب األمر بالْب والتقوى‬
‫واإلصبلح بُت الناس ‪ .‬لذلك فا‪ٟ‬تق‬
‫يقول ‪َ { :‬وال َ َٕتْعَلُوا ْاهلل ُع ْر َضةً‬
‫أل َ ْٯتَانِ ُك ْم } ‪ .‬أي أن ا‪ٟ‬تق يريد أن‬
‫٭تمي عمليات الْب والتقوى‬
‫واإلصبلح بُت الناس ‪.‬‬
‫إنك إن حلفت أيها ا‪١‬تؤمن أال‬
‫تفعل هذه العمليات ‪ ،‬فا‪ٟ‬تق يريد‬
‫لك أن ٖتنث يف هذا القسم وأن‬
‫تفعل الْب والتقوى واإلصبلح بُت‬
‫الناس حىت ال تتناقض مع تشريع‬
‫اهلل ‪ .‬و‪٨‬تن عندما ‪٧‬تد ا‪١‬تجتمع وقد‬
‫صنع فيه كل فرد الْب ‪ ،‬واتىق فيه كل‬
‫إنسان ا‪١‬تعاصي ‪ ،‬ورأى فيه كل‬
‫إنسان نزاعا ًبُت ‪ٚ‬تاعتُت فأصلح‬
‫هذا الزناع ‪ ،‬أليس هذا دخوال يف‬
‫السلم كافة ‪ .‬إذن فا‪ٟ‬تق يريد أن‬
‫يستبىق للناس ينابيع ا‪٠‬تَت وأال‬
‫يسدوها أمام أنفسهم ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق هو اْلمر بأال ‪٬‬تعل ا‪١‬تؤمن‬
‫اليمُت مانعا ًبُت اإلنسان والْب ‪ ،‬أو‬
‫بُت اإلنسان والتقوى ‪ ،‬أو بُت‬
‫اإلنسان واإلصبلح بُت الناس ‪.‬‬
‫ويتساهل اإلسبلم يف مسألة‬
‫الًتاجع وا‪ٟ‬تنث يف الْب فيقول‬
‫السلف الصاٌف ‪ « :‬ال حنث خَت من‬
‫الْب » ‪.‬‬

‫إذن فا‪١‬تجتمع الذي فيه صنع الْب ‪،‬‬


‫وتقوى ا‪١‬تعاصي ‪ ،‬والصلح بُت‬
‫ا‪١‬تتخاصمُت يدخل يف إطار ‪{ :‬‬
‫ادخلوا ِيف السلم كَآ َّفةً} ػ البقرة ‪:‬‬
‫‪] 208‬‬
‫واإلنسان قد يتعلل بأي سبب حىت‬
‫يبتعد عن الْب أو التقوى أو‬
‫اإلصبلح بُت الناس ‪ ،‬بل يعمل‬
‫شيئا ًير٭ته وٮتلع عليه أنه ‪٦‬تتثل‬
‫ألمر اهلل ‪ ،‬ولنضرب لذلك مثبل ‪.‬‬
‫سيدنا أبو بكر الصديق رضي اهلل‬
‫عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة‬
‫واشًتك مع من خاضوا يف اإلفك‬
‫الذي اهتموا فيه أم ا‪١‬تؤمنُت‬
‫السيدة عائشة رضي اهلل عنها ‪.‬‬
‫وخبلصة األمر أن عائشة رضي‬
‫اهلل عنها زوجة رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ .‬كانت قد خرجت مع‬
‫الرسول الكريم يف غزوة « بٍت‬
‫ا‪١‬تصطلق » وكان األمر با‪ٟ‬تجاب‬
‫قد نزل لذلك خرجت عائشة‬
‫رضي اهلل عنها يف هودج ‪.‬‬
‫وقام الرسول بغزوته وحان وقت‬
‫العودة ‪ .‬وفقدت عائشة عقدا ً‪٢‬تا ‪.‬‬
‫وكانت رضي اهلل عنها خفيفة‬
‫الوزن؛ ألن الطعام يف تلك األيام‬
‫كان قليبل ‪ .‬راحت عائشة رضي‬
‫اهلل عنها تبحث عن عقدها ا‪١‬تفقود‬
‫‪ ،‬وعندما ‪ٛ‬تلوا هودج عائشة رضي‬
‫اهلل عنها لم يفطنوا أن عائشة‬
‫ليست به ‪ .‬ووجدت عائشة عقدها‬
‫ا‪١‬تفقود ‪ ،‬وكان جيش رسول اهلل قد‬
‫ابتعد عنها ‪ .‬وظنت أهنم‬
‫سيفتقدوهنا فَتجعون إليها ‪ .‬وكان‬
‫خلف ا‪ٞ‬تيش صفوان بن ا‪١‬تعطل‬
‫السلمي وعرفته عائشة وأناخ‬
‫راحلته وعادت عائشة إىل ا‪١‬تدينة ‪.‬‬
‫ودار حديث اإلفك بوساطة عبد‬
‫أيب ّبن سلول رأس النفاق ‪.‬‬
‫اهلل بن َ‬
‫وكان الغم وا‪ٟ‬تزن يصيبان السيدة‬
‫عائشة طوال مدة كبَتة وأوضح‬
‫ا‪ٟ‬تق كذب هذا ا‪ٟ‬تديث ‪ .‬وذاع ما‬
‫ذاع عن أم ا‪١‬تؤمنُت عائشة وهي‬
‫زوجة رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم قبل أن تكون بنت أيب بكر ‪.‬‬
‫وأبو بكر صد ِي ّق رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ولو أن َت عائشة‬
‫حدث ‪٢‬تا ما حدث لعائشة لكان‬
‫موقف أيب بكر هو موقفه عندما جاء‬
‫قريبه مسطح بن أثاثة واشًتك يف‬
‫حديث اإلفك مع من اشًتكوا ثم‬
‫يْبئ اهلل عائشة ويزنل القول‬
‫الذي يثبت براءة أم ا‪١‬تؤمنُت يف‬
‫حديث اإلفك ‪ ،‬وحُت يْبئها اهلل‬
‫يأيت أبو بكر وكان ينفق عىل مسطح‬
‫فيقطع عنه النفقة ويقول ‪ « :‬واهلل‬
‫ال أنفق عليه أبدا ً» ‪١‬تاذا؟ ألنه‬
‫اشًتك يف حديث اإلفك ‪.‬‬
‫وا‪١‬تسألة يف ظاهرها ورع ‪ .‬لذلك‬
‫سيمتنع عن النفقة عىل مسطح بن‬
‫أثاثة ألن مسطحا ًخاض يف اإلفك ‪.‬‬
‫لكن انظر إىل مقاييس الكمال‬
‫وا‪ٞ‬تمال والفضائل عند اهلل فقد‬
‫أوضح ا‪ٟ‬تق أن هذا طريق وذاك‬
‫طريق آخر ‪ ،‬فيقول سبحانه وتعاىل‬
‫‪َ { :‬وال َيَأْتَ ِل أُ ْولُوا ْالفضل ِمن ُك ْم‬
‫والسعة أَن يؤتوا أُ ْو ِيل القرىب‬
‫وا‪١‬تساكُت وا‪١‬تهاجرين ِيف َسب ِ‬
‫ِيل‬
‫ون أَن‬ ‫َ ِ‬
‫اهلل َولْيَعْ ُفوا ْوليصفحوا أال َ ُٖتب ُّ َ‬
‫يم }‬ ‫ح‬ ‫يَغ ْ ِف َر اهلل ل َ ُكم واهلل َغ ُفور َر ِ‬
‫ٌّ ٌ‬ ‫ْ‬
‫ػ النور ‪] 22 :‬‬
‫فإذا كنت ٖتب أن يغفر اهلل لك ‪،‬‬
‫أفبل تغفر ‪١‬تن فعل معك سيئة؟ ‪.‬‬
‫وما دمت تريد أن يغفر اهلل لك‬
‫فاغفر للناس خطأهم ‪.‬‬

‫قا‪٢‬تا ا‪ٟ‬تق عز وجل أليب بكر؛ ألنه‬


‫وقف موقفا ًمن رجل خاض يف‬
‫اإلفك مع من خاض ومع ذلك يبلغه‬
‫أن ذلك ال يصح ‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪َ { :‬وال َ َٕتْعَلُوا ْاهلل ُع ْر َضةً‬
‫ْبوا ْ} ال تقل ‪ :‬إين‬ ‫أل َ ْٯتَانِ ُك ْم أَن تَ َ ُّ‬
‫حلفت باهلل عىل أال افعل ذلك ا‪٠‬تَت‬
‫‪ ،‬ال افعله فاهلل يرىض لك أن ٖتنث‬
‫وتكفر عن ٯتينك ‪.‬‬
‫{ َوال َ َٕتْعَلُوا ْاهلل ُع ْر َضةًأل َ ْٯتَانِ ُك ْم‬
‫ِ‬
‫أَن تَ َ ُّ‬
‫ْبوا ْ َوتَتَّ ُقوا ْ َو ُت ْصل ُحوا ْب َ ْ َ‬
‫ُت‬
‫ِ ِ‬
‫الناس واهلل َ‪ٝ‬تي ٌع عَل ٌ‬
‫يم } ‪ .‬إن اهلل‬
‫عز وجل يبلغنا ‪ :‬أنا ال أريد أن‬
‫ٕتعلوا ا‪ٟ‬تلف يب عرضة ‪ ،‬يعٍت‬
‫حاجزا ًأو مانعا ًعن فعل ا‪٠‬تَت ‪ .‬مثبل ً‬
‫لو ُطلب منك أن تْب شخصا ًأساء‬
‫إليك فبل تقل ‪ :‬حلفت أال أبر به‬
‫ألنه ال يستحق ‪ ،‬عندها تكون قد‬
‫جعلت اليمُت باهلل مانعا ًللْب ‪.‬‬
‫وكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫يقول لك ‪ :‬ال ‪ ،‬أنا متجاوز عن‬
‫اليمُت يب؛ إن حلفت أال تْب أو ال‬
‫تتقي أو ال تصل ر‪ٛ‬تا ًأو ال تصلح‬
‫اثنُت ‪ ،‬أنا تسا‪٤‬تت يف اليمُت‪.‬‬ ‫بُت ْ‬
‫وا‪ٟ‬تديث يقول ‪ « :‬من حلف عىل‬
‫ٯتُت فرأى َتها خَتا منها فليأت‬
‫الذي هو خَت وليكفر عن ٯتينه »‬
‫وهكذا ٭تمي اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫فعل الْب و٭تمي التقوى و٭تمي‬
‫عمليات اإلصبلح بُت الناس ‪ ،‬ولو‬
‫كنت قد حلفت باهلل أال تفعلها ‪،‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألنك عندما ٖتلف باهلل أال‬
‫تفعل ‪ ،‬وٕتعل اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫هو ا‪١‬تانع ‪ ،‬فقد ناقضت التشريع‬
‫نفسه؛ ألن اهلل هو اْلمر بالْب‬
‫واإلصبلح والتقوى ‪ ،‬فبل ٕتعل‬
‫ٯتُت البشر مانعا ًمن تنفيذ منهج‬
‫رب البشر ‪.‬‬
‫{ َوال َ َٕتْعَلُوا ْاهلل ُع ْر َضةًأل َ ْٯتَانِ ُك ْم‬
‫ِ‬
‫أَن تَ َ ُّ‬
‫ْبوا ْ َوتَتَّ ُقوا ْ َو ُت ْصل ُحوا ْب َ ْ َ‬
‫ُت‬
‫الناس } إن حلفت عىل ترك‬
‫واجب وجب أن ترجع يف اليمُت ‪.‬‬
‫احنث فيه وكفر عنه ‪ ،‬وا‪ٟ‬تكم‬
‫نفسه يسري عىل الذي ٯتنع‬
‫‪٦‬تتلكاته كالدابة أو الماكينة أو‬
‫السيارة من انتفاع الناس بها ْتجة‬
‫أنه حلف أال يعَتها ألحد ‪ ،‬وذلك‬
‫أمر ٭تدث كثَتا ًيف األرياف ‪.‬‬
‫وٮتتم ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل اْلية‬
‫بالقول الكريم ‪ { :‬واهلل َ ِ‬
‫‪ٝ‬تي ٌع‬
‫يم } ‪ .‬إنه سبحانه ‪ٝ‬تيع‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫باليمُت الذي حلفته ‪ ،‬وعليم‬
‫بنيتك إن كانت خَتا ًأو شرا ًفبل‬
‫تتخ ذ اليمُت حجة ألن ٘تنع الْب‬
‫والتقوى واإلصبلح ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل عندما يتكلم عن‬
‫اليمُت يعطينا أصبل ًمن أصول‬
‫اعتبار اليمُت هل هو ٯتُت حقا أو‬
‫لغو ‪ ،‬ومن ر‪ٛ‬تة اهلل أنه سبحانه‬
‫وتعاىل لم يأخذ إال اليمُت الذي‬
‫عقد القلب عليه ‪ ،‬أي الذي يقصد‬
‫صاحبه أال ٭تنث فيه ‪ ،‬أما لغو‬
‫اليمُت فقد ٕتاوز اهلل عنه ‪.‬‬
‫مثبل ً‪ ،‬األٯتان الدارجة عىل ألسنة‬
‫الناس كقو‪٢‬تم ‪ « :‬واهلل لو لم تفعل‬
‫كذا لفعلت معك كذا » ‪ « ،‬واهلل‬
‫سأزورك » ‪ « ،‬واهلل ما كان قصدي‬
‫» أو ا‪ٟ‬تلف بناء ًعىل الظن؛ كأن‬
‫ٖتلف بقولك ‪ « :‬واهلل حدث هذا »‬
‫وأنت َت متأكد من ٘تام حدوثه ‪،‬‬
‫لكن ليس يف مقصدك الكذب ‪.‬‬
‫أما اليمُت الغموس فهي ا‪ٟ‬تلف‬
‫والقسم الذي تعرف كذبه وٖتلف‬
‫بعكس ما تعرف ‪ ،‬كأن تكون قد‬
‫شاهدت واحدا ًيسرق أو يقتل‬
‫وٖتلف باهلل أنه لم يسرق أو لم‬
‫يقتل ‪ .‬من أجل ذلك كله ٭تسم اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل هذه القضية بقوله ‪:‬‬
‫{ ال َّيُ َؤا ِخ ُذ ُك ُم اهلل ابللغو يف‬
‫أ َ ْٯتَانِ ُك ْم ولكن يُ َؤا ِخ ُذ ُكم ِٔتَا‬
‫وب ُك ْم ‪} . . .‬‬‫َك َسب َ ْت ُقل ُ ُ‬
‫اّلل بِاللَّغ ْ ِو ِيف أ َ ْٯتَانِ ُك ْم‬
‫َال يُ َؤا ِخ ُذ ُك ُم ّ َُ‬
‫َول َ ِك ْن يُ َؤا ِخ ُذ ُك ْم ِٔتَا كَ َسب َ ْت‬
‫اّلل َغ ُف ِ‬
‫يم (‪)225‬‬ ‫ور َحل ٌ‬ ‫وب ُك ْم َو َّ ُ ٌ‬ ‫ُقل ُ ُ‬
‫وكان من ا‪١‬تناسب أن تأيت هذه اْلية‬
‫سق ألنه سبحانه أوضح لنا‬ ‫كل ما ب‬
‫اليمُت اليت ال تقع وكأنه قال لنا ‪:‬‬
‫ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل‬
‫رجوعكم يف مقابل أن تْبوا‬
‫وتتقوا وتصلحوا ‪ ،‬فإذا كان قد قبل‬
‫تراجعنا عن هذا اليمُت فؤلن له‬
‫مقاببل يف فعل ا‪٠‬تَت ‪ .‬وقوله ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ ِٔتَا كَ َسب َ ْت ُقل ُُ‬
‫وب ُك ْم } هو ا‪١‬تعٌت‬
‫نفسه قلوله تعاىل ‪ { :‬ولكن‬
‫يُ َؤا ِخ ُذ ُكم ِٔتَا َع َّقد ّتُ ُم األٯتان } ػ‬
‫ا‪١‬تائدة ‪] 89 :‬‬
‫أي الشيء ا‪١‬تعقود يف النفس والذي‬
‫رسخ داخل نفسك ‪ ،‬لكن الشيء‬
‫الذي ٯتر عىل اللسان فبل يؤاخذنا‬
‫اهلل به ‪ { .‬ال َّيُ َؤا ِخ ُذ ُك ُم اهلل باللغو‬
‫يف أ َ ْٯتَانِ ُك ْم } واألٯتان ‪ٚ‬تع ٯتُت ‪،‬‬
‫واليمين ‪ :‬هو ا‪ٟ‬تلف أو القسم ‪،‬‬
‫و‪ٝ‬تى ٯتينا ً؛ ألهنم كانوا قدٯتا ًإذا‬
‫ٖتالفوا صرب كل امرئ منهم‬
‫ٯتينه عىل ٯتُت صاحبه ‪ ،‬وذلك ألن‬
‫اليمُت هو ا‪ٞ‬تارحة الفاعلة ‪.‬‬
‫وبا‪١‬تناسبة ‪ ،‬فا‪ٞ‬تارحة الفاعلة إياك‬
‫أن تظن أهنا تفعل بالرياضة‬
‫والتدريب ‪ ،‬وإ‪٪‬تا تفعل با‪٠‬تلق أي‬
‫كما خلقها اهلل ‪ ،‬فهي ‪٣‬تْبة عىل‬
‫الفعل حسب خلقتها ‪.‬‬
‫ولذلك عندما ٕتد إنسانا ويده‬
‫اليمٌت ال تعمل ويزاول أعماله‬
‫باليسرى فبل ٖتاول أن ٕتعله‬
‫يستخدم اليمٌت بدال من‬
‫اليسرى؛ ألن ‪٤‬تاولتك عبث لن‬
‫‪٬‬تدي؛ ألن السبب يف أنه يستخدم‬
‫اليسرى بدال من اليمٌت سبب‬
‫خلقي ‪ ،‬فا‪ٞ‬تهاز ا‪٠‬تاص بالتحكم يف‬
‫اٌفركة يف ا‪١‬تخ هو الذي يقر هذا‬
‫األمر ‪ :‬إن كان ‪٥‬تلوقا يف النصف‬
‫األٯتن من ا‪١‬تخ كانت اليد اليمٌت‬
‫هي الفاعلة ‪ ،‬وإن كان ‪٥‬تلوقا يف‬
‫النصف األيسر من ا‪١‬تخ فاليد‬
‫اليسرى هي اليت تعمل ‪.‬‬
‫لذلك ٕتد الذي يكتب بيده‬
‫اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل‬
‫من الذي يكتب باليمٌت يف بعض‬
‫األحيان ‪ ،‬ومن هنا نقول ‪ :‬إنه من‬
‫ا‪٠‬تطأ أن ٖتاول تغيَت سلوك الذي‬
‫يعمل بيده اليسرى بدال ًمن‬
‫اليمٌت؛ ألن ذلك عبث لن يصل‬
‫لنتيجة ‪.‬‬
‫وأحيانا ٕتد ا‪ٞ‬تهاز ا‪١‬تتحكم يف‬
‫حركة اليدين موجودا ًيف منتصف‬
‫ووسط ا‪١‬تخ فَتسل حركات‬
‫متوازنة لليد اليمٌت واليد اليسرى‬
‫صيكتب‬ ‫معا ً‪ ،‬ولذلك ٕتد شخ ا ً‬
‫بيده اليمٌت واليسرى معا ً‬
‫بالسرعة نفسها وباإلتقان نفسه ‪،‬‬
‫ويؤدي بها األعمال بتلقائية عادية‬
‫‪ ،‬وهلل يف خلقه شئون ‪ ،‬فهو يعطينا‬
‫الدليل عىل أنه ال ٖتكمه قواعد ‪،‬‬
‫فهو قادر عىل أن ‪٬‬تعل اليد اليمٌت‬
‫تعمل ‪ ،‬وقادر عىل أن ‪٬‬تعل اليد‬
‫اليسرى تعمل ‪ ،‬أو ‪٬‬تعلهما‬
‫يعمبلن معا ًبالقوة نفسها ‪ ،‬أو ‪٬‬تعل‬
‫كلتا اليدين َت قابلتُت للعمل ‪.‬‬
‫إهنا ليست عملية آلية خارجة عن‬
‫إرادة هلل ‪ ،‬بل كل شيء خاضع‬
‫إلرادته سبحانه ‪.‬‬
‫{ ال َّيُ َؤا ِخ ُذ ُك ُم اهلل باللغو يف‬
‫أ َ ْٯتَانِ ُك ْم } ا‪١‬تقصود به ا‪ٟ‬تلف ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تلف من معانيه التقوية ‪ ،‬وهي‬
‫مأخوذة من ا‪ٟ‬تِلْف ‪ ،‬وهو أن‬
‫يتحالف الناس عىل عمل ما ‪ .‬و‪٨‬تن‬
‫عندما نتحالف عىل عمل فنحن‬
‫نقسم العمل بيننا ‪ ،‬وعندما نفعل‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫ذلك يسهل علينا ‪ٚ‬تيعا ًأن نفعله ‪.‬‬
‫{ ال َّيُ َؤا ِخ ُذ ُك ُم اهلل باللغو يف‬
‫أ َ ْٯتَانِ ُك ْم ولكن يُ َؤا ِخ ُذ ُكم ِٔتَا‬
‫يم‬ ‫َكسب ْت ُقلُوب ُكم واهلل َغ ُف ِ‬
‫ور َحل ٌ‬‫ٌ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ََ‬
‫} والكسب عملية إرادية ‪ .‬ألنك‬
‫ساعة تقسم باهلل دون أن تقصد‬
‫فهو ال يؤاخذك ‪ ،‬وهذا دليل عىل أن‬
‫اهلل واسع حليم ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل بعد ذلك ‪ { :‬ل ِ ّل َّ ِذي َن‬
‫ُص أ َ ْربَعَ ِة‬ ‫ّ‬ ‫ون ِمن نِ ّ َس ِآئ ِه ْم تَ َرب‬
‫يُ ْؤل ُ َ‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫آءو فَإ َِّن اهلل َغ ُف ٌ‬
‫ور‬ ‫أ ْش ُه ٍر فَإ ِْن فَ ُ‬
‫يم }‬ ‫ِ‬
‫َّرح ٌ‬
‫ُص‬ ‫ّ‬ ‫ون ِم ْن نِ َس ِائ ِه ْم تَ َرب‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ل ِ َّ ِذلي َن يُ ْؤل‬
‫ُ‬
‫أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر فَإ ِْن فَ ُاءوا فَإ َِّن ّ ََ‬
‫اّلل‬
‫يم (‪)226‬‬ ‫َغ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ٌ‬
‫يؤلون ‪ :‬أي ٭تلفون أال يقربوا‬
‫أزواجهن يف العملية ا‪١‬تخصوصة ‪،‬‬
‫ويريد الرجل أحيانا أن يؤدب‬
‫زوجته فيهجرها يف الفراش ببل‬
‫وبض‬‫ٯتُت ‪ ،‬وبدون أن ٭تلف ‪ .‬ع‬
‫الناس ال يستطيعون أن ٯتتنعوا عن‬
‫نسائهم من تلقاء أنفسهم ‪،‬‬
‫فيحلفون أال يقربوهن حىت يكون‬
‫اليمُت مانعا ومشجعا له عىل ذلك ‪.‬‬
‫وكان هذا األمر مألوفا عند العرب‬
‫قبل اإلسبلم ‪.‬‬
‫كان الرجل ٯتتنع عن معاشرة‬
‫زوجته يف الفراش أي فًتة من‬
‫الزمن يريدها ‪ ،‬وبعضهم كان‬
‫٭تلف أال يقرب زوجته زمنا ‪٤‬تددا ً‪،‬‬
‫وقبل أن ينتهي هذا الزمن ٭تلف‬
‫ٯتينا آخر ليزيد ا‪١‬تدة فًتة أخرى ‪،‬‬
‫وهكذا حىت أصبحت ا‪١‬تسألة‬
‫عملية إذالل للمرأة ‪ ،‬وإعضاال ‪٢‬تا‬
‫‪ ،‬وامتناعا عن أداء حقها يف ا‪١‬تعاشرة‬
‫الزوجية ‪ .‬وكان ذلك إهدارا ً‪ٟ‬تق‬
‫الزوجة يف االستمتاع بزوجها ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن ينهي‬
‫هذه ا‪١‬تسألة ‪ ،‬وهو سبحانه ال ينهيها‬
‫‪ٟ‬تساب طرف عىل طرف ‪ ،‬وإ‪٪‬تا‬
‫بعدل ا‪٠‬تالق ا‪ٟ‬تكيم الرحيم بعباده‬
‫‪ .‬وكان من ا‪١‬تمكن أن ‪٬‬ترمها‬
‫و٭ترمها هنائيا وٯتنع الناس منها ‪.‬‬
‫لكنه سبحانه عليم ٓتفايا وطبيعة‬
‫النفوس البشرية ‪ ،‬فقد ترى امرأة‬
‫أن تستغل إقبال الرجل عليها ‪ ،‬إما‬
‫‪ٞ‬تمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل ‪،‬‬
‫فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعىط‬
‫اهلل للرجل ا‪ٟ‬تق يف أن ٯتتنع عن‬
‫زوجته أربعة أشهر ‪ ،‬أما أكثر من‬
‫ذلك فا‪١‬ترأة ال تطيق أن ٯتتنع‬
‫ون ِمن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ؤ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫زوجها عنها ‪ { .‬ل ِ‬
‫ُص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر فَإ ِْن‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫نِ ّ َس ِآئ ِه ْم تَ َرب‬
‫يم }‬ ‫َفآءو فَإ َِن اهلل َغ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ُ ّ‬
‫واإلسبلم يريد أن يبٍت ا‪ٟ‬تياة‬
‫الزوجية عىل أساس واقعي ال عىل‬
‫أفكار ‪٣‬تنحة و‪٣‬تحفة ال تثبت أمام‬
‫الواقع ‪ ،‬فهو يعًتف با‪١‬تيول فيعليها‬
‫ولكن ال يهدمها ‪ ،‬ويعًتف بالغرائز‬
‫فبل يكتمها ولكن يضبطها ‪.‬‬
‫وهناك فرق بُت الضبط والكبت؛‬
‫فإن الكبت يًتك الفرصة للداء‬
‫ليستشري خفيا حىت يتفجر يف‬
‫نوازع النفس اإلنسانية تفجرا عىل‬
‫َت ميعاد وبدون احتياط ‪ ،‬لكن‬
‫االنضباط يعًتف بالغريزة‬
‫ويعًتف با‪١‬تيول ‪ ،‬و٭تاول فقط أن‬
‫يهديها وال يهدمها ‪ .‬وٮتضع البشر‬
‫يف كل أعما‪٢‬تم ‪٢‬تذه النظرية حىت‬
‫يف صناعتهم ‪ ،‬فالذين يصنعون‬
‫المراجل البخارية مثبل ‪٬‬تعلون يف‬
‫تلك ا‪١‬تراجل اليت ٯتكن أن يضغط‬
‫فيها الغاز ضغطا فيفجرها ‪٬‬تعلون‬
‫‪٢‬تا متنفسا حىت ٯتكن أن ٮتفف‬
‫وجد ‪ ،‬وقد‬‫الضغط الزائد إن ُ‬
‫يصممون داخلها نظاما آليا ال‬
‫يتدخل فيه العقل بل ٖتكم اْللة‬
‫نفسها ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل وضع نظاما‬
‫واضحا يف خلقه الذين خلقهم ‪،‬‬
‫وشرع ‪٢‬تم تكوين األسرة عىل‬
‫أساس سليم ‪ .‬وبٌت اإلسبلم هذا‬
‫النظام أوال عىل سبلمة العقيدة‬
‫ونصاعتها ووحدهتا حىت ال تتوزع‬
‫ا‪١‬تؤثرات يف مكونات األسرة ‪،‬‬
‫لذلك منع ا‪١‬تسلم من أن يتزوج من‬
‫مشركة ‪ ،‬وحرم عىل ا‪١‬تسلمة أن‬
‫تتزوج مشركا ‪ .‬وبعد ذلك علمنا‬
‫معٌت االلتقاء الغريزي بُت‬
‫الزوجُت ‪ .‬ولقد أراد ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل أال يطلق العنان للغريزة يف‬
‫كل زمان التواجد الزوجي ‪ ،‬فجعل‬
‫ا‪١‬تحيض فًتة ٭ترم فيها ا‪ٞ‬تماع‬
‫وقال ‪:‬‬
‫{ فاعتزلوا النسآء ِيف ا‪١‬تحيض} ػ‬
‫البقرة ‪] 222 :‬‬
‫وهكذا يضبط ا‪ٟ‬تق العبلقة ا‪ٞ‬تنسية‬
‫بُت الزوجُت ضبطا سليما نظيفا ‪.‬‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعلم أن النفس‬
‫البشرية ذات أغيار؛ ألن اإلنسان‬
‫حادث له بداية وهناية ‪ ،‬وكل ما‬
‫يكون حادثا البد أن يطرأ عليه‬
‫تغيَت ‪ .‬فإذا ما التىق الرجل با‪١‬ترأة ‪.‬‬
‫كان البد من أن يتحدد هذا اللقاء‬
‫عىل ضوء من منهج اهلل؛ ألن اللقاء‬
‫إن تم عىل منهج البشر وعواطفهم‬
‫كان ا‪١‬تصَت إىل الفشل؛ ألن مناهج‬
‫البشر متغَتة وموقوتة ‪ ،‬ولذلك‬
‫‪٬‬تب أن يكون لقاء الرجل با‪١‬ترأة‬
‫عىل ضوء معايَت اهلل ‪.‬‬
‫فاهلل يعلم أن للنفس نوازع‬
‫ومتغَتات ‪ ،‬ومن ا‪ٞ‬تائز جدا أن‬
‫٭تدث خبلف بُت الزوجُت ‪،‬‬
‫فيجعل اهلل سبحانه وتعاىل متنفسا‬
‫يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي‬
‫ينشد التهذيب واإلبقاء ‪ ،‬فشرع‬
‫للرجل إن رأى يف امرأته إذالال له‬
‫ّتما‪٢‬تا وْتسنها ‪ ،‬وقد يكون رجل‬
‫له مزاج خاص ورغبة جا‪٤‬تة يف هذه‬
‫العملية؛ لذلك شرع اهلل له فًتة‬
‫من الفًتات أن ٭تلف أال يقرب‬
‫امرأته ‪ ،‬ولم ‪٬‬تعل اهلل تلك الفًتة‬
‫مطلقة ‪ ،‬إ‪٪‬تا قيدها با‪ٟ‬تلف حىت‬
‫يكون األمر مضبوطا ‪.‬‬
‫فا‪ٟ‬تق يريد العبلج ال القسوة ‪ .‬فلو‬
‫لم يكن الرجل مضبوطا بيمُت‬
‫فقد يُغَت رأيه بأن يأيت زوجته ‪،‬‬
‫ون‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ؤ‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ذ‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫ولذلك قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ل ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر }‬ ‫ّ‬ ‫ِمن نِ ّ َس ِآئ ِه ْم تَ َرب‬
‫ُ‬
‫إن لك أيها الزوج أن ٖتلف أال‬ ‫أي ّ‬
‫تقرب زوجتك أربعة أشهر لكن‬
‫إن زادت ا‪١‬تدة عىل أربعة أشهر فهي‬
‫لن تكون تأديبا بل إضرارا ‪.‬‬
‫وا‪٠‬تالق عز وجل يريد أن يؤدب ال‬
‫أن يضر ‪ .‬فإذا ما ٕتاوزت ا‪١‬تدة‬
‫يكون الزوج متعديا وال حق له ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل هو خالق‬
‫ا‪١‬تيول والعواطف والغرائز ويقنن‬
‫‪٢‬تا التقنُت السليم ‪ .‬إنه عز وجل‬
‫يًتك لنا ما يدلنا عىل ذلك ‪ ،‬ففي‬
‫خبلفة عمر بن ا‪٠‬تطاب رضي اهلل‬
‫عنه ‪ ،‬ٯتر عمر يف جوف الليل‬
‫فيسمع امرأة تقول األبيات‬
‫ا‪١‬تشهورة ‪:‬‬
‫تطاول هذه الليل وأسود جانبه ‪...‬‬
‫وأرقٍت إال خليل أالعبه‬
‫فواهلل لوال اهلل ٗتىش عواقبه ‪...‬‬
‫لزلزل من هذا السرير جوانبه‬
‫معٌت ذلك أن ا‪١‬ترأة تعاين من‬
‫الوحشة إىل الرجل ‪ ،‬وتوشك‬
‫ا‪١‬تعاناة أن تدفعها إىل سلوك َت‬
‫قويم ‪ ،‬لكن تقوى اهلل هي اليت‬
‫٘تنعها من اال‪٨‬تراف ‪ .‬ومن ا‪ٞ‬تائز‬
‫أن نتساءل كيف ‪ٝ‬تع عمر هذه‬
‫ا‪١‬ترأة وهو يسَت يف الشارع ‪ ،‬وأقول‬
‫‪ :‬إن ا‪١‬ترأة تأيت عندها هذه‬
‫األحاسيس تًتنم يف سكون الليل ‪،‬‬
‫وعندما يسكن الليل ال تكون فيه‬
‫ضجة فيسهل ‪ٝ‬تاع ما يقال داخل‬
‫البيوت ‪ ،‬ألم يسمع عمر كبلم‬
‫ا‪١‬ترأة اليت ٕتادل ابنتها يف غش‬
‫اللنب؟‬
‫و‪١‬تا ‪ٝ‬تع الفاروق كبلم هذه ا‪١‬ترأة‬
‫اليت تعاين من وحشة إىل الرجل ‪،‬‬
‫ذهب بفطرته السليمة وأَ‪١‬تعيَّته‬
‫ا‪١‬تشرقة إىل ابنته حفصة أم‬
‫ا‪١‬تؤمنُت رضي اهلل عنها ‪ ،‬وقال ‪٢‬تا ‪:‬‬
‫كم تصْب ا‪١‬ترأة عىل بعد الرجل ‪،‬‬
‫فقالت ‪ :‬من ستة شهور إىل أربعة‬
‫أشهر ‪.‬‬
‫فسن عمر سنةً أصبحت دستورا‬
‫فيما بعد ‪ ،‬وهي أال يبعد جندي من‬
‫جنود ا‪١‬تسلمُت عن أهله أربعة‬
‫أشهر ‪ .‬إذن فقول ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫ون ِمن‬ ‫ِ‬
‫وتعاىل ‪ { :‬ل ّل َّ ِذي َن يُ ْؤل ُ َ‬
‫ُص أ َ ْربَعَ ِة أ َ ْش ُه ٍر }‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫نِ ّ َس ِآئ ِه ْم تَ َرب‬
‫سبق حادثة عمر ‪ ،‬ثم ترك ا‪ٟ‬تق‬
‫لواقع ا‪ٟ‬تياة أن يبُت لنا صدق ما‬
‫قننه لنا ‪ ،‬ويأيت عمر ليستنبط‬
‫ا‪ٟ‬تكم من واقع ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫آءو } أي فإن رجع الرجل‬ ‫{ فَإ ِْن فَ ُ‬
‫‪ ،‬وأراد أن يقًتب من زوجته قبل‬
‫مضي األربعة أشهر؛ فللرجل أن‬
‫يكفر عن ٯتينه وتنتهي ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫ولكن إذا مرت الشهور األربعة‬
‫وٕتاوزت ا‪١‬تقاطعة مدهتا يؤمر‬
‫الزوج بالرجوع عن اليمُت أو‬
‫بالطبلق ‪ ،‬فإن امتنع الزوج طلقها‬
‫ا‪ٟ‬تاكم ‪ ،‬وقال بعض الفقهاء ‪ّ :‬‬
‫إن‬
‫مضي مدة األربعة أشهر دون أن‬
‫يرجع ويفئ ‪٬‬تعلها مطلقة طلقة‬
‫واحدة بائنة ‪ .‬ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ وإِن َع َزموا ْالطبلق فَإ َِن اهلل َ ِ‬
‫‪ٝ‬تي ٌع‬ ‫ّ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫يم }‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫اّلل َ ِ‬
‫‪ٝ‬تي ٌع‬ ‫َوإ ِْن َع َز ُموا َّ‬
‫الط َبل َق فَإ َِّن َّ َ‬
‫يم (‪)227‬‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫واختلف العلماء؛ هل تطلق‬
‫الزوجة طلقة بائنة أو طلقة‬
‫رجعية؟ ومعٌت « طبلق رجعي »‬
‫مأخوذ من اللفظ نفسه ‪ ،‬أي أن‬
‫الزوج له ا‪ٟ‬تق أن يراجع امرأته‬
‫دون إذن منها أو رضا ً‪ .‬أما الطالق‬
‫البائن فإنه ال عودة إال إذا َع َقد عليها‬
‫عقدا جديدا ًٔتهر جديد ‪.‬‬
‫والطلقة يف اإليبلء بينونة صغرى‬
‫وهي اليت ٖتتاج إىل عقد ومهر‬
‫جديدين ‪ ،‬هذا إذا لم يسبق‬
‫طبلقان ‪ .‬والبينونة الكْبى وهي‬
‫اليت توصف بأهنا ذات الثبلث ‪،‬‬
‫فالزوجة فيها تطلق ثبلث مرات ‪،‬‬
‫فبل يصح أن يعيدها الزوج إال إذا‬
‫تزوجت زوجا َته ‪ ،‬وعاشت معه‬
‫حياة زوجية كاملة ‪ ،‬ثم طلقها ألي‬
‫سبب من األسباب ‪ ،‬وبعد ذلك ٭تق‬
‫لزوجها القديم أن يراجعها‬
‫ويعيدها إليه بعقد ومهر جديدين‬
‫‪ ،‬لكن بعد أن يكتوي بغَتة زواجها‬
‫من رجل آخر ‪ .‬وا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل يعرض هذه ا‪١‬تسألة فيقول ‪:‬‬
‫ون ِمن نِ ّ َس ِآئ ِه ْم‬ ‫{ ِل َّل ِذي َن يُ ْؤل ُ َ‬
‫آءو فَإ َِّن‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ِن‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ٍ‬
‫ر‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ش‬
‫ْ‬ ‫تَ َربُّص أَربَع ِة أ َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫يم * َوإ ِْن َع َز ُموا ْ‬ ‫اهلل َغ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ِ ِ‬
‫يم } ػ‬ ‫الطبلق فَإ َِّن اهلل َ‪ٝ‬تي ٌع عَل ٌ‬
‫البقرة ‪] 227-226 :‬‬
‫فاإلسبلم دين واقعي يعطي الزوج‬
‫ا‪١‬تسلم أشياء تنفس عن غضبه ‪،‬‬
‫وأشياء تمكنه من أن يؤدب زوجته ‪،‬‬
‫ولكن اإلسبلم ال ٭تب أن يتمادى‬
‫الرجل يف التأديب ‪ .‬وإذا ٘تادى‬
‫وٕتاوز األربعة األشهر نقول له ‪:‬‬
‫البد أن يوجد حد فاصل ‪.‬‬
‫وبعد ذلك ينتقل ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل يف التكليف إىل أن يتكلم عن‬
‫الطبلق وقد تكلم من قبل عن‬
‫الزواج واإليبلء حىت وصل الطبلق‬
‫‪.‬‬
‫وعندما نتأمل موقف اإلسبلم من‬
‫الطبلق ‪٧‬تده يتكلم كبلما ًواقعيا ً‬
‫يناسب ا‪١‬تيول اإلنسانية؛ ألننا ما‬
‫دمنا أغيارا ًفمن ا‪١‬تمكن أن يطرأ‬
‫عىل حياة الزوجُت أحداث أو‬
‫مشاعر لم تكن يف ا‪ٟ‬تسبان ساعة‬
‫الزواج ‪ .‬و‪٬‬توز أن يكون اإلنسان‬
‫يف ساعة الزواج مدفوعا ْترارة‬
‫ملكة واحدة ‪ ،‬وبعد ذلك عندما ‪٬‬تئ‬
‫واقع ا‪ٟ‬تياة تتملكه ملكات متعددة ‪،‬‬
‫وقد تسيطر عليه ا‪١‬تسألة ا‪ٞ‬تنسية ‪،‬‬
‫وتدفعه للزواج ‪ ،‬ويف سبيل إرضاء‬
‫شهوته ا‪ٞ‬تنسية قد يهمل بقية‬
‫ملكات نفسه ‪ ،‬فإذا ما دخل واقع‬
‫الزواج وهدأت ِش ّرة وحرارة‬
‫غرائز اإلنسان تتنبه نفس‬
‫اإلنسان إىل مقاييس أخرى يريد‬
‫أن يراها يف زوجته فبل ‪٬‬تدها‬
‫ويتساءل ما الذي أخفاها عنه؟‬
‫أخفاها سعار وعرامة النظرة‬
‫ا‪ٞ‬تنسية ‪ ،‬فقد نظر للمرأة قبل‬
‫الزواج من زاوية واحدة ‪ ،‬ولم‬
‫ينظر لبايق ا‪ٞ‬توانب ‪ .‬مثبل قد ‪٬‬تد‬
‫الزوج أن أخبلق الزوجة تتنافر مع‬
‫أخبلقه ‪ ،‬وقد ‪٬‬تد تفكَتها‬
‫وثقافتها تتنافر مع تفكَته وثقافته‬
‫‪ ،‬ورٔتا وجد عدم التوافق العاطفي‬
‫بينه وبينها ولم ٭تدث تآلف نفسي‬
‫بينهما ‪ ،‬والعواطف كما نعلم ليس‬
‫‪٢‬تا قوانُت ‪.‬‬
‫فمن ا‪ٞ‬تائز أن يكون الرجل َت‬
‫قادر عىل االكتفاء بوليمة جنسية‬
‫واحدة ‪ ،‬فهو لذلك ال يبٍت حياته‬
‫عىل طهر ‪ ،‬وإ‪٪‬تا يريد من امرأته أن‬
‫تكون طاهرة عفيفة يف حياهتا معه ‪،‬‬
‫بينما يعطي لنفسه ا‪ٟ‬ترية يف أن‬
‫يعدد والئمه ا‪ٞ‬تنسية مع أكثر من‬
‫امرأة ‪ ،‬ورٔتا ٭تدث العكس ‪،‬‬
‫أن امرأة‬
‫وذلك أن ‪٬‬تد الرجل ّ‬
‫واحدة تكفيه ‪ ،‬لكن ا‪١‬ترأة تريد‬
‫أكثر من رجل ‪.‬‬

‫وقد يكون الرجل طاهر األسلوب‬


‫يف ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وتكون زوجته راغبة يف‬
‫أن يأتيها با‪١‬تال من أي طريق ‪،‬‬
‫فيختلفان ‪ .‬وقد تكون ا‪١‬ترأة‬
‫طاهرة األسلوب يف ا‪ٟ‬تياة فبل ترىض‬
‫أن يتكسب زوجها من مال حرام ‪.‬‬
‫من هنا يأيت الشقاق ‪ ،‬إن الشقاق‬
‫يأيت عندما يريد أحد الزوجُت أن‬
‫تكون حياهتما نظيفة طاهرة ‪،‬‬
‫مستقيمة ‪ ،‬وال يرى اْلخر ذلك ‪.‬‬
‫مثل هذه الصورة موجودة يف الواقع‬
‫حولنا ‪ ،‬فكم من بيوت تشىق عندما‬
‫ٗتتفي الوحدة األسرية ‪ ،‬وٗتتلف‬
‫نظرة أحد الزوجُت لؤلمور عن‬
‫اْلخر ‪.‬‬
‫وهذا هو سبب الشقاق الذي ٭تدث‬
‫بُت الزوجُت عندما ال يكتفي أحد‬
‫الزوجُت بصاحبه ‪ .‬ولو اتفق رجل‬
‫وامرأته عىل العفاف ‪ ،‬والطهر ‪،‬‬
‫وا‪٠‬تَتية الستقامت أمور حياهتما ‪.‬‬
‫ولذلك يأيت اإلسبلم بتشريعاته‬
‫السامية لتناسب كل ظروف ا‪ٟ‬تياة‬
‫فيقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪{ :‬‬
‫وا‪١‬تطلقات ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن‬
‫ثَبلَثَةَ قرواء َوال َ َ٭ت ِ ُّل َ‪٢‬ت ُ َّن أَن ي َ ْك ُت ْم َن‬
‫َما َخل َ َق اهلل يف أ َ ْر َحا ِم ِه َّن ‪} . . .‬‬

‫ات ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن‬ ‫َوا ْ‪١‬تُ َطل َّ َق ُ‬


‫ث ََبلثَةَ ُق ُروءٍ َو َال َ٭ت ِ ُّل َ‪٢‬ت ُ َّن أ َ ْن ي َ ْك ُت ْم َن‬
‫اّلل ِيف أ َ ْر َحا ِم ِه َّن إ ِْن ُك َّن‬ ‫خل‬
‫َما َ َ َق َّ ُ‬
‫اّلل َوالْي َ ْو ِم ْاْل ِخ ِر َو ُب ُعول َ ُت ُه َّن‬
‫يُ ْؤ ِم َّن بِ َ ِ‬
‫ّ‬
‫ك إ ِْن أ َ َر ُادوا‬‫أ َ َح ُّق بِ َر ِّد ِه َّن ِيف ذَل ِ َ‬
‫إ ِْص َبل ًحا َو َ‪٢‬ت ُ َّن ِمث ْ ُل ال َّ ِذي عَلَي ْ ِه َّن‬
‫وف َولِل ّ ِر َج ِال عَلَي ْ ِه َّن دَ َر َج ٌة‬ ‫بِا ْ‪١‬تَعْر ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫يم (‪)228‬‬ ‫اّلل َعزِي ٌز َحك ٌ‬ ‫َو َّ ُ‬
‫اْلية كلها تتضمن أحكاما ًتكليفية ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تكم التكليفي األول هو ‪{ :‬‬
‫وا‪١‬تطلقات ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن‬
‫ثَبلَثَةَ قرواء } ولنا أن نلحظ أن‬
‫ا‪ٟ‬تكم لم يرد بصيغة األمر ولكن‬
‫جاء يف صيغة ا‪٠‬تْب ‪ ،‬فقال ‪{ :‬‬
‫وا‪١‬تطلقات ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن‬
‫ثَبلَثَ َة قرواء } ‪ ،‬وحُت يريد ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل حكما ًالزما ًال يأيت‬
‫له بصيغة األمر اإلنشائي ‪ ،‬ولكن‬
‫يأيت له بصيغة ا‪٠‬تْب ‪ ،‬هذا آكد‬
‫وأوثق لؤلمر كيف؟‬
‫معٌت ذلك أن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫حُت يأمر فاألمر يصادف من‬
‫ا‪١‬تؤمنُت به امتثاال ً‪ ،‬ويُطبق‬
‫االمتثال يف كل ا‪ٞ‬تزئيات حىت ال‬
‫تشذ عنه حالة من ا‪ٟ‬تاالت فصار‬
‫واقعا ُ٭تىك وليس تكليفا يُطلب ‪،‬‬
‫وما دام قد أصبح األمر واقعا ُ٭تكي‬
‫فكأن ا‪١‬تسألة أصبحت تارٮتا يُروى‬
‫هو ‪ { :‬وا‪١‬تطلقات ي َ ًَتَبَّ ْص َن‬
‫بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن ثَبلَثَ َة قرواء } ‪ .‬و‪٬‬توز‬
‫أن نأخذ اْلية عىل معٌت آخر هو أن‬
‫اهلل قد قال ‪ { :‬وا‪١‬تطلقات‬
‫ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن } فيكون كبلما ً‬
‫خْبيا ً‪.‬‬
‫وقلنا إن الكبلم ا‪٠‬تْبي ٭تتمل‬
‫الصدق والكذب ‪ ،‬إن اهلل قد قال‬
‫ذلك فمن أراد أن يصدق كبلم اهلل‬
‫فلينفذ ا‪ٟ‬تكم ‪ ،‬ومن أراد أن يبارز‬
‫اهلل بالتكذيب وال يصدقه فبل ينفذ‬
‫ا‪ٟ‬تكم ‪ ،‬ويرى يف نفسه آية عدم‬
‫التصديق وهي ا‪٠‬تسران ا‪١‬تبُت ‪،‬‬
‫أليس ذلك أكثر إلزاما من َته؟‬
‫ومثل ذلك قوله تعاىل ‪ { :‬ا‪٠‬تبيثات‬
‫ات‬‫لِل ْ َخبِيثُِت وا‪٠‬تبيثون لِل ْ َخبِيث َ ِ‬
‫َ‬
‫ُت والطيبون‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫لط‬‫ّ‬ ‫والطيبات ل ِ‬
‫ّ َ‬
‫ْبء ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون ‪٦‬تَّا ي َ ُقول ُ َ‬
‫ون‬ ‫لل ْ َّط ِيّبَات أولئك ُم َ َّ ُ َ‬
‫يم } ػ النور ‪:‬‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ق‬‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ٌ‬ ‫ر‬ ‫َ‪٢‬تم َّمغ ْ ِ‬
‫ف‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪] 26‬‬
‫إن هذا وإن كان كبلما خْبيا لكنه‬
‫تشريع إنشائي ٭تتمل أن تطيع‬
‫وأن تعصي ولكن اهلل يطلب منا أن‬
‫تكون القضية هكذا { ا‪٠‬تبيثات‬
‫ُت } يعٍت أن ربكم يريد‬ ‫ِ ِ‬
‫لل ْ َخبِيث َ‬
‫ُت }‬ ‫أن تكون { ا‪٠‬تبيثات لِل ْ َخبِيثِ‬
‫َ‬
‫وأن تكون { الطيبات ل ِ َّلط ِي ّبِ َ َُ‬
‫ُت }‬
‫وليس معٌت ذلك أن الواقع البد أن‬
‫يكون كما جاء يف اْلية ‪ ،‬إ‪٪‬تا الواقع‬
‫يكون كذلك لو نفذنا كبلم اهلل‬
‫وسيختلف إذا عصينا اهلل و٘تردنا‬
‫عىل شرعه ‪ .‬وا‪١‬تعٌت نفسه يف قوله‬
‫ان آ ِمنا ً} ػ‬
‫تعاىل ‪َ { :‬و َمن دَ َخل َ ُه ك َ َ‬
‫آل عمران ‪] 97 :‬‬
‫أي اجعلوا من يدخل البيت ا‪ٟ‬ترام‬
‫آمنا ً‪ .‬و٭تتمل أن يعصي أحد اهلل‬
‫فبل ‪٬‬تعل البيت ا‪ٟ‬ترام آمنا ً‪ .‬إذن‬
‫فقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬وا‪١‬تطلقات‬
‫ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن ثَبلَثَ َة قرواء }‬
‫هو حكم تكليفي يستحق النفاذ ‪١‬تن‬
‫يؤمن باهلل ‪ ،‬وقوله ‪ { :‬ي َ ًَتَبَّ ْص َن }‬
‫أي ينتظرن ‪ ،‬واللفظ هنا يناسب‬
‫ا‪١‬تقام ٘تاما ‪ ،‬فا‪١‬تًتبصة هي‬
‫ا‪١‬تطلقة ‪ ،‬ومعٌت مطلقة أهنا مزهود‬
‫فيها ‪ ،‬وتًتبص انتهاء عدهتا حىت‬
‫ترد اعتبارها بصبلحيتها للزواج‬
‫من زوج آخر ‪ .‬ولم ينته القول‬
‫الكريم بقوله ‪ { :‬ي َ ًَتَبَّ ْص َن }‬
‫وإ‪٪‬تا قال ‪ { :‬ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن }‬
‫مع أن ا‪١‬تًتبصة هي نفسها‬
‫ا‪١‬تطلقة؛ ذلك ألن النفس الواعية‬
‫ا‪١‬تكلفة والنفس األمارة بالسوء‬
‫تكونان يف صراع عىل الوقت وهو {‬
‫ثَبلَثَةَ قرواء } ‪ « ،‬وقروء » ‪ٚ‬تع «‬
‫قرء » وهو إما ا‪ٟ‬تيضة وإما الطهر‬
‫الذي بُت ا‪ٟ‬تيضتُت ‪ .‬وقوله ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ { :‬ثَبلَثَ َة قرواء }‬
‫وما ا‪١‬تقصود به؟‬
‫هل هو ا‪ٟ‬تيضة أو الطهر؟ إن‬
‫ا‪١‬تقصود به الطهر ‪ ،‬ألنه قال ‪« :‬‬
‫ثبلثة » بالتاء ‪ ،‬و‪٨‬تن نعرف أن التاء‬
‫تأيت مع ا‪١‬تذكر ‪ ،‬وال تأيت مع ا‪١‬تؤنث‬
‫‪ ،‬و « ا‪ٟ‬تيضة » مؤنثة و « الطهر »‬
‫مذكر ‪ ،‬إذن ‪ { ،‬ثَبلَثَ َة قرواء } هي‬
‫ثبلثة أطهار متواليات ‪.‬‬

‫والعلة هي استْباء الرحم وإعطاء‬


‫مهلة للزوجُت يف أن يراجعا‬
‫نفسيهما ‪ ،‬فرٔتا بعد الطهر األول‬
‫أو الثاين يشتاق أحد‪٫‬تا لآلخر ‪،‬‬
‫فتعود ا‪١‬تسائل ‪١‬تا كانت عليه ‪ ،‬لكن‬
‫إذا مرت ثبلثة أطهار فبل أمل وال‬
‫رجاء يف الرجوع ‪.‬‬
‫ثم يقول ا‪ٟ‬تق بعد ذلك ‪َ { :‬وال َ َ٭ت ِ ُّل‬
‫َ‪٢‬ت ُ َّن أَن ي َ ْك ُت ْم َن َما َخل َ َق اهلل يف‬
‫أ َ ْر َحا ِم ِه َّن } وما معٌت ا‪٠‬تلق؟ ا‪٠‬تلق‬
‫هو إ‪٬‬تاد شيء كان معدوما ً‪ ،‬وهذا‬
‫الشيء الذي كان معدوما إما أن‬
‫يكون ‪ٛ‬تبل ًوإما أن يكون حيضا ‪،‬‬
‫وللحامل عدة جاءت يف قوله ا‪ٟ‬تق ‪.‬‬
‫{ َوأُ ْوال َ ُت األ‪ٛ‬تال أ َ َجل ُ ُه َّن أَن‬
‫‪ٛ‬تل َ ُه َّن } ػ الطبلق ‪] 4 :‬‬ ‫ي َ َضعْ َن َ ْ‬
‫أما ا‪١‬ترأة ا‪ٟ‬تائل وهي اليت بدون‬
‫‪ٛ‬تل ‪ ،‬فعدهتا أن ٖتيض وتطهر‬
‫ثبلث مرات وهناك حالة ثالثة هي‬
‫‪ { :‬والبلئي ي َ ِئ ْس َن ِم َن ا‪١‬تحيض ِمن‬
‫نِ ّ َس ِآئ ُك ْم إ ِِن ارتبتم فَعِ َّد ُهت ُ َّن ثَبلَثَ ُة‬
‫أ َ ْش ُه ٍر والبلئي ل َ ْم َ٭ت ِ ْض َن } ػ‬
‫الطبلق ‪] 4 :‬‬
‫أي أن ا‪١‬ترأة اليت انقطعت عنها‬
‫الدورة الشهرية فعدهتا « ثبلثة‬
‫أشهر » ا‪ٟ‬تكم نفسه للصغَتة اليت‬
‫لم ٖتض بعد ‪ ،‬أي عدهتا ثبلثة أشهر‬
‫‪ .‬إذن فنظام العدة له حاالت ‪:‬‬
‫* إن كانت َت حامل فعدهتا ثبلثة‬
‫قروء أي ثبلثة أطهار إن كانت ‪٦‬تن‬
‫٭تضن‬
‫* إن كانت حامبل فعدهتا أن تضع‬
‫‪ٛ‬تلها ‪.‬‬
‫* وإن لم تكن حامبل وقد بلغت‬
‫سن اليأس ولم تعد ت يحض ‪ ،‬أو‬
‫كانت صغَتة لم تصل لسن ا‪ٟ‬تيض‬
‫‪ ،‬هذه وتلك عدهتا ثبلثة أشهر ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪َ { :‬وال َ َ٭ت ِ ُّل َ‪٢‬ت ُ َّن أَن‬
‫ي َ ْك ُت ْم َن َما َخل َ َق اهلل يف أ َ ْر َحا ِم ِه َّن }‬
‫يدل عىل أن ا‪١‬ترأة ‪٢‬تا شهادهتا‬
‫لنفسها يف األمر الذي ٮتصها وال‬
‫يطلع عليه سواها ‪ .‬وهي اليت تقرر‬
‫ا‪١‬تسألة بنفسها ‪ ،‬فتقول ‪ :‬أنا حامل‬
‫أو ال ‪ ،‬وعليها أال تكتم ذلك ‪ ،‬فقد‬
‫‪٬‬توز أن تكون حامبل وبعد ذلك‬
‫تكتم ما يف بطنها حىت ال تنتظر‬
‫طول مدة ا‪ٟ‬تمل وتتزوج رجبل ً‬
‫آخر فينسب الولد لغَت أبيه ‪،‬‬
‫فغالبا ًما يستمر ا‪ٟ‬تمل تسعة أشهر‬
‫ولكن فيه استثناء ‪ ،‬فهناك ‪ٛ‬تل‬
‫مدته سبعة شهور ‪ ،‬وأحيانا ستة‬
‫شهور ‪ .‬وقد تتزوج ا‪١‬ترأة ا‪١‬تطلقة‬
‫بعد ثبلثة شهور وتدعي أهنا حامل‬
‫من الزوج ا‪ٞ‬تديد وأن ‪ٛ‬تلها لم‬
‫يستمر سوى سبعة أشهر أو ستة‬
‫أشهر ‪.‬‬
‫وبعضنا يعرف قصة ا‪ٟ‬تامل يف ستة‬
‫شهور ‪ ،‬فقد جاءوا بامرأة لسيدنا‬
‫عثمان رضي اهلل عنه ألهنا ولدت‬
‫لستة أشهر ‪ ،‬فأراد أن يقيم عليها‬
‫حد الزىن ‪ ،‬فتدخل اإلمام علي ابن‬
‫أيب طالب وقال ‪ :‬كيف تقيم عليها‬
‫ا‪ٟ‬تد ألهنا ولدت لستة أشهر ‪ ،‬ألم‬
‫تقرأ قول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل؟ قال‬
‫عثمان ‪ :‬وماذا قال ا‪ٟ‬تق يف ذلك؟‬
‫فقرأ اإلمام علي قول اهلل ‪{ :‬‬
‫والوالدات يُ ْر ِضعْ َن أ َ ْوالَدَ ُه َّن‬
‫ُت كَا ِمل َ ْ ِ‬
‫ُت }‬ ‫َح ْول َ ْ ِ‬

‫ػ البقرة ‪] 233 :‬‬


‫أي أهنا ترضع الوليد ‪١‬تدة أربعة‬
‫وعشرين شهرا ً‪ ،‬ويف آية أخرى‬
‫‪ٛ‬تلَت ْ ُه أُ ُّم ُه ُك ْرها ً‬
‫قال ا‪ٟ‬تق ‪َ َ { :‬‬
‫‪ٛ‬تل ُ ُه َوفِ َصال ُ ُه‬
‫َو َو َضعَت ْ ُه ُك ْرها ً َو َ ْ‬
‫ُون َشهْرا ً} ػ األحقاف ‪15 :‬‬ ‫ثَبلَث َ‬
‫]‬
‫فإذا أخذنا من اْلية األوىل أربعة‬
‫وعشرين شهرا ًوهي مدة الرضاع‬
‫وطرحناها من الثبلثُت شهرا ًاليت‬
‫ٕتمع بُت ا‪ٟ‬تمل والرضاع يف اْلية‬
‫الثانية فهمنا أن ا‪ٟ‬تمل قد يكون‬
‫ستة أشهر ‪ .‬هنا قال سيدنا عثمان‬
‫متعجبا ‪ :‬واهلل ما فطنت ‪٢‬تذا ‪.‬‬
‫إذن فحمل الستة الشهور أمر‬
‫‪٦‬تكن ‪ ،‬ومن هنا نفهم ا‪ٟ‬تكمة يف‬
‫قوله تعاىل ‪َ { :‬وال َ َ٭ت ِ ُّل َ‪٢‬ت ُ َّن أَن‬
‫ك٘ت ْ َن َما َخل َ َق اهلل يف أ َ ْر َحا ِم ِه َّن }‬
‫يَ ْ ُ‬
‫‪ ،‬حىت ال تدعي ا‪١‬ترأة أهنا ليست‬
‫حامبل وتتزوج رجبل آخر وتنسب‬
‫إليه ولدا ًليس من صلبه ويًتتب‬
‫عىل ذلك أكثر من إشكال ‪ ،‬منها أال‬
‫يرث الولد من األب األول ‪ ،‬وأن‬
‫‪٤‬تارمه لم تعد ‪٤‬ترمة عليه ‪ ،‬فأخته‬
‫من أبيه لم تعد أخته ‪ ،‬وكذلك‬
‫عماته وخاالته وتنقلب ا‪١‬توازين ‪،‬‬
‫هذا من جانب األب األصلي ‪.‬‬
‫أما من جانب الزوج الثاين فالطفل‬
‫يكتسب حقوقا َت مشروعة له ‪،‬‬
‫سَتث منه ‪ ،‬وتصبح ‪٤‬تارم الرجل‬
‫الثاين ‪٤‬تارمه فيدخل عليهن ببل حق‬
‫ويرى عوراهتن ‪ ،‬وٖتدث‬
‫تداخبلت َت مشروعة ‪.‬‬
‫إذن فقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ َ٭ت ِ ُّل ل َ ُه َّن أَن‬
‫ي َ ْك ُت ْم َن َما َخل َ َق اهلل يف أ َ ْر َحا ِم ِه َّن }‬
‫هو قول يريد به ا‪ٟ‬تق أن تقوم ا‪ٟ‬تياة‬
‫عىل طهر وعىل شرف وعىل عفاف ‪،‬‬
‫وال يعتدي أحد عىل حقوق اْلخر ‪.‬‬
‫هذا بالنسبة للحمل ‪ .‬فكيف‬
‫يكون ا‪ٟ‬تال بالنسبة للحيض؟‬
‫أيضا ال ٭تل ‪٢‬تا أن تكتم حيضها‬
‫لتطيل زمن العدة مع زوجها ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬إِن ُك َّن يُ ْؤ ِم َّن باهلل‬
‫واليوم اْلخر } ‪ .‬فما عبلقة‬
‫اإلٯتان هنا با‪ٟ‬تكم الشرعي؟ إهنا‬
‫عبلقة وثيقة؛ ألن ا‪ٟ‬تمل أو ا‪ٟ‬تيض‬
‫مسائل خفيفة ال ٭تكمها قانون‬
‫ظاهر ‪ ،‬إ‪٪‬تا الذي ٭تكمها هو‬
‫عملية اإلٯتان ‪ ،‬ولذلك قيل ‪« :‬‬
‫الغيب ال ٭ترسه إال غيب » وما دام‬
‫الشيء ائبا ًفلن ٭ترسه إال الغيب‬
‫األعىل وهو اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و ُب ُعول َ ُت ُه َّن أ َ َح ُّق‬
‫ك } والبعل هو الزوج‬ ‫بِ َر ِّد ِه َّن ِيف ذَل ِ َ‬
‫‪ ،‬وهو الرب والسيد وا‪١‬تالك ‪ ،‬ويف‬
‫أثناء فًتة الًتبص يكون الزوج‬
‫أحق برد زوجته إىل عصمته ‪ ،‬وقوله‬
‫تعاىل ‪َ { :‬و ُب ُعول َ ُت ُه َّن أ َ َح ُّق بِ َر ِّد ِه َّن }‬
‫هل يعٍت ذلك أن هناك أناسا ًٯتكن‬
‫أن يشاركوا الزوج يف الرد؟ ألن‬
‫ا‪ٟ‬تق جاء بكلمة { أ َ َح ُّق } ويف‬
‫ظاهرها تعطي ا‪ٟ‬تق لغَت األزواج أن‬
‫يراجعوا؟ ال ‪ ،‬إ‪٪‬تا ا‪١‬تقصود هو أنه ال‬
‫حق ألحد هنا إال للزوج ‪ ،‬فالرد‬
‫خبلل العدة من حق الزوج ‪ ،‬فليس‬
‫للزوجة أن تقول ‪ :‬ال ‪ ،‬وليس لويل‬
‫الزوجة أن يقول ‪ :‬ال ‪ .‬فالزوج إذا‬
‫أراد مراجعة زوجته وأبت‬
‫وامتنعت هي وجب إيثار وتقديم‬
‫ر بته عىل ر بتها ‪ ،‬وكان هو أحق‬
‫منها ‪ ،‬وال ينظر إىل قو‪٢‬تا ‪ ،‬فإنه ليس‬
‫‪٢‬تا يف هذا األمر حق فقد رضيت به‬
‫أوال ً‪ .‬أما إذا انتهت العدة فالصورة‬
‫البمن الويل ‪ ،‬والبد من‬
‫ٗتتلف ‪ ،‬د‬
‫عقد ومهر جديدين واشًتاط‬
‫موافقة الزوجة ‪.‬‬

‫ك إ ِْن‬‫{ َو ُب ُعول َ ُت ُه َّن أ َ َح ُّق بِ َر ِّد ِه َّن ِيف ذَل ِ َ‬


‫أرادوا إ ِْصبلَحا ً} هذا إن أرادوا‬
‫إصبلحا ً‪ .‬واإلرادة عمل يبي ‪،‬‬
‫فكأهنا هتديد للزوجُت ‪ ،‬إن التشريع‬
‫‪٬‬تيز ‪٢‬تما العودة ‪ ،‬لكن إذا كان‬
‫ريأن يردها ليوقع بها‬
‫الزوج ي د‬
‫الضرر لسبب يف نفسه فالدين‬
‫يقول له ‪ :‬ال ‪ ،‬ليس لك ذلك ‪ .‬وإن‬
‫كان القضاء ‪٬‬تيز له ردها ‪ ،‬إال أن اهلل‬
‫٭ترم عليه ذلك الظلم ‪ .‬إن من حق‬
‫الزوج أن يرد زوجته ردا ًشرعيا ً‬
‫للعفة من اإلحصان ولغرض‬
‫الزوجية ال لشيء آخر ‪ ،‬أما َت‬
‫ذلك كاإلضرار بها واالنتقام منها‬
‫فبل ‪٬‬تيز له الدين ذلك ‪.‬‬
‫أما قضائيا ًفالقضاء يعطيه ا‪ٟ‬تق يف‬
‫ردها وال يستطيع أحد أن يقف‬
‫أمامه مهما كانت األسباب الكامنة‬
‫يف نفسه ‪ ،‬لكن عليه أن يتحمل‬
‫وزر ذلك العمل ‪ .‬ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫َو َ‪٢‬ت ُ َّن ِمث ْ ُل الذي عَلَي ْ ِه َّن با‪١‬تعروف‬
‫} أي أن للزوجة مثل ما للزوج ‪،‬‬
‫لكن ما الذي ‪٢‬تن وما الذي عليهن؟‬
‫ا‪١‬تثلية هنا يف ا‪ٞ‬تنس ‪ ،‬فكل منهما له‬
‫حق عىل اْلخر حسب طبيعته ‪،‬‬
‫الزوج يقدم للزوجة بعضا ًمن‬
‫خدمات ‪ ،‬والزوجة تقدم له‬
‫خدمات مقابلة؛ ألن ا‪ٟ‬تياة‬
‫الزوجية مبنية عىل توزيع‬
‫ا‪١‬تسئوليات ‪ ،‬إن الرجل عليه‬
‫مسئوليات تقتضيها طبيعته‬
‫كرجل ‪ ،‬وا‪١‬ترأة عليها مسئوليات‬
‫ٖتتمها طبيعتها كأنثى ‪ .‬والرجل‬
‫مطالب بالكدح والسعي من أجل‬
‫اإلنفاق ‪ .‬وا‪١‬ترأة مطالبة بأن توفر‬
‫للرجل البيت ا‪١‬تناسب ليسكن‬
‫إليها عندما يعود من مهمته يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫‪ .‬ولذلك يقول اهلل عز وجل ‪{ :‬‬
‫َو ِم ْن آيَاتِ ِه أ َ ْن َخل َ َق ل َ ُكم ِّم ْن‬
‫أ َ ُنف ِس ُك ْم أ َزْ َواجا ًلتسكنوا إِلَيْهَا‬
‫َو َجعَ َل بَيْن َ ُكم َّم َو َّدة ً َو َر ْ َ‬
‫‪ٛ‬تةًإ َِّن ِيف‬
‫ون } ػ‬ ‫ر‬ ‫ات ل ِ ّ َقو ٍم يَت َ َف َّ‬
‫ك‬ ‫ك ْلي َ ٍ‬ ‫ذَل ِ َ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫الروم ‪] 21 :‬‬
‫والسكن إىل شيء هو نقيض‬
‫التحرك ‪ ،‬ومعٌت{ لتسكنوا إِلَيْهَا‬
‫} أي إنكم تتحركون من أجل‬
‫الرزق طوال النهار ثم تعودون‬
‫للراحة عند زوجاتكم ‪ ،‬فالرجل‬
‫عليه ا‪ٟ‬تركة ‪ ،‬وا‪١‬ترأة عليها أن هتيئ‬
‫له حسن اإلقامة ‪ ،‬و‪ٚ‬تال العشرة‬
‫وحنان وعطف ا‪١‬تعاملة ‪.‬‬
‫فا‪١‬تسئوليات موزعة توزيعا ًعادال ً‪،‬‬
‫فهناك حق لك هو واجب عىل‬
‫َتك ‪ ،‬وهناك حق لغَتك وهو‬
‫واجب عليك ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬ولِل ّ ِر َج ِال عَلَي ْ ِه َّن‬
‫دَ َر َج ٌة } وهي درجة الوالية‬
‫والقوامة ‪ .‬ودرجة الوالية تعطينا‬
‫مفهوما أعم وأمشل ‪ ،‬فكل اجتماع‬
‫البد له من قَ ِي ّم ‪ ،‬والقوامة مسئولية‬
‫وليست تسلطا ً‪ ،‬والذي يأخذ‬
‫القوامة فرصة للتسلط والتحكم‬
‫فهو ٮترج بها عن غرضها؛‬
‫فاألصل يف القوامة أهنا مسئولية‬
‫لتنظيم ا‪ٟ‬تركة يف ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫وال غضاضة عىل الرجل أن يأ٘تر‬
‫بأمر ا‪١‬ترأة فيما يتعلق برسالتها‬
‫كامرأة ويف ‪٣‬تاالت خدمتها ‪ ،‬أي يف‬
‫الشئون النسائية ‪ ،‬فكما أن‬
‫للرجل ‪٣‬تاله ‪ ،‬فللمرأة ‪٣‬تا‪٢‬تا أيضا ً‪.‬‬
‫والدرجة اليت من أجلها ُرفع‬
‫الرجل هي أنه قوام أعىل يف ا‪ٟ‬تركة‬
‫الدنيوية ‪ ،‬وهذه القوامة تقتضي أن‬
‫ينفق الرجل عىل ا‪١‬ترأة تطبيقا ً‬
‫لقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و ِٔتَآ أَن ْ َف ُقوا ْ ِم ْن‬
‫أ َ ْم َو ِا‪٢‬تِ ْم } ػ النساء ‪] 34 :‬‬
‫إذن فاإلنفاق واجب الرجل‬
‫ومسئوليته ‪ ،‬وليعلم أن اهلل عزيز ال‬
‫٭تب أن يستذل رجل امرأة هي‬
‫‪٥‬تلوق هلل ‪ ،‬واهلل حكيم قادر عىل أن‬
‫يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن‬
‫درجته فوق ا‪١‬ترأة هي لبلستبداد ‪،‬‬
‫أو فهمت ا‪١‬ترأة أن وجودها مع‬
‫الرجل هي منة منها عليه ‪ ،‬فبل‬
‫استذالل يف الزواج؛ ألن الزواج‬
‫أساسه ا‪١‬تودة وا‪١‬تعرفة ‪ .‬ويقول‬
‫ا‪ٟ‬تق بعد ذلك ‪ { :‬الطبلق َم َّرتَ ِ‬
‫ان‬
‫وف أ َ ْو تَ ْسرِي ٌح‬ ‫اك ِٔتَعْ ُر ٍ‬ ‫فَإ ِْم َس ٌ‬
‫بِإ ِْح َسانٍ ‪} . . .‬‬

‫وف‬ ‫اك ِٔتَعْ ُر ٍ‬ ‫ان فَإِ ْم َس ٌ‬‫الط َبل ُق َم َّرتَ ِ‬‫َّ‬


‫أ َ ْو تَ ْسرِي ٌح بِإ ِْح َسانٍ َو َال َ٭ت ِ ُّل ل َ ُك ْم أ َ ْن‬
‫تَأ ْ ُخ ُذوا ِ‪٦‬تَّا آتَي ْ ُت ُمو ُه َّن َشيْئًا إ َِّال أ َ ْن‬
‫اّلل فَإ ِْن ِخ ْف ُت ْم‬ ‫َٮتَافَا أ َ َّال يقِيما ح ُدود َ ِ‬
‫ُ َ ُ َ ّ‬
‫اح‬
‫اّلل فَ َبل ُجن َ َ‬ ‫أ َ َّال يقِيما ح ُدود َ ِ‬
‫ُ َ ُ َ ّ‬
‫يما افْت َ َد ْت بِ ِه تِل ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ود‬
‫ك ُح ُد ُ‬ ‫عَلَي ْ ِه َما ف َ‬
‫َِ‬
‫وها َو َم ْن يَتَعَ َّد ُح ُدودَ‬ ‫اّلل فَ َبل تَعْت َ ُد َ‬ ‫ّ‬
‫ون (‪)229‬‬ ‫الظا ِ‬
‫‪١‬ت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫اّلل فَأُولَئِ‬
‫َِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هنا يتحدث ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫عن الطبلق بعد أن ٖتدث عن‬
‫ا‪١‬تطلقة يف عدهتا وكيفية ردها‬
‫ومراجعتها ‪ ،‬وإنه سبحانه يتحدث‬
‫عن الطبلق يف حد ذاته ‪ .‬والطبلق‬
‫مأخوذ من االنطبلق والتحرر ‪،‬‬
‫فكأنه حل عقدة كانت موجودة‬
‫وهي عقدة النكاح ‪ .‬وعقدة النكاح‬
‫هي العقدة اليت جعلها اهلل عقدا ً‬
‫مغلظا ًوهي ا‪١‬تيثاق الغليظ ‪ ،‬فقال‬
‫تعاىل ‪َ { :‬وأ َ َخ ْذ َن ِمن ُكم ِّميثَاقا ً‬
‫َلِيظا ً} ػ النساء ‪] 21 :‬‬
‫إنه ميثاق ليظ ألنه أباح للزوجُت‬
‫عورات اْلخر ‪ ،‬يف حُت أنه لم يقل‬
‫عن اإلٯتان إنه ميثاق ليظ ‪ ،‬قال‬
‫عنه ‪ « :‬ميثاق » فقط ‪ ،‬فكأن ميثاق‬
‫الزواج أ لظ من ميثاق اإلٯتان ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن يريب‬
‫يف الناس حل ا‪١‬تشكبلت بأيسر‬
‫الطرق ‪ .‬لذلك شرع لنا أن ‪٨‬تل‬
‫عقدة النكاح ‪ ،‬وهناية العقدة ليست‬
‫كبدايتها ‪ ،‬ليست جذرية ‪ ،‬فبداية‬
‫النكاح كانت أمرا ًجذريا ‪ ،‬أخذناه‬
‫بإ‪٬‬تاب وقبول وشهود وأنت حُت‬
‫تدخل يف األمر تدخله وأنت‬
‫دارس لتبعاته وظروفه ‪ ،‬لكن األمر‬
‫يف عملية الطبلق ٮتتلف؛ فالرجل‬
‫ال ٯتلك أغمار نفسه ‪ ،‬فرٔتا‬
‫يكون السبب فيها هينا ًأو لشيء‬
‫كان ٯتكن أن ٯتر بغَت الطبلق؛‬
‫فيشاء ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن ‪٬‬تعل‬
‫للناس أناة وروية يف حل العقدة‬
‫فقال ‪ { :‬الطبلق َم َّرتَ ِ‬
‫ان } يعٍت‬
‫مرة ومرة ‪ ،‬ولقائل أن يقول ‪ :‬كيف‬
‫يكون مرتُت ‪ ،‬و‪٨‬تن نقول ثبلثة؟‬
‫رجل رسول اهلل صىل اهلل‬ ‫وقد سأل ٌ‬
‫عليه وسلم ‪ .‬فقال يا رسول اهلل قال‬
‫ان} فلم‬ ‫اهلل تعاىل ‪ { :‬الطبلق َم َّرتَ ِ‬
‫صار ثبلثا ً؟‬
‫فقال صىل اهلل عليه وسلم مبتسما ً‪:‬‬
‫اك ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف أ َ ْو تَ ْسرِي ٌح‬ ‫{ فَإ ِْم َس ٌ‬
‫بِإ ِْح َسانٍ } ‪ .‬فكأن معٌت { الطبلق‬
‫ان } ‪ ،‬أي أن لك يف ‪٣‬تال‬ ‫َم َّرتَ ِ‬
‫اختيارك طلقتُت للمرأة ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫الثالثة ليست لك ‪١ ،‬تاذا؟ ألهنا من‬
‫بعد ذلك ستكون هناك بينونة‬
‫كْبى ولن تصبح مسألة عودهتا‬
‫إليك من حقك ‪ ،‬وإ‪٪‬تا هذه ا‪١‬ترأة‬
‫قد أصبحت من حق رجل آخر ‪. .‬‬
‫{ حىت تَن ْ ِك َح زَ ْوجا ً َ َْت َ ُه } ػ البقرة‬
‫‪] 230 :‬‬
‫أما قول الرجل لزوجته أنت «‬
‫طالق ثبلثا ً» يُعتْب ثبلث طلقات‬
‫أم ال؟ نقول ‪ :‬إن الزمن شرط‬
‫أساسي يف وقوع الطبلق ‪ ،‬يطلق‬
‫الرجل زوجته مرة ‪ ،‬ثم ٘تضي فًتة‬
‫من الزمن ‪ ،‬ويطلقها مرة أخرى‬
‫فتصبح طلقة ثانية ‪ ،‬و٘تضي أيضا‬
‫فًتة من الزمن وبعد ذلك نصل‬
‫اك ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف أ َ ْو‬ ‫لقوله ‪ { :‬فَإ ِْم َس ٌ‬
‫تَ ْسرِي ٌح بِإ ِْح َسانٍ } ولذلك فاْلية‬
‫نصها واضح وصريح يف أن الطبلق‬
‫بالثبلث يف لفظ واحد ال يوقع ثبلث‬
‫طلقات ‪ ،‬وإ‪٪‬تا هي طلقة واحدة ‪،‬‬
‫صحيح أن سيدنا عمر رضي اهلل‬
‫عنه جعلها ثبلث طلقات؛ ألن‬
‫الناس استسهلوا ا‪١‬تسألة ‪ ،‬فرأى‬
‫أن يشدد عليهم ليكفوا ‪ ،‬لكنهم‬
‫لم يكفوا ‪ ،‬وبذلك نعود ألصل‬
‫التشريع كما جاء يف القرآن وهو{‬
‫الطبلق َم َّرتَ ِ‬
‫ان } ‪.‬‬
‫وحكمة توزيع الطبلق عىل ا‪١‬ترات‬
‫الثبلث ال يف العبارة الواحدة ‪ ،‬أن‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه يعطي فرصة للًتاجع‬
‫‪ .‬وإعطاء الفرصة ال يأيت يف نفس‬
‫واحد ويف جلسة واحدة ‪.‬‬

‫إن الرجل الذي يقول لزوجته ‪:‬‬


‫أنت طالق ثبلثا ًلم يأخذ الفرصة‬
‫لَتاجع نفسه ولو اعتْبنا قولته هذه‬
‫ثبلث طلقات لتهدمت ا‪ٟ‬تياة‬
‫الزوجية بكلمة ‪ .‬ولكن عظمة‬
‫التشريع يف أن ا‪ٟ‬تق سبحانه وزع‬
‫الطبلق عىل مرات حىت يراجع‬
‫اإلنسان نفسه ‪ ،‬فرٔتا أخطأ يف‬
‫ا‪١‬ترة األوىل ‪ ،‬فيمسك يف ا‪١‬ترة‬
‫الثانية ويندم ‪ .‬وساعة ٕتد‬
‫التشريع يوزع أمرا ً‪٬‬توز أن ٭تدث‬
‫و‪٬‬توز أال ٭تدث ‪ ،‬فبل بد من وجود‬
‫فاصل زمٍت بُت كل مرة ‪ .‬وبعض‬
‫ا‪١‬تتشدقُت يريدون أن يْبروا‬
‫للناس هتجمهم عىل منهج اهلل‬
‫فيقولون ‪ :‬إن اهلل حكم بأن تعدد‬
‫الزوجات ال ٯتكن أن يتم فقال ‪:‬‬
‫{ َولَن تستطيعوا أَن تَعْ ِدلُوا ْ ي ْ َب َن‬
‫النسآء َول َ ْو َح َر ْص ُت ْم } ػ النساء ‪:‬‬
‫‪] 129‬‬
‫إن اهلل اشًتط يف التعدد‬ ‫ويقولون ‪ّ :‬‬
‫العدل ‪ ،‬ثم حكم بأننا لن نستطيع‬
‫أن نعدل بُت الزوجات مهما‬
‫حرصنا ‪ ،‬فكأنه رجع يف التشريع ‪،‬‬
‫هذا منطقهم ‪ .‬ونقول ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫أكملوا قراءة اْلية تفهموا ا‪١‬تعٌت ‪،‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬ولَن تستطيعوا‬
‫ُت النسآء َول َ ْو َح َر ْص ُت ْم‬ ‫َ ِ‬
‫أن تَعْدلُوا ْب َ ْ َ‬
‫} ثم فرع عىل النفي فقال ‪ { :‬فَبل َ‬
‫َ ِ٘تيلُوا ْكُ َّل ا‪١‬تيل } ػ النساء ‪:‬‬
‫‪] 129‬‬
‫وما دام النفي قد ُف ّ ِرع عليه فقد‬
‫انتىف ‪ ،‬فاألمر كما يقولون ‪ :‬نفي‬
‫النفي إثبات ‪ .‬أن االستطاعة ثابتة‬
‫وباقية وكان قوله تعاىل ‪ { :‬فَبل َ‬
‫َ ِ٘تيلُوا ْكُ َّل ا‪١‬تيل } إشارة إليها ‪.‬‬
‫وكذلك األمر هنا { الطبلق َم َّرتَ ِ‬
‫ان‬
‫اك ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف أ َ ْو تَ ْسرِي ٌح‬ ‫فَإ ِْم َس ٌ‬
‫بِإ ِْح َسانٍ } ‪ .‬فما دام قد قال ‪{ :‬‬
‫اك ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف أ َ ْو تَ ْسرِي ٌح‬ ‫فَإ ِْم َس ٌ‬
‫بِإ ِْح َسانٍ } وقال ‪ { :‬الطبلق‬
‫ان } أي أن لكل فعل زمنا ً‪،‬‬ ‫َم َّرتَ ِ‬
‫فذلك يتناسب مع حلقات التأديب‬
‫والتهذيب ‪ ،‬وإال فالطبلق الثبلث‬
‫بكلمة واحدة يف زمن واحد ‪ ،‬يكون‬
‫عملية قسرية واحدة ‪ ،‬وليس فيها‬
‫تأديب أو إصبلح أو هتذيب ‪ ،‬ويف‬
‫هذه ا‪١‬تسألة يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ َ٭ت ِ ُّل‬
‫ل َ ُك ْم أَن تَأ ْ ُخ ُذوا ْ ِ‪٦‬تَّآ آتَي ْ ُت ُمو ُه َّن َشيْئا ً‬
‫} ألن ا‪١‬تفروض يف الزوج أن يدفع‬
‫ا‪١‬تهر نظَت استمتاعه بالبضع ‪ ،‬فإذا‬
‫ما حدث الطبلق ال ٭تل للمطلق أن‬
‫يأخذ من مهره شيئا ً‪ ،‬لكن ا‪ٟ‬تق‬
‫استثٌت يف ا‪١‬تسألة فقال ‪ { :‬إِال َّأَن‬
‫يما ُح ُدودَ اهلل فَإ ِْن ِخ ْف ُت ْم‬ ‫َ َ ِ‬
‫َٮتَافَآ أال ّيُق َ‬
‫اح‬
‫يما ُح ُدودَ اهلل فَبل َ ُجن َ َ‬ ‫َ َ ِ‬
‫أال ّيُق َ‬
‫يما افتدت بِ ِه } ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عَلَي ْ ِه َما ف َ‬
‫فكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أراد أن‬
‫‪٬‬تعل للمرأة ‪٥‬ترجا ًإن أريد بها‬
‫الضرر وهي ال تقبل هذا الضرر ‪.‬‬
‫فيأيت ا‪ٟ‬تق ويشرع ‪ :‬وما دام قد‬
‫خافا أال يقيما حدود اهلل ‪ ،‬فقد أذن‬
‫‪٢‬تا أن افتدي نفسك أيتها ا‪١‬ترأة‬
‫بشيء من مال ‪ ،‬ويكره أن يزيد‬
‫عىل ا‪١‬تهر إال إذا كان ذلك ناشئا عن‬
‫نشوز منها و‪٥‬تالفة للزوج فبل‬
‫كراهة إذن يف الزيادة عىل ا‪١‬تهر ‪.‬‬
‫وقد جاء الواقع مطابقا ً‪١‬تا شرع اهلل‬
‫عندما وقعت حادثة « ‪ٚ‬تيلة »‬
‫أخت « عبد اهلل ابن أيب » حينما‬
‫كانت زوجة لعبد اهلل بن قيس ‪،‬‬
‫فقد ذهبت إىل رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم وقالت ‪ « :‬أنا ال أهتمه‬
‫يف دينه وال خلقه ولكن ال أحب‬
‫الكفر يف اإلسبلم » وهي تقصد أهنا‬
‫عاشت معه وهي تبغضه ‪ ،‬لذلك لن‬
‫تؤدي حقه وذلك هو كفر العشَت‬
‫أي إنكار حق الزوج وترك طاعته ‪.‬‬
‫وهي قد قالت ‪ :‬إهنا ال تتهمه ال يف‬
‫دينه وال يف خلقه لتعْب بذلك عن‬
‫معانٍ عاطفية أخرى ‪ ،‬فأراد رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم أن يعلم‬
‫منها ذلك ‪ ،‬فقالت ‪ :‬لقد رفعت‬
‫ا‪٠‬تباء فوجدته يف عدة رجال فرأيته‬
‫أشدهم سوادا ًوأقصرهم قامة‬
‫وأقبحهم وجها ً‪ ،‬فقال ‪٢‬تا صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ » « :‬أتردين حديقته‬
‫«؟ فقالت ‪ :‬وإن شاء زدته ‪ ،‬فقال‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ‪ :‬ال حاجة لنا‬
‫بالزيادة ‪ ،‬ولكن ردي عليه حديقته‬
‫»‪.‬‬
‫ويُس ىم هذا األمر با‪٠‬تلع ‪ ،‬أي أن‬
‫ٗتلع ا‪١‬ترأة نفسها من زوجها الذي‬
‫ٗتاف أال تؤدي له حقا ًمن حقوق‬
‫الزوجية ‪ ،‬إهنا ٗتلع نفسها منه ٔتال‬
‫حىت ال يصيبه ضرر ‪ ،‬فقد يريد أن‬
‫يتزوج بأخرى وهو ‪٤‬تتاج إىل ما‬
‫قدم من مهر ‪١‬تن تريد أن ٗتلع‬
‫نفسها منه ‪ .‬ويتابع ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪:‬‬
‫{ َوال َ َ٭ت ِ ُّل ل َ ُك ْم أَن تَأ ْ ُخ ُذوا ْ ِ‪٦‬تَّآ‬
‫آتَي ْ ُت ُمو ُه َّن َشيْئا ً} وهذا الشيء هو‬
‫الذي قال عنه اهلل يف مكان آخر ‪{ :‬‬
‫َوآتَي ْ ُت ْم إ ِْح َدا ُه َّن قِن ْ َطارا ً} ػ‬
‫النساء ‪] 20 :‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق اْلية بقوله ‪ { :‬إِال َّأَن‬
‫يما ُح ُدودَ اهلل }‬ ‫َ َ ِ‬
‫َٮتَافَآ أال ّيُق َ‬
‫وا‪١‬تقصود هنا ‪٫‬تا الزوجان ‪ ،‬ومن‬
‫بعد ذلك تأيت مسئولية أولياء أمر‬
‫الزوجُت وا‪١‬تجتمع الذي يهمه‬
‫أمر‪٫‬تا يف قوله ‪ { :‬فَإ ِْن ِخ ْف ُتم أَال َّ‬
‫ْ‬
‫اح عَلَي ْ ِه َما‬
‫يما ُح ُدودَ اهلل فَبل َ ُجن َ َ‬ ‫ِ‬
‫يُق َ‬
‫ود اهلل فَبل َ‬ ‫يما افتدت بِ ِه تِل ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ك ُح ُد ُ‬ ‫ف َ‬
‫وها َو َمن يَتَعَ َّد ُح ُدودَ اهلل‬
‫تَعْت َ ُد َ‬
‫فأولئك ُه ُم الظا‪١‬تون } ‪.‬‬
‫وحدود اهلل هي ما شرعه اهلل لعباده‬
‫حدا ًمانعا ًبُت ا‪ٟ‬تل وا‪ٟ‬ترمة ‪.‬‬
‫وحدود اهلل إما أن ترد بعد ا‪١‬تناهي ‪،‬‬
‫وإما أن ترد بعد األوامر ‪ ،‬فإن‬
‫وردت بعد األوامر فإنه يقول ‪{ :‬‬
‫وها} أي‬ ‫تت َ ُد َ‬
‫ود اهلل فَبل َ َ ْع‬ ‫تِل ْ َ‬
‫ك ُح ُد ُ‬
‫آخر ايتكم هنا ‪ ،‬وال تتعدوا ا‪ٟ‬تد ‪،‬‬
‫ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول‬
‫وها }‬‫ود اهلل فَبل َتَقْ َر ُب َ‬ ‫‪ { :‬تِل ْ َ‬
‫ك ُح ُد ُ‬
‫‪ ،‬ألن ا‪ٟ‬تق يريد أن ٯتنع النفس من‬
‫تأثَت ا‪١‬تحرمات عىل النفس ‪ ،‬فتلح‬
‫عليها أن تفعل ‪ ،‬فإن كنت بعيدا ً‬
‫عنها فاألفضل أن تظل بعيدا ً‪.‬‬
‫وانظر جيدا ًفيما قال رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ‪ « :‬إن ا‪ٟ‬تبلل‬
‫بُت وإن ا‪ٟ‬ترام ّ‬
‫بُت وبينهما أمور‬ ‫ّ‬
‫مشتبهات فمن اتىق الشبهات فقد‬
‫استْبأ لدينه وعرضه ومن وقع يف‬
‫الشبهات وقع يف ا‪ٟ‬ترام كالراعي‬
‫يرىع حول ا‪ٟ‬ت ىم يوشك أن يقع فيه‬
‫‪ ،‬أال وإن لكل ملك ‪ٛ‬تى ‪ ،‬أال وإن‬
‫‪ٛ‬تى اهلل يف أرضه ‪٤‬تارمه » ‪.‬‬
‫وما دامت ا‪ٟ‬تدود تشمل مناهي اهلل‬
‫وتشمل أوامر اهلل فكل شيء مأمور‬
‫به وكل شيء منهي عنه ‪٬‬تب أن‬
‫يظل يف ‪٣‬تاله من الفعل يف « افعل »‬
‫ومن النهي يف « ال تفعل » ‪ .‬وإذا‬
‫انتقل نظام ( افعل ) إىل دائرة ( ال‬
‫تفعل ) وانتقل ما يدخل يف دائرة «‬
‫ال تفعل » إىل دائرة « افعل » ‪ ،‬هنا‬
‫ٮتتل نظام الكون ‪ ،‬وما دام نظام‬
‫الكون أصابه ا‪٠‬تلل فقد حدث‬
‫الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق‬
‫إنسان وتعطيه إلنسان آخر ‪،‬‬
‫وتشريع الطبلق حد من حدود اهلل ‪،‬‬
‫فإن حاولت أن تأيت بأمر ال يناسب‬
‫ما أمر اهلل به يف تنظيم اجتماعي‬
‫فقد نقلت ا‪١‬تأمور به إىل حيز ا‪١‬تنهي‬
‫عنه ‪ ،‬وبذلك ُٖتْ ِد ُث ظلما ً‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حينما يعاًف‬
‫قضايا ا‪١‬تجتمع يعا‪ٞ‬تها عبلجا ًٯتنع‬
‫وقوع ا‪١‬تجتمع يف األمراض‬
‫واْلفات ‪ ،‬والبشر إن أحسنا الظن‬
‫بهم يف أهنم يشرعون للخَت‬
‫وللمصلحة ‪ ،‬فهم يشرعون عىل‬
‫قدر علمهم باألشياء ‪ ،‬لكننا ال‬
‫نأمن أن ‪٬‬تهلوا شيئا ً٭تدث وال‬
‫يعرفوه ‪ ،‬فهم ش ّرعوا ِ‪١‬تَا عرفوا ‪،‬‬
‫وإذا شرعوا ‪١‬تا عرفوا وفوجئوا‬
‫بأشياء لم يعرفوها ماذا يكون‬
‫ا‪١‬توقف؟ إن كانوا ‪٥‬تلصُت ْتق‬
‫داسوا عىل كْبياء غرورهم‬
‫التشريعي وقالوا ‪ :‬نُعَ ِ ّدل ما شرعنا ‪،‬‬
‫وإن ظلوا يف لوائهم فمن الذي‬
‫يشىق؟ إن ا‪١‬تجتمع هو الذي يشىق‬
‫بعنادهم ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ال يتهم الناس‬
‫‪ٚ‬تيعا ًيف أن منهم من ال يريد ا‪٠‬تَت ‪،‬‬
‫ولكن هناك فرق بُت أن تريد خَتا ً‬
‫وأال تقدر عىل ا‪٠‬تَت ‪ .‬أنت شرعت‬
‫عىل قدر قدرتك وعلمك ‪ .‬ونعرف‬
‫‪ٚ‬تيعا ًأن شقاء التجارب يف‬
‫القوانُت االجتماعية النظرية تقع‬
‫عىل ا‪١‬تجتمع ‪.‬‬
‫ونعرف جيدا ًأن ه ناك فرقا ًبُت‬
‫العلم التجريبي ا‪١‬تعملي والكبلم‬
‫النظري األهوائي؛ فالعلم‬
‫التجريبي يشىق به صاحب‬
‫التجربة ‪ ،‬إن العَالِم يكد ويتعب يف‬
‫معمله وهو الذي يشىق ويضحي‬
‫بوقته ؤتاله وبصحته ويعيش يف‬
‫ذهول عن كل شيء إال ٕتربته اليت‬
‫هو بصددها ‪ ،‬فإذا ما انتىه إىل قضية‬
‫اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه‬
‫هو ا‪١‬تجتمع ‪ .‬لكن األمر ٮتتلف يف‬
‫األشياء النظرية؛ ألن الذي يشىق‬
‫بأخطاء ا‪١‬تقننُت من البشر هو‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬إىل أن ‪٬‬تيء مقنن يعطف‬
‫عىل ا‪١‬تجتمع ويعدل خطأ من سبقه ‪.‬‬
‫أما ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل فقد جاءنا‬
‫بتشريع ٭تمي البشر من الشقاء ‪،‬‬
‫فاهلل سبحانه يًتك انيف العالم‬
‫ا‪١‬تادي التجريبي أحرارا ً‪ .‬ادخلوا‬
‫ا‪١‬تعمل وستنتهون إىل أشياء قد‬
‫تتفقون عليها ‪ ،‬لكن إياكم‬
‫واختبلفات األهواء؛ لذلك توىل‬
‫اهلل عز وجل تشريع ما ٗتتلف فيه‬
‫األهواء ‪ ،‬حىت يضمن أن ا‪١‬تجتمع ال‬
‫يشىق با‪٠‬تطأ من ا‪١‬تشرعُت ‪ ،‬لفًتة‬
‫من الزمن إىل أن ‪٬‬تيء مشرع آخر‬
‫ويعدل للناس ما أخطأ فيه َته ‪.‬‬
‫لذلك ‪٧‬تد يف عا‪١‬تنا ا‪١‬تعاصر الكثَت‬
‫من القضايا النابعة من ا‪٢‬توى ‪،‬‬
‫ويتمسك الناس فيها بأهوائهم ‪،‬‬
‫ثم تضغط عليهم األحداث ضغطا‬
‫ال يستطيعون بعدها أن يضعوا‬
‫رءوسهم يف الرمال ‪ ،‬بل البد أن‬
‫يواجهوها ‪ ،‬فإذا ما واجهوها فإهنم‬
‫ال ‪٬‬تدون حبل ً‪٢‬تا إال ٔتا شرعه‬
‫اإلسبلم ‪ ،‬و‪٧‬تد أهنم التقوا مع‬
‫تشريعات اإلسبلم ‪.‬‬
‫إن بعضا ًمن الكارهُت لئلسبلم‬
‫يقولون ‪ :‬أنتم تقولون عن دينكم ‪:‬‬
‫إنه جاء ليظهر عىل كل األديان ‪ ،‬مرة‬
‫يقول القرآن ‪:‬‬

‫{ ُه َو الذي أ َ ْر َس َل َر ُسول َ ُه با‪٢‬تدى‬


‫َودِي ِن ا‪ٟ‬تق لِي ُ ْظ ِه َر ُه عَىلَ الدين كُلِ ّ ِه‬
‫وكىف باهلل َش ِهيدا ً} ػ الفتح ‪] 28 :‬‬
‫ون‬
‫يد َ‬ ‫ومرة يقول القرآن ‪ { :‬يُ ِر ُ‬
‫ور اهلل بِأَفْ َوا ِه ِه ْم واهلل‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫و‬‫ئ‬
‫ُ‬ ‫لِي ْط ِ‬
‫ف‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ُمتِ ُّم نُو ِر ِه َول َ ْو كَ ِر َه الكافرون * ُه َو‬
‫الذي أ َ ْر َس َل َر ُسول َ ُه با‪٢‬تدى َودِي ِن‬
‫ا‪ٟ‬تق لِي ُ ْظ ِه َر ُه عَىلَ الدين كُلِ ّ ِه َول َ ْو كَ ِر َه‬
‫المركون } ػ الصف ‪] 9-8 :‬‬ ‫ش‬
‫ويستمر هؤالء الكارهون لئلسبلم‬
‫يف قو‪٢‬تم ويضيفون ‪ :‬إن إسبلمكم‬
‫ليظهر عىل الدين كله حىت اْلن‬
‫بدليل أن هناك ا‪١‬تبليُت لم‬
‫يدخلوا اإلسبلم؟ ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬أو‬
‫يظهر عىل الدين كله بأن يؤمن‬
‫الناس باإلسبلم ‪ٚ‬تيعا ً‪ ،‬ال ‪ ،‬لو فطنوا‬
‫عىل قول اهلل ‪َ { :‬ول َ ْو كَ ِر َه الكافرون‬
‫} لعلموا أن إظهار اإلسبلم عىل‬
‫الدين البد أن يبلزمه وجود‬
‫كافرين كارهُت ‪ ،‬وما دام اإلسبلم‬
‫موجودا ًمع كافرين كارهُت ‪ ،‬فهو لن‬
‫يظهر كدين ‪ ،‬ولكنه يظهر عليهم‬
‫أي يغلبهم كنظام يضطرون إليه‬
‫ليحلوا مشكبلت ‪٣‬تتمعاهتم الكافرة‬
‫‪ ،‬فسيأخذون من أنظمة وقوانُت‬
‫اإلسبلم وهم كارهون ‪ ،‬ولذلك‬
‫‪٧‬تدهم يستقون قوانينهم‬
‫وإصبلحاهتم االجتماعية من‬
‫تعاليم اإلسبلم ‪.‬‬
‫ولو كانوا سيأخذونه كدين ‪١‬تا قال‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬ول َ ْو كَ ِر َه الكافرون } أو {‬
‫َول َ ْو كَ ِر َه ا‪١‬تشركون } ألهنم عندما‬
‫يعتنقونه كدين فلن يبىق كاره أو‬
‫مشرك ‪ .‬لكن حُت يقول سبحانه ‪:‬‬
‫{ َول َ ْو َك ِر َه الكافرون } و { َول َ ْو َك ِر َه‬
‫ا‪١‬تشركون } فذلك يعٍت ‪ :‬أن‬
‫اطمئنوا يا من آمنتم ٔتحمد صىل‬
‫اهلل عليه وسلم وأخذتم اإلسبلم‬
‫دينا ً‪ ،‬إن ٕتارب ا‪ٟ‬تياة ستأيت لتثبت‬
‫لدى ا‪ٞ‬تاحدين صدق دينكم ‪،‬‬
‫وصدق اهلل يف تقنينه لكم ‪،‬‬
‫وسيضطر الكافرون وا‪١‬تشركون إىل‬
‫كثَت من قضايا إسبلمكم‬
‫ليأخذوها كنظام ٭تلون بها‬
‫مشاكلهم رغم عنادهم‬
‫وإصرارهم عىل أن يكونوا ضد‬
‫اإلسبلم ‪.‬‬
‫وضربنا عىل ذلك مثبل ًٔتا حدث يف‬
‫إيطاليا اليت بها الفاتيكان قبلة‬
‫الكاثوليك الروحية؛ فقد اضطروا‬
‫ألن يشرعوا قوانُت تبيح الطبلق ‪،‬‬
‫وحدث مثل ذلك يف أسبانيا و َته ا‬
‫من الدول ‪ .‬انظر كيف تراجعوا يف‬
‫مبادئ كانوا يعيبوهنا عىل اإلسبلم!‬
‫لقد اضطرهتم ظروف ا‪ٟ‬تياة ألن‬
‫يقننوا إباحة الطبلق تقنينا ًبشريا ً‬
‫ال بتقنُت إ‪٢‬تي ‪ .‬ومثل هذه‬
‫األحداث تبُت لنا مدى ثقتنا يف‬
‫ديننا ‪ ،‬وأن مشكبلت البشرية يف‬
‫ببلد الكفر والشرك لن ٭تلها إال‬
‫اإلسبلم ‪ ،‬فإن لم يأخذوه كدين‬
‫فسيضطرون إىل أخذه كنظام ‪.‬‬
‫ومن شرف اإلسبلم أال يأخذوه‬
‫كدين؛ ألهنم لو آمنوا به لكانت‬
‫أفعا‪٢‬تم وقوانينهم تطبيقا لئلسبلم‬
‫من قوم مسلمُت ‪ ،‬ولكن أن يظلوا‬
‫كارهُت لئلسبلم ثم يأخذوا من‬
‫مبادئ الدين الذي يكرهونه ما‬
‫يصلح ‪٣‬تتمعاهتم الفاسدة فذلك‬
‫الفخر األكْب لئلسبلم ‪ .‬إن هذا هو‬
‫مفهوم قول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬ول َ ْو كَ ِر َه‬
‫الكافرون } و { َول َ ْو َك ِر َه‬
‫ا‪١‬تشركون } وإذا ما جاء لك أحد‬
‫يف هذه ا‪١‬تسألة فقل ‪ :‬من شرف‬
‫اإلسبلم أن يظل يف الدنيا مشرك ‪،‬‬
‫وأن يظل يف الدنيا هؤالء الكفار ثم‬
‫يرغموا ليحلوا مسائل ‪٣‬تتمعاهتم‬
‫بقضايا اإلسبلم ‪ ،‬واإلسبلم يفخر‬
‫بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرنا ً‬
‫إىل ما يلهثون وراءه اْلن بعد مضي‬
‫كل هذا الزمن ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق بعد‬
‫ذلك ‪ { :‬فَإ ِْن َطلَّقَهَا فَبل َ َ ِٖت ُّل ل َ ُه ِمن‬
‫بَعْ ُد حىت تَن ْ ِك َح زَ ْوجا ً َ َْت َ ُه ‪} . . .‬‬

‫فَإ ِْن َطل َّ َقهَا فَ َبل َ ِٖت ُّل ل َ ُه ِم ْن بَعْ ُد َح َّىت‬


‫تَن ْ ِك َح زَ ْو ًجا َ َْت َ ُه فَإ ِْن َطلَّقَهَا فَ َبل‬
‫اجعَا إ ِْن َظنَّا أ َ ْن‬ ‫َ‬
‫اح عَلَي ْ ِه َما أ ْن ي َ ًَت َ َ‬ ‫ُجن َ َ‬
‫ك ح ُدود َ ِ‬
‫اّلل‬ ‫يقِيما ح ُدود َ ِ ِ‬
‫اّلل َوتل ْ َ ُ ُ ّ‬
‫ُ َ ُ َ ّ‬
‫ون (‪)230‬‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ٍ‬
‫م‬ ‫و‬‫ق‬
‫َ‬ ‫يب ِينها ل ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َُّ َ ْ‬
‫وسبق أن قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬الطبلق‬
‫اك‬
‫ان } وبعدها قال ‪ { :‬فَإ ِْم َس ٌ‬ ‫َم َّرتَ ِ‬
‫ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف أ َ ْو تَ ْسرِي ٌح بِإ ِْح َسانٍ } ‪.‬‬
‫وهنا يتحدث ا‪ٟ‬تق عن التسريح‬
‫بقوله ‪ { :‬فَإ ِْن َطل َّ َقهَا فَبل َ َ ِٖت ُّل ل َ ُه ِمن‬
‫بَعْ ُد حىت تَن ْ ِك َح زَ ْوجا ً َ َْت َ ُه } ‪ .‬وذلك‬
‫حىت يبُت لنا أنه إن وصلت األمور‬
‫بُت الزوجُت إىل مرحلة البل عودة‬
‫فبلبد من درس قاس؛ فبل ٯتكن أن‬
‫يرجع كل منهما لآلخر بسهولة ‪.‬‬
‫لقد أمهلهما اهلل بتشريع البينونة‬
‫الصغرى اليت يعقبها مهر وعقد‬
‫جديدان فلم يرتدعا ‪ ،‬فكان البد‬
‫من البينونة الكْبى ‪ ،‬وهي أن‬
‫تتزوج ا‪١‬ترأة بزوج آخر وٕترب‬
‫حياة زوجية أخرى ‪ .‬وبذلك يكون‬
‫الدرس قاسيا ً‪.‬‬
‫وقد يأخذ بعض الرجال ا‪١‬تسألة‬
‫بصورة شكلية ‪ ،‬فيتزوج ا‪١‬ترأة‬
‫ا‪١‬تطلقة ثبلثا ًزواجا ًكامل الشروط‬
‫من عقد وشهود ومهر ‪ ،‬لكن ال‬
‫يًتتب عىل الزواج معاشرة جنسية‬
‫بينهما ‪ ،‬وذلك هو « ا‪١‬تحلل »‬
‫الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره‬
‫اإلسبلم ‪.‬‬
‫فمن تزوج عىل أنه ‪٤‬تلل ومن‬
‫وافقت عىل ذلك ا‪١‬تحلل فليعلما أن‬
‫ذلك حرام عىل االثنُت ‪ ،‬فليس يف‬
‫اإلسبلم ‪٤‬تلل ‪ ،‬ومن يدخل بنية‬
‫ا‪١‬تحلل ال ٕتوز له الزوجة ‪ ،‬وليس‬
‫له حقوق عليها ‪ ،‬ويف الوقت نفسه لو‬
‫طلقها ذلك الرجل ال ‪٬‬توز ‪٢‬تا‬
‫الرجوع لزوجها السابق ‪ ،‬ألن‬
‫ا‪١‬تحلل لم يكن زوجا ًوإ‪٪‬تا ٘تثيل‬
‫زوج ‪ ،‬والتمثيل ال يُثبت يف الواقع‬
‫شيئا ً‪ .‬ولذلك قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَبل َ َ ِٖت ُّل‬
‫ل َ ُه ِمن بَعْ ُد حىت تَن ْ ِك َح زَ ْوجا ً َ َْت َ ُه } ‪.‬‬
‫وا‪١‬تقصود هنا النكاح الطبيعي الذي‬
‫ساقت إليه الظروف دون افتعال‬
‫وال قصد للتحليل ‪ .‬وعندما يطلقها‬
‫ذلك الرجل لظروف خارجة عن‬
‫اإلرادة وهي استحالة العشرة ‪،‬‬
‫وليس ألسباب متفق عليها ‪ ،‬عندئذ‬
‫ٯتكن للزوج السابق أن يتزوج‬
‫ا‪١‬ترأة اليت كانت يف عصمته وطلقها‬
‫من قبل ثبلث مرات ‪ { .‬فَإِن‬
‫َ‬ ‫َطل َّ َقهَا فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ِه َمآ أن ي َ ًَت َ َ‬
‫اجعَآ‬
‫يما ُح ُدودَ اهلل َوتِل ْ َ‬
‫ك‬ ‫َ ِ‬
‫إِن َظنَّآ أن يُق َ‬
‫ون }‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ي‬ ‫ٍ‬
‫م‬ ‫و‬‫ق‬
‫َ‬ ‫حدود اهلل يب ِينها ل ِ‬
‫َ‬
‫ُ ُ ُ ُ َُّ َ ْ ْ ُ َ‬
‫أي أن يغلب عىل الظن أن ا‪١‬تسائل‬
‫اليت كانت مثار خبلف فيما مىض‬
‫قد انتهت ووصل االثنان إىل درجة‬
‫من التعقل واالحًتام ا‪١‬تتبادل ‪،‬‬
‫وأخذا درسا ًمن التجربة ٕتعل كبل‬
‫منهما يرىض بصاحبه ‪ .‬وبعد ذلك‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وإِذَا َطل َّ ْق ُت ُم النسآء‬
‫فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن‬
‫ِٔتَعْ ُرو ٍف ‪} . . .‬‬
‫َوإِذَا َطل َّ ْق ُت ُم ال ِن ّ َساءَ فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن‬
‫وف أ َ ْو َس ّر ُِحو ُه َّن‬ ‫فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف َو َال ُ٘ت ْ ِس ُكو ُه َّن ِض َر ًارا‬ ‫ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫ك فَقَ ْد َظل َ َم‬ ‫لِتَعْت َ ُدوا َو َم ْن ي َ ْفعَ ْل ذَل ِ َ‬
‫ات َ ِ‬
‫اّلل ُه ُز ًوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن َ ْف َس ُه َو َال تَتَّخ ُذوا آي َ ّ‬
‫اّلل عَلَي ْ ُك ْم َو َما‬‫واذْ ُكروا نِعْم َت َ ِ‬
‫َ ّ‬ ‫َ ُ‬
‫اب َوا ِْ‪ٟ‬ت ْك َم ِة‬ ‫أَن ْ َز َل عَلَي ْ ُك ْم ِم َن ال ْ ِكت َ ِ‬
‫اّللَ َواعْل َ ُموا أ َ َّن‬
‫يَعِ ُظ ُك ْم بِ ِه َواتَّ ُقوا َّ‬
‫يم (‪)231‬‬ ‫اّلل بِ ُك ّ ِل َشيءٍ عَلِ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ‬
‫ولنبلحظ قوله ‪َ { :‬وإِذَا َطلَّقْ ُت ُم‬
‫النسآء فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن } ونسأل ‪:‬‬
‫هل إذا بلغت األجل وانتهت العدة‬
‫‪ ،‬هل يوجد بعدها إمساك‬
‫ٔتعروف أو تسريح بإحسان؟ ‪،‬‬
‫هل يوجد إال التسريح؟ ‪ .‬إن هناك‬
‫آية بعد ذلك تقول ‪َ { :‬وإِذَا َطل َّ ْق ُت ُم‬
‫النسآء فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن فَبل َتَعْ ُضلُو ُه َّن‬
‫أَن يَن ِك ْح َن أَزْ َوا َج ُه َّن إِذَا تَ َرا َض ْوا ْ‬
‫بَيْن َ ُه ْم با‪١‬تعروف } ػ البقرة ‪:‬‬
‫‪] 232‬‬
‫إذن ‪٨‬تن أمام آيتُت كل منهما تبدأ‬
‫بقوله ‪َ { :‬وإِذَا َطلَّقْ ُت ُم النسآء فَبَلَغ ْ َن‬
‫أ َ َجل َ ُه َّن } ‪ .‬لكن تكملة اْلية‬
‫وف‬‫األوىل هو ‪ { :‬فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫وف } وتكملة‬ ‫أَو َس ّر ُِحو ُه َّن ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫ْ‬
‫اْلية الثانية هو ‪ { :‬فَبل َتَعْ ُضلُو ُه َّن‬
‫أَن يَن ِك ْح َن أَزْ َوا َج ُه َّن } ‪ .‬ما سر‬
‫هذا االختبلف إذن؟‬
‫نقول ‪ :‬إن البلوغ يأيت ٔتعنيُت ‪،‬‬
‫ا‪١‬تعٌت األول ‪ :‬أن يأيت البلوغ ٔتعٌت‬
‫ا‪١‬تقاربة مثل قوله تعاىل ‪ { :‬إِذَا‬
‫ُق ْم ُت ْم إ َِىل الصبلة فاغسلوا‬
‫وه ُك ْم } ‪ .‬أي عندما تقارب‬ ‫ُو ُج َ‬
‫القيام إىل الصالة فافعل ذلك ‪.‬‬
‫وا‪١‬تعٌت الثاين ‪ :‬يطلق البلوغ عىل‬
‫الوصول ا‪ٟ‬تقيقي والفعلي ‪ .‬إن‬
‫اإلنسان عندما يكون مسافرا‬
‫بالطائرة ويهبط يف بلد الوصول فهو‬
‫يبلحظ أن الطيار يعلن أنه قد‬
‫وصل إىل البلد الفبلين ‪ .‬إذن مرة‬
‫يطلق البلوغ عىل القرب ومرة‬
‫أخرى يطلق عىل البلوغ ا‪ٟ‬تقيقي ‪.‬‬
‫ويف اْلية األوىل { َوإِذَا َطلَّقْ ُت ُم‬
‫النسآء فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن فَأ َ ْم ِس ُكو ُه َّن‬
‫وف }‬ ‫وف أَو َس ّر ُِحو ُه َّن ِٔتَعْ ُر ٍ‬ ‫ِٔتَعْ ُر ٍ‬
‫ْ‬
‫هنا طلق الرجل زوجته لكن عدهتا‬
‫لم تنته بل قاربت عىل االنتهاء‬
‫فرٔتا ٯتكنه أن يسرحها أو‬
‫ٯتسكها بإحسان ‪ ،‬وأصبح للزوج‬
‫قدر من زمن العدة يبيح له أن‬
‫ٯتسك أو يسرح ‪ ،‬لكنه زمن قليل‬
‫‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق يريد أن يتمسك الزوج‬
‫باإلبقاء إىل آخر ‪ٟ‬تظة ويستبقي‬
‫أسباب االلتقاء وعدم االنفصال‬
‫حىت آخر ‪ٟ‬تظة ‪ ،‬وهذه علة التعبَت‬
‫بقوله ‪ { :‬فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن } أي‬
‫قاربن بلوغ األجل ‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق‬
‫يريدنا أن نتمسك باستبقاء اٌفياة‬
‫الزوجية إىل آخر فرصة تتسع‬
‫لئلمساك ‪ ،‬فهي ‪ٟ‬تظة قد ينطق فيها‬
‫الرجل بكلمة يًتتب عليها إما‬
‫طبلق ‪ ،‬وإما عودة ا‪ٟ‬تياة الزوجية ‪.‬‬
‫أما اْلية الثانية وهي قوله تعاىل ‪{ :‬‬
‫َوإِذَا َطلَّقْ ُت ُم النسآء فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن‬
‫ِ‬
‫فَبل َتَعْ ُضلُو ُه َّن أَن يَنك ْح َن أَزْ َو َ‬
‫اج ُه َّن‬
‫} فاهلل سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫٭تصر مناقشة األسباب يف‬
‫االنفصال أو االستمرار بُت الزوج‬
‫والزوجة فقط فبل تتعدى إىل َت‬
‫الزوج والزوجة؛ ألن بُت االثنُت‬
‫من األسباب ما قد ٕتعل الواحد‬
‫منهما يُلُت جانبه لآلخر ‪.‬‬
‫لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست‬
‫عنده هذه فسوف تكْب يف نفسه‬
‫ا‪٠‬تصومة وال توجد عنده ا‪ٟ‬تاجة فبل‬
‫يبىق عىل عشرة الزوجُت ‪ .‬فإذا ما‬
‫دخل األب أو األخ أو األم يف الزناع‬
‫فسوف تشتعل ا‪٠‬تصومة ‪ ،‬وكل‬
‫منهم ال يشعر بإحساس كل من‬
‫الزوجُت لآلخر ‪ ،‬وال بليونة الزوج‬
‫لزوجته ‪ ،‬وال ٔتهادنة الزوجة‬
‫لزوجها ‪ ،‬فهذه مسائل عاطفية‬
‫ونفسية ال توجد إال بُت الزوج‬
‫والزوجة ‪ ،‬أما األطراف ا‪٠‬تارجية‬
‫فبل يربطها بالزوج وال بالزوجة إال‬
‫صلة القرابة ‪ .‬ومن هنا فإن حرص‬
‫تلك األطراف ا‪٠‬تارجية عىل بقاء‬
‫عشرة الزوجُت ال يكون مثل‬
‫حرص كل من الزوجُت عىل‬
‫التمسك باْلخر ‪.‬‬
‫ولذلك ‪٬‬تب أن نفهم أن كل‬
‫مشكلة ٖتدث بُت زوج وزوجته وال‬
‫يتدخل فيها أحد تنتهي بسرعة‬
‫بدون أم أو أب أو أخ ‪ ،‬ذلك ألنه‬
‫رف خارجي ال يكون‬‫تدخل ط ٍ‬
‫مالكا للدوافع العاطفية والنفسية‬
‫اليت بُت الزوجُت ‪ ،‬أما الزوجان‬
‫فقد تكفي نظرة واحدة من‬
‫أحد‪٫‬تا لآلخر ألن تعيد األمور إىل‬
‫‪٣‬تاريها ‪ .‬فقد يُعجب الرجل‬
‫ّتمال ا‪١‬ترأة ويشتاق إليها ‪ ،‬فينَس‬
‫كل شيء ‪ .‬وقد ترى ا‪١‬ترأة يف‬
‫الرجل أمرا ًال ٖتب أن تفقده منه‬
‫فتنَس ما حدث بينهما ‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫لكن أين ذلك من أمها وأمه ‪ ،‬أو‬
‫أبيها وأبيه؟ ليس بُت هؤالء وبُت‬
‫الزوجُت أسرار وعواطف‬
‫ومعاشرة و َت ذلك ‪.‬‬
‫و‪٢‬تذا فأنا أنصح دائما بأن يظل‬
‫ا‪٠‬تبلف ‪٤‬تصورا ًبُت الزوج‬
‫والزوجة؛ ألن اهلل قد جعل بينهما‬
‫سياال عاطفيا ‪ .‬والسيال العاطفي‬
‫قد يسيل إىل نزوع ورغبة يف شيء‬
‫ما ‪ ،‬ورٔتا تكون هذه الرغبة هي‬
‫اليت تصلح وٕتعل كبل من الطرفُت‬
‫يتنازل عن ا‪٠‬تصومة والطبلق ‪.‬‬
‫ولذلك شاءت إرادة اهلل عز وجل‬
‫أال يطلق الرجل زوجته وهي‬
‫حائض ‪١ ،‬تاذا؟‬
‫ألن المرأة يف فًتة ا‪ٟ‬تيض ال يكون‬
‫لزوجها رغبة فيها ‪ ،‬ورٔتا ينفر منها‬
‫‪ ،‬لكن يريد ا‪ٟ‬تق عز وجل أال يطلق‬
‫الرجل زوجته إال يف طهر لم يسبق‬
‫له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج‬
‫زوجته وبعد أن تغتسل من ا‪ٟ‬تيض‬
‫‪ ،‬وذلك حىت ال يطلقها إال وهو يف‬
‫أشد األوقات رغبة ‪٢‬تا ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫تكون ا‪٠‬تبلفات بُت الزوج‬
‫والزوجة يف إطار ا‪ٟ‬تياة الزوجية ‪،‬‬
‫حىت ٭تفظهما سياج ا‪١‬تحبة وا‪١‬تودة‬
‫والر‪ٛ‬تة ‪ .‬لكن تدخل األطراف‬
‫األخرى ٭تطم هذا السياج ‪ ،‬أيا ً‬
‫كان الطرف أما أو أبا أو أخا ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ ُ٘ت ْ ِس ُكو ُه َّن‬
‫ِض َرارا ًل ِ ّتَعْت َ ُدوا ْ} أي ال تبق أيها‬
‫الرجل عىل ا‪ٟ‬تياة الزوجية من أجل‬
‫اإلضرار با‪١‬ترأة وإذال‪٢‬تا ‪ ،‬ومعٌت‬
‫الضرار أنك تصنع شيئا يف ظاهره‬
‫أنك تريد ا‪٠‬تَت ويف الباطن تريد‬
‫الشر ‪ .‬ولذلك أطلق اللفظ عىل «‬
‫مسجد الضرار » فظاهر بنائه أنه‬
‫مسجد بٍت للصبلة فيه ‪ ،‬ويف الباطن‬
‫كان ا‪٢‬تدف منه هو الكفر والتفريق‬
‫بُت ا‪١‬تؤمنُت ‪ .‬وكذلك الضرار يف‬
‫الزواج؛ يقول الرجل أنا ال أريد‬
‫طبلقها وسأعيدها لبيتها ‪ ،‬يقول‬
‫ذلك ويُبيت يف نفسه أن يعيدها‬
‫ليذ‪٢‬تا وينتقم منها ‪ ،‬وذلك ال يقره‬
‫اإلسبلم؛ بل وينىه عنه ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق عز وجل ٭تذر من مثل هذا‬
‫السلوك فيقول ‪َ { :‬وال َ ُ٘ت ْ ِس ُكو ُه َّن‬
‫ك‬‫ضرارا ًل ِ ّتَعْت َ ُدوا ْ َو َمن ي َ ْفعَ ْل ذَل ِ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فَ َق ْد َظل َ َم ن َ ْف َس ُه } فإياك أن تظن‬
‫أنك حُت تعتدي عىل زوجتك بعد‬
‫أن تراجعها أنك ظلمتها هي ‪ ،‬ال ‪،‬‬
‫إ‪٪‬تا أنت تظلم نفسك؛ ألنك‬
‫حُت تعتدي عىل إنسان فقد جعلت‬
‫ربه يف جانبه ‪ ،‬فإن دعا عليك قِبل‬
‫اهلل دعوته ‪ ،‬وبذلك ٖترم نفسك‬
‫من رضا اهلل عنك ‪ ،‬فهل هناك‬
‫ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك‬
‫بسخط اهلل عليك ‪.‬‬

‫ويتابع ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬و َمن‬


‫ي َ ْفعَ ْل ذَل ِ َ‬
‫ك فَقَ ْد َظل َ َم ن َ ْف َس ُه َوال َ‬
‫ات اهلل ُه ُزوا ً} أي خذوا‬ ‫تتخذوا آي َ ِ‬
‫نظام اهلل عىل أنه نظام جاء ليحكم‬
‫حركة ا‪ٟ‬تياة حكما ببل مراوغة‬
‫وببل ٖتليق يف خيال كاذب ‪ ،‬إ‪٪‬تا هو‬
‫أمر واقعي ‪ ،‬فبل يصح أن يهزأ أحد‬
‫ٔتا أنزله اهلل من أنظمة تصون‬
‫حياة وكرامة اإلنسان رجبل ًكان أو‬
‫امرأة ‪.‬‬
‫{ واذكروا نِعْ َم َت اهلل عَلَي ْ ُك ْم َو َمآ‬
‫أَن َز َل عَلَي ْ ُك ْم ِّم َن الكتاب وا‪ٟ‬تكمة‬
‫يَعِ ُظ ُك ْم بِ ِه } ونعمة اهلل عليهم‬
‫اليت يذكرهم اهلل بها يف معرض‬
‫ا‪ٟ‬تديث عن الطبلق هي أنه‬
‫سبحانه يلفتهم إىل ما كانوا عليه‬
‫قبل أن يشرع ‪٢‬تم أين كان حظ‬
‫ا‪١‬ترأة يف ا‪ٞ‬تاهلية يف أمور الزواج‬
‫والطبلق ‪ ،‬وما أصبحت عليه بعد‬
‫نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها‬
‫مصونة بالقرآن ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق عز وجل ٯتنت عىل ا‪١‬تؤمنُت‬
‫ليلفت نظرهم إىل حالتهم قبل‬
‫اإلسبلم؛ فقد كان الرجل يطلق‬
‫امرأته ويعيدها ‪ ،‬ثم يطلقها‬
‫ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو‬
‫رابط ‪ .‬وكان ٭ترم عليها ا‪١‬تعاشرة‬
‫الزوجية شهورا ًويًتكها تتعذب‬
‫بلوعة البعد عنه ‪ ،‬وال تستطيع أن‬
‫تتكلم ‪.‬‬
‫وكانت ا‪١‬ترأة إذا مات زوجها تنىف‬
‫من ا‪١‬تجتمع فبل تظهر أبدا ًوال‬
‫ٗترج من بيتها وكأهنا جرثومة ‪،‬‬
‫وقبل ذلك كله كانت مصدر عار‬
‫ألبيها ‪ ،‬فكان يقتلها قبل أن تصل‬
‫إىل سن البلوغ بدعوى ا‪ٟ‬ترص عىل‬
‫عرضه وشرفه ‪.‬‬
‫باختصار كان الزواج أقرب إىل‬
‫ا‪١‬تهازل منه إىل ا‪ٞ‬تد ‪ ،‬فجاء اإلسبلم‬
‫‪ ،‬فحسم األمور حىت ال تكون‬
‫فوىض ببل ضوابط وببل قوانُت ‪.‬‬
‫فاذكروا أيها ا‪١‬تؤمنون نعمة اهلل‬
‫عليكم باإلسبلم ‪ ،‬وانظروا إىل ما‬
‫أنعم به عليكم من نظام أسري‬
‫يلهث العالم شرقه وغربه ليصل‬
‫إىل مثله ‪.‬‬
‫كنتم أمة ببل حضارة وببل ثقافة ‪،‬‬
‫تعبدون األصنام وتقيمون ا‪ٟ‬ترب‬
‫وتشعلوهنا بينكم عىل أتفه األسباب‬
‫وأدوهنا ‪ ،‬وٕتهلون القراءة والكتابة‬
‫‪ ،‬ثم نزل اهلل عليكم هذا التشريع‬
‫الرايق الناضج الذي لم تصل إليه‬
‫أية حضارة حىت اْلن ‪ .‬أَال َتذكرون‬
‫هذه النعمة اليت أنتم فيها بفضل‬
‫من اهلل؟ لذلك قال سبحانه ‪{ :‬‬
‫واذكروا نِعْ َم َت اهلل عَلَي ْ ُك ْم َو َمآ‬
‫أَن َز َل عَلَي ْ ُك ْم ِّم َن الكتاب وا‪ٟ‬تكمة‬
‫يَعِ ُظ ُك ْم بِ ِه } والكتاب هو القرآن‬
‫‪ ،‬وا‪ٟ‬تكمة هي سنة رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ .‬وٮتتتم ا‪ٟ‬تق تلك‬
‫اْلية الكرٯتة بقول ‪ { :‬واتقوا اهلل‬
‫ٍ ِ‬ ‫َ‬
‫واعلموا أ َّن اهلل بِ ُك ّ ِل َش ْيء عَل ٌ‬
‫يم } ‪.‬‬
‫فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد‬
‫فاته شيء من التشريع لكم ‪ ،‬فكل‬
‫تشريع جاهز يف اإلسبلم ‪ ،‬ألن اهلل‬
‫عليم ٔتا تكون عليه أحوال الناس ‪،‬‬
‫فبل يستدرك كون اهلل يف الواقع عىل‬
‫ما شرع اهلل يف كتابه ‪ ،‬ألنه سبحانه‬
‫خالق الكون ومزنل التشريع ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وإِذَا‬
‫َطل َّ ْق ُت ُم النسآء فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن فَبل َ‬
‫ِ‬
‫تَعْ ُضلُو ُه َّن أَن يَنك ْح َن أَزْ َو َ‬
‫اج ُه َّن ‪. .‬‬
‫‪}.‬‬
‫َوإِذَا َطل َّ ْق ُت ُم ال ِن ّ َساءَ فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن‬
‫فَ َبل تَعْ ُضلُو ُه َّن أ َ ْن يَن ْ ِك ْح َن أَزْ َوا َج ُه َّن‬
‫ك‬ ‫وف ذَل ِ َ‬ ‫إِذَا تَ َرا َضوا بَيْن َ ُهم بِا ْ‪١‬تَعْر ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫وع ُظ بِ ِه َم ْن كَان ِمن ْ ُكم يُ ْؤ ِمن بِ َ ِ‬
‫اّلل‬ ‫يُ َ‬
‫َ ْ ُ ّ‬
‫َوالْي َ ْو ِم ْاْل ِخ ِر ذَل ِ ُك ْم أَزْ ََك ل َ ُك ْم‬
‫َ‬ ‫َطه‬
‫ون‬ ‫اّلل يَعْل َ ُم َوأن ْ ُت ْم َال تَعْل َ ُم َ‬ ‫َوأ ْ َ ُر َو َّ ُ‬
‫(‪)232‬‬
‫{ فَبَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن } هنا أي فانتهت‬
‫العدة ‪ ،‬ولم يستنفد الزوج مرات‬
‫الطبلق ‪ ،‬ولم يعد للزوج حق يف أن‬
‫يراجعها إال بعد عقد ومهر‬
‫جديدين ‪ .‬هب أن الزوج أراد أن‬
‫يعيد زوجته إىل عصمته مرة أخرى‬
‫‪ ،‬وهنا يتدخل أهل اللدد‬
‫وا‪٠‬تصومة من األقارب ‪ ،‬ويقفون‬
‫يف وجه إ٘تام الزواج ‪ ،‬والزوجان‬
‫رٔتا كان كل منهما ٯتيل إىل اْلخر‬
‫‪ ،‬وبينهما سيال عاطفي ونفسي ال‬
‫يعلمه أحد ‪ ،‬لكن الذين دخلوا يف‬
‫ا‪٠‬تصومة من األهل يقفون يف وجه‬
‫عودة األمور إىل ‪٣‬تاريها ‪ ،‬خوفا من‬
‫تكرار ما حدث أو ألسباب أخرى ‪،‬‬
‫وتقول ‪٢‬تؤالء ‪ :‬ما دام الزوجان قد‬
‫تراضيا عىل العودة فبل يصح أن يقف‬
‫أحد يف طريق عودة األمور إىل ما‬
‫كانت عليه ‪.‬‬
‫وقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَبل َتَعْ ُضلُو ُه َّن }‬
‫نعرف منه أن العضل هو ا‪١‬تنع ‪،‬‬
‫والكبلم لؤلهل واألقارب وكل من‬
‫يهمه مصلحة الطرفُت من أهل‬
‫المورة ا‪ٟ‬تسنة ‪ .‬و { أَن يَن ِك ْح َن‬
‫ش‬
‫أَزْ َوا َج ُه َّن } أي الذين طلقوهن‬
‫أوال ‪.‬‬
‫وا‪١‬تعٌت ‪ :‬ال ٘تنعوا األزواج أن‬
‫يعيدوا إىل عصمتهم زوجاهتم‬
‫البلئي طلقوهن من قبل ‪ .‬وليعلم‬
‫األهل الذين يصرون عىل منع‬
‫بناهتم من العودة ألزواجهن أهنم‬
‫بالتمادي يف ا‪٠‬تصومة ٯتنعون فائدة‬
‫التدرج يف الطبلق اليت أراد حكمة‬
‫هلل ‪.‬‬
‫إن حكمة التشريع يف جعل الطبلق‬
‫مرة ‪ ،‬ومرتُت هي أن من لم يصلح‬
‫يف ا‪١‬ترأة األوىل قد يصلح يف ا‪١‬ترة‬
‫الثانية ‪ ،‬وإذا كان اهلل العليم بنفوس‬
‫البشر قد شرع ‪٢‬تم أن يطلقوا مرة‬
‫ومرتُت ‪ ،‬وأعىط فسحة من الوقت‬
‫‪١‬تن أخطأ يف ا‪١‬ترة األوىل أال ٮتطئ يف‬
‫الثانية ‪ ،‬لذلك فبل يصح أن يقف‬
‫أحد حجر عثرة أمام إعادة ا‪ٟ‬تياة‬
‫الزوجية من جديد ‪.‬‬
‫وقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬أَن يَن ِك ْح َن‬
‫أَزْ َوا َج ُه َّن } ونلحظ هنا أن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل ينسب النكاح‬
‫للنسوة ‪ ،‬فقال ‪ { :‬يَن ِك ْح َن } وهذا‬
‫يقتضي رضاء ا‪١‬ترأة عن العودة‬
‫للزوج فبل ٯتكن أن يطلقها أوال ثم‬
‫ال يكون ‪٢‬تا رأي يف العودة إليه ‪.‬‬
‫{ إِذَا تَ َرا َض ْوا ْبَيْن َ ُه ْم با‪١‬تعروف }‬
‫وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة‬
‫كل منهم لآلخر أفضل ‪ ،‬فليبتعد‬
‫أهل السوء الذين يقفون يف وجه‬
‫رضا الطرفُت ‪ ،‬وليًتكوا ا‪ٟ‬تبلل‬
‫وع ُظ بِ ِه‬
‫يعود إىل ‪٣‬تاريه ‪ { .‬ذلك يُ َ‬
‫ان ِمنُك ْم يُ ْؤ ِم ُن باهلل واليوم‬
‫َمن ك َ َ‬
‫اْلخر ذلكم أزَك ل َ ُك ْم َوأ َ ْطهَ ُر }‬
‫إن هذا تشريع ربكم وهو موعظة‬
‫لكم يا من تؤمنون باهلل ربا حكيما ً‬
‫مشرعا ًوعا‪١‬تا ًبنوازع ا‪٠‬تَت يف نفوس‬
‫البشر ‪.‬‬
‫وكلمة { َوأ َ ْطهَ ُر } تلفتنا إىل حرمة‬
‫الوقوف يف وجه ا‪١‬ترأة اليت تريد أن‬
‫ترجع لزوجها الذي طلقها ثم‬
‫انتهت العدة ‪ ،‬وأراد هو أن‬
‫يتزوجها من جديد ‪ ،‬إن ا‪ٟ‬تق يبلغنا‬
‫‪ :‬وال تقفوا يف وجه ر بتهما يف‬
‫العودة ألي سبب كان ‪١ ،‬تاذا يا رب؟‬
‫وتأيت اإلجابة يف قوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬واهلل‬
‫َ‬
‫ون } تأمل‬ ‫يَعْل َ ُم َوأن ْ ُت ْم ال َتَعْل َ ُم َ‬
‫‪ٚ‬تال السياق القرآين وكيف خدم‬
‫قوله تعاىل ‪ { :‬واهلل يَعْل َ ُم َوأَن ْ ُت ْم ال َ‬
‫ون } ا‪١‬تعٌت الذي تريده‬ ‫تَعْل َ ُم َ‬
‫اْليات ‪ .‬إن اهلل يعلم وأنتم ال‬
‫تعلمون أن يف عودة األمور ‪١‬تجاريها‬
‫بُت الزوجُت أزَك وأطهر ‪ .‬ويقول‬
‫ا‪ٟ‬تق بعد ذلك ‪ { :‬والوالدات‬
‫يُ ْر ِضعْ َن أ َ ْوالَدَ ُه َّن َح ْول َ ْ ِ‬
‫ُت كَا ِمل َ ْ ِ‬
‫ُت‬
‫ِ‪١‬ت َ ْن أ َ َرادَ أَن تُِي َّم الرضاعة ‪} . . .‬‬

‫ات يُ ْر ِضعْ َن أ َ ْو َالدَ ُه َّن‬ ‫ِ‬


‫َوال ْ َوال َد ُ‬
‫ُت ِ‪١‬ت َ ْن أ َ َرادَ أ َ ْن يُتِ َّم‬
‫ُت كَا ِمل َ ْ ِ‬
‫َح ْول َ ْ ِ‬
‫اع َة َوعَىلَ ا ْ‪١‬ت َ ْولُو ِد ل َ ُه ِرزْ ُق ُه َّن‬
‫ال َّر َض َ‬
‫وف َال ُتكَل َّ ُف ن َ ْف ٌس‬ ‫و ِك ْسو ُهت ُ َّن بِا ْ‪١‬تَعْر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫إ َِّال ُو ْسعَهَا َال ُت َض َّار َوال ِ َدةٌ بِ َول َ ِد َها َو َال‬
‫ود ل َ ُه بِ َول َ ِد ِه َوعَىلَ ال ْ َوا ِر ِث ِمث ْ ُل‬
‫َم ْول ُ ٌ‬
‫اض‬ ‫ك فَإ ِْن أ َ َرادَا فِ َص ًاال َع ْن تَ َر ٍ‬ ‫ذَل ِ َ‬
‫ِمن ْ ُه َما َوتَ َش ُاو ٍر فَ َبل ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ِه َما‬
‫َوإ ِْن أ َ َردْ ُت ْم أ َ ْن تَ ْس ًَت ْ ِض ُعوا أ َ ْو َالدَ ُك ْم‬
‫ت َما‬‫اح عَلَي ْ ُك ْم إِذَا َسل َّ ْم ُ ْم‬
‫فَ َبل ُجن َ َ‬
‫وف َوا َّت ُقوا َّ‬ ‫آتَي ْ ُتم بِا ْ‪١‬تَعْر ِ‬
‫اّللَ‬ ‫ْ ُ‬
‫اّلل ِٔتَا تَعْ َمل ُ َ ِ‬ ‫َ‬
‫ون بَصَتٌ‬ ‫َواعْل َ ُموا أ َّن َّ َ‬
‫(‪)233‬‬

‫انظر إىل عظمة اإلسبلم ها هو ذا‬


‫ا‪ٟ‬تق سبحانه يتكلم عن إرضاع‬
‫الوالدات ألوالدهن بعد عملية‬
‫الطبلق ‪ ،‬فالطبلق يورث الشقاق‬
‫بُت الرجل وا‪١‬ترأة ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل ينظر للمسألة نظرة‬
‫الرحيم العليم بعباده ‪ ،‬فَتيد أن‬
‫٭تمي الثمرة اليت نتجت من‬
‫الزواج قبل أن ٭تدث الشقاق بُت‬
‫األبوين ‪ ،‬فيبلغنا ‪ :‬ال ٕتعلوا‬
‫شقاقكم وخبلفكم وطبلقكم‬
‫مصدر تعاسة للطفل الْبيء‬
‫الرضيع ‪.‬‬
‫وهذا كبلم عن ا‪١‬تطلقات البليت‬
‫تركن بيوت أزواجهن ‪ ،‬ألن اهلل‬
‫يقول بعد ذلك ‪َ { :‬وعىلَ ا‪١‬تولود ل َ ُه‬
‫ِرزْ ُق ُه َّن َو ِك ْس َو ُهت ُ َّن با‪١‬تعروف } وما‬
‫دامت اْلية ٖتدثت عن { ِرزْ ُق ُه َّن‬
‫َو ِك ْس َو ُهت ُ َّن } فذلك يعٍت أن ا‪١‬ترأة‬
‫ووليدها بعيدة عن الرجل ‪ ،‬ألهنا لو‬
‫كانت معه لكان رزق الوليد‬
‫وكسوته أمرا مفرو ا منه ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع ‪،‬‬
‫وأمه لم تكن تستحقه لوال‬
‫الرضاع ‪ .‬وبعض الناس فهموا‬
‫خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات‬
‫عموما ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬ال ‪ .‬إن الرزق‬
‫والكسوة هنا للمطلقات البليت‬
‫يرضعن فقط ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق سبحانه أن ‪٬‬تعل هذا‬
‫ا‪ٟ‬تق أمرا مفرو ا منه ‪ ،‬فشرع حق‬
‫برزق‬ ‫الطفل يف أن يتكفله والده ال‬
‫والكسوة حىت يكون األمر معلوما‬
‫لديه حال الطبلق ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ { :‬والوالدات يُ ْر ِضعْ َن‬
‫ُت } نلحظ‬ ‫أ َ ْوالَدَ ُه َّن َح ْول َ ْ ِ‬
‫ُت كَا ِمل َ ْ ِ‬
‫فيه أنه لم يأت بصيغة األمر فلم‬
‫يقل ‪ :‬يا والدات أرضعن ‪ ،‬ألن‬
‫األمر عرضة ألن يطاع وأن يعىص ‪،‬‬
‫لكن اهلل أظهر ا‪١‬تسألة يف أسلوب‬
‫خْبي عىل أهنا أمر واقع طبيعي وال‬
‫ٮتالف ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وعىلَ ا‪١‬تولود ل َ ُه‬
‫ِرزْ ُق ُه َّن َو ِك ْس َو ُهت ُ َّن } ولنتأمل‬
‫عظمة األداء القرآين يف قوله ‪{ :‬‬
‫َوعىلَ ا‪١‬تولود ل َ ُه } إنه لم يقل ‪« :‬‬
‫وعىل الوالد » ‪ ،‬وجاء ب { ا‪١‬تولود ل َ ُه‬
‫} ليكلفه بالتبعات يف الرزق‬
‫والكسوة ‪ ،‬ألن مسئولية اإلنفاق‬
‫عىل ا‪١‬تولود هي مسئولية الوالد‬
‫وليست مسئولية األم ‪ ،‬وهي قد‬
‫‪ٛ‬تلت وولدت وأرضعت والولد‬
‫يُنسب لؤلب يف النهاية يقول‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫فإ‪٪‬تا أمهات الناس أوعية ‪...‬‬
‫مستوعادت ولآلباء أبناء‬
‫وما دام ا‪١‬تولود منسوبا ًللرجل‬
‫األب ‪ ،‬فعىل األب رزقه وكسوته هو‬
‫وعليه أيضا رزق وكسوة أمه اليت‬
‫ترضعه با‪١‬تعروف ا‪١‬تتعارف عليه‬
‫ٔتا ال يسبب إجحافا ًوظلما لؤلب‬
‫يف كثرة اإلنفاق ‪ ،‬ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ال َ‬
‫ُتكَل َّ ُف ن َ ْف ٌس إِال َّ ُو ْسعَهَا } هنا‬
‫ا‪ٟ‬تديث عن األم واألب ‪ .‬فبل يصح‬
‫أن ترهق ا‪١‬تطلقة والد الرضيع ٔتا‬
‫هو فوق طاقته ‪ ،‬وعليها أن تكتفي‬
‫با‪١‬تعقول من النفقة ‪.‬‬
‫آر َوال ِ َدةٌ‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ال َ ُت َض َّ‬
‫ود ل َّ ُه بِ َول َ ِد ِه } والزال‬
‫بِ َول َ ِد َها َوال َ َم ْول ُ ٌ‬
‫ا‪ٟ‬تق يُذك ُر األب بأن ا‪١‬تولود له هو ‪،‬‬
‫وعليه أال يضر والدة الطفل ٔتنع‬
‫اإلنفاق عىل ابنه ‪ ،‬وأال يًتكها‬
‫تتكفف الناس من أجل رزقه‬
‫وكسوته ‪ ،‬ويف الوقت نفسه يُ َذك ُر‬
‫األم ‪ :‬ال ٕتعلي رضيعك مصدر‬
‫إضرار ألبيه بكثرة اإل‪ٟ‬تاح يف‬
‫طلب الرزق والكسوة ‪.‬‬
‫إنه عز وجل يضع لنا اإلطار الدقيق‬
‫الذي يكفل للطفل حقوقه ‪،‬‬
‫فهناك فرق بُت رضيع ينعم بدفء‬
‫ا‪ٟ‬تياة بُت أبوين متعاشرين ‪،‬‬
‫ووجوده بُت أبوين َت متعاشرين ‪.‬‬

‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعطينا لفتة‬


‫أخرى هي أن والد ا‪١‬تولود قد ٯتوت‬
‫فإذا ما مات الوالد فمن الذي ينفق‬
‫عىل الوليد الذي يف رعاية أمه‬
‫ا‪١‬تطلقة؟ هنا يأتينا قول ا‪ٟ‬تق‬
‫با‪ٞ‬تواب السريع ‪َ { :‬وعَىلَ الوارث‬
‫ِمث ْ ُل ذلك } ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يقرر مسئولية اإلنفاق عىل‬
‫من يرث والد الرضيع ‪ ،‬صحيح أن‬
‫الرضيع سَتث يف والده ‪ ،‬لكن‬
‫رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية‬
‫من يرث الوصاية وتكون له‬
‫الوالية عىل أموال األب إن مات ‪.‬‬
‫وهكذا يضمن اهلل عز وجل حق‬
‫الرضيع عند ا‪١‬تولود له وهو أبوه إذا‬
‫كان حيا ً‪ ،‬وعند من يرث األب إذا‬
‫ُتوىف ‪.‬‬
‫وبذلك يكون اهلل عز وجل قد‬
‫َش َّرع لصيانة أسلوب حياة الطفل‬
‫يف حال وجود أبويه ‪ ،‬وشرع له يف‬
‫حال طبلق أبويه وأبوه ح ٌّي وشرع‬
‫له يف حال طبلق أبويه ووفاة أبيه ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَإ ِْن أ َ َرادَا فِ َصاال ً َعن‬
‫اض ِّمن ْ ُه َما َوتَ َش ُاو ٍر فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح‬ ‫تَ َر ٍ‬
‫عَلَي ْ ِه َما } ‪.‬‬
‫انظر إىل الر‪ٛ‬تة يف اإلسبلم؛‬
‫فطبلق الرجل لزوجته ال يعٍت أن ما‬
‫كان بينهما قد انتىه ‪ ،‬ويضيع‬
‫األوالد ويشقون بسبب الطبلق ‪،‬‬
‫اض ِّمن ْ ُه َما‬
‫فقوله تعاىل ‪َ { :‬عن تَ َر ٍ‬
‫َوتَ َش ُاو ٍر } دليل عىل أن هناك قضية‬
‫مشًتكة مازالت بُت الطرفُت‬
‫وهي ما يتصل برعاية األوالد ‪،‬‬
‫وهذه القضية ا‪١‬تشًتكة البد أن‬
‫يبلحظ فيها حق األوالد يف عاطفة‬
‫األمومة ‪ ،‬وحقهم يف عاطفة األبوة ‪،‬‬
‫حىت ينشأ الولد وهو َت ‪٤‬تروم من‬
‫حنان األم أو األب ‪ ،‬وإن اختلفا‬
‫حىت الطبلق ‪.‬‬
‫إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور‬
‫والًتاضي يف مسألة تربية األوالد‬
‫حىت يشعروا ْتنان األبوين ‪ ،‬ويكْب‬
‫األوالد دون آالم نفسية ‪،‬‬
‫ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم‬
‫وكذلك والدهم وبرغم وجود‬
‫الشقاق وا‪٠‬تبلف بينهما فقد اتفقا‬
‫عىل مصلحة األوالد ٍ‬
‫بًتاض وتشاور‬
‫‪.‬‬
‫إن ما ٭تدث يف كثَت من حاالت‬
‫الطبلق من ٕتاهل لؤلوالد بعد‬
‫الطبلق هي مسألة خطَتة؛ ألهنا‬
‫تًتك رواسب وآثارا سلبية‬
‫عميقة يف نفوس األوالد ‪ ،‬ويًتتب‬
‫وربمتشريدهم‬ ‫عليها شقاؤهم ا‬
‫يف ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬وما ذنب أوالد كان الكبار‬
‫هم السبب ا‪١‬تباشر يف ‪٣‬تيئهم‬
‫للحياة؟ أليس من األفضل أن يوفر‬
‫اْلباء ‪٢‬تم الظروف النفسية‬
‫وا‪ٟ‬تياتية اليت تكفل ‪٢‬تم النشأة‬
‫الكرٯتة؟ إن منهج اهلل أمامنا‬
‫فلماذا ال نطبقه لنسعد به وتسعد‬
‫به األجيال القادمة؟‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قال يف أول‬
‫اْلية ‪ { :‬والوالدات يُ ْر ِضعْ َن‬
‫ُت } لكن ماذا‬ ‫أ َ ْوالَدَ ُه َّن َح ْول َ ْ ِ‬
‫ُت كَا ِمل َ ْ ِ‬
‫يكون ا‪ٟ‬تال إن نشأت ظروف‬
‫تقلل من فًتة الرضاعة عن‬
‫العامُت ‪ ،‬أو نشأت ظروف خاصة‬
‫جعلت فًتة الرضاعة أطول من‬
‫العامُت؟ هنا يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَإ ِْن‬
‫اض ِّمن ْ ُه َما‬
‫ت ٍ‬ ‫أ َ َرادَا فِ َصاال ً َعن َر‬
‫َوتَ َش ُاو ٍر فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ِه َما } ‪.‬‬
‫إنه جل وعبل يبُت لنا أن الفصال‬
‫أي الفطام ‪٬‬تب أن يكون عن‬
‫تراض وتشاور بُت الوالدين وال‬
‫جناح عليهما يف ذلك ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق‬
‫‪َ { :‬وإ ِْن أ َ َردتُّ ْم أَن تسًتضعوا‬
‫أ َ ْوالَدَ ُك ْم فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم إِذَا‬
‫َسل َّ ْم ُتم َّمآ آتَي ْ ُتم با‪١‬تعروف} ‪ ،‬و {‬
‫أَن تسًتضعوا أ َ ْوالَدَ ُك ْم } أي أن‬
‫تأتوا للطفل ٔترضعة ‪ ،‬فإن أردتم‬
‫ذلك فبل لوم عليكم يف ذلك ‪.‬‬

‫إن ا‪١‬تطلق حُت يوكل إىل األم أن‬


‫ترضع وليدها فالطفل يأخذ من‬
‫حنان األم ا‪١‬توجود لديها بالفطرة ‪،‬‬
‫لكن هب أن األم ليست لديها‬
‫القدرة عىل اإلرضاع أو أن ظروفها‬
‫ال تسعفها عىل أن ترضعه لضعف يف‬
‫صحتها أو قوهتا ‪ ،‬عند ذلك فالوالد‬
‫ُمطالب أن يأيت البنه ٔترضعة ‪،‬‬
‫وهذه ا‪١‬ترضعة اليت ترضع الوليد‬
‫ٖتتاج إىل أن يعطيها األب ما‬
‫سخيها و‪٬‬تعلها تقبل عىل إرضاع‬ ‫ي ِّ‬
‫ُ‬
‫الولد بأمانة ‪ ،‬واإلشراف عليه‬
‫بصدق ‪.‬‬
‫وٮتتم ا‪ٟ‬تق هذه اْلية الكرٯتة‬
‫بقوله ‪ { :‬واتقوا اهلل واعلموا أ َ َّن‬
‫ون ب َ ِصَتٌ} ‪ ،‬إن ا‪ٟ‬تق‬ ‫ِ‬
‫اهلل ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫٭تذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي‬
‫بظاهر األمر تطبيقها ‪ ،‬لكنه َت‬
‫حريص عىل روح هذه األحكام ‪،‬‬
‫مثال ذلك األب الذي يريد أن‬
‫يدلس عىل ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬فعندما يرى‬
‫األب مرضعة ابنه أمام الناس فهو‬
‫يدعي أنه ينفق عليها ‪ ،‬ويعطيها‬
‫أجرها كامبل ‪ ،‬ويقابلها با‪ٟ‬تفاوة‬
‫والتكريم بينما الواقع ٮتالف ذلك‬
‫‪.‬‬
‫إن اهلل ٭تذر من يفعل ذلك ‪ :‬أنت ال‬
‫تعامل ا‪١‬تجتمع وإ‪٪‬تا تعامل اهلل و‬
‫ون ب َ ِصَتٌ} ‪ .‬ويقول‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫{ اهلل ِ‬
‫ٔت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تفَّ ْو َن‬
‫ا‪ٟ‬تق بعد ذلك ‪ { :‬والذين يُ َو‬
‫ون أَزْ َواجا ًي َ ًَتَبَّ ْص َن‬
‫من ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫ِ‬
‫بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن أ َ ْربَعَ َة أ َ ْش ُه ٍر َو َع ْشرا ً‪. . .‬‬
‫}‬
‫ِ‬
‫َوال َّ ِذي َن يُت َ َو َّف ْو َن من ْ ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫ون‬
‫اجا ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن أ َ ْربَعَ َة‬
‫أزْ َو ً‬
‫َ‬
‫أ َ ْش ُه ٍر َو َع ْش ًرا فَإِذَا بَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن فَ َبل‬
‫يما فَعَل َْن ِيف أَن ْ ُف ِس ِه َّن‬ ‫ِ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬ ‫ُجن َ َ‬
‫وف و َ ِ‬
‫بِا ْ‪١‬تَعْ ُر ِ َ ُّ‬
‫اّلل ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫ون َخبَِتٌ‬
‫(‪)234‬‬

‫والعدة كما عرفنا هي الفًتة‬


‫الزمنية اليت شرعها اهلل بعد زواج‬
‫انتىه بطبلق أو بوفاة الزوج ‪.‬‬
‫والعدة إما أن تكون بعد طبلق ‪،‬‬
‫وإما بعد وفاة زوج ‪ ،‬فإن كانت‬
‫العدة بعد طبلق فمدهتا ثبلثة قروء‬
‫‪ ،‬والقرء كما عرفنا هو ا‪ٟ‬تيضة أو‬
‫الطهر ‪ ،‬فإن كانت ا‪١‬تطلقة صغَتة‬
‫لم ٗتض بعد أو كانت كبَتة تعدت‬
‫سن ا‪ٟ‬تيض فالعدة تنقلب من‬
‫القروء إىل األشهر وتصبح « ثبلثة‬
‫أشهر » ‪.‬‬
‫وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع‬
‫زوجته بينه وبُت نفسه دون تدخل‬
‫الزوجة أو ويل أمرها ‪ ،‬له ذلك يف‬
‫أثناء فًتة العدة يف الطبلق الرجعي ‪،‬‬
‫فإن انتهت عدهتا فقد سقط حقه يف‬
‫مراجعة الزوجة بنفسه ‪ ،‬وله أن‬
‫يراجعها ‪ ،‬ولكن ٔتهر وعقد‬
‫جديدين ما دام قد بىق له حق أي‬
‫لم يستنفد مرات الطبلق ‪.‬‬
‫وقد قلنا ‪ :‬إن تعدت الطلقات‬
‫اثنتُت وأصبحت هناك طلقة ثانية‬
‫فبلبد من زوج آخر يتزوجها‬
‫بالطريقة الطبيعية ال بقصد أن‬
‫٭تللها للزوج األول ‪ .‬وأما عدة‬
‫ا‪١‬تتوىف عنها زوجها فقد عرفنا أن‬
‫القرآن ينص عىل أهنا تًتبص‬
‫بنفسها أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬هذا‬
‫إن لم تكن حامبل ‪ ،‬فإن كانت‬
‫حامبل فعدهتا أبعد األجلُت ‪ ،‬فإن‬
‫كان األجل األبعد هو أربعة أشهر‬
‫وعشرا فتلك عدهتا ‪ ،‬وإن كان‬
‫األجل األبعد هو ا‪ٟ‬تمل فعدهتا أن‬
‫ينتهي ا‪ٟ‬تمل ‪ .‬لكن أليس من‬
‫ا‪ٞ‬تائز أن يموت زوجها وهي يف‬
‫الشهر التاسع من ا‪ٟ‬تمل فتلد قبل‬
‫أن يدفن؟ وهل يعٍت ذلك أن عدهتا‬
‫انتهت؟ ال ‪ ،‬إهنا تنتهي بأبعد‬
‫األجلُت وهو يف هذه ا‪ٟ‬تالة مرور‬
‫أربعة أشهر وعشرا ‪ ،‬وإن قال‬
‫بعض الفقهاء ‪ :‬إن عدة ا‪ٟ‬تامل‬
‫بوضع ا‪ٟ‬تمل ‪.‬‬
‫لكن إذا لم يكن زوجها مت َّ‬
‫وىف عنها‬
‫فعدهتا أن تضع حم‪٢‬تا ‪ ،‬وإن شاءت‬
‫أن تتزوج بعد ذلك فلها ذلك ولو‬
‫بعد ‪ٟ‬تظة ‪ .‬وبعض الناس يفسرون‬
‫ا‪ٟ‬تكمة من جعل عدة ا‪١‬تتوىف عنها‬
‫زوجة أربعة أشهر وعشرا ‪،‬‬
‫فيقولون ‪ :‬ألهنا إن كانت حامبل‬
‫بذكر فسيظهر ‪ٛ‬تلها عندما‬
‫يتحرك بعد ثبلثة أشهر ‪ ،‬وإن‬
‫كانت حامبل بأنثى فستتحرك بعد‬
‫أربعة أشهر ونعطيها مهلة عشر‬
‫ٍ‬
‫ليال ‪.‬‬
‫ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬جزاكم اهلل خَتا عىل‬
‫تفسَتكم ‪ ،‬لكن العدة ليست‬
‫الستْباء الرحم؛ ألهنا لو كانت‬
‫الستْباء الرحم النتهت عدة ا‪١‬ترأة‬
‫ٔتجرد والدهتا ‪ .‬ولو كان األمر‬
‫للتأكد من وجود ‪ٛ‬تل أو عدمه ‪،‬‬
‫لكانت عدهتا ثبلث حيضات إن‬
‫كانت من ذوات ا‪ٟ‬تيض ‪ ،‬وإن كانت‬
‫من َت ذوات ا‪ٟ‬تيض لصغر أو لكْب‬
‫سن لكانت عدهتا ثبلثة أشهر ‪ .‬لكن‬
‫اهلل اختصها بأربعة أشهر وعشر‬
‫وفاء ً‪ٟ‬تق زوجها عليها وإكراما‬
‫‪ٟ‬تياهتما الزوجية ‪.‬‬
‫إذن فاهلل عز وجل جعل ا‪١‬تتوىف‬
‫عنها زوجها تًتبص أقىص مدة‬
‫ٯتكن أن تصْب عليها ا‪١‬ترأة ‪.‬‬

‫فا‪١‬ترأة ساعة تكون متوىف عنها‬


‫زوجها ال ٗترج من بيتها وال تتزين‬
‫وال تلىق أحدا ًوفاء ًللزوج ‪ ،‬فإذا‬
‫انتهت عدهتا أي مضت عليها‬
‫األربعة األشهر والعشرة ‪ { ،‬فَبل َ‬
‫يما فَعَل َْن يف أَن ْ ُف ِس ِه َّن‬‫ِ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬
‫ُجن َ َ‬
‫} وهو يعٍت أن تتزين يف بيتها‬
‫وٗترج دون إبداء زينة وأن يتقدم‬
‫‪٢‬تا من يريد خطبتها ‪ .‬وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫{ أ َ ْربَعَ َة أ َ ْش ُه ٍر َو َع ْشرا ً} وا‪١‬تقصود‬
‫بهذه ا‪١‬تدة أربعة أشهر وعشر ليال‬
‫‪.‬‬
‫وهنا لفتة تشريعية إٯتانية تدل عىل‬
‫استطراق كل حكم شرعي يف ‪ٚ‬تيع‬
‫ا‪١‬تكلفُت وإن لم يكن ا‪ٟ‬تكم ماسا‬
‫‪٢‬تم؛ فا‪١‬تتوىف عنها زوجها تربصت‬
‫أربعة أشهر وعشرا وبلغتها يف مدة‬
‫العدة ‪ ،‬وكان من حكم اهلل عليها أال‬
‫تتزين وأال تكتحل وأال ٗترج من‬
‫بيتها وفاء ً‪ٟ‬تق زوجها فإذا بلغت‬
‫األجل وانتىه قال ‪ { :‬فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح‬
‫يما فَعَل َْن يف أَن ْ ُف ِس ِه َّن } ‪،‬‬‫ِ‬
‫عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬
‫ولم يقل ‪ :‬فبل جناح عليهن ‪ .‬لقد‬
‫وجه ا‪٠‬تطاب هنا للرجال؛ ألن كل‬
‫مؤمن له والية عىل كل مؤمنة ‪ ،‬فإذا‬
‫رأى يف سلوكها أو أسلوب عنايتها‬
‫بنفسها ما ينايف العدة فله أن‬
‫يتدخل ‪ .‬مثبل إذا رآها تتزين قال‬
‫‪٢‬تا أو أرسل إليها من يقول ‪٢‬تا ‪:‬‬
‫‪١‬تاذا تتزينُت؟ إن قول اهلل ‪ { :‬فَبل َ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم } ‪٬‬تعل للرجال‬
‫ُجن َ َ‬
‫قوامة عىل ا‪١‬تتوىف عنها زوجها ‪ ،‬فبل‬
‫يقولون ‪ :‬ال دخل لنا؛ ألن ا‪ٟ‬تكم‬
‫اإلٯتاين حكم مستطرق يف كل‬
‫مؤمن وعىل كل مؤمن ‪ .‬فا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل يقول ‪َ { :‬وتَ َوا َص ْوا ْ‬
‫با‪ٟ‬تق َوتَ َوا َص ْوا ْبالصْب} ػ العصر ‪:‬‬
‫‪]3‬‬
‫إن قوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وتَ َوا َص ْوا ْ} ال يعٍت‬
‫أن قوما ُخصوا بأهنم يُوصون‬
‫َتهم وقوما آخرين يُوصيهم‬
‫وص يف‬ ‫َتهم ‪ ،‬بل كل واحد منا م ٍ‬ ‫ُ‬
‫وىص من َته يف وقت‬ ‫وقت؛ وم ً‬
‫آخر ‪ ،‬هذا هو معٌت { َوتَ َوا َص ْوا ْ} ‪.‬‬
‫فإذا رأيت يف َتك ضعفا ًيف أي‬
‫ناحية من نواحي أحكام اهلل ‪ ،‬فلك‬
‫َتك‬ ‫ت‬
‫أن وصيه ‪ .‬وكذلك إن رأى ُ‬
‫فيك ضعفا يف أي ناحية من النواحي‬
‫فله أن يوصيك ‪ ،‬وعندما نتواىص‬
‫‪ٚ‬تيعا ًال يبىق ‪١‬تؤمن بُتنا خطأ ظاهر‬
‫‪.‬‬
‫ص بالوصاية ‪ٚ‬تاعة‬ ‫َٗت‬
‫إذن فاْلية ال ُ ُ‬
‫دون أخرى إ‪٪‬تا الكل يتواصون ‪،‬‬
‫ألن األغيار البشرية تتناوب الناس‬
‫أ‪ٚ‬تعُت ‪ .‬فأنت يف فًتة ضعفي‬
‫رقيب علي ‪ ،‬فتوصيٍت ‪ ،‬وأنا يف فًتة‬
‫ضعفك رقيب عليك ‪ ،‬فأوصيك ‪.‬‬
‫ولذلك جاء قول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح‬
‫عَلَي ْ ُك ْم } إنه سبح انه لم يوجه‬
‫ا‪٠‬تطاب للنساء ‪ ،‬ولكن خاطب به‬
‫ا‪١‬تؤمنُت ولم ٮتص با‪٠‬تطاب أولياء‬
‫أمور النساء فحسب وإ‪٪‬تا ترك‬
‫ا‪ٟ‬تكم للجميع حىت ال يقول أحد ‪:‬‬
‫ال عبلقة يل با‪١‬ترأة اليت توىف عنها‬
‫زوجها ولتفعل ما تشاء ‪ .‬إن ‪٢‬تا أن‬
‫تتزين با‪١‬تتعارف عليه إسبلميا يف‬
‫الزينة ‪ ،‬و‪٢‬تا أن تتجمل يف حدود ما‬
‫أذن اهلل ‪٢‬تا فيه ‪.‬‬
‫وٮتتتم ا‪ٟ‬تق هذه اْلية بقوله ‪{ :‬‬
‫ِ‬
‫واهلل ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫ون َخبَِتٌ} أي واهلل‬
‫أعلم ٔتا يف نفسها ؤتا يف نيتها ‪.‬‬
‫وهب أهنا فعلت أي فعل عىل َت‬
‫مرأى من أحد فبل تعتقد أن‬
‫ا‪١‬تجتمع وإن لم يشهد منها ذلك‬
‫أن ا‪١‬تسألة انتهت ‪ ،‬ال ‪ ،‬إن اهلل‬
‫عليم ٔتا تفعل وإن لم يطلع عليها‬
‫أحد من الناس ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قد ‪ٛ‬تى بكل‬
‫التشريعات السابقة حق الزوج‬
‫حىت تنتهي العدة ‪ ،‬وحق ا‪١‬تتوىف عنها‬
‫زوجها يف أثناء العدة ‪ ،‬و‪ٛ‬تى أيضا‬
‫بكل التشريعات كرامة ا‪١‬ترأة ‪.‬‬
‫وجعل ا‪١‬ترأة حرما ال يقًتب منه‬
‫إن عليها عدة‬
‫أحد ٮتدش حجابها ‪ّ ،‬‬
‫‪٤‬تسوبة يف هذا الوقت لرجل آخر ‪،‬‬
‫فبل ٭تق ألحد أن يقًتب منها ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن ا‪١‬ترأة خاصة إذا كانت‬
‫مطلقة قد تتملكها رغبة يف أن تثأر‬
‫لنفسها ولكرامتها ‪ ،‬ورٔتا تعجلت‬
‫التزوج ‪ ،‬ورٔتا كانت مسائل‬
‫االفًتاق أو ا‪٠‬تبلف ناشئة عن‬
‫اندساس رغبة راغب فيها ‪،‬‬
‫ؤتجرد أن يتم طبلقها وتعيش‬
‫فًتة العدة فقد ٭توم حو‪٢‬تا‬
‫الراغبون فيها ‪ ،‬أو تستشرق هي‬
‫من ناحيتها من تراه صا‪ٟ‬تا ًكزوج‬
‫‪٢‬تا ‪ .‬ولذلك يفرض ا‪ٟ‬تق سياجا من‬
‫الزمن و‪٬‬تعل العدة كمنطقة حرام‬
‫ليحمي ا‪١‬ترأة ‪ٛ‬تاية موضوعية ال‬
‫شكلية ‪.‬‬
‫التشريع ألنه من إله رحيم ال يهدر‬
‫عواطف النفس البشرية ‪ :‬ال من‬
‫ناحية الذي يرغب يف أن يتزوج ‪،‬‬
‫وال من ناحية ا‪١‬ترأة اليت تستشرق‬
‫أن تتزوج ‪ ،‬فيعاًف هذه ا‪١‬تسألة‬
‫بدقة وْتزم وْتسم معا جل شأنه ‪:‬‬
‫يما َع َّر ْض ُت ْم‬‫ِ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬
‫{ َوال َ ُجن َ َ‬
‫بِ ِه ِم ْن ِخ ْطب َ ِة النسآء ‪} . . .‬‬

‫يما َع َّر ْض ُت ْم بِ ِه‬ ‫ِ‬


‫اح عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬ ‫َو َال ُجن َ َ‬
‫ِم ْن ِخ ْطب َ ِة ال ِن ّ َساءِ أ َ ْو أَكْنَن ْ ُت ْم ِيف‬
‫اّلل أَن َّ ُك ْم‬
‫أَن ْ ُف ِس ُك ْم عَلِ َم ّ َُ‬
‫َست َ ْذ ُك ُرو َهن ُ َّن َول َ ِك ْن َال ُت َواعِ ُدو ُه َّن‬
‫ِس ًّرا إ َِّال أ َ ْن تَ ُقولُوا قَ ْو ًال َمعْ ُروفًا َو َال‬
‫تَعْ ِز ُموا ُع ْق َدةَ ِالنّكَا ِح َح َّىت يَبْل ُ َغ‬
‫اّللَيَعْل َ ُم‬ ‫اب أ َ َجل َ ُه َواعْ َ‪١‬تُوا أ َ َّن َّ‬ ‫ِ‬
‫الْكت َ ُ‬
‫اح َذ ُر ُوه َواعْل َ ُموا‬ ‫َما ِيف أَن ْ ُف ِس ُك ْم فَ ْ‬
‫يم (‪)235‬‬ ‫اّلل َغ ُف ِ‬ ‫َ‬
‫ور َحل ٌ‬ ‫أ َّن َّ َ ٌ‬
‫و { َع َّر ْض ُت ْم } مأخوذة من‬
‫التعريض ‪ .‬والتعريض ‪ :‬هو أن‬
‫تدل عىل شيء ال ٔتا يؤديه نصا ‪،‬‬
‫ولكن تعرض به تلميحا ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫‪٬‬تعل للعواطف تنفيسا من هذه‬
‫الناحية ‪ ،‬والتنفيس ليس ‪٣‬ترد‬
‫تعبَت عن العاطفة ‪ ،‬ولكنه رعاية‬
‫للمصلحة ‪ ،‬فمن ا‪ٞ‬تائز أنه لو حزم‬
‫التعريض لكان يف ذلك ضياع فرصة‬
‫الزواج للمرأة ‪ ،‬أو قد يفوت هذا‬
‫ا‪١‬تنع الفرصة عىل من يطلبها من‬
‫الرجال؛ لذلك يضع ا‪ٟ‬تق القواعد‬
‫اليت تفرض عىل الرجل وا‪١‬ترأة معا‬
‫أدب االحتياط ‪ ،‬وكأنه يقول لنا ‪:‬‬
‫أنا أمنعكم أن ٗتطبوا يف العدة أو‬
‫تقولوا كبلما ًصر٭تا ًوواضحا ًفيها ‪،‬‬
‫لكن ال مانع من التلميح من بعيد ‪.‬‬
‫مثبل يثٌت الرجل عىل ا‪١‬ترأة؛ ويعدد‬
‫‪٤‬تاسنها بكبلم ال يعد خروجا عىل‬
‫آداب اإلسبلم مثل هذا الكبلم هو‬
‫تلميح وتعريض ‪ ،‬وفائدته أنه يعْب‬
‫عما يف نفسه قائله ٕتاه ا‪١‬تطلقة‬
‫فتعرف رأيه فيها ‪ ،‬ولو لم يقل ذلك‬
‫فرٔتا سبقه أحد إليها وقطع عليه‬
‫السبيل إلنفاذ ما يف نفسه ‪ ،‬ومنعه‬
‫من أن يتقدم ‪٠‬تطبتها بعد انتهاء‬
‫العدة ‪ ،‬وقد يدفعه ذلك ألن يفكر‬
‫تفكَتا آخر ‪ :‬للتعبَت بأسلوب‬
‫وشكل خاطئ ‪.‬‬
‫إذن فالتعريض له فائدة يف أنه‬
‫يُعرف ا‪١‬تطلقة رأي فبلن فيها حىت‬
‫إن جاءها َته ال توافق عليه‬
‫مباشرة ‪ .‬وهكذا نرى قبسا ًمن‬
‫ر‪ٛ‬تة اهلل سبحانه وتعاىل بنا ‪ ،‬بأن‬
‫جعل العدة كمنطقة حرام ٖتمي‬
‫ا‪١‬ترأة ‪ ،‬وجعل التعريض فرصة‬
‫للتعبَت عن العاطفة اليت تؤسس‬
‫مصلحة من بعد ذلك ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬وال َ ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم‬
‫يما َع َّر ْض ُت ْم بِ ِه ِم ْن ِخ ْطب َ ِة النسآء‬‫ِ‬
‫ف َ‬
‫} وا‪٠‬تطبة مأخوذة من مادة « ا‪٠‬تاء‬
‫» و « الطاء » و « الباء » وتدل عىل‬
‫أمور تشًتك يف عدة معالم ‪ :‬منها‬
‫ُخطبة بضم ا‪٠‬تاء ‪ ،‬ومنها َخ ْطب‬
‫وهو األمر العظيم ‪ ،‬ومنها ا‪١‬تعٌت‬
‫الذي ‪٨‬تن بصدده وهو ا ٍِفطبة‬
‫بكسر ا‪٠‬تاء ‪ .‬وكل هذه ا‪١‬تعالم‬
‫تدل عىل أن هناك األمر العظيم‬
‫الذي يُعاًف ‪ ،‬فا‪٠‬تطب أمر عظيم‬
‫يهز الكيان ‪ ،‬وكذلك ا‪٠‬تُطبة ال‬
‫يلقيها ا‪٠‬تطيب إال يف أمر ذي بال ‪،‬‬
‫فيعظ ا‪١‬تجتمع بأمر ضروري ‪.‬‬
‫وا‪٠‬تِطبة كذلك أمر عظيم؛ ألنه‬
‫أمر فاصل بُت حياتُت ‪ :‬حياة‬
‫االنطبلق ‪ ،‬وحياة التقيد بأسرة‬
‫وبنظام ‪ .‬وكلها معان مشًتكة يف‬
‫أمر ذي بال ‪ ،‬وأمر خطَت ‪ .‬وهو‬
‫سبحانه وتعاىل يقول ‪َ { :‬وال َ ُجن َ َ‬
‫اح‬
‫يما َع َّر ْض ُت ْم بِ ِه ِم ْن ِخ ْطب َ ِة‬ ‫ِ‬
‫عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬
‫النسآء أ َ ْو أ َ ْكن َ ُنت ْم يف أَن ْ ُف ِس ُك ْم } أي‬
‫ال جناح عليكم أن وضعتم يف‬
‫أنفسكم أمرا ٮتىف عىل ا‪١‬ترأة ‪،‬‬
‫وللمسلم أن يكنن وٮتفي يف نفسه‬
‫ما يشاء ‪ ،‬ولكن ما الذي يُدري‬
‫ويعلم ا‪١‬تطلقة أهنا يف بالك يا من‬
‫أسررت أمرها يف نفسك؟ إنك‬
‫البد أن تلمح وأن تعرض بأسلوب‬
‫يليق باحًتام ا‪١‬ترأة ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬عَلِ َم اهلل أَن َّ ُك ْم‬
‫َست َ ْذ ُك ُرو َهن ُ َّن } ‪ ،‬إن الذي خلقك‬
‫يعلم أهنا ما دامت يف بالك ‪ ،‬ومات‬
‫زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت‬
‫أمبل بالنسبة لك ‪ ،‬فلو أنه ضيق‬
‫عليك لعوق عواطفك ‪ ،‬ولضاعت‬
‫منك الفرصة ألن تتخذها زوجة‬
‫من بعد ذلك ‪ ،‬و‪٢‬تذا أباح ا‪ٟ‬تق‬
‫التعريض حىت ال يقع أحدكم يف‬
‫ا‪١‬تحظور وهو { ال َّ ُت َواعِ ُدو ُه َّن ِس ّرا ً‬
‫} بأن تأخذوا عليهن العهد أال‬
‫يتزوجن َتكم ‪ ،‬أو يقول ‪٢‬تا ‪:‬‬
‫تزوجيٍت ‪.‬‬
‫بل عليه أن يعرض وال يفصح وال‬
‫يصرح ‪ .‬إن ا‪١‬تواعدة يف السر أمر‬
‫منهي عنه ‪ ،‬لكن ا‪١‬تسموح به هو‬
‫التعريض بأدب ‪ { ،‬إِال َّأَن تَ ُقولُوا ْ‬
‫قَ ْوال ً َّمعْ ُروفا ً} كأن يقول ‪ « :‬يا‬
‫سعادة من ستكون له زوجة مثلك »‬
‫‪ .‬ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب‬
‫ا‪١‬ترأة ‪ .‬ونعلم ‪ٚ‬تيعا أن ا‪١‬ترأة يف‬
‫مثل حال ا‪١‬تطلقة أو ا‪١‬تتوىف عنها‬
‫زوجها ٘تلك شفافية وأ‪١‬تعية تلتقط‬
‫بها معٌت الكبلم ومراده ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َتعزموا ُع ْق َدةَ‬
‫النكاح حىت يَبْلُغَ الكتاب أ َ َجل َ ُه}‬
‫وهكذا نرى أن ‪٣‬ترد العزم األكيد‬
‫أمر هنى عنه ‪ .‬والعزم مقدم عىل‬
‫الفعل فإذا هنى عنه كان النهي عن‬
‫الفعل أقوى وأشد وأهنى ‪ ،‬فلك أن‬
‫تنوى الزواج منها وتتوكل عىل اهلل ‪،‬‬
‫لكن ال ٕتعله أمرا مفرو ا منه ‪ ،‬إال‬
‫بعد أن تتم عدهتا ‪ ،‬فإن بلغ الكتاب‬
‫أجله وانتهت عدهتا فاعزموا عقدة‬
‫النكاح ‪ .‬فكأن عقدة النكاح ٘تر‬
‫بثبلث مراحل ‪:‬‬
‫ا‪١‬ترحلة األوىل ‪ :‬وهي التعريض أي‬
‫التلميح ‪.‬‬
‫وا‪١‬ترحلة الثانية ‪ :‬هي العزم الذي‬
‫ال يصح وال يستقيم أن يتم إال بعد‬
‫انتهاء فًتة العدة ‪.‬‬
‫وا‪١‬ترحلة الثالثة ‪ :‬هي العقد ‪.‬‬
‫وا‪١‬تقصود بهذه ا‪١‬تراحل أن يأخذ‬
‫كل طرف فرصته للتفكَت العميق‬
‫يف هذا األمر ا‪ٞ‬تاد ‪ ،‬فإن كان التفكَت‬
‫قد هدى إىل العزم فإن لئلنسان أن‬
‫يعقد بعد انتهاء العدة ‪ ،‬وإن كان‬
‫التفكَت قد اهتدى إىل االبتعاد‬
‫وصرف النظر عن مثل هذا األمر‬
‫فلئلنسان ما يريد ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق من هذه ا‪١‬تراحل أن‬
‫يعطي الفرصة يف الًتاجع إن‬
‫اكتشف أحد الطرفُت يف اْلخر‬
‫أمرا ال يعجبه ‪ .‬وكل هذه اٍفطوات‬
‫تدل عىل أن العقد ال يكون إال بعزم‬
‫‪ ،‬فبل يوجد عقد دون عزم ‪ ،‬إن ا‪ٟ‬تق‬
‫يريد من ا‪١‬تسلم أال يقدم عىل‬
‫عقدة النكاح إال بعد عزم ‪ .‬والعزم‬
‫معناه التصميم عىل أنك تريد‬
‫الزواج ْتق الزواج وبكل‬
‫مسئولياته ‪ ،‬وبكل مهر الزواج ‪،‬‬
‫ومشروعيته ‪ ،‬وإعفافه؛ فالزواج‬
‫بدون أرضية العزم مصَته الفشل‬
‫‪.‬‬
‫ومعٌت العزم ‪ :‬أن تفكر يف ا‪١‬تسألة‬
‫بعمق وروية يف نفسك حىت تستقر‬
‫عىل رأي أكيد ‪ ،‬ثم لك أن تقبل عىل‬
‫الزواج عىل أنه أمر له دٯتومة وبقاء‬
‫ال ‪٣‬ترد شهوة طارئة ليس ‪٢‬تا‬
‫أرضية من عزٯتة النفس عليها ‪.‬‬
‫ولذلك فإن الزواج القائم عىل َت‬
‫رويّة ‪ ،‬وا‪١‬تعلق عىل أسباب مؤقتة‬
‫كقضاء الشهوة ال يستمر وال ينجح‬
‫‪ .‬ومثل ذلك زواج ا‪١‬تتعة؛ فالعلة يف‬
‫ٖتريم زواج ا‪١‬تتعة أن ا‪١‬تقدم عليه‬
‫ال يريد به االستمرار يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫الزوجية ‪ ،‬وما دام ال يقصد منه‬
‫الدٯتومة فمعناه أنه هدف للمتعة‬
‫الطارئة ‪.‬‬

‫والذين يبيحون زواج ا‪١‬تتعة‬


‫مصابون يف تفكَتهم؛ ألهنم‬
‫يتناسون عنصر اإلقبال بدٯتومة‬
‫عىل الزواج ‪ ،‬فما الداعي ألن تقيد‬
‫زواجك ٔتدة؟ إن النكاح األصيل‬
‫ال يُقيد ٔتثل هذه ا‪١‬تدة ‪ .‬وتأمل‬
‫‪ٛ‬تق هؤالء لتعلم أن ا‪١‬تسألة ليست‬
‫مسألة زواج ‪ ،‬إ‪٪‬تا ا‪١‬تسألة هي‬
‫تْبير زىن ‪ ،‬وإال ‪١‬تاذا يشًتط يف‬
‫زواج ا‪١‬تتعة أن يتزوجها ‪١‬تدة شهر‬
‫أو أكثر؟‬
‫إن اإلنسان حُت يشًتط تقييد‬
‫الزواج ٔتدة فذلك دليل عىل غباء‬
‫تفكَته وسوء نيته؛ ألن الزواج‬
‫األصيل هو الذي يدخل فيه‬
‫بدٯتومة ‪ ،‬وقد ينهيه بعد ساعة إن‬
‫وجد أن األمر يستحق ذلك ‪ ،‬ولن‬
‫يعًتض أحد عىل مثل هذا السلوك‬
‫‪ ،‬فلماذا تقيد نفسك ٔتدة؟ إن‬
‫ا‪١‬تتزوج للمتعة يستخدم الذكاء يف‬
‫َت ‪٤‬تله ‪ ،‬قد يكون ذكيا يف ناحية‬
‫ولكنه قليل الفطنة يف ناحية أخرى‬
‫‪.‬‬
‫إن عىل اإلنسان أن يدخل عىل‬
‫الزواج بعزٯتة بعد تفكَت عميق‬
‫وروية ثم ينفذ العزم عىل عقد ‪.‬‬
‫حذار أن تضع يف نفسك مثل هذا‬
‫الزواج ا‪١‬تربوط عىل مطامع‬
‫وأهداف يف نفسك كعدم‬
‫الدٯتومة أو ‪٢‬تدف ا‪١‬تتعة فقط ‪،‬‬
‫فكل ما يفكر فيه بعض الناس من‬
‫أطماع شهوانية ودنيوية هي‬
‫أطماع زائلة ‪ .‬اصرف كل هذه‬
‫األفكار عنك؛ ألنك إن أردت شيئا ً‬
‫َت الدٯتومة يف الزواج ‪ ،‬وإرادة‬
‫اإلعفاف؛ فاهلل سبحانه يعلمه‬
‫وسَتد تفكَتك نقمة عليك‬
‫فاحذره ‪.‬‬
‫إن اهلل سبحانه ال ٭تذر اإلنسان من‬
‫شيء إال إذا كان ‪٦‬تا يغضبه سبحانه ‪.‬‬
‫لذلك يذيل ا‪ٟ‬تق هذه اْلية‬
‫الكرٯتة بقوله ‪ { :‬واعلموا أ َ َّن اهلل‬
‫يَعْل َ ُم َما يف أَن ْ ُف ِس ُك ْم فاحذروه‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫واعلموا أ َ َن اهلل َغ ُف ِ‬
‫ور َحل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫وهو سبحانه يعلم ضعف النفس‬
‫البشرية وأهنا قد تضعف يف بعض‬
‫األحيان ‪ ،‬فإن كان قد حدث منها‬
‫شيء فاهلل يعطيها الفرصة يف أن‬
‫يتوب صاحبها ألنه سبحانه هو‬
‫الغفور ا‪ٟ‬تليم ‪ .‬وبعد ذلك يقول‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪ { :‬ال َّ ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم‬
‫إِن َطل َّ ْق ُت ُم النسآء َما ل َ ْم َ٘ت َ ُّسو ُه َّن أ َ ْو‬
‫يضةً ‪} . . .‬‬ ‫تَ ْفر ُِضوا ْ َ‪٢‬ت ُ َّن فَ ِر َ‬

‫اح عَلَي ْ ُك ْم إ ِْن َطلَّقْ ُت ُم ال ِّن َساءَ‬ ‫َال ُجن َ َ‬


‫َما ل َ ْم َ٘ت َ ُّسو ُه َّن أ َ ْو تَ ْفر ُِضوا َ‪٢‬ت ُ َّن‬
‫يضةً َو َمتِّ ُعو ُه َّن عَىلَ ا ْ‪١‬تُو ِس ِع قَ َد ُر ُه‬ ‫فَ ِر َ‬
‫ِِ‬
‫ًت قَ َدر ُه متَاعًا بِا ْ‪١‬تَعْر ِ‬
‫وف‬ ‫ُ‬ ‫َوعَىلَ ا ْ‪١‬تُ ْق ُ َ‬
‫ِِ‬
‫ُت (‪)236‬‬ ‫َح ًّقا عَىلَ ا ْ‪١‬تُ ْحسن َ‬
‫‪٨‬تن نبلحظ أن الكبلم فيما تقدم‬
‫كان عن الطبلق للمدخول بها ‪ ،‬أو‬
‫عن ا‪١‬ترأة اليت دخل بها زوجها‬
‫ومات عنها ‪ .‬ولكن قد ٖتدث بعض‬
‫من ا‪١‬تسائل تستوجب الطبلق‬
‫المرأة َت مدخول بها ‪ .‬وتأيت هذه‬
‫اْلية لتتحدث عن ا‪١‬ترأة َت‬
‫ا‪١‬تدخول بها ‪ ،‬وهي إما أن يكون‬
‫الزوج لم يفرض ‪٢‬تا صداقا ً‪ ،‬وإما‬
‫أن يكون قد فرض ‪٢‬تا صداقا ً‪.‬‬
‫والطبلق قبل الدخول له حكمان ‪:‬‬
‫ُفرضت يف العقد فريضة ‪ ،‬أو لم‬
‫تفرض فيه فريضة ‪ ،‬فكأن عدم‬
‫فرض ا‪١‬تهر ليس شرطا ًيف النكاح ‪،‬‬
‫بل إذا تزوجته ولم يفرض يف هذا‬
‫الزواج مهر فقد ثبت ‪٢‬تا مهر ا‪١‬تثل‬
‫والعقد صحيح ‪ .‬ودليل ذلك أن اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل يقول ‪ { :‬ال َّ ُجن َ َ‬
‫اح‬
‫عَلَي ْ ُك ْم إِن َطل َّ ْق ُت ُم النسآء َما ل َ ْم‬
‫يضةً }‬ ‫َ٘ت َ ُّسو ُه َّن أ َ ْو تَ ْفر ُِضوا ْ َ‪٢‬ت ُ َّن فَ ِر َ‬
‫ومعٌت ذلك أهنا كانت زوجة ولم‬
‫٭تدث دخول للزوج بها ‪.‬‬
‫ولنا أن نسأل ما هو ا‪١‬تس؟ ونقول ‪:‬‬
‫فيه مس ‪ ،‬وفيه ‪١‬تس ‪ ،‬وفيه مبلمسة‬
‫‪ .‬فاإلنسان قد ٯتس شيئا ‪ ،‬ولكن‬
‫ا‪١‬تاس ال يتأثر با‪١‬تمسوس ‪ ،‬أي لم‬
‫يدرك طبيعته أو حاله هل هو‬
‫خشن أو ناعم؟ دافئ أو بارد ‪ ،‬وإىل‬
‫َت ذلك ‪.‬‬
‫أما اللمس فبل بد من اإلحساس‬
‫بالشيء ا‪١‬تلموس ‪ ،‬أما ا‪١‬تبلمسة‬
‫فهي حدوث التداخل بُت الشيئُت‬
‫‪ .‬إذن فعندنا ثبلث مراحل ‪ :‬األوىل‬
‫هي ‪ :‬مس ‪ .‬والثانية ‪١ :‬تس ‪.‬‬
‫والثالثة ‪ :‬مبلمسة ‪ .‬كلمة « ا‪١‬تس‬
‫» هنا دلت عىل الدخول والوطء ‪،‬‬
‫وهي أخف من اللمس ‪ ،‬وأيسر من‬
‫أن يقول ‪ :‬المستم أو باشرتم ‪،‬‬
‫و‪٨‬تن نأخذ هذا ا‪١‬تعٌت؛ ألن هناك‬
‫سياقا قرآنيا يف مكان آخر قد جاء‬
‫ليكون نصا ًيف معٌت ‪ ،‬ولذلك‬
‫نستطيع من سياقه أن نفهم ا‪١‬تعٌت‬
‫ا‪١‬تقصود بكلمة « ا‪١‬تس » هنا ‪ ،‬فقد‬
‫قالت السيدة مريم ‪ { :‬قَال َ ْت أىن‬
‫ون ِيل ُبل َ ٌم َول َ ْم َٯت ْ َس ْس ٍِت ب َ َش ٌر‬
‫ي َ ُك ُ‬
‫َول َ ْم أ َ ُك بَغِيّا ً} ػ مريم ‪] 20 :‬‬
‫إن القرآن الكريم يوضح عىل‬
‫لسان سيدتنا مريم أن أحدا ًمن‬
‫البشر لم يتصل بها ذلك االتصال‬
‫الذي ينشأ عنه بلم ‪ ،‬والتعبَت يف‬
‫منتىه الدقة ‪ ،‬وألن األمر فيه‬
‫تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء‬
‫القرآن بأخف لفظ يف وصف تلك‬
‫ا‪١‬تسألة وهو ا‪١‬تس ‪ ،‬وكأن اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل يريد أن يثبت ‪٢‬تا‬
‫إعفافا ًحىت يف اللفظ ‪ ،‬فنىف ‪٣‬ترد مس‬
‫البشر ‪٢‬تا ‪ ،‬وليس ا‪١‬تبلمسة أو‬
‫ا‪١‬تباشرة برغم أن ا‪١‬تقصود باللفظ‬
‫هو ا‪١‬تباشرة؛ ألن اْلية بصدد إثبات‬
‫عفة مريم ‪.‬‬
‫ولنتأمل أدب القرآن يف تناول‬
‫المسألة يف اْلية اليت ‪٨‬تن بصددها؛‬
‫فكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعْب عن‬
‫اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف‬
‫التعبَت ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬أ َ ْو تَ ْفر ُِضوا ْ َ‪٢‬ت ُ َّن‬
‫يضةً} وتعرف أن « أ َ ْو » عندما‬ ‫فَ ِر َ‬
‫ترد يف الكبلم بُت شيئُت فهي تعٍت «‬
‫إما هذا وإما ذاك » ‪ ،‬فهل تفرض‬
‫‪٢‬تن فريضة مقابل ا‪١‬تس؟ ‪.‬‬

‫إن األصل ا‪١‬تقابل يف { َما ل َ ْم‬


‫َ٘ت َ ُّسو ُه َّن } هو أن ٘تسوهن ‪.‬‬
‫يضةً }‬‫ومقابل { تَ ْفر ُِضوا ْ َ‪٢‬ت ُ َّن فَ ِر َ‬
‫هو ‪ :‬أن ال تفرضوا ‪٢‬تن فريضة ‪.‬‬
‫كأن ا‪ٟ‬تق عز وجل يقول ‪ :‬ال جناح‬
‫عليكم إن طلقتم النساء ما لم‬
‫٘تسوهن سواء فرضتم ‪٢‬تن فريضة‬
‫أو لم تفرضوا ‪٢‬تن فريضة ‪ .‬وه كذا‬
‫٭ترص األسلوب القرآين عىل تنبيه‬
‫الذهن يف مبلحظة ا‪١‬تعاين ‪.‬‬
‫ولنا أن نبلحظ أن ا‪ٟ‬تق قد جاء‬
‫بكلمة « إن » يف احتمال وقوع‬
‫الطبلق ‪ ،‬و « إن » كما نعرف‬
‫تستخدم للشك ‪ ،‬فكأن اهلل عز‬
‫وجل ال يريد أن يكون الطبلق‬
‫‪٣‬تًتءا ًعليه و‪٤‬تققا ً‪ ،‬فلم يأت ب «‬
‫إذا » ‪ ،‬بل جعلها يف مقام الشك‬
‫حىت تعزز اْلية قول الرسول صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ « :‬أبغض ا‪ٟ‬تبلل‬
‫إىل اهلل الطبلق » ‪.‬‬
‫ثم يقول ا‪ٟ‬تق عز وجل بعد ذلك ‪:‬‬
‫{ َو َمتِّ ُعو ُه َّن عَىلَ ا‪١‬توسع قَ َد ُر ُه َوعَىلَ‬
‫ا‪١‬تقًت قَ َد ُر ُه } أي إنّك إذا طلقت‬
‫ا‪١‬ترأة قبل الدخول ‪ ،‬ولم تفرض‬
‫‪٢‬تا فريضة فأعطها متعة ‪ .‬وقال‬
‫العلماء يف قيمة ا‪١‬تتعة ‪ :‬إهنا ما‬
‫يوازي نصف مهر مثيبلهتا من‬
‫النساء؛ ألنه كان من ا‪١‬تفروض أن‬
‫تأخذ نصف ا‪١‬تهر ‪ ،‬وما دام لم ُ٭تَّدد‬
‫‪٢‬تا مه ٌر فلها مثل نصف مهر‬
‫مثيبلهتا من النساء ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ عَىلَ ا‪١‬توسع قَ َد ُر ُه َوعَىلَ ا‪١‬تقًت قَ َد ُر ُه‬
‫} أي ينبغي أن تكون ا‪١‬تتعة يف‬
‫حدود تناسب حالة الزوج؛ فا‪١‬توسع‬
‫الغٍت ‪ :‬عليه أن يعطي ما يليق بعطاء‬
‫اهلل له ‪ ،‬وا‪١‬تقًت الفقَت ‪ :‬عليه أن‬
‫يعطي يف حدود طاقته ‪.‬‬
‫وقول القرآن ‪ { :‬ا‪١‬توسع } مشتق‬
‫من « أوسع » واسم الفاعل «‬
‫موسع » واسم ا‪١‬تفعول « موسع‬
‫عليه » ‪ ،‬فأي اسم من هؤالء يطلق‬
‫عىل الزوج؟ إن نظرت إىل أن الزرق‬
‫من ا‪ٟ‬تق فهو « موسع عليه » ‪ ،‬وإن‬
‫نظرت إىل أن ا‪ٟ‬تق يطلب منه أن‬
‫توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك‬
‫‪ ،‬وعىل قدر توسيعها يكون اتساع‬
‫اهلل لك ‪ ،‬فهو « موسع » ‪.‬‬
‫إذن فا‪١‬توسع ‪ :‬هو الذي أوسع عىل‬
‫نفسه بتوسيع حركة أسبابه يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬واإلقتار هو اإلقبلل ‪ ،‬وعىل‬
‫قدر السعة وعىل قدر اإلقتار تكون‬
‫ا‪١‬تتعة ‪ .‬وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حينما‬
‫يطلب حكما ًتكليفيا ًال يقصد إنفاذ‬
‫ا‪ٟ‬تكم عىل ا‪١‬تطلوب منه فحسب ‪،‬‬
‫ولكنه يوزع ا‪١‬تسئولية يف ا‪ٟ‬تق‬
‫اإلٯتاين العام؛ فقوله ‪َ { :‬و َمتِّ ُعو ُه َّن‬
‫عَىلَ ا‪١‬توسع قَ َد ُر ُه َوعَىلَ ا‪١‬تقًت قَ َد ُر ُه }‬
‫يعين إذا ُوجد من ال يفعل حكم اهلل‬
‫فبل بد أن تتكاتفوا عىل إنفاذ أمر اهلل‬
‫يف أن ٯتتع كل واحد طلق زوجته‬
‫قبل أن يدخل بها ‪ .‬وا‪ٞ‬تمع يف‬
‫األمر وهو قوله ‪َ { :‬و َمتِّ ُعو ُه َّن }‬
‫دليل عىل تكاتف األمة يف إنفاذ حكم‬
‫اهلل ‪ .‬وبعد ذلك قال ‪َ { :‬وإِن‬
‫َطل َّ ْق ُت ُمو ُه َّن ِمن قَب ْ ِل أَن َ٘ت َ ُّسو ُه َّن‬
‫يضةً فَ ِن ْص ُف َما‬
‫َوقَ ْد فَ َر ْض ُت ْم َ‪٢‬ت ُ َّن فَ ِر َ‬
‫فَ َر ْض ُت ْم ‪} . . .‬‬

‫َوإ ِْن َطل َّ ْق ُت ُمو ُه َّن ِم ْن قَب ْ ِل أ َ ْن‬


‫يضةً‬ ‫َ٘ت َ ُّسو ُه َّن َوقَ ْد فَ َر ْض ُت ْم َ‪٢‬ت ُ َّن فَ ِر َ‬
‫ون أ َ ْو‬ ‫َ‬
‫فَن ْص ُف َما فَ َر ْض ُت ْم إ َِّال أ ْن يَعْ ُف َ‬
‫ِ‬
‫يَعْ ُف َو ال َّ ِذي بِي َ ِد ِه ُع ْق َد ُة ِالنّكَا ِح َوأ َ ْن‬
‫تَعْ ُفوا أَقْ َر ُب لِلتَّقْ َوى َو َال تَن ْ َس ُوا‬
‫ل‬‫م‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫اّلل ِ‬
‫ون‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ا‬‫ال ْ َف ْض َل َيب ْن َ ُك ْم إ َِّن َّ َ َ‬
‫ٔت‬
‫ب َ ِصَتٌ (‪)237‬‬

‫أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع‬


‫بها فبل تأخذ ا‪١‬تهر كله ‪ ،‬إ‪٪‬تا يكون‬
‫‪٢‬تا النصف من ا‪١‬تهر ‪ .‬ولنعلم أن‬
‫هناك فرقا ًبُت أن يوجد ا‪ٟ‬تكم‬
‫بقانون العدل ‪ ،‬وبُت أن يُنظر يف‬
‫ا‪ٟ‬تكم ناحية الفضل ‪ ،‬وأحكي هذه‬
‫الواقعة لنتعلم منها ‪:‬‬
‫ذهب اثنان إىل رجل ليحكم‬
‫بينهما فقاال ‪ :‬احكم بيننا بالعدل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬أٖتبون أن أحكم بينكما‬
‫بالعدل؟ أم ٔتا هو خَت من العدل؟‬
‫فقاال ‪ :‬وهل يوجد خَت من العدل؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ .‬الفضل ‪.‬‬
‫إن العدل يعطي كل ذي حق حقه ‪،‬‬
‫ولكن الفضل ‪٬‬تعل صاحب ا‪ٟ‬تق‬
‫بض حقه‪.‬‬ ‫يتنازل عن حقه أو عن ع‬
‫إذن فالتشريع حُت يضع موازين‬
‫العدل ال يريد أن ٭ترم النبع‬
‫اإلٯتاين من أر٭تية الفضل؛ فهو‬
‫يعطيك العدل ‪ ،‬ولكنه سبحانه‬
‫نس ُوا ْ‬
‫يقول بعد ذلك ‪َ { :‬وال َتَ َ‬
‫الفضل بَيْن َ ُك ْم } ؛ فالعدل وحده‬
‫قد يكون شاقا ًوتبىق البغضاء يف‬
‫النفوس ‪ ،‬ولكن عملية الفضل‬
‫تنهي ا‪١‬تشاحة وا‪١‬تخاصمة‬
‫والبغضاء ‪.‬‬
‫وا‪١‬تشاحة إ‪٪‬تا تأيت عندما أظن أين‬
‫صاحب ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬وأنت تظن أنك‬
‫صاحب ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬ومن ا‪ٞ‬تائز أن تأيت‬
‫ظروف تزين يل فهمي ‪ ،‬وتأيت لك‬
‫ظروف تزين لك فهمك ‪ ،‬فحُت‬
‫نتمسك بقضية العدل لن نصل إىل‬
‫مبلغ الًتاضي يف النفوس البشرية ‪.‬‬
‫ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا‬
‫وانتهينا ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يقول ‪َ { :‬وإِن‬
‫َطل َّ ْق ُت ُمو ُه َّن ِمن قَب ْ ِل أَن َ٘ت َ ُّسو ُه َّن }‬
‫أي من قبل أن تدخلوا بهن { َوقَ ْد‬
‫يضةً} يعٍت ‪ٝ‬تيتم‬ ‫فَ َر ْض ُت ْم َ‪٢‬ت ُ َّن فَ ِر َ‬
‫ا‪١‬تهر { فَ ِن ْص ُف َما فَ َر ْض ُت ْم إِال َّأَن‬
‫ون } وا‪١‬تقصود ب { يَعْ ُف َ‬
‫ون }‬ ‫يَعْ ُف َ‬
‫هو الزوجة ا‪١‬تطلقة ‪.‬‬
‫إن بعض ا‪ٞ‬تهلة يقولون والعياذ باهلل‬
‫‪ :‬إن القرآن فيه ‪ٟ‬تن ‪ .‬وظنوا أن‬
‫الصحيح يف اللغة أن يأيت القول ‪ :‬إال‬
‫َ‬
‫أن يعفوا بدال من { إِال َّأن يَعْ ُف َ‬
‫ون }‬
‫‪ .‬وهذا اللون من ا‪ٞ‬تهل ال يفرق‬
‫بُت « واو الفعل » و « واو ا‪ٞ‬تمع »‬
‫إهنا هنا « واو الفعل » فقول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫َ‬
‫ون } مأخوذ من الفعل‬ ‫{ إِال َّأن يَعْ ُف َ‬
‫« عفا » و « يعفو » ‪.‬‬
‫وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو‬
‫عن نصف مهرها وتتنازل عنه‬
‫لزوجها ‪ .‬ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬أ َ ْو يَعْ ُف َوا ْ‬
‫الذي بِي َ ِد ِه ُع ْق َد ُة النكاح }‬
‫وا‪١‬تقصود به الزوج وليس الويل ‪،‬‬
‫ألن سياق اْلية يفهم منه أن‬
‫ا‪١‬تقصود هبهو الزوج ‪ ،‬مع أن بعض‬
‫ا‪١‬تفسرين قالوا ‪ :‬إنه ويل الزوجة ‪.‬‬
‫ولنا أن نعرف أن الويل ليس له أن‬
‫يعفو يف مسألة مهر ا‪١‬ترأة؛ ألن‬
‫ا‪١‬تهر من حق الزوجة ‪ ،‬فهو أصل‬
‫مال ‪ ،‬وأصل رزق يف حياة الناس؛‬
‫ألنه نظَت التمتع بالبضع‪.‬‬
‫ولذلك ٕتد بعض الناس ال يصنعون‬
‫شيئا ًبصداق ا‪١‬ترأة ‪ ،‬ويدخرونه ‪٢‬تا‬
‫ْتيث إذا مرض واحد اشًتت له‬
‫من هذا الصداق ولو قرص اسْبين‬
‫مثبل؛ ألنه عبلج من رزق حبلل ‪،‬‬
‫فقد ‪٬‬تعل اهلل فيه الشفاء ‪.‬‬

‫فا‪١‬ترأة ٖتتفظ بصداقها ا‪ٟ‬تبلل ‪١‬تثل‬


‫هذه ا‪١‬تناسبات لتصنع به شيئا ‪٬‬تعل‬
‫اهلل فيه خَتا ً‪ ،‬ألنه من رزق حبلل‬
‫ال غش فيه وال تدليس ‪.‬‬
‫وأراد المفسرين الذين نادوا بأن‬
‫ويل الزوجة هو الذي يعفو وأقول ‪:‬‬
‫‪١‬تاذا يأيت اهلل ْتكم تتنازل فيه‬
‫ا‪١‬ترأة عن حقها وأن تعفو عن‬
‫النصف ‪ ،‬والرجل ال يكون أر٭تيا ً‬
‫ليعفو عن النصف؟ ‪١‬تاذا ٕتعل‬
‫السماء الغرم كله عىل ا‪١‬ترأة؟ هل‬
‫من ا‪١‬تنطقي أن تعفو النساء أو يعفو‬
‫الذي بيده عقد النكاح يعٍت أولياء‬
‫الزوجة ‪ ،‬فنجعل العفو يأيت من‬
‫الزوجة ومن أوليائها؛ أي من جهة‬
‫واحدة؟‬
‫إن علينا أن ‪٨‬تسن الفهم لسياق‬
‫الفضل الذي قال اهلل فيه ‪َ { :‬وال َ‬
‫نس ُوا ْالفضل بَيْن َ ُك ْم } ‪ ،‬إن‬
‫تَ َ‬
‫التقابل يف العفو يكون بُت االثنُت‬
‫‪ ،‬بُت الرجل وا‪١‬ترأة ‪ ،‬ونفهم منه‬
‫ا‪١‬تقصود بقوله تعاىل ‪ { :‬أ َ ْو يَعْ ُف َوا ْ‬
‫الذي بِي َ ِد ِه ُع ْق َد ُة النكاح } أنه هو‬
‫الزوج ‪ ،‬فكما أن للمرأة أن تعفو‬
‫عن النصف ا‪١‬تستحق ‪٢‬تا فللزوج‬
‫أن يعفو أيضا عن النصف ا‪١‬تستحق‬
‫له ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وأَن تعفوا أَقْ َر ُب‬
‫للتقوى } ؛ ألن من ا‪ٞ‬تائز جدا أن‬
‫يظن أحد الطرفُت أنه مظلوم ‪،‬‬
‫وإن أخذ النصف الذي يستحقه ‪.‬‬
‫لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك أقرب‬
‫للتقوى وأسلم للنفوس ‪ .‬ولنا أن‬
‫نتذكر دائما يف مثل هذه ا‪١‬تواقف‬
‫نس ُوا ْالفضل‬
‫قول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َتَ َ‬
‫بَيْن َ ُك ْم } فحىت يف مقام ا‪٠‬تبلف‬
‫الذي يؤدي إىل أن يفًتق رجل عن‬
‫امرأة لم يدخل بها يقول اهلل ‪{ :‬‬
‫نس ُوا ْالفضل بَيْن َ ُك ْم } أي ال‬
‫َوال َتَ َ‬
‫ٕتعلوها خصومة وثأرا ًوأحقادا ً‪،‬‬
‫واعلموا أن ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪٬‬تعل من‬
‫بعض األشياء أسبابا ًمقدورة‬
‫‪١‬تقدور لم نعلمه ‪ .‬وهذه ا‪١‬تسألة‬
‫ٕتعل اإلنسان ال يعتقد أن أسبابه‬
‫هي الفاعلة وحدها ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ :‬قد ‪٧‬تد رجبل قد‬
‫أعجب بواحدة رآها فتزوجها ‪ ،‬أو‬
‫واحدة أخرى رآها شاب ولم‬
‫تعجبه ‪ ،‬ثم جاء ‪٢‬تا واحد آخر‬
‫فأعجب بها ‪ ،‬معٌت ذلك أن اهلل عز‬
‫وجل كتب ‪٢‬تا القبول ساعة رأت‬
‫الشاب أهبل ً‪٢‬تا ورآها هي أهبل ًله ‪.‬‬
‫ولذلك كان الفبلحون قدٯتا ً‬
‫يقولون ‪ :‬ال ٖتزن عندما يأيت واحد‬
‫ليخطب ابنتك وال تعجبه؛ ألنه‬
‫مكتوب عىل جبهة كل فتاة ‪ :‬أيها‬
‫الرجال ِع ّفوا بكسر العُت‬
‫وتشديد الفاء عن نساء الرجال؛‬
‫فهي ليست له ‪ ،‬ولذلك فليس هذا‬
‫الرجل من نصيبها ‪ .‬وعلينا أال‬
‫هنمل أسباب القدر يف هذه األمور؛‬
‫ألن هذا أدىع أن ‪٨‬تفظ النفس‬
‫البشرية من األحقاد والضغائن ‪.‬‬
‫وٮتتم ا‪ٟ‬تق اْلية بقوله ‪ { :‬إ َِّن اهلل‬
‫ون ب َ ِصَتٌ} إنه سبحانه‬ ‫ِ‬
‫ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫يعلم ما يف الصدور وما وراء كل‬
‫سلوك ‪ .‬وبعد ذلك تأيت آية لتثبت‬
‫قضية إٯتانية ‪ ،‬هذه القضية‬
‫اإلٯتانية هي أن تكاليف اإلسبلم‬
‫كلها تكاليف ‪٣‬تتمعة ‪ ،‬فبل تستطيع‬
‫أن تفصل تكليفا ًعن تكليف ‪ ،‬فبل‬
‫تقل ‪ « :‬هذا فرض تعبدي » و «‬
‫مبمصلحي » و « هذا أمر‬ ‫هذا دأ‬
‫جنائي » ‪ ،‬ال ‪ .‬إن كل قضية مأمور‬
‫بها من ا‪ٟ‬تق هي قضية إٯتانية‬
‫ُتك ِ َّو ُن مع َتها منهجا متكامبل ً‪.‬‬
‫فبعد أن تكلم ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫عن الطبلق يقول ‪َ { :‬حافِ ُظوا ْعَىلَ‬
‫الصلوات والصبلة الوسىط‪} . . .‬‬
‫الص َبل ِة‬
‫ات َو َّ‬ ‫َحافِ ُظوا عَىلَ ا َّلصلَو ِ‬
‫َ‬
‫ُت (‪)238‬‬ ‫ّلل قَانِتِ‬ ‫الْو ْس َىط و ُقوموا ِ َ ِ‬
‫ُ َ ُ ّ‬
‫َ‬
‫فَإ ِْن ِخ ْف ُت ْم فَ ِر َج ًاال أ َ ْو ُر ْكبَانًا فَإِذَا‬
‫اّللَ كَ َما عَل َّ َم ُك ْم َما‬ ‫أ َ ِمن ْ ُت ْم فَاذْ ُك ُروا َّ‬
‫ون (‪)239‬‬ ‫ل َ ْم تَ ُكونُوا تَعْل َ ُم َ‬
‫ثم يعود إىل األسرة وإىل ا‪١‬تتوىف عنها‬
‫زوجها فيقول ‪ { :‬والذين يُت َ َو َّ ْو‬
‫ف َن‬
‫ون أَزْ َواجا ً َو ِصيَّةً‬
‫من ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ألَزْ َواج ِه ْم َّمتَاعا ًإ َِىل ا‪ٟ‬تول َ َْت َ‬
‫إِ ْخ َرا ٍج فَإ ِْن َخ َر ْج َن فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح‬
‫عَلَي ْ ُك ْم ِيف َما فَعَل َْن يف أَن ْ ُف ِس ِه َّن ِمن‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يم } ػ‬ ‫َّمعْ ُروف واهلل َعزِي ٌز َحك ٌ‬
‫البقرة ‪] 240 :‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل فَ َص َل‬
‫بآية ‪َ { :‬حافِ ُظوا ْعَىلَ الصلوات ‪. .‬‬
‫} بُت قضية واحدة هي قضية‬
‫الفراق بُت الزوجُت وقسمها‬
‫قسمُت ‪ ،‬وأدخل بينهما ا‪ٟ‬تديث‬
‫عن الصبلة ‪ ،‬وذلك لينبهنا إىل وحدة‬
‫التكاليف اإلٯتانية ‪ ،‬ونظرا ألن‬
‫ا‪ٟ‬تق يتكلم هنا عن أشياء كل‬
‫مظاهرها إما شقاق اختياري‬
‫بالطبلق ‪ ،‬وإما افًتاق قدري‬
‫بالوفاة ‪ ،‬فأراد اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫أن يدخل اإلنسان يف العملية‬
‫التعبدية اليت تصله باهلل الذي شرع‬
‫الطبلق والصبلة وقدر الوفاة ‪.‬‬
‫و‪١‬تاذا اختار اهلل الصبلة دون سائر‬
‫العبادات لتقطع سياق الكبلم عن‬
‫تشريع الطبلق والفراق؟ ألن‬
‫الصبلة هي اليت هتب ا‪١‬تؤمنُت‬
‫االطمئنان ‪ ،‬إن كانت أمور الزواج‬
‫والطبلق حزبتهم وأ‪٫‬تتهم يف‬
‫شقاق االختيار يف الطبلقات اليت‬
‫وقعت أو عناء االفًتاق بالوفاة ‪.‬‬
‫ولن يربط عىل قلوبهم إال أن يقوموا‬
‫لربهم ليؤدوا الصبلة ‪ ،‬وقد كان‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أول‬
‫من يفعل ذلك ‪ ،‬كان إذا ما حزبه‬
‫أمر قام إىل الصبلة ‪.‬‬
‫إن ا‪١‬تؤمن يذهب إىل ا‪٠‬تالق الذي‬
‫أجرى له أسباب الزواج والطبلق‬
‫والفراق؛ ليسأله أن ٮتفف عنه‬
‫ا‪٢‬تم وا‪ٟ‬تزن ‪ .‬ومادام ا‪١‬تؤمن قد‬
‫اختار الذهاب إىل من ُ‪٬‬تري‬
‫األقدار فله أن يعرف أن اهلل الذي‬
‫أجرى تلك األقدار عليه لم‬
‫يًتكها ببل أحكام ‪ ،‬بل وضع لكل‬
‫أمر حكما مناسبا ‪ ،‬وما عىل ا‪١‬تؤمن‬
‫إال أن يأخذ األمور القدرية برضا‬
‫ثم يذهب إىل اهلل قانتا وخاشعا‬
‫ومصليا ‪ .‬ألن ا‪١‬تسألة مسألة‬
‫الطبلق أو الوفاة فيها فزع وفراق‬
‫اختيار أو فراق ا‪١‬توت القدري ‪.‬‬
‫ويأيت قوله تعاىل ‪َ { :‬حافِ ُظوا ْعَىلَ‬
‫الصلوات والصبلة الوسىط}‬
‫فنفهم أن ا‪١‬تقصود يف اْلية هي‬
‫الصلوات ا‪٠‬تمس ‪ ،‬فما ا‪١‬تقصود‬
‫بالصبلة الوسىط؟‬
‫ساعة يأيت خاص وعام مثل قوله‬
‫تعاىل ‪َّ { :‬ر ِ ّب اغفر ِيل َول ِ َوال ِ َد َّي‬
‫ُت‬ ‫و ِ‪١‬تَن د َخ َل بَي ْ ِيت م ْؤ ِمنا ًولِلْم ْؤ ِم ِ‬
‫ن‬
‫َُ َ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫وا‪١‬تؤمنات َوال َتَ ِز ِد الظا‪١‬تُت إِال َّتَبَارا ً‬
‫} ػ نوح ‪] 28 :‬‬
‫فكم مرة دخل األب واألمر هنا؟‬
‫لقد دخلوا يف قوله تعاىل ‪ { :‬اغفر ِيل‬
‫َول ِ َوال ِ َد َّي } ‪ ،‬ويف قوله ‪َ { :‬و ِ‪١‬تَن‬
‫يت } ‪ ،‬ويف قوله ‪{ :‬‬ ‫ِ‬
‫دَ َخ َل بَي ْ َ‬
‫ُت وا‪١‬تؤمنات } ‪ ،‬أي‬ ‫ولِلْم ْؤ ِم ِ‬
‫ن‬
‫َ ُ َ‬
‫دخلوا ثبلث مرات ‪.‬‬
‫إذن فإ‪٬‬تاد عام بعد خاص ‪ ،‬يعٍت أن‬
‫يدخل ا‪٠‬تاص يف العام فيتكرر‬
‫ترارا ً‬ ‫األمر بالنسبة للخاص ك‬
‫يناسب خصوصيته ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪َ { :‬حافِ ُظوا ْعَىلَ‬
‫الصلوات والصبلة الوسىط} تفهم‬
‫ذلك ا‪١‬تعٌت فإذا سألنا ‪ :‬ما معٌت‬
‫حافظوا؟ ا‪ٞ‬تواب إذن يقتضي أن‬
‫نفهم أن عندنا « حفظا ً» يقابل «‬
‫النسيان » ‪ ،‬و « حفظا » يقابله «‬
‫التضييع » ‪ ،‬واالثنان يلتقيان ‪،‬‬
‫فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد‬
‫ضيعه ‪.‬‬

‫والذي حفظ ماال ثم بدده ‪ ،‬لقد‬


‫ضيعه أيضا ً‪ ،‬إذن كلها معانٍ تلتقي‬
‫يف فقد الشيء ‪ ،‬فا‪ٟ‬تفظ معناه أن‬
‫تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا‬
‫ما حفظت آية يف القرآن فبلبد أن‬
‫ٖتفظها يف نفسك ‪ ،‬ولو أنعم اهلل‬
‫عليك ٔتال فبل بد أن ٖتافظ عليه ‪.‬‬
‫وقوله ‪َ { :‬حافِ ُظوا ْعَىلَ الصلوات }‬
‫معناه ال تضيعوها ‪ُ .‬و٭تتمل أيضا ً‬
‫معٌت آخر هو أنكم قد ذقتم حبلوة‬
‫الصبلة يف القرب من معية ربكم ‪،‬‬
‫وذلك أجدر وأوىل أن تتمسكوا بها‬
‫أكثر ‪ ،‬وذلك القول يسري عىل‬
‫الصلوات ا‪٠‬تمس اليت نعرفها ‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪ { :‬والصبلة الوسىط}‬
‫ذكر للخاص بعد العام ‪ ،‬فكأن اهلل‬
‫أمر با‪١‬تحافظة عىل ذلك ا‪٠‬تاص‬
‫مرتُت ‪ ،‬مرة يف دائرة العموم ومرة‬
‫أخرى أفردها اهلل با‪٠‬تصوص ‪ .‬وما‬
‫العلة هنا يف تفرد الصبلة الوسىط‬
‫با‪٠‬تصوص؟ إن « وسىط » هي‬
‫تأنيث « أوسط » ‪ ،‬واألوسط‬
‫والوسىط هي األمر بُت شيئُت عىل‬
‫االعتدال ‪ ،‬أي أن الطرفُت‬
‫متساويان ‪ ،‬وال يكون الطرفان‬
‫متساويُت يف العدد وهي الصلوات‬
‫ا‪٠‬تمس إال إذا كانت الصلوات‬
‫وتراً؛ أي مفردة؛ ألهنا لو كان‬
‫زوجية ‪١‬تا عرفنا الوسىط فيها ‪،‬‬
‫ومادام ا‪١‬تقصود هو وسط ا‪٠‬تمس ‪،‬‬
‫فهي الصبلة الثالثة اليت يسبقها‬
‫صبلتان ويعقبها صبلتان ‪ ،‬هذا إن‬
‫الحظت العدد ‪ ،‬باعتبار ترتيب‬
‫األول والثاين والثالث والرابع‬
‫وا‪٠‬تامس ‪.‬‬
‫وإذا كان االعتبار بفريضة الصبلة‬
‫فإن أول صبلة فرضها اهلل عز وجل‬
‫هي صبلة الظهر ‪ ،‬هذا أول فرض ‪،‬‬
‫وبعده العصر ‪ ،‬فا‪١‬تغرب ‪ ،‬فالعشاء ‪،‬‬
‫فالفجر ‪ .‬فإن أخذت الوسىط‬
‫بالتشريع فهي صبلة ا‪١‬تغرب وهذا‬
‫رأي يقول به كثَت من العلماء ‪.‬‬
‫وإن أخذت الوسىط ْتسب عدد‬
‫ركعات الصبلة فستجد أن هناك‬
‫صبلة قوامها ركعتان هي صبلة‬
‫الفجر وصبلة من أربع ركعات‬
‫وهي صبلة الظهر والعصر والعشاء‬
‫‪ ،‬وصبلة من ثبلثة ركعات هي‬
‫صبلة ا‪١‬تغرب ‪ .‬والوسط فيها هي‬
‫الصبلة الثبلثية ‪ ،‬وهي وسط بُت‬
‫الزوجية والرباعية فتكون هي‬
‫صبلة ا‪١‬تغرب أيضا ‪ .‬وإن أخذهتا‬
‫بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار‬
‫والظهر بعده ثم العصر وا‪١‬تغرب‬
‫والعشاء ‪ ،‬فالوسىط هي العصر ‪.‬‬
‫وإن أخذهتا عىل أهنا الوسط بُت‬
‫ا‪ٞ‬تهرية والسرية فيحتمل أن‬
‫تكون هي صبلة الصبح أو صبلة‬
‫ا‪١‬تغرب؛ ألن الصلوات السرية هي‬
‫الظهر والعصر ‪ ،‬وا‪ٞ‬تهرية هي‬
‫ا‪١‬تغرب والعشاء والفجر ‪ .‬وبُت‬
‫العشاء والظهر تأيت صبلة الصبح ‪،‬‬
‫أو صبلة ا‪١‬تغرب باعتبار أهنا تأيت‬
‫بُت الظهر والعصر من ناحية ‪،‬‬
‫والعشاء والصبح من ناحية أخرى ‪.‬‬
‫وإن أخذهتا ألن ا‪١‬تبلئكة ٕتتمع‬
‫فيها فهي يف طريف النهار والليل‬
‫فذلك يعٍت صبلة العصر أو صبلة‬
‫الصبح ‪ .‬إذن ‪ ،‬فالوسط يأيت من‬
‫االعتبار الذي ُٖتسب به إن كان‬
‫عددا ًأو تشريعا ‪ ،‬أو عدد ركعات ‪،‬‬
‫أو سرية أو جهرية أو ْتسب نزول‬
‫مبلئكة النهار والليل ‪ ،‬وكل اعتبار‬
‫من هؤالء له حكم ‪.‬‬
‫و‪١‬تاذا أخىف اهلل ذكرها عنا؟ نقول ‪:‬‬
‫أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن‬
‫هناك فرقا بُت الشيء لذاته ‪،‬‬
‫والشيء الذي يُبهم يف سواه؛ ليكون‬
‫كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إىل‬
‫ا‪١‬تحافظة عىل ‪ٚ‬تيع الصلوات ‪.‬‬
‫فما دامت الصبلة الوسىط تصلح‬
‫ألن تكون الصبح والظهر والعصر‬
‫وا‪١‬تغرب والعشاء فذلك أدىع‬
‫للمحافظة عىل الصلوات ‪ٚ‬تيعا ‪.‬‬
‫فإبهام الشيء إ‪٪‬تا جاء إلشاعة‬
‫بيانه ‪ .‬ولذلك أبهم اهلل ليلة القدر‬
‫للعلة نفسها وللسبب نفسه ‪ ،‬فبدل‬
‫أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت‬
‫ليال أقدار ‪.‬‬
‫كذلك قوله تعاىل ‪َ { :‬حافِ ُظوا ْعَىلَ‬
‫الصلوات والصبلة الوسىط} أي‬
‫عىل الصلوات ا‪٠‬تمس بصفة عامة‬
‫وكل صبلة تنفرد بصفة خاصة ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق سبحانه أن نقوم لكل‬
‫صبلة و‪٨‬تن قانتون ‪ ،‬واألمر الواضح‬
‫ُت } وأصل‬ ‫ّلل قَانِتِ‬
‫هو { و ُقوموا ْ َ ِ‬
‫َ ُ ّ‬
‫َ‬
‫القنوات يف اللغة هو ا‪١‬تداومة عىل‬
‫الشيء ‪ ،‬وقد حضر وحث القرآن‬
‫الكريم عىل دٯتومة طاعة اهلل‬
‫ولزوم ا‪٠‬تشوع وا‪٠‬تضوع ‪ ،‬ونرى‬
‫ذلك يف قول ا‪ٟ‬تق الكريم ‪ { :‬أ َ َّم ْن‬
‫ُه َو قَانِ ٌت آنَآءَ اليل َسا ِجدا ً َوقَ ِآئما ً‬
‫‪ٛ‬تةَ َربِّ ِه ُق ْل‬
‫َ٭ت ْ َذ ُر اْلخرة َوي َ ْر ُجوا ْ َر ْ َ‬
‫ون والذين‬ ‫َه ْل ي َ ْست َ ِوي الذين يَعْل َ ُم َ‬
‫ون إ َِّ‪٪‬تَا يَت َ َذ َّك ُر أُ ْولُوا ْاأللباب‬
‫ال َيَعْل َ ُم َ‬
‫} ػ الزمر ‪] 9 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه يبلغ رسوله صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ليبلغنا ‪٨‬تن‬
‫ا‪١‬تسلمُت ا‪١‬تؤمنُت برسالته أن‬
‫نقارن بُت الذي ٮتشع هلل يف أثناء‬
‫الليل فيقضيه قائما ًوساجدا ًيرجو‬
‫ر‪ٛ‬تة ربه ‪ ،‬وبُت الذي يدعو ربه‬
‫يف الضراء وينساه يف السراء ‪ ،‬هل‬
‫يستوي الذين يعلمون حقوق اهلل‬
‫فيطيعوه ويوحدوه والذين ال‬
‫يعلمون فيًتكوا النظر والتبصر يف‬
‫أدلة قدرات اهلل؟ إن السبيل إىل‬
‫ذكر اهلل هو ٕتديد الصلة به‬
‫والوقوف بُت يديه مقيمُت للصبلة‬
‫‪.‬‬
‫و‪٨‬تن نتلىق األمر بإقامة الصبلة حىت‬
‫يف أثناء القتال ‪ ،‬لذلك شرع لنا‬
‫صبلة ا‪٠‬توف ‪ ،‬فالقتال هو ا‪١‬تسألة‬
‫اليت ٗترج اإلنسان عن طريق أمنه‬
‫إن ِخ ْف ُت ْم‬
‫‪ ،‬فيقول سبحانه ‪ { :‬فَ ْ‬
‫فَ ِر َجاال ًأ َ ْو ُركْبَانا ً} ‪ ،‬إننا حىت يف‬
‫أثناء القتال وا‪٠‬توف ال ننَس ذكر‬
‫اهلل؛ ألننا أحوج ما نكون إىل اهلل‬
‫أثناء مواجهتنا للعدو ‪ ،‬ولذلك ال‬
‫يصح أن ‪٧‬تعل السبب الذي يوجب‬
‫أن نكون مع اهلل مْبرا ألن ننَس‬
‫اهلل ‪.‬‬
‫وكذلك ا‪١‬تريض ‪ ،‬مادام مريضا ً‬
‫فهو مع معية اهلل ‪ ،‬فبل يصح أن‬
‫ينقطع عن الصبلة؛ ألنه ال عذر‬
‫لتاركها ‪ ،‬حىت ا‪١‬تريض إن لم‬
‫يستطع أن يصلي واقفا صىل قاعدا ً‪،‬‬
‫فإن لم يستطع قاعدا؛ فليصل‬
‫مضطجعا ‪ ،‬ويستمر معه األمر حىت‬
‫لو اضطر للصبلة برموش عينيه ‪.‬‬
‫كذلك إن خفتم من عدوكم صلوا‬
‫رجاال ‪ ،‬يعٍت سائرين عىل أرجلكم‬
‫أو ركبانا و « رجاال » ‪ٚ‬تع « راجل‬
‫» أي ٯتشي عىل قدميه ‪ ،‬ومثال‬
‫ذلك قوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وأ َ ِّذن ِيف الناس‬
‫با‪ٟ‬تج يَأ ْ ُت َ‬
‫وك ِر َجاال ًوعىل كُ ّ ِل َضا ِم ٍر‬
‫ُت ِمن كُ ّ ِل فَ ّ ٍج َعميِ ٍق } ػ ا‪ٟ‬تج ‪:‬‬ ‫يَأْتِ‬
‫َ‬
‫‪ ] 27‬لقد كان الناس يؤدون‬
‫فريضة ا‪ٟ‬تج سَتا ًعىل األقدام أو‬
‫ركبانا ًعىل إبل يضمرها السفر من‬
‫كل مكان بعيد ‪ .‬إذن فالراجل هو‬
‫من ٯتشي عىل قدميه ‪.‬‬

‫واألرجل ‪٥‬تلوقة لتحمل بٍت‬


‫اإلنسان ‪ :‬الواقف منهم ‪ ،‬وتقوم‬
‫بتحريك ا‪١‬تتحرك منهم ‪ ،‬فإن كان‬
‫اإلنسان واقفا ‪ٛ‬تلته رجبله ‪ ،‬وإن‬
‫كان ماشيا فإن رجليه تتحركان ‪.‬‬
‫وا‪١‬تقصود هنا أن الصبلة واجبة عىل‬
‫ا‪١‬تؤمنُت سائرين عىل أقدامهم أو‬
‫ركبانا ‪.‬‬
‫هذه ا‪١‬تسألة قد فصلها ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل يف صبلة ا‪٠‬توف بأن‬
‫قسم ا‪١‬تسلمُت قسمُت ‪ :‬قسما‬
‫يصلي مع النبي عليه الصبلة‬
‫والسبلم يف الركعة األوىل ‪ ،‬ثم‬
‫يتمون الصبلة وحدهم ويأيت‬
‫القسم اْلخر ليأتم بالرسول يف‬
‫الركعة اليت بعدها حىت تنتهي‬
‫الصبلة بالنسبة للرسول صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وينتظرهم حىت‬
‫يفرغوا من صبلهتم ويسلم بهم ‪،‬‬
‫الريق األول أخذ فضل‬ ‫فيكون ف‬
‫البدء مع الرسول ‪ ،‬والفريق اْلخر‬
‫أخذ فضل االنتهاء من الصبلة مع‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم ‪ .‬وكان‬
‫فكل من‬
‫ذلك يف غزوة ذات الرقاع ٌ‬
‫الفرقتُت كانت تقف يف وجه العدو‬
‫للحراسة يف أثناء صبلة الفرقة‬
‫األخرى ‪.‬‬
‫ويل رأي يف هذه ا‪١‬تسألة هو أن صبلة‬
‫ا‪٠‬توف بالصور اليت ذكرها الفقهاء‬
‫إ‪٪‬تا كانت للمعارك اليت يكون‬
‫فيها رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫؛ ألنه ال يصح أن يكون هناك‬
‫جيش يصلي خلف النبي صىل اهلل‬
‫عليه وسلم و٭ترم البايق من أن‬
‫يصلي خلفه ‪ ،‬لذلك جعل اهلل بركة‬
‫الصبلة مع رسول اهلل للقسمُت ‪.‬‬
‫لكن حينما انتقل رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم إىل الرفيق األعىل‬
‫فمن ا‪١‬تمكن أن يكون للواقفُت‬
‫أمام العدو إمام ولآلخرين إمام ‪،‬‬
‫إذن كان تقسيم الصبلة وراء اإلمام‬
‫يف صبلة ا‪٠‬توف إ‪٪‬تا كان ألن اإلمام‬
‫هو اإلمام األعىل رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فلم يشأ اهلل أن‬
‫٭تجب قوما عن الصبلة مع رسول‬
‫اهلل عن قوم آخرين ‪ ،‬فقسم‬
‫الصبلة الواحدة بينهم ‪ .‬لكن يف‬
‫وقتنا ا‪ٟ‬تايل الذي انتظمت فيه‬
‫ا‪١‬تسائل ‪ ،‬وصار كل الناس عىل‬
‫سواء ‪ ،‬ولم يعد رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم فينا ‪ ،‬لذلك يصح أن‬
‫ُتصلي كل ‪ٚ‬تاعة بإمام خاص بهم‬
‫إن ِخ ْف ُت ْم فَ ِر َجاال ً‬
‫‪ .‬وقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَ ْ‬
‫كانا ً} نفهم منه الصبلة ال‬ ‫أ َ ْو ُر ْب َ‬
‫تسقط حىت عند لقاء العدو ‪ ،‬فإذا‬
‫حان وقت الصبلة فعىل ا‪١‬تؤمن أن‬
‫يصليها إذا استطاع فإن لم يستطع‬
‫فليكْب تكبَتتُت ويتابع ا‪ٟ‬تق‬
‫فيقول ‪ { :‬فاذكروا اهلل كَ َما‬
‫ون}‬‫عَل َّ َم ُكم َّما ل َ ْم تَ ُكونُوا ْتَعْل َ ُم َ‬
‫أي اذكروا اهلل عىل أنه علمكم‬
‫األشياء اليت لم تكونوا تعلموهنا ‪،‬‬
‫فلو لم يعلمكم فماذا كنتم‬
‫تصنعون؟‬
‫وبعد ذلك يعود ا‪ٟ‬تق لسياق ا‪ٟ‬تديث‬
‫عن ا‪١‬تتوىف عنها زوجها فيقول ‪{ :‬‬
‫ِ‬
‫والذين يُت َ َوفَّ ْو َن من ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫ون‬
‫أَزْ َواجا ً َو ِصيَّةًألَزْ َوا ِج ِه ْم َّمتَاعا ًإ َِىل‬
‫ا‪ٟ‬تول َ َْت َإِ ْخ َرا ٍج ‪} . . .‬‬
‫ِ‬
‫الي َن يُت َ َو َّف ْو َن من ْ ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫ون‬ ‫َو ِذ َّ‬
‫اجا َو ِصيَّةً ِألَزْ َوا ِج ِه ْم َمتَاعًا إ َِىل‬ ‫َ‬
‫أزْ َو ً‬
‫ا ْ‪ٟ‬ت َ ْو ِل َ َْت َإِ ْخ َرا ٍج فَإ ِْن َخ َر ْج َن فَ َبل‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم ِيف َما فَعَل َْن ِيف أَن ْ ُف ِس ِه َّن‬ ‫ُجن َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِم ْن َمعْ ُر ٍ‬
‫اّلل َعزِي ٌز َحك ٌ‬
‫يم‬ ‫وف َو ّ َُ‬
‫(‪)240‬‬

‫يف آية سابقة قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬والذين‬


‫ون أَزْ َواجا ً‬ ‫ِ‬
‫يُت َ َوفَّ ْو َن من ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫ي َ ًَتَبَّ ْص َن بِأَن ْ ُف ِس ِه َّن أ َ ْربَعَةَ أ َ ْش ُه ٍر‬
‫َو َع ْشرا ًفَإِذَا بَلَغ ْ َن أ َ َجل َ ُه َّن فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح‬
‫يما فَعَل َْن يف أَن ْ ُف ِس ِه َّن‬ ‫ِ‬
‫عَلَي ْ ُك ْم ف َ‬
‫ون َخبَِتٌ}‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫با‪١‬تعروف واهلل ِ‬
‫ٔت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ػ البقرة ‪] 234 :‬‬
‫إذن ‪٨‬تن أمام حكمُت للذين‬
‫يتوفون ويذرون أزواجا ‪ ،‬حكم أن‬
‫تًتبص بنفسها أربعة أشهر‬
‫وعشرا ‪ ،‬وحكم آخر بأن للزوج‬
‫حُت ٖتضره الوفاة أو أسبابها أو‬
‫مقدماهتا أن ينصح ويوصي بأن‬
‫تظل الزوجة يف بيته حوال كامبل ال‬
‫ُهتاج ‪ ،‬وتكون األربعة األشهر‬
‫والعشر فريضة وبقية ا‪ٟ‬تول والعام‬
‫وصية ‪ ،‬إن شاءت أخذهتا وإن‬
‫شاءت عدلت عنها ‪ { .‬والذين‬
‫ون أَزْ َواجا ً‬ ‫ِ‬
‫يُت َ َوفَّ ْو َن من ُك ْم َوي َ َذ ُر َ‬
‫َو ِصيَّةً} هذه وصية من الزوج‬
‫عندما ٖتضره الوفاة ‪ .‬إذن فا‪١‬تتوىف‬
‫عنها زوجها بُت حكمُت ‪ :‬حكم‬
‫الزم وهو فرض عليها بأن تظل‬
‫أربعة أشهر وعشرا ً‪ ،‬وحكم بأن‬
‫يوصي الزوج بأن تظل حوال كامبل‬
‫ال ُهتاج إال أن ٗترج من نفسها ‪ .‬و {‬
‫َ َْت َإِ ْخ َرا ٍج } أي ال ٮترجها أحد ‪.‬‬
‫{ فَإ ِْن َخ َر ْج َن فَبل َ ُجن َ َ‬
‫اح عَلَي ْ ُك ْم ِيف‬
‫ما فَعَل َْن يف أَن ْ ُف ِس ِه َّن ِمن َّمعْ ُر ٍ‬
‫وف‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫يم } ‪ .‬إن ‪٢‬تا ا‪٠‬تيار‬ ‫واهلل َعزِي ٌز َحك ٌ‬
‫أن تظل عاما حسب وصية زوجها‬
‫‪ ،‬و‪٢‬تا ا‪٠‬تيار يف أن ٗترج بعد األربعة‬
‫األشهر والعشر ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق بعد ذلك ‪{ :‬‬
‫ولِلْم َطل َّ َق ِ‬
‫ات َمتَا ٌع با‪١‬تعروف َح ّقا ً‬ ‫َ ُ‬
‫عَىلَ ا‪١‬تتقُت }‬
‫ولِلْم َطلَّقَ ِ‬
‫ات متَا ٌع بِا ْ‪١‬تَعْر ِ‬
‫وف َح ًّقا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫ُت (‪)241‬‬ ‫عَىلَ ا ْ‪١‬تُتَّق َ‬
‫إن لكل ا‪١‬تطلقات يف أي صورة من‬
‫الصور متاعا ً‪ ،‬ولكنه سبحانه قد‬
‫بُت ا‪١‬تتاع يف كل واحدة بدليل أنه‬
‫أوضح لنا ‪ :‬إن لم تفرضوا ‪٢‬تن‬
‫فريضة فقال ‪َ { :‬و َمتِّ ُعو ُه َّن عَىلَ‬
‫ا‪١‬توسع قَ َد ُر ُه َوعَىلَ ا‪١‬تقًت قَ َد ُر ُه } ‪.‬‬
‫وإن كنتم فرضتم ‪٢‬تا مهرا ًفنصف‬
‫ما فرضتم ‪ ،‬فكأن اهلل قد جعل لكل‬
‫حالة حكما يناسبها ‪ ،‬ولكل مطلقة‬
‫متعة بالقدر الذي قاله سبحانه ‪.‬‬
‫وعندما نتأمل قول ا‪ٟ‬تق من بعد‬
‫ك يُب َ ّ ُِ‬
‫ُت اهلل ل َ ُك ْم‬ ‫ذلك ‪َ { :‬ك َذل ِ َ‬
‫ون}‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫آياتِ ِه لَعل َّ ُكم تَعْقِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫اّلل ل َ ُك ْم آيَاتِ ِه لَعَل َّ ُك ْم‬ ‫ك يُب َ ِّ ُ‬
‫ُت ّ َُ‬ ‫َك َذل ِ َ‬
‫ون (‪)242‬‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫تَعْقِ‬
‫َ‬
‫فنحن نعرف ‪٦‬تا سبق أن اْليات هي‬
‫األمور العجيبة ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل حُت ينبه العقل إىل استقبال‬
‫حكم بالتعقل يكون العقل‬
‫ا‪١‬تحض لو وجه فكره إىل دراسة‬
‫أسباب هذا ا‪١‬توضوع فلن ينتهي إال‬
‫إىل هذا ا‪ٟ‬تكم ‪ .‬ولذلك ٕتد أن‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يًتك لبعض‬
‫ا‪١‬تشادات يف التعامل والثارات يف‬
‫ا‪٠‬تصومة أن ٗترج عن حكم ما‬
‫شرع اهلل يف أي شيء من األشياء اليت‬
‫تقدمت ‪ ،‬ثم يصيب ا‪١‬تجتمع شر‬
‫من ا‪١‬تخالفة ‪ ،‬وكأنه بذلك يؤكد‬
‫حكمته يف تشريع ما شرع ‪ .‬وإال لو‬
‫لم ٖتدث من ا‪١‬تخالفات شرور‬
‫لقال الناس ‪ :‬إنه ال داعي للتشريع ‪.‬‬
‫ولًتكوا التشريع دون أن يصيبهم‬
‫شر ‪.‬‬
‫إذن فحُت ال نلتزم بالتشريع‬
‫فا‪١‬تنطق والكمال الكوين أن ٖتدث‬
‫الشرور؛ ألنه لو لم ٖتدث الشرور‬
‫الهتم الناس منهج اهلل وقالوا ‪ :‬إننا‬
‫لم نلتزم يا رب ٔتنهجك ‪ ،‬ومع‬
‫ذلك ال شرور عندنا ‪ .‬فكأن الشرور‬
‫اليت ‪٧‬تدها يف ا‪١‬تجتمع تلفتنا إىل‬
‫صدق اهلل وكمال حكمته يف‬
‫ٖتديد منهجه ‪ .‬وهكذا يكون‬
‫ا‪١‬تخالفون ‪١‬تنهج اهلل مؤيدين ‪١‬تنهج‬
‫اهلل ‪ .‬وبعد ذلك ينتقل ا‪ٟ‬تديث إىل‬
‫عبلج قضية إٯتانية وهو أن اهلل‬
‫حُت يقدر قدرا ال ٯتكن ‪١‬تخلوق‬
‫أن يفلت من هذا القدر ‪ ،‬يقول‬
‫سبحانه ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذين‬
‫َخ َر ُجوا ْ ِمن ِديَا ِر ِه ْم َو ُه ْم أُل ُ ٌ‬
‫وف‬
‫َح َذ َر ا‪١‬توت ‪} . . .‬‬

‫أَل َ ْم تَ َر إ َِىل ال َّ ِذي َن َخ َر ُجوا ِم ْن‬


‫وف َح َذ َر ا ْ‪١‬ت َ ْو ِت‬‫ِديَا ِر ِه ْم َو ُه ْم أُل ُ ٌ‬
‫اّلل ُمو ُتوا ُث َّم أ َ ْحي َ ُاه ْم إ َِّن‬
‫ال َ‪٢‬ت ُ ُم َّ ُ‬
‫فَ َق َ‬
‫اس َول َ ِك َّن أَكْث َ َر‬
‫اّلل ل َ ُذو فَ ْض ٍل عَىلَ النَّ ِ‬
‫َّ َ‬
‫ون (‪)243‬‬ ‫اس َال ي َ ْش ُك ُر َ‬ ‫النَّ ِ‬

‫بعد أن تكلم ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬


‫عىل ما يتعلق باألسرة ا‪١‬تس‪١‬تة يف‬
‫حالة عبلج الفراق يف الزواج إما‬
‫بالطبلق وإما بالوفاة ‪ ،‬أراد ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل لؤلمة اإلسبلمية أن‬
‫تعرف أن أحدا ًلن يفر من قدر اهلل‬
‫إال إىل قدر اهلل ‪ ،‬فاألمة اإلسبلمية‬
‫هي األمة اليت أمنها عىل ‪ٛ‬تل رسالة‬
‫ومنهج السماء إىل األرض إىل أن‬
‫تقوم الساعة ‪ ،‬فلم يعد ‪٤‬تمد صىل‬
‫اهلل عليه وسلم بأىت وال نبي يُبعث ‪.‬‬
‫والبد ‪١‬تثل هذه األمة أن ُترىب‬
‫تربية تناسب مهمتها اليت ‪ٛ‬تلها‬
‫اهلل إليها ‪ .‬والبد أن يضع ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل بُت يدي هذه األمة‬
‫كل ما القته وصادفته مواكب‬
‫الرسل يف األمة السابقة ليأخذوا‬
‫العْبة من ا‪١‬تواقف ويتمثلوا ا‪١‬تنهج‬
‫ال من نظريات ُتتىل ولكن من واقع‬
‫قد ُدرس ووقع يف ا‪١‬تجتمع ‪.‬‬
‫أراد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن يلفتنا‬
‫إىل أساس ا‪١‬تسألة وهو أنه سبحانه‬
‫واهب ا‪ٟ‬تياة وال أحد َته ‪ ،‬وواهب‬
‫ا‪ٟ‬تياة هو الذي يأخذها ‪ .‬ولم يضع‬
‫‪٢‬تبة ا‪ٟ‬تياة سببا ًعند الناس ‪ .‬وإ‪٪‬تا‬
‫هو سبحانه الذي ٭تِت وٯتيت ‪ .‬ويف‬
‫ا‪ٟ‬تياة وا‪١‬توت استبقاء للنوع‬
‫اإلنساين ‪ ،‬ولكن استبقاء حياة‬
‫األفراد إ‪٪‬تا ينشأ من التمول ‪.‬‬
‫ويعاًف ا‪ٟ‬تق هذه ا‪١‬تسألة بواقع سبق‬
‫أن عاشه موىس عليه السبلم مع‬
‫قومه وهم بنو إسرائيل ‪ ،‬ونعرف‬
‫أن قصة موىس مع قومه قد أخذت‬
‫أوسع قصص القرآن؛ ألهنا األمة‬
‫اليت أتعبت الرسل ‪ ،‬وأتعبت‬
‫األنبياء ‪ ،‬وكان البد أن يعرض ا‪ٟ‬تق‬
‫هذا األمر برمته عىل أمة ‪٤‬تمد صىل‬
‫اهلل عليه وسلم من واقع ما حدث ‪،‬‬
‫فقال سبحانه ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذين‬
‫َخ َر ُجوا ْ ِمن ِديَا ِر ِه ْم َو ُه ْم أُل ُ ٌ‬
‫وف‬
‫َح َذ َر ا‪١‬توت } ‪ .‬ونعرف من هذا‬
‫القول أن علة ا‪٠‬تروج إ‪٪‬تا كانت‬
‫‪٥‬تافأن ٯتوتوا ‪ .‬أما عن سبب هذا‬ ‫ة‬
‫ا‪١‬توت فلم تتعرض له اْليات ‪ ،‬وإن‬
‫تعرض ا‪١‬تفسرون له وقالوا كبلما‬
‫طويبل ً‪ ،‬فمنهم من قال ‪ :‬إهنم‬
‫خرجوا هربا من وباء ٭تل بالبلد‬
‫خشية أن ٯتوتوا ‪ ،‬وبعضهم قال ‪:‬‬
‫إهنم خرجوا فِرارا ًمن عدو قد ُسلط‬
‫عليهم ليستأصلهم ‪ ،‬ا‪١‬تهم أهنم‬
‫أرادوا أن يفروا خوفا من ا‪١‬توت ‪.‬‬
‫إذن فالقرآن يعاًف تلك ا‪١‬تسألة من‬
‫الزاوية اليت هتم ‪ ،‬ولكن ما هو‬
‫السبب و‪١‬تاذا ا‪٠‬تروج؟ فذلك أمر ال‬
‫يهم؛ ألن القرآن ال يعطي تارٮتا ‪،‬‬
‫فلم يقل مىت كانت الوقائع وال‬
‫زمنها ‪ ،‬وال عىل يد من كان هذا ‪ ،‬وال‬
‫٭تدد أشخاص القضية ‪ ،‬كل ذلك ال‬
‫يهتم به القرآن ‪ .‬والذين يتعبون‬
‫أنفسهم يف البحث عن تفاصيل‬
‫تلك األمور يف القصص القرآين إ‪٪‬تا‬
‫٭تاولون أن يربطوا األشياء بزمن‬
‫‪٥‬تصوص ‪ ،‬ومكان ‪٥‬تصوص‬
‫وأشخاص ‪٥‬تصوصة ‪.‬‬
‫ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬إن القرآن لو أراد‬
‫ذلك لفعل ‪ ،‬ولو كان ذلك له أصل يف‬
‫العْبة والعظة لبيّنه ا‪ٟ‬تق لنا ‪ ،‬وأنتم‬
‫تريدون إضعاف مدلول القصة‬
‫بتلك التفاصيل؛ ألن مدلول‬
‫القصة إن ٖتدد زمنها ‪ ،‬فرٔتا قيل ‪:‬‬
‫إن الزمان الذي حدثت فيه كان‬
‫٭تتمل أن ٖتدث تلك ا‪١‬تسألة‬
‫والزمن اْلن لم يعد ٭تتملها ‪،‬‬
‫ورٔتا قيل ‪ :‬إن هذا ا‪١‬تكان الذي‬
‫وقعت فيه ٭تتمل حدوثها ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫األمكنة األخرى ال ٖتتمل ‪.‬‬

‫وكذلك لو حددها بشخصيات‬


‫إن القصص ال ٯتكن‬ ‫معينة لقيل ‪ّ :‬‬
‫أن ٖتدث إال عىل يد هذه‬
‫الشخصيات؛ ألهنا فلتات يف الكون‬
‫ال تتكرر ‪.‬‬
‫إن اهلل حُت يبهم يف قصة ما عناصر‬
‫الزمان وا‪١‬تكان واألشخاص‬
‫وعمومية األمكنة إنه ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫يعطي ‪٢‬تا حياة يف كل زمان ويف كل‬
‫مكان وحياة مع كل شخص ‪ ،‬وال‬
‫يستطيع أحد أن يقول ‪ :‬إهنا‬
‫مشخصة ‪ .‬وأضرب دائما هذا‬
‫ا‪١‬تثل بالذين ٭تاولون أن يعرفوا‬
‫زمن أهل الكهف ومكان أهل‬
‫الكهف وأ‪ٝ‬تاء أهل الكهف وكلب‬
‫أهل الكهف ‪ .‬نقول ‪٢‬تؤالء ‪ :‬أنتم‬
‫ال تثرون القصة ‪ ،‬ألنكم عندما‬
‫ٖتددون ‪٢‬تا زمانا ومكانا وأشخاصا‬
‫فسيقال ‪ :‬إهنا ال تنفع إال للزمان‬
‫الذي وقعت فيه ‪.‬‬
‫ولذلك إذا أراد ا‪ٟ‬تق أن يبهم فقد‬
‫أبهم ليعمم ‪ ،‬وإن أراد أن ٭تدد فهو‬
‫يشخص ومثال ذلك قوله تعاىل ‪{ :‬‬ ‫ِّ‬
‫َض َر َب اهلل َمثَبل ًل ِ ّل َّ ِذي َن َك َف ُروا ْ‬
‫وط كَانَتَا َٖتْ َت‬‫امرأت نُو ٍح وامرأت ل ُ ٍ‬
‫َعب ْ َدي ْ ِن ِم ْن ِعبَا ِدنَا َص ِا‪ٟ‬ت َ ْ ِ‬
‫ُت‬
‫ا‪٫‬تا فَل َ ْم يُغ ْ ِنيَا َعن ْ ُه َما ِم َن اهلل‬
‫فَ َخانَت َ ُ َ‬
‫يل ادخبل النار َم َع الداخلُت‬ ‫َشيْئا ً َوقِ َ‬
‫} ػ التحريم ‪] 10 :‬‬
‫لم ٭تدد ا‪ٟ‬تق هنا اسم أي امرأة من‬
‫هاتُت ا‪١‬ترأتُت ‪ ،‬بل ذكر فقط‬
‫األمر ا‪١‬تهم وهو أن كبل منهما‬
‫كانت زوجة لرسول كريم ‪ ،‬ومع‬
‫ذلك لم يستطع نوح عليه السبلم‬
‫أن يستلب العقيدة الكافرة من‬
‫زوجته ‪ ،‬ولم يستطع لوط عليه‬
‫السبلم أن يستلب العقيدة الكافرة‬
‫من زوجته ‪ ،‬بل كانت كل من‬
‫ا‪١‬ترأتُت تتآمر ضد زوجها ‪ -‬وهو‬
‫الرسول ‪ -‬مع قومها ‪ ،‬لذلك كان‬
‫مصَت كل منهما النار ‪ ،‬والعْبة من‬
‫القصة أن اختيار العقيدة هو أمر‬
‫مًتوك لئلنسان ‪ ،‬فحرية العقيدة‬
‫أساس واضح من أسس ا‪١‬تنهج‪.‬‬
‫وأيضا قال سبحانه يف امرأة فرعون‬
‫‪َ { :‬و َض َر َب اهلل َمثَبل ًل ِ ّل َّ ِذي َن آ َم ُنوا ْ‬
‫امرأت فِ ْر َع ْو َن إِذْقَال َ ْت َر ِ ّب ابن ِيل‬
‫ك بَيْتا ً ِيف ا‪ٞ‬تنة َو َ‪٧‬تّ ٍِِت ِمن‬ ‫ِعن َد َ‬
‫فِ ْر َع ْو َن َو َع َملِ ِه َو َ‪٧‬تّ ٍِِت ِم َن القوم‬
‫الظا‪١‬تُت } ػ التحريم ‪] 11 :‬‬
‫لم يذكر ا‪ٝ‬تها؛ ألنه لم يهمنا يف‬
‫ا‪١‬تسألة ا‪١‬تهم أهنا امرأة من ادىع‬
‫األلوهية ‪ ،‬ومع ذلك لم يستطع أن‬
‫يقنع امرأته بأنه إله ‪ .‬لكن حينما‬
‫أراد أن يشخص قال يف مريم عليها‬
‫ِ‬
‫السبلم ‪َ { :‬و َم ْري َ َم ابنت ع ْم َر َ‬
‫ان‬
‫اليت أ َ ْح َصن َ ْت فَ ْر َجهَا فَن َ َف ْخنَا فِي ِه ِمن‬
‫ُرو ِحنَا وص َّدقَ ْت بِكَلِم ِ‬
‫ات َر ِبّهَا‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬
‫َو ُك ُتبِ ِه َوكَان َ ْت ِم َن القانتُت } ػ‬
‫التحريم ‪] 12 :‬‬
‫لقد ذكرها ا‪ٟ‬تق وذكر اسم والدها ‪،‬‬
‫ذلك ألن ا‪ٟ‬تدث الذي حدث ‪٢‬تا لن‬
‫يتكرر يف امرأة أخرى ‪ .‬فالذين‬
‫٭تاولون أن يُ َق ّووا القصة بذكر‬
‫تفاصيلها نقول ‪٢‬تم ‪ :‬أنتم‬
‫ُتفقرون القصة؛ فا‪١‬تهم هو أن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل يريد أن يقول ‪:‬‬
‫إهنم خرجوا من ديارهم وهم‬
‫ألوف حذر ا‪١‬توت ‪.‬‬

‫ونريد أن نقف موقفا لغويا عند‬


‫قول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر } ‪ .‬أنت تقول‬
‫إلنسان ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر } يعٍت ألم ير‬
‫بعينيه ‪ ،‬وباهلل هل رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم وهل ا‪١‬تؤمنون معه‬
‫وا‪١‬تؤمنون بعده إىل أن تقوم الساعة‬
‫رأوا هذه ا‪١‬تسألة؟ ال ‪ .‬لقد‬
‫وصلتهم بوسيلة السماع وليس‬
‫بالرؤية ‪ .‬و‪٨‬تن نعلم أن الرؤية‬
‫تكون بالعُت ‪ ،‬والسماع يكون‬
‫باألذن ‪ ،‬والتذوق يكون باللسان ‪،‬‬
‫والشم يكون باألنف ‪ ،‬واللمس‬
‫يكون باليد ‪ ،‬إن هذه هي الوسائل‬
‫اليت تعطي للعقل إدراكا وإحساسا‬
‫لكي يعطي معنويات ‪ ،‬ويف ذلك اقرأ‬
‫قوله تعاىل ‪ { :‬واهلل أ َ ْخ َر َج ُكم ِّمن‬
‫ُب ُط ِ ِ‬
‫ون أُ َّمهَات ُك ْم ال َتَعْل َ ُم َ‬
‫ون َشيْئا ً‬
‫َو َجعَ َل ل َ ُك ُم السمع واألبصار‬
‫واألفئدة لَعَل َّ ُك ْم تَ ْش ُك ُر َ‬
‫ون } ػ‬
‫النحل ‪] 78 :‬‬
‫إذن فوسيلة العلم تأيت من ا‪ٟ‬تواس ‪،‬‬
‫وسيدة ا‪ٟ‬تواس هي العين؛ ألنه من‬
‫ا‪١‬تمكن أن تسمع شيئا من واح ٍد‬
‫بتجربته هو ‪ ،‬لكن عندما ترى أنت‬
‫بنفسك فتكون التجربة خاصة‬
‫بك ‪ ،‬ولذلك يقال ‪ « :‬ليس َمن‬
‫رأى كمن ‪ٝ‬تع » ‪ ،‬فإذا أراد ا‪ٟ‬تق أن‬
‫يقول ‪ :‬ألم تعلم يا من أخاطبك‬
‫بالقرآن خْب هؤالء القوم؟ فهو‬
‫سبحانه يأيت بها عىل هذه الصورة ‪:‬‬
‫{ أ َ َل ْم تَ َر إ َِىل الذين َخ َر ُجوا ْ ِمن‬
‫ِديَا ِر ِه ْم } ويعٍت ألم تعلم والعلم‬
‫هنا بأي وسيلة؟ بالسمع ‪ .‬و‪١‬تاذا لم‬
‫ٮتتصر سبحانه ا‪١‬تسافة ويقول ‪« :‬‬
‫ألم تسمع » بدال من { أَل َ ْم تَ َر } ؟‬
‫‪ .‬إنه يف قوله ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر } ٮتْبك‬
‫بشيء سابق عن وجودك أو بشيء‬
‫متأخر عن وجودك ‪ ،‬فعليك أن‬
‫تستقبله استقبالك ‪١‬تا رأيته؛ ألن‬
‫اهلل الذي خلق ا‪ٟ‬تواس هو سبحانه‬
‫أصدق من ا‪ٟ‬تواس ‪ ،‬ولذلك جاء‬
‫قوله تعاىل يف سورة الفيل ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر‬
‫اب الفيل}‬ ‫ك بِأ َ ْص َح ِ‬
‫كَي ْ َف فَعَ َل َربُّ َ‬
‫ػ الفيل ‪] 1 :‬‬
‫إننا نعرف أن النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ولد يف عام الفيل ولم ير هذه‬
‫ا‪ٟ‬تادثة فكيف يقول اهلل له ألم تر؟‬
‫إن ا‪١‬تعٌت من ذلك هو « ألم تعلم‬
‫»؟ « ألم تسمع مٍت » ولم يقل «‬
‫ألم تسمع »؟ لكي يؤكد له أنه‬
‫سيقول له حدثا ًهو لم يره ولكن‬
‫ا‪ٟ‬تق سيخْبه به ‪ ،‬وإخبار ا‪ٟ‬تق له‬
‫كأنه يراه ‪ .‬فكأن اهلل يقول ‪ :‬إن‬
‫هذه مسألة مفروغ منها وساعة‬
‫أخْبك بها فكأنك رأيتها ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن نسمع يف حياتنا قول الناس ‪:‬‬
‫إن فبلنا أ‪١‬تعي ‪ .‬ومعٌت ذلك أنه‬
‫٭تدثك حديثا ًكأنه رأى أو ‪ٝ‬تع ‪.‬‬
‫األ‪١‬تعي الذي يظن بك الظن ‪...‬‬
‫كأن قد رأى وقد ‪ٝ‬تعا‬
‫و٭تدثنا ا‪ٟ‬تق عن هؤالء القوم‬
‫فيقول ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذين َخ َر ُجوا ْ‬
‫وف َح َذ َر ا‪١‬توت‬ ‫ِمن ِديَا ِر ِه ْم َو ُه ْم أُل ُ ٌ‬
‫ال َ‪٢‬ت ُ ُم اهلل ُمو ُتوا ْ ُث َّم أ َ ْحي َ ُاه ْم } ‪.‬‬
‫فَقَ َ‬
‫إنه سبحانه ٮتْبنا بأن األمر الذي‬
‫يفرون منه الحق بهم ‪ ،‬ألنه ال‬
‫َ٭تتاط من قدر اهلل أحد ‪ ،‬لذلك‬
‫أماهتم اهلل ثم أحياهم ليتعظوا ‪.‬‬
‫ولو أخر اهلل اإلحياء إىل يوم البعث‬
‫فلن تؤثر العْبة؛ ألنه بعد يوم‬
‫القيامة ال اعتبار وال تكليف ‪ ،‬وكل‬
‫ذلك ال قيمة له ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪َ { :‬ح َذ َر ا‪١‬توت } بيان‬
‫لعلة ا‪٠‬تروج ‪ ،‬فأراد ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل أن يبُت ‪٢‬تم أن هذه قضية ال‬
‫ينفع فيها ا‪ٟ‬تذر ‪ ،‬أنتم خرجتم‬
‫خوفا من ا‪١‬توت سأميتكم والذي‬
‫كنتم تطلبونه بعد ا‪١‬توت سأحدث‬
‫لكم َته ‪ ،‬لذلك أحياهم إحياء ً‬
‫آخر حىت يتحسروا ‪ ،‬ويأخذوا‬
‫أجلهم ا‪١‬تكتوب { ُث َّم أ َ ْحي َ ُاه ْم }‬
‫حىت يبُت لكم أن أمر ا‪١‬توت بيده‬
‫سبحانه سواء ًكان خوفهم من‬
‫ا‪١‬توت نابعا ًمن أعدائهم أو من وباء‬
‫وطاعون ‪ ،‬فاألمر يف جوهره ال‬
‫ٮتتلف ‪ ،‬ولو أن اْلية ذكرت أهنم‬
‫خرجوا خوفا من وباء ما كنا فهمنا‬
‫منها احتمال خروجهم خوفا ًمن‬
‫أعدائهم ‪ .‬إذن إبهام السبب‬
‫ا‪١‬تباشر يف القضية أعطاها ثراء ً‪.‬‬
‫وف } يبُت‬ ‫وقوله تعاىل ‪َ { :‬و ُه ْم أُل ُ ٌ‬
‫لنا مدى ا‪٠‬تيبة والغباء الذي كانوا‬
‫فيه ‪ ،‬ألهنم كيف ٮترجون خائفُت‬
‫من األعداء وهم ألوف مؤلفة ‪ .‬ولم‬
‫يظهر واحد من هؤالء األلوف‬
‫يلقول ‪٢‬تم ‪ :‬إن ا‪١‬توت وا‪ٟ‬تياة بيد‬
‫اهلل ‪ { .‬أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذين َخ َر ُجوا ْ‬
‫وف َح َذ َر ا‪١‬توت‬‫ِمن ِديَا ِر ِه ْم َو ُه ْم أُل ُ ٌ‬
‫ال َ‪٢‬ت ُ ُم اهلل ُمو ُتوا ْ} ‪.‬‬
‫فَقَ َ‬
‫وساعة تأمر مأمور منك بأمر فبل‬
‫بد أن يكون عندك طبلقة قدرة‬
‫أن تفعل ‪ ،‬وهل إذا قلت ألحد ‪:‬‬
‫مت ‪ ،‬سيموت؟ إذا أمات نفسه‬
‫فقد قتلها ‪ ،‬وفرق كبَت بُت ا‪١‬توت‬
‫والقتل ‪ .‬إ‪٪‬تا ا‪١‬توت يأيت ببل سبب‬
‫من ا‪١‬تيت ‪ ،‬ولكن القتل رٔتا يكون‬
‫بسبب االنتحار أو بأي وسيلة‬
‫أخرى ‪ ،‬ا‪١‬تهم أنه قتل للنفس‬
‫وليس موتا ‪.‬‬
‫ويوضح لنا ا‪ٟ‬تق الفرق بُت القتل‬
‫وا‪١‬توت حُت يقول ‪ { :‬و َما ُ‪٤‬ت َ َّم ٌد إِال َّ‬
‫َ‬
‫ول قَ ْد َخل َ ْت ِمن قَبْلِ ِه الرسل‬ ‫َر ُس ٌ‬
‫ات أ َ ْو ُقتِ َل انقلبتم عىل‬ ‫أَفَإ ِْن َّم َ‬
‫ب عىل َعقِبَي ْ ِه‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫أ ْع َقابِ ُك ْم َو َن يَن َقل ْ‬
‫فَل َن ي َ ُض َّر اهلل َشيْئا ً َو َسي َ ْج ِزي اهلل‬
‫الشاكرين } ػ آل عمران ‪:‬‬
‫‪] 144‬‬
‫ولقد جاءت هذه اْلية يف ‪٣‬تال‬
‫استخبلص العْب من هزٯتة أحد‬
‫حُت شاع بُت المسلمُت أن رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم قد قتل ‪،‬‬
‫ففكر بعض منهم يف االرتداد ‪،‬‬
‫وجاء قول ا‪ٟ‬تق موضحا ًأن رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم هو نبي‬
‫سبقه رسل جاءوا با‪١‬تنهج ‪ ،‬واألمة‬
‫ا‪١‬تسلمة اليت أمنها اهلل عىل ٘تام‬
‫ا‪١‬تنهج ال يصح أن يهتز اإلٯتان فيها‬
‫ٔتوت الرسول الكريم؛ ألن من‬
‫ينقلب ويرتد فلن يضر اهلل شيئا ً‪،‬‬
‫إ‪٪‬تا ا‪ٞ‬تزاء سيكون للشاكرين‬
‫العارفُت فضل منهج اهلل ‪.‬‬
‫ولنا أن نعرف أن ا‪ٟ‬تق سبحانه جاء‬
‫با‪١‬توت كمقابل للقتل ‪ ،‬وأوضح يف‬
‫اْلية التالية أمر ا‪١‬توت حُت قال ‪:‬‬
‫وت إِال َّبِإِذْ ِن‬ ‫٘ت‬
‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫س‬‫ٍ‬ ‫ف‬
‫ْ‬ ‫ن‬‫{ وما كَان ل ِ‬
‫ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬
‫اهلل كتَابا ً ُّم َؤ َّجبل ً َو َمن يُ ِردْثَ َو َ‬
‫اب‬
‫ِِِ‬
‫الدنيا ن ُ ْؤته منْهَا َو َمن يُ ِردْثَ َو َ‬
‫اب‬
‫اْلخرة ن ُ ْؤتِ ِه ِمنْهَا َو َسن َ ْج ِزي‬
‫الشاكرين } ػ آل عمران ‪:‬‬
‫‪] 145‬‬
‫إذن فأمر ا‪١‬توت مرهون ٔتشيئة‬
‫اهلل وطبلقة قدرته وٖتديده لكل‬
‫أجل بوقت معلوم ال يتقدم وال‬
‫يتأخر ‪ ،‬وسيلىق كل إنسان نت‪٬‬تة‬
‫عمله ‪ ،‬فمن عمل للدنيا فقط نال‬
‫جزاءه فيها ‪ ،‬ومن عمل لآلخرة‬
‫فسيجزيه اهلل يف دنياه وآخرته ‪.‬‬
‫لذلك يصدر األمر من ا‪ٟ‬تق بقوله ‪:‬‬
‫ال َ‪٢‬ت ُ ُم اهلل ُمو ُتوا ْ ُث َّم أ َ ْحي َ ُاه ْم‬
‫{ فَقَ َ‬
‫} فلم يكن بإرادهتم أن يصنعوا‬
‫موهتم ‪ ،‬أو أمر عودهتم إىل ا‪ٟ‬تياة ‪،‬‬
‫لكنه أمر تسخَتي ‪ .‬إهنم ٯتوتون‬
‫بطبلقة قدرته ا‪١‬تتمثلة يف « كن‬
‫فيكون » ‪ .‬ويعودون إىل ا‪ٟ‬تياة‬
‫بتمام طبلقة القدرة ا‪١‬تتمثلة يف«‬
‫كن فيكون » ‪ .‬فليس ‪٢‬تم رأي يف‬
‫مسألة ا‪١‬توت أو العودة للحياة ‪ ،‬إنه‬
‫أمر تسخَتي ‪ ،‬كما قال ا‪ٟ‬تق من‬
‫قبل لؤلرض والسماء ‪ُ { :‬ث َّم‬
‫ِ‬
‫استوى إ َِىل السمآء َوه َي ُد َخا ٌن فَقَ َ‬
‫ال‬
‫َ‪٢‬تَا َولِؤل َْر ِض ائتيا َط ْوعا ًأ َ ْو كَ ْرها ً‬
‫ُت} ػ فصلت ‪:‬‬ ‫ِِ‬ ‫َ‬
‫قَالَتآ أتَيْنَا َطآئع َ‬
‫‪] 11‬‬
‫لقد شاءت قدرته أن ٮتلق السماء‬
‫عىل هيئة دخان ف ُوجدت ‪ ،‬وخلقه‬
‫للسماوات واألرض عىل وفق‬
‫إرادته وهو هُت عليه ٔتزنلة ما‬
‫يقال للشيء احضر راضيا أو كارها‬
‫‪ ،‬فيسمع األمر ويطيعه ‪ .‬وهذه‬
‫أمور تسخَتية من ا‪٠‬تالق األكرم ‪،‬‬
‫وليس للمخلوق من ‪ٝ‬تاوات‬
‫وأرض وما بينهما إال االمتثال‬
‫لؤلمر التسخَتي من ا‪٠‬تالق عز‬
‫وجل ‪ .‬فعندما يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪:‬‬
‫{ ُمو ُتوا ْ ُث َّم أ َ ْحي َ ُاه ْم } فهذا أمر‬
‫تسخَتي با‪١‬توت ‪ ،‬وأمر تسخَتي‬
‫بعودهتم إىل ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫وأيلس ا‪١‬توت هو ما خافوه وفروا‬
‫منه واحتاطوا با‪٢‬ترب منه؟ نعم ‪،‬‬
‫لكن ال أحد بقادر عىل أن ٭تتاط عىل‬
‫قدر اهلل؛ ألن ا‪ٟ‬تق أراد ‪٢‬تم أن‬
‫يعرفوا أن أحدا ًال يفر من قدر اهلل‬
‫إال لقدر اهلل ‪ .‬ولذلك فسيدنا عمر‬
‫بن ا‪٠‬تطاب رضي اهلل عنه عندما‬
‫أراد للناس أال تذهب إىل أرض فيها‬
‫الطاعون ‪ .‬قالوا له ‪:‬‬
‫أتفر من قدر اهلل؟‬
‫قال عمر ‪ :‬نعم ‪ :‬نِف ُّر من قدر اهلل‬
‫إىل قدر اهلل ‪.‬‬
‫إن ذلك ‪٬‬تعل اإلنسان يف تسليم‬
‫مطلق بكل جوارحه هلل ‪ .‬صحيح‬
‫عىل اإلنسان أن ٭تتاط ‪ ،‬ولكن‬
‫القدر الذي يريده اهلل سوف ينفذ ‪.‬‬
‫وا‪١‬تؤمن يأخذ باألسباب ‪ ،‬ويسلم‬
‫أمره إىل اهلل ‪.‬‬
‫وقد يقول قائل ‪١ :‬تاذا لم يًتك اهلل‬
‫هؤالء القوم من بٍت إسرائيل‬
‫ليموتوا وإىل أن يأيت البعث يوم‬
‫القيامة ليحاسبهم ‪.‬‬
‫وأقول ‪ :‬لقد أراد ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫باألمر التسخَتي باإلحياء ثانية‬
‫أن توجد العْبة والعظة ‪ ،‬ولتظل‬
‫ماثلة أمام أعُت ا‪٠‬تلق و‪٤‬تفوظة يف‬
‫أكرم كتاب حفظه اهلل منهجا‬
‫للناس وهو القرآن الكريم ‪ .‬إن‬
‫ا‪ٟ‬تق أراد باألمر عظة واعتبارا‬
‫وٕتربة ٯتوتون بأمر تسخَتي ‪،‬‬
‫ويعودون إىل ا‪ٟ‬تياة بأمر تسخَتي‬
‫آخر ‪ ،‬ثم يعيشون ا‪ٟ‬تياة ا‪١‬تقدرة‬
‫‪٢‬تم وٯتوتون بعدها حتف أنوفهم ‪،‬‬
‫ولتظل عْبة ماثلة أمام كل مؤمن‬
‫حق ‪ ،‬فبل ٮتاف ا‪١‬توت يف سبيل اهلل ‪.‬‬
‫لقد أراد اهلل بهذه التجربة أن‬
‫نستخدم قضية ا‪ٞ‬تهاد يف سبيل اهلل‬
‫‪ ،‬فبل يظن ظان أن القتال هو الذي‬
‫يسبب ا‪١‬توت ‪ ،‬إ‪٪‬تا أمر ا‪١‬توت‬
‫وا‪ٟ‬تياة بيد واهب ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬وهاهو ذا‬
‫قول خالد بن الوليد عىل فراش‬
‫ا‪١‬توت باقيا ًليعرفه كل مؤمن باهلل ‪:‬‬
‫لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها‬
‫وما يف جسدي شْبا إال وفيه ضربة‬
‫سيف أو طعنه برمح ‪ ،‬وهأنذا أموت‬
‫عىل فراشي كما ٯتوت العَ َْت ‪ ،‬فبل‬
‫نامت أعُت ا‪ٞ‬تبناء ‪.‬‬
‫إذن فأمر ا‪ٟ‬تياة وا‪١‬توت ليس‬
‫مرهونا بقتال أو َته ‪ ،‬إ‪٪‬تا هو ‪٤‬تدد‬
‫ٔتشيئة اهلل ‪.‬‬
‫ولننظر إىل تذييل اْلية حُت يقول‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬إ َِّن اهلل ل َ ُذو فَ ْض ٍل عَىلَ‬
‫الناس ولكن أ َ ْكث َ َر الناس ال َ‬
‫ون } ‪ .‬وما الفضل؟ إنه أن‬ ‫ي َ ْش ُك ُر َ‬
‫تتلىق عطاء ًيزيد عىل حاجتك ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ال يعطي الناس‬
‫فقط عىل قدر حاجتهم إ‪٪‬تا يعطيهم‬
‫ما هو أكثر من حاجتهم ‪ .‬إذن فلو‬
‫مات هؤالء القوم الذين خرجوا من‬
‫ديارهم خوفا ًمن وباء أو عدو لكان‬
‫هذا ا‪١‬توت فضبل من عند اهلل؛‬
‫ألهنم لو ماتوا بالوباء ‪١‬تاتوا شهداء ‪،‬‬
‫وهذا فضل من اهلل ‪ .‬ولو ماتوا يف‬
‫لقاء عدو وحاربوا يف سبيل اهلل‬
‫لنالوا الشهادة أيضا ‪ ،‬وذلك فضل‬
‫من اهلل ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا يكون مثل هذا ا‪١‬توت فضبل‬
‫من اهلل؟ ألننا ‪ٚ‬تيعا سوف ‪٪‬توت ‪،‬‬
‫فإن مات اإلنسان استشهادا يف‬
‫سبيله فهذا عطاء زائد ‪ .‬لكن أكثر‬
‫الناس ال يشكرون؛ ألهنم ال‬
‫يعلمون مدى النعمة فيما ‪٬‬تريه‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل عليهم من‬
‫أمور؛ ألن الناس لو علمت مدى‬
‫النعمة فيما ‪٬‬تريه ا‪ٟ‬تق عليهم من‬
‫أحداث ٔتا فيها اإلحياء واإلماتة ‪،‬‬
‫لشكروا اهلل عىل كل ما ‪٬‬تريه‬
‫عليهم ‪ ،‬فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ال‬
‫‪٬‬تري عىل البشر ‪ ،‬وهم من صنعته‬
‫إال ما يصلح هذه الصنعة ‪ ،‬وإال ما هو‬
‫خَت ‪٢‬تذه الصنعة ‪.‬‬
‫لقد استبىق ا‪ٟ‬تق سبحانه هذه العْبة‬
‫ٔتا أجراه عىل بعض من بٍت‬
‫إسرائيل لنرى أن القتال يف سبيل‬
‫اهلل هو من نعم اهلل عىل العباد ‪ ،‬فبل‬
‫مهرب من قضاء اهلل ‪ .‬وهاهو ذا‬
‫الشاعر العريب يقول ‪:‬‬
‫أال أيها الزاجري أحضر الوغي ‪...‬‬
‫وأن أشهد اللذات هل أنت ‪٥‬تلدي‬
‫فإن كنت ال تستطيع دفع منييت ‪...‬‬
‫فدعٍت أبادرها ٔتا ملكت يدي‬
‫إن الشاعر يسأل من يوجه له‬
‫الدعوة ال إىل القتال ‪ ،‬ولكن إىل‬
‫االستمتاع ٔتلذات ا‪ٟ‬تياة قائبل ً‪ :‬ما‬
‫دمت ال ٘تلك يل خلودا ًيف هذه ا‪ٟ‬تياة‬
‫وال أنت بقادر عىل رد ا‪١‬توت عٍت‬
‫فدعٍت أقاتل يف سبيل اهلل ٔتا‬
‫٘تلكه يداي ‪.‬‬
‫وبعد ا‪ٟ‬تديث عن ‪٤‬تاولة هرب‬
‫بعض من بٍت إسرائيل من قدر اهلل‬
‫فأجرى عليهم ا‪١‬توت تسخَتا ً‬
‫وأعادهم إىل ا‪ٟ‬تياة تسخَتا ‪ ،‬وهذا‬
‫درس واضح للمؤمنُت الذين سيأيت‬
‫إليهم األمر بالقتال يف سبيل اهلل ‪.‬‬
‫فبل تبالوا أيها ا‪١‬تؤمنون إن كان‬
‫القتال ‪٬‬تلب لكم ا‪١‬توت؛ ألن‬
‫ا‪١‬توت يأيت يف أي وقت ‪ .‬بعد ذلك‬
‫ِيل َ ِ‬ ‫ِ‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وقَاتلُوا ْ ِيف َسب ِ ّ‬
‫اّلل‬
‫‪}...‬‬
‫اّلل َواعْل َ ُموا أ َ َّن َّ‬
‫ِيل َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّللَ‬ ‫َوقَاتلُوا ِيف َسب ِ ّ‬
‫يم (‪)244‬‬ ‫َِ‬
‫‪ٝ‬تي ٌع عَلِ‬
‫ٌ‬
‫إنه األمر الواضح بالقتال يف سبيل‬
‫اهلل دون ‪٥‬تافة للموت ‪١ .‬تاذا؟ ألن‬
‫واهب ا‪ٟ‬تياة وكاتب األجل ‪ٝ‬تيع‬
‫عليم ‪ٝ ،‬تيع بأقوال من يقاتل‬
‫وعليم بنواياه ‪.‬‬
‫وكان ا‪ٞ‬تهاد قدٯتا عبئا ًثقيبل ًعىل‬
‫ا‪١‬تجاهد؛ ألنه كان يتحمل نفقة‬
‫نفسه ويتحمل ا‪١‬تركبة حصانا ًأو‬
‫‪ٚ‬تبل ًويتحمل سبلحه ‪ ،‬كان كل‬
‫‪٣‬تاهد يُعِ ّد عدته للحرب ‪ ،‬فكان‬
‫والبد إذا ‪ٝ‬تح لنفسه أن ٘توت‬
‫فمن باب أوىل أن يسمح ٔتاله ‪،‬‬
‫وأن ‪٬‬تهز عدته للحرب ‪ ،‬وعىل ذلك‬
‫كان القتال بالنفس وا‪١‬تال أمرا ً‬
‫ضروريا ‪.‬‬
‫ِيل َ ِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل ‪َ { :‬وقَاتلُوا ْ ِيف َسب ِ ّ‬
‫اّلل‬
‫} أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إىل‬
‫األموال فقال ‪َّ { :‬من ذَا الذي‬
‫يُقْ ِر ُض اهلل قَ ْرضا ً َح َسنا ًفَي َضا ِع َف ُه‬
‫ُ‬
‫ل َ ُه أ َ ْضعَافا ًكَثَِتَة ً‪} . . .‬‬

‫َم ْن ذَا ال َّ ِذي يُ ْق ِر ُض َّ‬


‫اّللَقَ ْر ًضا‬
‫َح َسنًا فَي ُ َضا ِع َف ُه ل َ ُه أ َ ْضعَافًا َكثَِتَة ً‬
‫ِ‬ ‫و َّ يقبِ‬
‫ض َويَب ْ ُس ُط َوإِلَيْه ُت ْر َج ُع َ‬
‫ون‬ ‫اّلل َ ْ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫(‪)245‬‬
‫ساعة تسمع { يُقْ ِر ُض اهلل }‬
‫فذلك أمر عظيم؛ ألنك عندما‬
‫تقرض إنسانا فكأنك تقرض اهلل ‪،‬‬
‫ولكن ا‪١‬تسألة ال تكون واضحة ‪،‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن ذلك اإلنسان سيستفيد‬
‫استفادة مباشرة ‪ ،‬لكن عندما تنفق‬
‫يف سبيل اهلل فليس هناك إنسان‬
‫بعينه تعطيه ‪ ،‬وإ‪٪‬تا أنت تعطي‬
‫ا‪١‬تعٌت العام يف قضية التدين ‪،‬‬
‫وتعاملك فيها يكون مع اهلل ‪.‬‬
‫كأنك تقرض اهلل حُت تنفق من‬
‫مالك لتعد نفسك للحرب ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫ينبهنا بكلمة القرض عىل أنه يطلب‬
‫منا عملية ليست سهلة عىل النفس‬
‫البشرية ‪ ،‬وهو سبحانه يعلم ٔتا‬
‫طبع عليه النفوس ‪ .‬والقرض يف‬
‫اللغة معناه قضم الشيء بالناب ‪،‬‬
‫وهو سبحانه وتعاىل يعلم أن عملية‬
‫اإلقراض هي مسألة صعبة ‪ ،‬وحىت‬
‫يبُت للناس أنه يعلم صعوبتها جاء‬
‫بقوله ‪ { :‬يُقْ ِر ُض } ‪ ،‬إنه ا‪١‬تقدر‬
‫لصعوبتها ‪ ،‬ويقدر ا‪ٞ‬تزاء عىل قدر‬
‫الصعوبة ‪.‬‬
‫{ َّمن ذَا الذي يُ ْق ِر ُض اهلل قَ ْرضا ً‬
‫َح َسنا ً} ‪ .‬وما هو القرض ا‪ٟ‬تسن؟‬
‫وهل إذا أقرضت عبدا ًمن عباد اهلل‬
‫ال يكون القرض حسنا؟‬
‫أوال إذا أقرضت عبدا ًمن عباد اهلل‬
‫فكأنك أقرضت اهلل ‪ ،‬صحيح أنت‬
‫تعطي اإلنسان ما ييسر له الفرج يف‬
‫موقف متأزم ‪ ،‬وصحيح أيضا أنك‬
‫يف عملية ا‪ٞ‬تهاد ال تعطي إنسانا ً‬
‫بعينه وإ‪٪‬تا تعطي اهلل مباشرة ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه يبلغنا ‪ :‬أن من يقرض‬
‫عبادي فكأنه أقرضٍت ‪ .‬كيف؟ ألن‬
‫اهلل هو الذي استدىع كل عبد له‬
‫للوجود ‪ ،‬فإذا احتاج العبد فإن‬
‫حاجته مطلوبة لرزقه يف الدنيا ‪،‬‬
‫فإذا أعىط العبد ألخيه ا‪١‬تحتاج‬
‫فكأنه يقرض اهلل ا‪١‬تتكفل برزق‬
‫ذلك ا‪١‬تحتاج ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪ { :‬يُقْ ِر ُض اهلل } تدلنا‬
‫عىل أن القرض ال يضيع؛ ألن‬
‫القرض شيء ٗترجه من مالك عىل‬
‫أمل أن تستعيده ‪ ،‬وهو سبحانه‬
‫وتعاىل يطمئنك عىل أنه هو الذي‬
‫سيقًتض منك ‪ ،‬وأنه سَتد ما‬
‫اقًتضه ‪ ،‬لكن ليس يف صورة ما‬
‫قدمت وإ‪٪‬تا يف صورة مستثمرة‬
‫أضعافا مضاعفة ‪ ،‬إن األصل‬
‫‪٤‬تفوظ ومستثمر ‪ ،‬ولذلك يقول ‪:‬‬
‫{ َّمن ذَا الذي يُ ْق ِر ُض اهلل قَ ْرضا ً‬
‫َح َسنا ًفَي َضا ِع َف ُه ل َ ُه أ َ ْضعَافا ً َكثَِتَة ً}‬
‫ُ‬
‫إهنا أضعاف كثَتة ٔتقاييس اهلل‬
‫عز وجل ال ٔتقاييسنا كبشر ‪.‬‬
‫والتعبَت بالقرض ا‪ٟ‬تسن هنا يدلنا‬
‫عىل أن مصدر ا‪١‬تال الذي تقرض‬
‫منه البد أن يكون من حبلل ‪،‬‬
‫ولذلك قيل للمرأة اليت تتصدق‬
‫من مال الزنا ‪ « :‬ليتها لم تزن ولم‬
‫تتصدق » ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن القرض ثوابه أعظم من‬
‫الصدقة ‪ ،‬مع أن الصدقة ‪٬‬تود فيها‬
‫اإلنسان بالشيء كله ‪ ،‬يف حُت أن‬
‫القرض هو دين يسًتجعه صاحبه ‪،‬‬
‫ألن األلم يف إخراج الصدقة يكون‬
‫‪١‬ترة واحدة فأنت ٗترجها وتفقد‬
‫األمل فيها ‪ ،‬لكن القرض تتعلق‬
‫نفسك به ‪ ،‬فكلما صْبت مرة‬
‫أتتك حسنة ‪ ،‬كما أن ا‪١‬تتصدق‬
‫عليه قد يكون َت ‪٤‬تتاج ‪ ،‬ولكن‬
‫ا‪١‬تقًتض ال يكون إال ‪٤‬تتاجا ً‪.‬‬
‫والقرض من ا‪١‬تال الذي لديك‬
‫‪٬‬تعل ا‪١‬تال يتناقص ‪ ،‬لذلك فاهلل‬
‫يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة‬
‫هذا القرض ‪ ،‬وذلك مناسب ٘تاما ً‬
‫ض َويَب ْ ُس ُط }‬ ‫لقوله تعاىل ‪ { :‬يَقْبِ‬
‫ُ‬
‫اليت جاء بها يف قوله تعاىل ‪ { :‬واهلل‬
‫ِ‬ ‫يَقْبِ‬
‫ض َويَب ْ ُس ُط َوإِلَيْه ُت ْر َج ُع َ‬
‫ون }‬ ‫ُ‬
‫أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا‬
‫حقه با‪ٟ‬تساب أي أن ا‪١‬تال الذي‬
‫تقرض منه ينقص يف ظاهر األمر‬
‫ولكن اهلل سبحانه يزيده ويبسطه‬
‫أضعافا مضاعفة ويف اْلخرة يكون‬
‫ا‪ٞ‬تزاء جزيبل ‪.‬‬

‫ثم ينتقل اهلل عز وجل إىل قضية‬


‫أخرى يستهلها بقوله سبحانه ‪{ :‬‬
‫ت} تأكيدا للخْب الذي سيأيت‬ ‫أَل َ ْم َر‬
‫بعدها عىل أنه أمر واقع وقوع الشيء‬
‫ا‪١‬ترئي ‪ ،‬يقول سبحانه ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر‬
‫يل ِمن بَعْ ِد‬‫إ َِىل ا‪١‬تئل ِمن بٍت إِ ْس َر ِائ َ‬
‫موىس ‪} . . .‬‬

‫يل ِم ْن‬ ‫أَل َ ْم تَ َر إ َِىل ا ْ‪١‬ت َ َ ِئل ِم ْن ب َ ٍِت إِ ْس َر ِائ َ‬


‫ِ‬
‫ث لَنا‬‫وىس إِذْقَالُوا لنَبِ ٍّي ل َ ُه ُم ابْعَ ْ‬ ‫بَعْ ِد ُم َ‬
‫ِيل َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ال َه ْل‬
‫اّلل قَ َ‬ ‫َملكًا ن ُ َقات ْل ِيف َسب ِ ّ‬
‫ال أ َ َّال‬
‫ب عَلَي ْ ُك ُم الْقِت َ ُ‬ ‫ِ‬
‫َع َسي ْ ُت ْم إ ِْن ُكت َ‬
‫ُتقَاتِلُوا قَالُوا َو َما لَنا أ َ َّال نُقَاتِ َل ِيف‬
‫اّلل َوقَ ْد أُ ْخ ِر ْجنَا ِم ْن ِديَا ِرنَا‬
‫ِيل َ ِ‬
‫َسب ِ ّ‬
‫َ ِ‬
‫ب ع َ َي ْل ِه ُم الْقِت َ ُ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫َوأبْنَائنَا فَل َ َّما ُكت َ‬
‫يبل ِمن ْ ُهم و َ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‬ ‫تَ َول َّ ْوا إ َِّال قَل ً ْ َ ُّ‬
‫اّلل عَل ٌ‬
‫ِ‬ ‫الظ ِ‬
‫ُت (‪)246‬‬ ‫بِ َّ َ‬
‫ا‪١‬ت‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه يبلغنا بوسيلة‬
‫السماع عنه ‪ ،‬وعلينا أن نتلىق ذلك‬
‫األمر كأننا نراه بالعُت ‪ ،‬فماذا‬
‫نرى؟ { أَل َ ْم تَ َر إ َِىل ا‪١‬تئل } ‪ ،‬ما معٌت‬
‫ا‪١‬تؤل؟ هي من مؤل يعٍت ازدحم اإلناء‬
‫‪ ،‬ولم يعد فيه مكان يتحمل زائدا ً‪.‬‬
‫وأن الظرف قد ُشغل با‪١‬تظروف‬
‫شغبل لم يعد يتسع لسواه ‪ .‬وكلمة «‬
‫مؤل » ُتطلق عىل أشراف القوم‬
‫كأهنم هم الذين ٯتؤلون حياة‬
‫الوجود حو‪٢‬تم وال يستطيع َتهم‬
‫أن يزا‪ٛ‬تهم ‪ .‬و { ا‪١‬تئل } من‬
‫أشراف الوجوه والقوم ‪٬‬تلسون‬
‫للتشاور ‪ { .‬أَل َ ْم تَ َر إ َِىل ا‪١‬تئل ِمن بٍت‬
‫يل ِمن بَعْ ِد موىس } أي ألم‬
‫إِ ْس َر ِائ َ‬
‫يأتك خْب وجوه القوم وأشرافهم‬
‫من بعد موىس عليه السبلم مثبل يف‬
‫عصر « يوشع » أو « حزقيل أو‬
‫مشويل » أو أي واحد منهم ‪ ،‬وال‬
‫يعنينا ذلك ألن القرآن ال يذكر يف‬
‫أي عهد كانوا ‪ ،‬ا‪١‬تهم أهنم كانوا‬
‫بعد موىس عليه السبلم ‪ { .‬إِذْقَالُوا ْ‬
‫لِنَبِ ٍّي َّ‪٢‬ت ُ ُم ابعث لَنا َملِكا ًنُّقَاتِ ْل ِيف‬
‫ِيل اهلل } ‪.‬‬ ‫َسب ِ‬
‫لقد اجتمع أشراف بٍت إسرائيل‬
‫للتشاور ثم ذهبوا إىل النبي الذي‬
‫كان معاصرا ً‪٢‬تم وقالوا له ‪ :‬ابعث‬
‫لنا ملكا ‪ .‬ونفهم من ذلك أنه لم‬
‫يكن ‪٢‬تم ملك ‪ .‬وماذا نستفيد من‬
‫ذكر وجود نبي ‪٢‬تم وعدم وجود‬
‫ملك ‪٢‬تم؟‬
‫نفهم من ذلك أن النبوة كانت‬
‫تشرف عىل نفاذ األعمال وال تباشر‬
‫األعمال ‪ ،‬وأما ا‪١‬تلك فهو الذي‬
‫يباشر األعمال ‪ .‬ولو كانت النبوة‬
‫تباشر أعماال ً‪١‬تا طلبوا من نبيهم‬
‫أن يبعث ‪٢‬تم ملكا ‪ .‬وسبب ذلك أن‬
‫الذي يباشر عرضه للكراهية من‬
‫كثر من الناس وعرضه أن يفشل‬ ‫ي‬
‫يف تصريف بعض األمور ‪ ،‬فبدال من‬
‫أن يوجهوا الفشل للقمة العليا ‪،‬‬
‫ينقلون ذلك ‪١‬تن هو أقل وهو ا‪١‬تلك‬
‫‪ .‬ولذلك طلبوا من النبي أن يأيت‬
‫ٔتلك يعيد تصريف األمور فتكون‬
‫النبوة مرجعا ًللحق ‪ ،‬وال تكون‬
‫موطنا ًللوم يف أي شيء ‪.‬‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يبلغنا أنه قال‬
‫لنبي بٍت إسرائيل ‪:‬‬
‫أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم‬
‫ا‪١‬تؤل أي أشراف القوم وأتيتم‬
‫بالعلة ا‪١‬توجبة للقتال وهي أنكم‬
‫أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي‬
‫بلغ بكم ا‪٢‬توان أنه لم تعد لكم‬
‫ديار ‪ ،‬وبلغ بكم ا‪٢‬توان أنه لم يعد‬
‫لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم ‪.‬‬
‫إذن علة طلب القتال موجودة ‪ ،‬ومع‬
‫ذلك قال ‪٢‬تم النبي ‪َ { :‬ه ْل‬
‫َعسي ْ ُتم إِن ُكتِب عَلَي ُكم القتال أَال َّ‬
‫َ ْ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ُت َقاتِلُوا ْ} لقد أوضح ‪٢‬تم نبيهم‬
‫الشرط وقال ‪ :‬إنٍت أخاف أن آيت‬
‫لكم ٔتلك كي تقاتلوا يف سبيل اهلل‬
‫‪ ،‬وبعد ذلك يفرض اهلل عليكم‬
‫القتال ‪ ،‬وعندما نأيت لؤلمر الواقع ال‬
‫‪٧‬تد لكم عزما عىل القتال‬
‫وتتخاذلون ‪.‬‬
‫لكنهم قالوا ‪َ { :‬و َما لَنآ أَال َّن ُ َقاتِ َل ِيف‬
‫ِيل اهلل َوقَ ْد أُ ْخ ِر ْجنَا ِمن ِديَا ِرنَا‬
‫َسب ِ‬
‫َوأَبْن َ ِآئنَا } ‪ . .‬انظر إىل الدقة يف‬
‫ِيل اهلل } وتعليق‬ ‫قو‪٢‬تم ‪ِ { :‬يف َسب ِ‬
‫ذلك السبيل عىل أهنم أخرجوا من‬
‫ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن‬
‫يقلبوا ا‪١‬تسألة وأن يقولوا ‪ :‬إن‬
‫القتال يف سبيل اهلل بعد أن عضتهم‬
‫التجربة فيما ٭تبون من الديار‬
‫واألبناء ‪ ،‬إذن فاهلل هو ا‪١‬تلجأ يف كل‬
‫أمر ‪ ،‬وقبل سبحانه منهم قو‪٢‬تم ‪،‬‬
‫واعتْب قتا‪٢‬تم يف سبيله ‪.‬‬
‫وكان إخراجهم من ديارهم أمرا ً‬
‫معقوال ً‪ ،‬لكن كيف ٮترجون من‬
‫أبنائهم؟ رٔتا كانوا قد تركوا‬
‫أبناءهم للعدو ‪ ،‬ورٔتا أخذهم‬
‫العدو أسرى ‪ .‬لكنهم هم الذين‬
‫أخرجوا من ديارهم ‪ ،‬وينطبق‬
‫عليهم يف عبلقتهم باألبناء قول‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ‪...‬‬
‫أال تفارقهم فالراحلون ‪٫‬تو‬
‫وانظر إىل التمحيص ‪ ،‬إهنم مؤل من‬
‫بٍت إسرائيل وذهبوا إىل نبي وقالوا‬
‫له ‪ :‬ابعث لنا ملكا حىت ‪٬‬تعلوها‬
‫حربا مشروعة ليقاتلوا يف سبيل‬
‫اهلل ‪ ،‬وقال ‪٢‬تم النبي ما قال وردوا‬
‫عليه هم ‪َ { :‬و َما لَنآ أَال َّنُقَاتِ َل ِيف‬
‫ِيل اهلل } يعٍت وكيف ال نقاتل‬ ‫َسب ِ‬
‫يف سبيل اهلل؟‬
‫وجاء ‪٢‬تم األمر بالقتال يف قوله تعاىل‬
‫ب عَلَي ْ ِه ُم القتال تَ َول َّ ْوا ْ‬ ‫ِ‬
‫‪ { :‬فَل َ َّما ُكت َ‬
‫ب } ألهنم هم‬ ‫} إن قوله ‪ُ { :‬كتِ‬
‫َ‬
‫الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم‬
‫اهلل داخلُت يف العقد فجاء التعبَت ب‬
‫تب » ‪،‬‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫«‬ ‫ب‬ ‫يأت‬ ‫ولم‬ ‫}‬ ‫ب‬ ‫{ ُكتِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن‬
‫القتال ‪.‬‬
‫لقد كان لنبيهم حق يف أن يتشكك‬
‫يف قدرهتم عىل القتال ‪ ،‬ويقول ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫ب عَلَي ْ ُك ُم‬ ‫ِ‬
‫{ َه ْل َع َسي ْ ُت ْم إِن ُكت َ‬
‫القتال أَال َّ ُتقَاتِلُوا ْ} ‪ .‬ولكن هل‬
‫أعرضوا ‪ٚ‬تيعا عن القتال؟ ال؛ فقد‬
‫كان فيهم من ينطبق عليه قول‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫إن الذي جعل ا‪ٟ‬تقيقة علقما ً‪...‬‬
‫لم ٮتل من أهل ا‪ٟ‬تقيقة جيبل ً‬
‫لقد كان منهم من لم يعرض عن‬
‫التكليف بالقتال لكنهم قلة ‪ ،‬وهذا‬
‫٘تهيد مطلوب ‪ ،‬حىت إذا ا‪٨‬تسرت‬
‫ا‪ٞ‬تمهرة ‪ ،‬وانفض ا‪ٞ‬تميع من‬
‫حولك إياك أن تقول ‪ « :‬إين قليل‬
‫»؛ ألن ا‪١‬تقاييس ليست بكثرة‬
‫ا‪ٞ‬تمع ‪ ،‬ولكن بنصرة ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل ‪.‬‬
‫وقد يكون عدوك كثَتا ًلكن ليس‬
‫له رصيد من ألوهية عالية ‪ ،‬وقد‬
‫تكون يف قلة من العدد ‪ ،‬لكن لك‬
‫رصيد من ألوهية عالية ‪ ،‬وهذا ما‬
‫يريد ا‪ٟ‬تق أن يلفتنا إليه بقوله ‪{ :‬‬
‫فَل َ َّما ُكتِب عَلَي ِهم القتال تَولَّوا ْإِال َّ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫قَلِيبل ً} ‪ .‬كلمة { إِال َّقَلِيبل ً}‬
‫جاءت لتخدم قضية ‪ ،‬لذلك جاء يف‬
‫آخر القصة قوله تعاىل ‪َ { :‬كم ِّمن‬
‫فِئ َ ٍة قَلِيل َ ٍة َلَب َ ْت فِئَةً كَثَِتَة ًبِإِذْ ِن اهلل‬
‫} ػ البقرة ‪] 249 :‬‬
‫أي أن الغلبة تأيت بإذن اهلل ‪ ،‬إذن‬
‫فالشيء ا‪١‬ترئي واحد ‪ ،‬لكن وجهة‬
‫نظر الرائُت فيه ٗتتلف عىل قدر‬
‫رصيدهم اإلٯتاين ‪ .‬أنت ترى‬
‫زهرة ‪ٚ‬تيلة ‪ ،‬والرؤية قدر‬
‫مشًتك عند ا‪ٞ‬تميع ‪ ،‬ورآها َتك‬
‫‪ ،‬أعجبتك أنت وحافظت عليها‬
‫وتركتها زينة لك ولغَتك ‪ ،‬بينما‬
‫رآها إنسان آخر فقطفها ولم يبال‬
‫ك من هي ‪ ،‬وهكذا تعرف أن‬ ‫ِمل ْ ُ‬
‫العمل الزنوعي ٮتتلف من شخص‬
‫ْلخر ‪ ،‬فالعدو قد يكون كثَتا ً‬
‫أمامنا و‪٨‬تن قلة ‪ ،‬وكلنا رأى العدو‬
‫كثَتا ًورأى نفسه قليال ً‪ ،‬لكن‬
‫ا‪١‬تواجيد ٗتتلف ‪ .‬أنا سأحسب‬
‫نفسي ومعي ريب ‪ ،‬و َتي رآهم‬
‫كثَتين وقال ‪ :‬ال نقدر عليهم؛‬
‫ألنه أخرج ربه من ا‪ٟ‬تساب ‪.‬‬
‫{ فَل َ َّما ُكتِب عَلَي ِهم القتال تَولَّوا ْإِال َّ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫يم بالظا‪١‬تُت }‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫قَليبل ً ّمن ْ ُه ْم واهلل عَل ٌ‬
‫إذن فالتويل ظلم للنفس؛ ألن‬
‫الظلم يف أبسط معانيه أن تنقل‬
‫ا‪ٟ‬تق لغَت صاحبه ‪ ،‬وأنت أخرجت‬
‫من ديارك وظللت عىل هذا ا‪ٟ‬تال ‪،‬‬
‫إذن فقد ظلمت نفسك ‪ ،‬وظلمت‬
‫أوالدك الذين خرجوا منك ‪ ،‬وفوق‬
‫ذلك كله ظلمت قضيتك الدينية ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٞ‬تماعة الذين تولوا كانوا‬
‫ظا‪١‬تُت ألنفسهم وألهليهم‬
‫و‪١‬تجتمعهم وللقضية العقدية ‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬واهلل عَل ٌ‬
‫يم‬
‫بالظا‪١‬تُت } هو إشارة عىل أن اهلل‬
‫مطلع عىل هؤالء الذين ٗتاذلوا سرا ً‪،‬‬
‫وأرادوا أن يقتلوا الروح ا‪١‬تعنوية‬
‫للناس وهم الذين يطلق عليهم يف‬
‫هذا العصر « الطابور ا‪٠‬تامس »‬
‫الذين يفتتون الروح ا‪١‬تعنوية دون‬
‫أن يراهم أحد ولكن اهلل يعرفهم ‪.‬‬
‫لقد طلب هؤالء القوم من بٍت‬
‫إسرائيل من نبيهم أن يبعث ‪٢‬تم‬
‫ملكا ‪ ،‬وكان يكفي النبي ا‪١‬ترسل‬
‫إليهم أن ٮتتار ‪٢‬تم ا‪١‬تلك ليقاتلوا‬
‫ٖتت رايته ‪ ،‬لكنهم يزيدون يف‬
‫التلكؤ واللجاجة ويريدون أن‬
‫ينقلوا األمر نقلة ليست من قضايا‬
‫الدين ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق بعد ذلك ‪{ :‬‬
‫ث‬‫ال َ‪٢‬ت ُ ْم نَبِي ُّ ُه ْم إ َِّن اهلل قَ ْد بَعَ َ‬
‫َوقَ َ‬
‫ل َ ُكم َطال ُ َ ِ‬
‫وت َملكا ًقالوا أىن ي َ ُك ُ‬
‫ون ل َ ُه‬ ‫ْ‬
‫ا‪١‬تلك عَلَيْنَا ‪} . . .‬‬
‫ث‬ ‫اّللَقَ ْد بَعَ َ‬ ‫ال َ‪٢‬ت ُ ْم نَبِي ُّ ُه ْم إ َِّن َّ‬
‫َوقَ َ‬
‫َ‬ ‫ل َ ُكم َطال ُ َ ِ‬
‫ون ل َ ُه‬‫وت َملكًا قَالُوا أ َّىن ي َ ُك ُ‬ ‫ْ‬
‫ك ِمن ْ ُه‬ ‫ك عَلَيْنَا و َ‪٨‬تْن أ َ َح ُّق بِا ْ‪١‬تل ْ ِ‬ ‫ا ْ‪١‬تُل ْ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫اّلل‬
‫ال إ َِّن ّ ََ‬ ‫َول َ ْم يُ ْؤ َت َسعَةًم َن ا ْ‪١‬ت َ ِال قَ َ‬
‫اص َط َف ُاه عَلَي ْ ُك ْم َوزَادَ ُه ب َ ْس َطةً ِيف‬ ‫ْ‬
‫اّلل يُ ْؤ ِيت ُمل ْ َك ُه َم ْن‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫الْعلْم َوا‪ٞ‬تْ ْسم َو َّ ُ‬
‫ي َ َشاء و َ ِ ِ‬
‫يم (‪)247‬‬ ‫اّلل َواس ٌع عَل ٌ‬ ‫ُ َ ُّ‬
‫هم الذين طلبوا من نبيهم أن‬
‫يبعث ‪٢‬تم ملكا ‪ .‬وكان يكفي إذن أن‬
‫ٮتتار نبيهم شخصا ويوليه ا‪١‬تلك‬
‫عليهم ‪ .‬لكن نبيهم أراد أن يغرس‬
‫االحًتام منهم يف ا‪١‬تبعوث كملك‬
‫‪٢‬تم ‪ .‬لقد قال ‪٢‬تم ‪ { :‬إ َِّن اهلل قَ ْد‬
‫وت َملِكا ً} ‪ .‬والنبي‬ ‫ث ل َ ُك ْم َطال ُ َ‬
‫بَعَ َ‬
‫القائل ذلك ينتمي إليهم ‪ ،‬وهو‬
‫منهم ‪ ،‬وعندما طلبوا منه أن يبعث‬
‫‪٢‬تم ملكا ًكانوا يعلمون أنه مأمون‬
‫عىل ذلك ‪.‬‬
‫ويتجىل أدب النبوة يف التلقي ‪ ،‬فقال‬
‫ث ل َ ُك ْم َطال ُ َ‬
‫وت‬ ‫‪ { :‬إ َِّن اهلل قَ ْد بَعَ َ‬
‫َملِكا ً} ‪ .‬إنه يريد أن يطمئنهم‬
‫عىل أن مسألة اختيار طالوت‬
‫كملك ليست منه؛ ألنه بشر‬
‫مثلهم ‪ ،‬وهو يريد أن ينحي قضيته‬
‫البشرية عن هذا ا‪١‬توضوع ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫وت َملِكا ً‬ ‫ث ل َ ُك ْم َطال ُ َ‬ ‫{ إ َِّن اهلل قَ ْد بَعَ َ‬
‫} ‪ .‬فماذا كان ردهم؟ { قالوا أىن‬
‫ون ل َ ُه ا‪١‬تلك عَلَيْنَا َو َ‪٨‬ت ْ ُن أ َ َح ُّق‬
‫ي َ ُك ُ‬
‫با‪١‬تلك ِم ُْهن َول َ ْم يُ ْؤ َت َسعَةً ِّم َن ا‪١‬تال‬
‫} ‪ .‬وهذه بداية التلكؤ واللجاجة‬
‫ونقل األمر إىل مسألة ليست من‬
‫قضايا الدين ‪.‬‬
‫إهنم يريدون الوجاهة والغٌت ‪.‬‬
‫وكان ‪٬‬تب عليهم أن يأخذوا‬
‫ا‪١‬تسألة عىل أن ا‪١‬تلك جاء لصا‪ٟ‬تهم‬
‫‪ ،‬ألهنم هم الذين طلبوه ليقودهم‬
‫يف ا‪ٟ‬ترب ‪ .‬إذن فأمر اختيار ا‪١‬تلك‬
‫كان ‪٢‬تم ولصا‪ٟ‬تهم ‪ ،‬فلماذا‬
‫يتصورون أن االختيار كان‬
‫ضدهم وليس ‪١‬تصلحتهم؟‬
‫شيء آخر نفهمه من قو‪٢‬تم ‪ { :‬أىن‬
‫ون ل َ ُه ا‪١‬تلك عَلَيْنَا } ‪ ،‬إن طالوت‬
‫ي َ ُك ُ‬
‫هذا لم يكن من الشخصيات‬
‫ا‪١‬تشار إليها؛ فمن العادة حُت‬
‫َ٭ت ُزب األمر يف ‪ٚ‬تاعة من‬
‫ا‪ٞ‬تماعات أن تفكر فيمن يقود ‪،‬‬
‫فعادة ما يكون هناك عدد من‬
‫الشخصيات البلمعة اليت يدور‬
‫التفكَت حو‪٢‬تا ‪ ،‬وتظن ا‪ٞ‬تماعة أنه‬
‫من ا‪١‬تمكن أن يقع عىل واحد منهم‬
‫االختيار ‪ ،‬وكان اختيار السماء‬
‫لطالوت عىل عكس ما توقعت تلك‬
‫ا‪ٞ‬تماعة ‪ .‬لقد جاء طالوت من‬
‫غمار القوم بدليل أهنم قالوا ‪{ :‬‬
‫ون ل َ ُه ا‪١‬تلك } أي لم يؤت‬
‫أىن ي َ ُك ُ‬
‫ا‪١‬تلك من قبل ‪.‬‬
‫ولقد كانوا ينتمون إىل نسلُت ‪:‬‬
‫نسل أخذ النبوة وهو نسل بنيامُت‬
‫‪ ،‬ونسل أخذ ا‪١‬تلوكية وهو نسل‬
‫الوى بن يعقوب ‪ .‬فلما قال ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫وت َملِكا ً‬
‫ث ل َ ُك ْم َطال ُ َ‬
‫{ إ َِّن اهلل قَ ْد بَعَ َ‬
‫} ‪ ،‬بدأوا يبحثون عن صحيفة‬
‫النسب ا‪٠‬تاصة به فلم ‪٬‬تدوه‬
‫منتميا ًال ‪٢‬تذا وال لذاك ‪ ،‬ولذلك‬
‫قالوا ‪ { :‬أىن ي َ ُك ُ‬
‫ون ل َ ُه ا‪١‬تلك عَلَيْنَا }‬
‫‪ .‬وهذا يدلنا عىل أن الناس حُت‬
‫يريدون وضعا ًمن األوضاع ال‬
‫يريدون الرجل ا‪١‬تناسب للموقف‬
‫‪ ،‬ولكن يريدون الرجل ا‪١‬تناسب‬
‫لنفوسهم ‪ ،‬بدليل قو‪٢‬تم ‪ { :‬أىن‬
‫ون ل َ ُه ا‪١‬تلك عَلَيْنَا َو َ‪٨‬ت ْ ُن أ َ َح ُّق‬
‫ي َ ُك ُ‬
‫با‪١‬تلك ِمن ْ ُه } ‪.‬‬
‫وهل ا‪١‬تلك يأيت غطرسة أو‬
‫كْبياء؟ ومادام طالوت رجبل من‬
‫غمار الناس فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫يريد أن يضع قضية كل مؤمن وهي‬
‫أنك حُت تريد االختيار فإياك أن‬
‫يغشك حسب أو نسب أو جاه ‪،‬‬
‫ولكن اخًت األصلح من أهل ا‪٠‬تْبة‬
‫ال من أهل الثقة ‪.‬‬

‫لقد تناسوا أن القضية اليت طلبوها‬


‫من نبيهم ٖتتاج إىل صفتُت ‪ :‬رجل‬
‫جسيم ورجل عليم ‪ ،‬واهلل اختار‬
‫‪٢‬تم طالوت رجبل جسيما ًوعليما‬
‫معا ‪.‬‬
‫وعندما نتأمل سياق اْليات فإننا‬
‫‪٧‬تد أن اهلل قال ‪٢‬تم يف البداية ‪{ :‬‬
‫ث ل َ ُك ْم } حىت ال ٭ترج أحدا ً‬
‫بَعَ َ‬
‫منهم يف أن طالوت أفضل منه ‪،‬‬
‫ولكن عندما حدث ًفاج قال ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫{ إ َِّن اهلل اصطفاه عَلَي ْ ُك ْم } وهو‬
‫بهذا القول يؤكد إنه ال يوجد‬
‫فيكم من أهل البسطة وا‪ٞ‬تسامة‬
‫من يتمتع بصفة العلم ‪ .‬وكذلك ال‬
‫يوجد من أهل العلم فيكم من‬
‫يتمتع بالبسطة وا‪ٞ‬تسامة{ إ َِّن اهلل‬
‫اصطفاه عَلَي ْ ُك ْم َوزَادَ ُه ب َ ْس َطةً ِيف‬
‫العلم وا‪ٞ‬تسم } ‪ .‬وكان ‪٬‬تب أن‬
‫يستقبلوا اصطفاء اهلل طالوت‬
‫للملك بالقبول والرىض فما بالك‬
‫وقد زاده بسطة يف العلم وا‪ٞ‬تسم؟‬
‫والبسطة يف العلم وا‪ٞ‬تسم هي‬
‫ا‪١‬تؤهبلت اليت تناسب ا‪١‬تهمة اليت‬
‫أرادوا من أجلها ملكا ‪٢‬تم ‪ .‬ولذلك‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬واهلل يُ ْؤ ِيت ُمل ْ َك ُه َمن‬
‫آء } وكأن ا‪ٟ‬تق يقول ‪٢‬تم ‪ :‬ال‬ ‫ي َ َش ُ‬
‫تظنوا أنكم أنتم الذين ترشحون‬
‫لنا ا‪١‬تلك ا‪١‬تناسب ‪ ،‬يكفيكم أنكم‬
‫طلبتم أن أرسل لكم ملكا‬
‫فاتركوين ٔتقاييسي اخًت ا‪١‬تلك‬
‫ا‪١‬تناسب ‪.‬‬
‫وٮتتم ا‪ٟ‬تق اْلية بقوله ‪ { :‬واهلل‬
‫يم } أي عنده لكل مقام‬ ‫وا ِس ٌع عَلِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫مقال ‪ ،‬ولكل موقع رجل ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه عليم ٔتن يصلح ‪٢‬تذه‬
‫ا‪١‬تهمة ‪ .‬ومن يصلح لتلك ‪ ،‬ال عن‬
‫ضيق أو قلة رجال ‪ ،‬ولكن عن سعة‬
‫وعلم ‪.‬‬
‫لقد استقبلوا هذا االختيار اإل‪٢‬تي‬
‫باللجاج ‪ ،‬واللجاج نوع من العناد‬
‫وال ينهيه إال األمر ا‪١‬تشهدي ا‪١‬ترئي‬
‫الذي يلزم با‪ٟ‬تجة ‪ ،‬لذلك كان البد‬
‫من ‪٣‬تيء معجزة ‪ .‬لذلك يأيت قوله‬
‫ال َ‪٢‬ت ُ ْم نِبِي ُّ ُه ْم إ َِّن آيَةَ‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وقَ َ‬
‫ُمل ْ ِك ِه أَن يَأْتِي َ ُك ُم التابوت فِي ِه‬
‫َس ِكين َ ٌة ِّمن َّربِّ ُك ْم ‪} . . .‬‬

‫ال َ‪٢‬ت ُ ْم نَبِي ُّ ُه ْم إ َِّن آيَةَ ُمل ْ ِك ِه أ َ ْن‬


‫َوقَ َ‬
‫وت فِي ِه َس ِكين َ ٌة ِم ْن‬ ‫ْ‬
‫يَأتِي َ ُك ُم التَّا ُب ُ‬
‫وىس‬ ‫آل ُم َ‬‫ك ُ‬ ‫َربِّ ُك ْم َوبَقِي َّ ٌة ِ‪٦‬تَّا تَ َر َ‬
‫آل َه ُارو َن َٖتْ ِمل ُ ُه ا ْ‪١‬ت َ َبل ِئ َك ُة إ َِّن ِيف‬
‫َو ُ‬
‫ِِ‬ ‫ذَل ِ َ‬
‫ك َْليَةً ل َ ُك ْم إ ِْن ُكن ْ ُت ْم ُم ْؤمن َ‬
‫ُت‬
‫(‪)248‬‬

‫لقد أرسل ا‪ٟ‬تق مع ا‪١‬تلك طالوت‬


‫آية تْبهن عىل أنه ملك من اختيار‬
‫اهلل فقال ‪٢‬تم نبيهم ‪ { :‬إ َِّن آيَةَ‬
‫ُمل ْ ِك ِه أَن يَأْتِي َ ُك ُم التابوت } أي إن‬
‫العبلمة الدالة عىل ملكههي { أَن‬
‫يَأْتِي َ ُك ُم التابوت } وهذا القول‬
‫نستدل منه عىل أن التابوت كان‬
‫ائبا ًومفقودا ً‪ ،‬وأنه أمر معروف‬
‫لديهم وهناك تلهف منهم عىل‬
‫‪٣‬تيئه ‪.‬‬
‫وما هو التابوت؟ إن التابوت قد ورد‬
‫يف القرآن يف موضعُت ‪ :‬أحد‪٫‬تا يف‬
‫اْلية اليت ‪٨‬تن بصددها اْلن ‪،‬‬
‫ولتعاىل ‪{ :‬‬ ‫وا‪١‬توضوع اْلخر يف ق ه‬
‫ك َما يوىح * أ َ ِن‬ ‫إِذْ أ َ ْو َحيْنَآ إىل أُ ِّم َ‬
‫اقذفيه ِيف التابوت فاقذفيه ِيف اليم‬
‫فَلْيلْقِ ِه اليم بالساحل يَأ ْ ُخ ْذ ُه ع َ ُد ٌّو‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ك َ‪٤‬تَبَّةً ّم ِ ٍّت‬ ‫َ‬
‫ِّيل َوع َ ُد ٌّو ل َّ ُه َوأل ْ َقي ْ ُت عَلَي ْ َ‬
‫َول ِ ُت ْصن َ َع عىل عيٍت} ػ طه ‪-38 :‬‬
‫‪] 39‬‬
‫رفمن أيام قصة‬ ‫إذن فالتابوت نع ه‬
‫موىس وهو رضيع ‪ ،‬عندما خافت‬
‫عليه أمه؛ فأوىح ‪٢‬تا اهلل ‪ { :‬فَإِذَا‬
‫ِخ ْف ِت عَلَي ْ ِه فَأَلْقِي ِه ِيف اليم } فهل‬
‫هو التابوت نفسه الذي تتحدث‬
‫عنه اْليات اليت ‪٨‬تن بصددها؟‬
‫الب الظن أنه هو؛ ألنه مادام جاء‬
‫به عىل إطبلقه فهو التابوت‬
‫ا‪١‬تعروف ‪ ،‬وكأن ة‬
‫ا‪١‬تسألاليت ‪٧‬تا بها‬
‫موىس ‪٢‬تا تاريخ مع موىس وفرعون‬
‫ومع نبيهم ومع طالوت وهذه‬
‫عملية نأخذ منها أن اْلثار اليت‬
‫ترتبط باألحداث ا‪ٞ‬تسيمة يف‬
‫تاريخ العقيدة ‪٬‬تب أن نعٌت بها ‪،‬‬
‫وال نقول إهنا كفريات ووثنيات؛‬
‫ألن ‪٢‬تا ارتباطا ًبأمر عقدي ‪،‬‬
‫ؤتسائل تارٮتية ‪ ،‬وارتباطا‬
‫با‪١‬تقدسات ‪ .‬انظر إىل التابوت‬
‫الذي فيه بقية ‪٦‬تا ترك آل موىس‬
‫وآل هارون وٖتمله ا‪١‬تبلئكة ‪ .‬إن‬
‫هذا دليل عىل أنه شيء كبَت ومهم ‪.‬‬
‫إذن فاْلثار اليت ‪٢‬تا مساس وارتباط‬
‫بأحداث العقيدة وأحداث النبوة ‪،‬‬
‫وكأن‬
‫هذه اْلثار مهمة لئلٯتان ‪ّ ،‬‬
‫القرآن يقول ‪ :‬اتركوها كما هي ‪،‬‬
‫وخذوا منها عظة وعْبة؛ ألهنا‬
‫تذكركم بأشياء مقدسة ‪ .‬لقد كان‬
‫التابوت مفقودا ً‪ ،‬وذلك دليل عىل أن‬
‫عدوا ً لب عىل الببلد اليت سكنوها ‪،‬‬
‫والعدو عندما يغَت عىل ببلد ٭تاول‬
‫أوال ًطمس ا‪١‬تقدسات اليت تربط‬
‫الببلد بالعقيدة ‪ .‬فإذا كان التابوت‬
‫مقدسا ًعندهم بهذا الشكل ‪ ،‬كان‬
‫البد أن يأخذه األعداء ‪ .‬هؤالء‬
‫األعداء هم الذين أخرجوهم من‬
‫ديارهم وهم ألوف حذر ا‪١‬توت ‪.‬‬
‫وإذا كانوا قد أخرجوهم من‬
‫ديارهم فمن باب أوىل أهنم‬
‫أجْبوهم عىل ترك التابوت ‪.‬‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل يطمئنهم بأن‬
‫آية ا‪١‬تلك لطالوت هي ‪٣‬تيء‬
‫التابوت الذي تتلهفون عليه ‪،‬‬
‫وترتبط به مقدساتكم ‪ { .‬أَن‬
‫يَأْتِي َ ُك ُم التابوت فِي ِه َس ِكين َ ٌة ِّمن‬
‫َّر ِبّ ُك ْم } فكأن االستقرار النفسي‬
‫سيأتيكم مع هذا التابوت؛ ألن‬
‫اإلنسان حُت ‪٬‬تد التابوت الذي ‪٧‬تا‬
‫به نبي ‪ ،‬ويف األشياء اليت سنعرفها‬
‫فيما بعد ‪ ،‬إن اإلنسان يسًتوح‬
‫صلته بالسماء ‪ ،‬وهي صلة مادية‬
‫ٕتعل النفس تسًتيح ‪.‬‬
‫وعىل سبيل ا‪١‬تثال تأمل مشاعرك‬
‫عندما يقال لك ‪ « :‬هذا هو‬
‫ا‪١‬تصحف الذي كان يقرأ فيه سيدنا‬
‫عثمان » ‪.‬‬

‫إنه مصحف مثل أي مصحف آخر‬


‫‪ ،‬ولكن ميزته أنه كان يقرأ فيه‬
‫سيدنا عثمان؛ إنك تسًتيح‬
‫نفسيا ًعندما تراه ‪ .‬وأيضا ًحُت‬
‫تذهب إىل دار ا‪٠‬تبلفة يف تركيا ‪،‬‬
‫ويقال لك ‪ « :‬هذا هو السيف‬
‫الذي كان ٭تارب به اإلمام علي» ‪.‬‬
‫فتنظر إىل السيف ‪ ،‬وٕتد أن وزنه‬
‫وثقله يساوي عشرة سيوف ‪،‬‬
‫وتتعجب كيف كان ٭تمله سيدنا‬
‫علي كرم اهلل وجهه وكيف كان‬
‫٭تارب به ‪.‬‬
‫وكذلك عندما يقال لك ‪ « :‬هذه‬
‫شعرة من شعر رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم أو ا‪١‬تكحلة اليت كان‬
‫يكتحل بها » ‪ ،‬الشك أن مثل هذه‬
‫ا‪١‬تشاهد ستًتك إشراقا ًوطمأنينة‬
‫يف نفسك ‪ .‬وعندما يراها إنسان‬
‫به بعض الشكوك وا‪١‬تخاوف فإن‬
‫العقيدة تستقر يف نفسه ‪.‬‬
‫ومن هذا كله أقول ‪ :‬إن والة األمر‬
‫‪٬‬تب أال يعتْبوا مقدسات األشياء‬
‫ضربا ًمن الشركيات والوثنيات ‪،‬‬
‫بل ‪٬‬تب أن يولوها عناية ورعاية‬
‫ويْبزوها للناس؛ لتكون مصدر‬
‫سكينة وأمن نفس للناس ‪ ،‬وعليهم‬
‫أن ينصحوا الناس بأال يفتنوا بها ‪،‬‬
‫ولكن عليهم أن يًتكوها لتذكرنا‬
‫بأمر يتصل بعقيدتنا وبنبينا ‪.‬‬
‫وانظر إىل حديث القرآن عن‬
‫التابوت ‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق سبحانه لم يقل‬
‫‪ :‬إن التابوت سيأيت كامبل ً‪ ،‬ولم‬
‫يقل كذلك إنه التابوت الذي‬
‫ُوضع فيه موىس ‪ ،‬وإ‪٪‬تا قال ‪ { :‬فِي ِه‬
‫ك‬‫َس ِكين َ ٌة ِّمن َّر ِبّ ُك ْم َوبَقِي َّ ٌة ِّ‪٦‬تَّا تَ َر َ‬
‫ون } كأن آل‬ ‫آل َه ُار َ‬ ‫آل موىس َو ُ‬ ‫ُ‬
‫موىس وهارون قد حافظوا عىل آثار‬
‫أنبيائهم ‪ ،‬وأيضا قوله تعاىل ‪{ :‬‬
‫َٖتْ ِمل ُ ُه ا‪١‬تبلئكة } يؤكد لنا أنه ال‬
‫شك أن األثر الذي ٖتمله ا‪١‬تبلئكة‬
‫البد أن يكون شيئا ًعظيما ًيوجب‬
‫العناية الفائقة { إ َِّن آي َ َة ُمل ْ ِك ِه أَن‬
‫يَأْتِي َ ُك ُم التابوت } ‪.‬‬
‫ونلحظ يف قوله ‪ { :‬أَن يَأْتِي َ ُك ُم‬
‫التابوت} إنه سبحانه قد نسب‬
‫اإلتيان إىل التابوت ‪ ،‬فهل كان من‬
‫ضمن العبلمة أن يأتيهم التابوت‬
‫وهم جالسون ينتظرون وألن‬
‫التابوت ٖتمله ا‪١‬تبلئكة فلن‬
‫يراهم القوم ألهنم كائنات َت‬
‫مرئية ‪ ،‬فلن يراهم أحد وإ‪٪‬تا‬
‫سَتى القوم التابوت آتيا ًإليهم ‪،‬‬
‫ولذلك أسند ا‪ٟ‬تق أمر ا‪١‬تجيء‬
‫للتابوت ‪.‬‬
‫وهذا ا‪١‬تشهد ٮتلع القلوب و‪٬‬تعل‬
‫أصحاب أشد القلوب قساوة‬
‫ٮترون سجدا ويقولون « طالوت‬
‫أنت ا‪١‬تلك ‪ ،‬ولن ‪٩‬تتلف عليك » ‪.‬‬
‫ونريد اْلن أن نعرف األشياء اليت‬
‫ٯتكن ْلل موىس أن ٭تافظوا عليها‬
‫من آثار موىس عليه السبلم ‪،‬‬
‫واْلثار اليت ٭تافظ عليها آل هارون‬
‫من هارون عليه السبلم ‪.‬‬
‫قال بعض الناس إهنا عصا موىس ‪،‬‬
‫وهي األثر الذي تبىق من آل موىس ‪،‬‬
‫وذلك أمر معقول؛ ألهنا أداة من‬
‫أدوات معج زة موىس عليه السبلم ‪.‬‬
‫ألم تكن هي ا‪١‬تعجزة اليت انقلبت‬
‫حية تسىع وابتلعت بسرعة ما‬
‫صنعه السحرة؟ إن مثل هذه األداة‬
‫ا‪١‬تعجزة ال ٯتكن أن يهملها موىس ‪،‬‬
‫أو يهملها ا‪١‬تؤمنون به بعد ما حدث‬
‫منها ‪ .‬وليس من ا‪١‬تعقول أن يفرط‬
‫آل موىس يف عصا تكلم اهلل فيها‬
‫وقال ‪:‬‬

‫ك ياموىس * قَ َ‬
‫ال‬ ‫ك بِي َ ِمي ِن َ‬ ‫{ َو َما تِ ْل َ‬
‫اي أَتَ َوكَّأُ عَلَيْهَا } ػ طه ‪:‬‬ ‫ص‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ِ‬
‫ه‬
‫َ ََ َ‬
‫‪] 18-17‬‬
‫إن هناك قصة طويلة استغرقها‬
‫ا‪ٟ‬تديث عن هذه العصا ‪ ،‬فكيف‬
‫يفرط فيها موىس وقومه بسهولة؟‬
‫الشك أهنم حافظوا عليها ‪،‬‬
‫وقدسوها ‪ ،‬وجعلوها من أ‪٣‬تادهم ‪.‬‬
‫ويرينا ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن هؤالء‬
‫القوم أهل ‪ٞ‬تاج وأهل جدل وأهل‬
‫تلكؤ ‪ ،‬فهم ال يؤمنون باألمور إال إذا‬
‫كانت حسية كالتابوت الذي‬
‫يأتيهم وحدهم ‪ ،‬صحيحا ٖتمله‬
‫ا‪١‬تبلئكة ‪ ،‬لكنهم ال يرون‬
‫ا‪١‬تبلئكة؛ وإ‪٪‬تا رأوا التابوت يسَت‬
‫إليهم ‪ { ،‬أَن يَأْتِي َ ُك ُم التابوت فِي ِه‬
‫َس ِكين َ ٌة ِّمن َّربِّ ُك ْم َوبَقِي َّ ٌة ِّ‪٦‬تَّا تَ َر َ‬
‫ك‬
‫ون َٖتْ ِمل ُ ُه‬ ‫آل َه ُار َ‬ ‫آل موىس َو ُ‬ ‫ُ‬
‫ا‪١‬تبلئكة إ َِّن ِيف ذَل ِ َ‬
‫ك ْليَةً ل َّ ُك ْم إِن‬
‫ُت } وليس هناك آيات‬ ‫ِِ‬
‫ُكن ْ ُتم ُّم ْؤمن َ‬
‫أعجب من ‪٣‬تيء التابوت حىت‬
‫يثبت صدق النبي يف أن اهلل قد‬
‫بعث طالوت ملكا ً‪ ،‬فإن لم يؤمنوا‬
‫بهذه ا‪١‬تسألة فعليهم أن يراجعوا‬
‫إٯتانهم ‪.‬‬
‫والسياق القرآين يدل عىل أن اهلل‬
‫بهتهم با‪ٟ‬تجة ‪ ،‬وبهتهم باْلية ‪،‬‬
‫وبهتهم بالقرآن ‪ ،‬بدليل أنه‬
‫حذف ما كان ‪٬‬تب أن يقال وهو ‪:‬‬
‫فقبلوا طالوت ملكا ً‪ .‬ونظم طالوت‬
‫ا‪ٟ‬ترب فقام وقسم ا‪ٞ‬تنود ورتبهم ‪،‬‬
‫وكل هذه التفاصيل لم تذكرها‬
‫اْليات ‪ .‬وا‪ٟ‬تق يقول بعد ذلك ‪{ :‬‬
‫وت با‪ٞ‬تنود قَ َ‬
‫ال إ َِّن‬ ‫فَل َ َّما َفَص َل َطال ُ ُ‬
‫اهلل ُمبْتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر ‪} . . .‬‬

‫وت بِا‪ٞ‬تْ ُنو ِد قَ َ‬


‫ال إ َِّن‬ ‫فَل َ َّما فَ َص َل َطال ُ ُ‬
‫اّللَ ُمبْتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َم ْن َش ِر َب ِمن ْ ُه‬ ‫َّ‬
‫فَلَي ْ َس ِم ِ ٍّت َو َم ْن ل َ ْم ي َ ْطعَ ْم ُه فَإِن ّ َُه ِم ِ ٍّت‬
‫إ َِّال َم ِن ا ْ ًَت َ َف ُغ ْر ةًَفبِي َ ِد ِه فَ َشر ُِبوا‬
‫اوزَ ُه ُه َو‬ ‫ِمن ْ ُه إ َِّال قَلِ ً ِ‬
‫يبل من ْ ُه ْم فَل َ َّما َج َ‬
‫َوال َّ ِذي َن آ َم ُنوا َمعَ ُه قَالُوا َال َطاقَ َة لَنا‬
‫وت َو ُج ُنو ِد ِه قَ َ‬
‫ال ال َّ ِذي َن‬ ‫الْي َ ْو َم ِّتَال ُ َ‬
‫اّلل َك ْم ِم ْن فِئ َ ٍة‬
‫ي َ ُظنُّون أ َ َّهنم م َبل ُقو َ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ُ ُْ‬
‫قَلِيل َ ٍة َلَب ْت فِئَةً كَثَِتة ًبِإِذْ ِن َ ِ‬
‫اّلل‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الصابِرِي َن (‪)249‬‬ ‫اّلل َم َع َّ‬
‫َو َّ ُ‬
‫الفصل هو أن تعزل شيئا عن شيء‬
‫آخر ‪ ،‬ومثل ذلك قوله تعاىل ‪َ { :‬و َ‪١‬تَّا‬
‫ال أ َ ُب ُ‬
‫وه ْم إ ِِّين أل َ ِج ُد‬ ‫فَ َصل َ ِت العَت قَ َ‬
‫وس َف } ػ يوسف ‪] 94 :‬‬ ‫ِي ي‬
‫ر َح ُ ُ‬
‫{ فَ َصل َ ِت العَت } أي ادرت مصر‬
‫وخرجت منه ‪ .‬و‪٨‬تن نستخدم‬
‫كلمة « فصل » يف تبويب الكتب ‪،‬‬
‫ونقصد به قدرا ًمن ا‪١‬تعلومات‬
‫ا‪١‬تًتابطة اليت تكون وحدة واحدة‬
‫‪ ،‬وعندما تنضم الفصول مع بعضها‬
‫يف الكتب تصَت أبوابا ً‪ ،‬وعندما‬
‫تنظم األبواب ا‪١‬توضوعة يف ‪٣‬تال‬
‫علم واحد مع بعضها نقول عنها ‪:‬‬
‫هذا « كتاب » ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن نستخدم كلمة « فصل » يف‬
‫وصف ‪٣‬تموعة من التبلميذ‬
‫ا‪١‬تتقاربُت يف العمر وا‪١‬تستوى‬
‫الدراسي ونقسمهم إىل فصل أول‬
‫وثانٍ وثالث ‪ ،‬عىل حسب سعة‬
‫الفصول وعدد التبلميذ ‪ .‬وهكذا‬
‫نفهم معٌت قول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَل َ َّما‬
‫وت با‪ٞ‬تنود } أي فصلهم‬ ‫فَ َص َل َطال ُ ُ‬
‫عن بقية َت ا‪١‬تقاتلُت ‪ ،‬وقسمهم‬
‫إىل ‪ٚ‬تاعات مرتبة ‪ ،‬وكل ‪ٚ‬تاعة ‪٢‬تا‬
‫مهمة ‪.‬‬
‫وكلمة « جنود » هي ‪ٚ‬تع « جند »‬
‫وهي مفردة لكنها تدل عىل ‪ٚ‬تاعة ‪،‬‬
‫وأصل الكلمة من « َجنَد » وهي‬
‫األرض الغليظة الصلبة القوية ‪،‬‬
‫ونظرا ألن ا‪ٞ‬تنود مفروض فيهم‬
‫الغلظة والقوة فقد أُطلق عليهم‬
‫لفظ ‪ُ :‬جنْد ‪ .‬وبرغم أن كلمة «‬
‫جند » مفرد؛ إال أنها تدل عىل القوم‬
‫مثل « رهط » و « طائفة »‬
‫ويسموهنا اسم ‪ٚ‬تع ‪ { .‬فَل َ َّما فَ َص َل‬
‫ال إ َِّن اهلل ُمبْتَلِي ُك ْم‬
‫وت با‪ٞ‬تنود قَ َ‬
‫َطال ُ ُ‬
‫بِنَهَ ٍر } أي عندما خرج إىل مكان‬
‫إقامة ا‪ٞ‬تيش بدأ يف مباشرة أوىل‬
‫مهماته كملك ‪ ،‬لقد أراد أن‬
‫ٮتتْبهم ‪ ،‬فهم قوم وقفوا ضد‬
‫تعيينه ملكا ً‪ ،‬لذلك أراد أن يدخل‬
‫ا‪ٟ‬تكم عىل أرض صلبة ‪ .‬فقال ‪٢‬تم‬
‫عن ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬إ َِّن اهلل ُمبْتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر‬
‫فَ َمن َش ِر َب ِمن ْ ُه فَلَي ْ َس ِم ِ ٍّت َو َمن ل َّ ْم‬
‫ي َ ْطعَ ْم ُه فَإِن ّ َُه مٍت إِال َّ َم ِن ا ًتف‬
‫ُغ ْرفَةً بِي َ ِد ِه فَ َشر ُِبوا ْ ِمن ْ ُه إِال َّقَلِيبل ً‬
‫ِّمن ْ ُه ْم } ‪.‬‬
‫لقد أوضح ‪٢‬تم ‪ :‬أنتم مقبلون عىل‬
‫مهمة هلل يف سبيل اهلل ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه الذي سيجري عليكم‬
‫االختبار ‪ ،‬ولست أنا ألن االختبار‬
‫يكون عىل قدر ا‪١‬تهمة؛ أنا مشرف‬
‫فقط عىل تنفيذ األمر ‪ ،‬واهلل‬
‫مبتليكم بنهر من يشرب منه‬
‫فليس منا إال من ا ًتف غرفة بيده‬
‫‪.‬‬
‫وساعة تسمع كلمة{ ُمبْت َ ِيل ُك ْم }‬
‫فبل تفسرها عىل أهنا مصيبة ‪ ،‬ولكن‬
‫فسرها عىل أهنا اختبار ‪ ،‬قد ينجح‬
‫من يدخل وقد يفشل ‪ .‬واالختبار‬
‫هنا بنهر ‪ .‬ومادام كان االختبار‬
‫بنهر فبل بد أن ‪٢‬تذه الكلمة موقعا ً‬
‫وأثرا ًنفسيا عندهم ‪ ،‬البد أهنم‬
‫كانوا ِعطاشا ً‪ ،‬وإال لو لم يكونوا‬
‫عطاشا ً‪١‬تا كان النهر ابتبلء ‪ { .‬إ َِّن‬
‫اهلل ُمبْتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر فَ َمن َش ِر َب ِمن ْ ُه‬
‫فَلَي ْ َس ِم ِ ٍّت } ‪.‬‬
‫إهنم عطاش ‪ ،‬وساعة يُرى ا‪١‬تاء‬
‫فسيقبلون عليه بنهم شربا ًوريا ً‪،‬‬
‫ومع ذلك ٮتتْب ا‪ٟ‬تق صبلبتهم‬
‫فيطالبهم بأن ٯتتنعوا عن الشرب‬
‫منه ‪ ،‬لقد جاء االختبار يف منعهم ‪٦‬تا‬
‫تصبو إليه نفوسهم ‪.‬‬

‫{ فَ َمن َش ِر َب ِمن ْ ُه فَلَي ْ َس ِم ِ ٍّت }‬


‫‪١‬تاذا؟‬
‫ألهنم ساعة يرون ما ٭تبونه‬
‫ويشتهونه فسيندفعون إليه‬
‫وينسون أمر اهلل ‪ .‬ومن ينس أمر‬
‫اهلل ويفضل نفسه ‪ ،‬فهو َت مأمون‬
‫أن يكون يف جند اهلل ‪ .‬لكن الذي‬
‫يرى ا‪١‬تاء وٯتتنع عنه وهو يف حاجة‬
‫إليه ‪ ،‬فهو صابر قادر عىل نفسه ‪،‬‬
‫وسيكون من جند اهلل ‪ ،‬ألنه آثر‬
‫مطلوب اهلل عىل مطلوب بطنه ‪ ،‬وهو‬
‫أهل ألن يُبتىل ‪.‬‬
‫ومع ذلك لم يَق ُْس اهلل يف االبتبلء ‪،‬‬
‫فأباح ما يفك العطش ولم ٭ترمهم‬
‫منه هنائيا ً‪ { .‬إ َِّن اهلل ُمبْتَلِي ُك ْم بِنَهَ ٍر‬
‫فَ َمن َش ِر َب ِمن ْ ُه فَلَي ْ َس ِم ِ ٍّت َو َمن ل َّ ْم‬
‫ف ّ َُه مٍت إِال َّ َم ِن ا ًتف‬ ‫ي َ ْطعَ ْم ُه إِ َن‬
‫ُغ ْرفَةً بِي َ ِد ِه } لقد ‪ٝ‬تح ‪٢‬تم بغرفة‬
‫يد تسد الرمق وتستبقي ا‪ٟ‬تياة ‪،‬‬
‫أباح ‪٢‬تم ما تقتضيه الضرورة ‪.‬‬
‫لكن ما صلة هذا االبتبلء بالعملية‬
‫اليت سيقبلون عليها؟‬
‫إن العملية ا‪ٟ‬تربية اليت سيدخلوهنا‬
‫سيقابلون فيها الويل وسيعرضون‬
‫لنفاذ الزاد وهم أيضا عرضة ألن‬
‫٭تاصرهم عدوهم ‪ ،‬وعىل اإلنسان‬
‫ا‪١‬تقاتل يف مثل هذه األمور أن‬
‫يقوى عىل شهوته ويأخذ من زاده‬
‫ومائه عىل قدر ضرورة استبقاء‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬لذلك تكفي غرفة واحدة‬
‫الستبقاء ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬كأن التدريب هنا‬
‫ضرورة للمهمة ‪ .‬فهل فعلوا‬
‫ذلك؟‬
‫يأتينا ا‪٠‬تْب من ا‪ٟ‬تق { فَ َش ِر ُبوا ْ ِمن ْ ُه‬
‫إِال َّقَلِيبل ً ِّمن ْ ُه ْم } ‪ .‬وهكذا تتم‬
‫التصفية ‪ ،‬ففي البداية سبق ‪٢‬تم أن‬
‫تولوا وأعرضوا عن القتال إال قليبل‬
‫‪ ،‬وهنا امتنع عن الشرب قليل من‬
‫القليل ‪ ،‬وهذه غرابيل االصطفاء‬
‫أو مصايف االختبار ‪ ،‬فقد يقوى‬
‫واحد عىل نصف ا‪١‬تشقة ‪ ،‬ويقوى‬
‫آخر عىل ثلث ا‪١‬تشقة ‪ ،‬ويقوى‬
‫ثالث عىل ربعها ‪ .‬لقد بقي منهم‬
‫القليل ‪ ،‬لكنه القليل الذي يصلح‬
‫للمهمة؛ إنّه الذي ظل عىل اإلٯتان‬
‫‪.‬‬
‫وانظر كيف تكون مصايف االبتبلء‬
‫يف ا‪ٞ‬تهاد يف سبيل اهلل؟ حىت ال ٭تمل‬
‫راية ا‪ٞ‬تهاد إال ا‪١‬تأمون عليها الذي‬
‫يعرف حقها ‪ { .‬فَل َ َّما َج َ‬
‫اوزَ ُه ُه َو‬
‫والذين آ َم ُنوا ْ َمعَ ُه قَالُوا ْال َ َطاقَةَ لَنا‬
‫وت َو ُجنو ِد ِه } أي عندما‬ ‫اليوم ِّتَال ُ َ‬
‫عْبوا النهر واجتازوا كل‬
‫االختبارات السابقة قال بعضهم‪:‬‬
‫وت َو ُجنو ِد ِه‬ ‫{ ال َ َطاقَ َة لَنا اليوم ِّتَال ُ َ‬
‫} لقد خاف بعض منهم من‬
‫االختبار األخَت ‪ ،‬ولكن الذين‬
‫ويول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬ ‫آمنوا باهلل لم ٮتافوا ‪ ،‬ق‬
‫ون أ َ َّهن ُ ْم ُمبل َ ُقوا ْ‬
‫ال الذين ي َ ُظنُّ َ‬
‫{ قَ َ‬
‫اهلل َكم ِّمن فِئ َ ٍة قَلِيل َ ٍة َلَب َ ْت فِئَةً‬
‫كَثَِتَة ًبِإِذْ ِن اهلل واهلل َم َع الصابرين‬
‫}‪.‬‬
‫لقد اختلفت ا‪١‬تواجيد وإن اٖتدت‬
‫ا‪١‬ترائي ‪ .‬فالذين جاوزوا النهر‬
‫انقسموا قسمُت ‪ ،‬قسم رأى‬
‫جالوت وجنوده ‪ ،‬والقسم اْلخر‬
‫رأوه أيضا ‪ ،‬ولم ينقسموا عند‬
‫الرؤية لكنهم انقسموا عند‬
‫ا‪١‬تواجيد التابعة للرؤية ‪ ،‬فقسم‬
‫خاف وقسم لم ٮتف ‪ ،‬والذين‬
‫خافوا قالوا ‪ { :‬ال َ َطاقَ َة لَنا اليوم‬
‫وت َو ُجنو ِد ِه } لقد وجد ا‪٠‬توف‬ ‫ِّتَال ُ َ‬
‫من جالوت وجنوده يف نفوسهم‬
‫فقالوا ‪ { :‬ال َ َطاقَ َة لَنا اليوم ِّتَال ُ َ‬
‫وت‬
‫َو ُجنو ِد ِه } ‪ ،‬لقد مروا بثبلث‬
‫مراحل؛ ا‪١‬ترحلة األوىل ‪ :‬هي‬
‫إدراك ‪ٞ‬تالوت وجنوده ‪ ،‬والثانية ‪:‬‬
‫هي وجدان متوجس من قوة‬
‫جالوت وجنوده ‪ ،‬واألخَتة ‪ :‬هي‬
‫نزوع إىل ا‪٠‬توف من جالوت وجنوده‬
‫‪ ،‬لكن القسم الذي لم ٮتف رأوا‬
‫ا‪١‬تشهد أيضا وجاء فيهم قول اهلل ‪:‬‬
‫ون أ َ َّهن ُ ْم ُمبل َ ُقوا ْ‬
‫ال الذين ي َ ُظنُّ َ‬
‫{ قَ َ‬
‫اهلل كَم ِّمن فِئ َ ٍة قَلِيل َ ٍة َلَب َ ْت فِئَةً‬
‫َكثَِتَة ًبِإِذْ ِن اهلل } ‪.‬‬
‫كأهنم أدخلوا ربهم يف حسابهم‬
‫فاستهانوا بعدوهم ‪ ،‬لكن الفئة‬
‫السابقة عزلت نفسها عن ربها‬
‫فرأوا أنفسهم قلة فخافوا ‪ .‬لقد‬
‫كان ‪٣‬ترد ظن الفئة ا‪١‬تؤمنة أهنم‬
‫مالقو اهلل قد جعل ‪٢‬تم هذه العقيدة‬
‫‪ ،‬وإذا كان هذا حال ‪٣‬ترد الظن فما‬
‫بالك باليقُت؟{ َكم ِّمن فِئ َ ٍة قَلِيل َ ٍة‬
‫َلَب َ ْت فِئَةً كَثَِتَة ًبِإِذْ ِن اهلل واهلل َم َع‬
‫الصابرين} ‪ .‬ونعرف أن هناك‬
‫معارك يفوز فيها األقدر عىل الصْب‬
‫‪ ،‬ودليلنا عىل ذلك قول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬إِذْ‬
‫ُت أَل َ ْن ي َ ْك ِفي ُك ْم أَن‬ ‫ول لِلْم ْؤ ِم ِ‬
‫ُق َت ُ ُ َ‬
‫ن‬
‫ُ ِٯت َّد ُك ْم َربُّ ُك ْم بِثَبلَث َِة آال َ ٍف ِّم َن‬
‫ُت } ػ آل عمران ‪:‬‬ ‫ا‪١‬تبلئكة م َ ِ‬
‫زنل َ‬ ‫ُ‬
‫‪] 124‬‬
‫هذا هو الوعد لكن إذا صْبتم كم‬
‫يكون ا‪١‬تدد؟ يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬بىل إِن‬
‫ْبوا ْ َوتَتَّ ُقوا ْ َويَأ ْ ُتو ُك ْم ِّمن‬
‫ِ‬
‫تَ ْص ُ‬
‫فَ ْو ِر ِه ْم هذا ُٯت ْ ِددْ ُك ْم َربُّ ُك ْم‬
‫ِٓت َ ْم َس ِة آالف ِّم َن ا‪١‬تبلئكة‬
‫ُت } ػ آل عمران ‪] 125 :‬‬ ‫ِ‬
‫ُم َس ِ ّوم َ‬
‫فكأن البدء بثبلثة آالف ‪١‬تساندة‬
‫أهل اإلٯتان ويزيد العدد يف ا‪١‬تدد‬
‫إىل ‪ٜ‬تسة آالف إن صْبوا واتقوا ‪.‬‬
‫إذن فا‪١‬تدد يأيت عىل قدر الصْب؛ ألن‬
‫حنان القدرة اإل‪٢‬تية عليك يزداد‬
‫ساعة ‪٬‬تدك تتحمل ا‪١‬تشقة فيحن‬
‫عليك ويعطيك جزءا أكْب ‪ .‬فاهلل‬
‫يريد من عبده أن يستنفد أسباب‬
‫قوته ا‪٠‬تاصة ‪ ،‬وحُت تستنفد‬
‫األسباب برجولة وثبات ‪ ،‬تأتيك‬
‫معونة اهلل ‪ ،‬ويقول اهلل ‪١‬تبلئكته ‪:‬‬
‫هذا يستحق أن يعان فأعينوه ‪.‬‬
‫ولذلك جاء قوله ا‪ٟ‬تق عىل ألسنة‬
‫ا‪١‬تؤمنُت ‪َ { :‬كم ِّمن ِئَف ٍة قَلِيل َ ٍة‬
‫َلَب َ ْت فِئَةً كَثَِتَة ًبِإِذْ ِن اهلل واهلل َم َع‬
‫الصابرين} ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق بعد‬
‫وت َو ُج ُنو ِد ِه‬ ‫ذلك ‪َ { :‬و َ‪١‬تَّا ب َ َر ُزوا ْ ِ‪ٞ‬تَال ُ َ‬
‫قَالُوا ْ َربَّنَآ أَفْ ِرغْ عَلَيْنَا َص ْْبا ً}‬
‫وت َو ُج ُنو ِد ِه قَالُوا َربَّنَا‬ ‫َو َ‪١‬تَّا ب َ َر ُزوا ِ‪ٞ‬تَال ُ َ‬
‫أَفْ ِرغْ عَلَيْنَا َص ْْبًا َوثَبِ ّ ْت أَقْ َد َامنَا‬
‫َوان ْ ُص ْرنَا عَىلَ ال ْ َق ْو ِم الْكَافِرِي َن‬
‫(‪)250‬‬

‫هذه هي الشحنة اإلٯتانية ‪١‬تن يريد‬


‫أن يواجه عدوه فهو ينادي قائبل ‪{ :‬‬
‫َربَّنَآ } إنه لم يقل ‪ :‬يا اهلل ‪ ،‬بل‬
‫يقول ‪َ { :‬ربَّنَآ } ؛ ألن الرب هو‬
‫الذي يتوىل الًتبية والعطاء ‪ ،‬بينما‬
‫مطلوب « اهلل » هو العبودية‬
‫والتكاليف؛ لذلك ينادي ا‪١‬تؤمن‬
‫ربه يف ا‪١‬توقف الصعب « يا ربنا »‬
‫أي يا من خلقتنا وتتوالنا و٘تدنا‬
‫باألسباب ‪ ،‬قال ا‪١‬تؤمنون مع طالوت‬
‫‪َ { :‬ربَّنَآ أَفْ ِرغْ عَلَيْنَا َص ْْبا ً} ‪.‬‬
‫وعندما نتأمل كلمة { أَفْ ِرغْ عَلَيْنَا‬
‫َص ْْبا ً} تفيدنا أهنم طلبوا أن ٯتؤل‬
‫اهلل قلوبهم بالصْب ويكون أثر‬
‫الصْب تثبيت األقدام{ َوثَبِ ّ ْت‬
‫أَقْ َد َامنَا } حىت يواجهوا العدو‬
‫بإٯتان ‪ ،‬وعند هناية الصْب وتثبيت‬
‫األقدام يأيت نصر اهلل للمؤمنُت عىل‬
‫القوم الكافرين ‪ ،‬وتأيت النتيجة‬
‫للعزم اإلٯتاين والقتال يف قوله ا‪ٟ‬تق‬
‫‪ { :‬فَهَ َز ُم ُ‬
‫وه ْم بِإِذْ ِن اهلل ‪} . . .‬‬
‫وهم بِإِذْ ِن َ ِ‬
‫ود‬
‫اّلل َوقَت َ َل دَ ُاو ُ‬ ‫ّ‬ ‫فَهَ َز ُم ُ ْ‬
‫ك َوا ْ‪ٟ‬تِ ْك َمةَ‬ ‫اّلل ا ْ‪١‬تُل ْ َ‬
‫وت َوآتَ ُاه َّ ُ‬‫َجال ُ َ‬
‫اس‬ ‫وعَلَّم ُه ِ‪٦‬تَا ي َ َشاء ولَو َال دف ُْع َ ِ‬
‫اّلل النَّ َ‬‫َ َ ّ َُ ْ َ ّ‬
‫بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض ل َ َف َس َد ِت ْاأل َ ْر ُض‬
‫اّللَ ُذو فَ ْض ٍل عَىلَ الْعَا َ‪١‬ت ِ َ‬
‫ُت‬ ‫َول َ ِك َّن َّ‬
‫(‪)251‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يبلغنا أنه قد نصر ا‪١‬تؤمنُت‬
‫به ‪ .‬و‪٬‬تيء ا‪ٟ‬تق بكلمة { َه َز ُم ُ‬
‫وه ْم‬
‫} وهي تدل عىل فرار من كان ‪٬‬تب‬
‫أن يكون مها‪ٚ‬تا ‪ .‬وا‪١‬تحارب ‪٬‬تب‬
‫أن يكون مها‪ٚ‬تا كارا ًدائما ‪ ،‬فحُت‬
‫يلجأ إىل أن يفر ‪ ،‬هنا نتوقف لنتبُت‬
‫الرار ٖترفا لقتال‬‫أمره ‪ ،‬هل هذا فِ‬
‫وانعطافا وميبل إىل موقف آخر هو‬
‫أصلح للقتال فيه؟ لو كان األمر‬
‫كذلك فبل تكون ا‪٢‬تزٯتة ‪ ،‬لكن إذا‬
‫كان ال ِفرار لغَت َك ٍر و‪٥‬تادعة للعدو‬
‫بل كان للخوف هنا تكون ا‪٢‬تزٯتة ‪.‬‬
‫وقول اهلل ‪ { :‬فَهَ َز ُم ُ‬
‫وه ْم بِإِذْ ِن اهلل‬
‫} يدل عىل أن جنود جالوت لم‬
‫يُقتلوا كلهم ‪ ،‬ولكن الذين ُقتلوا‬
‫هم أئمة الكفر فيهم ‪ ،‬بدليل قوله‬
‫بعد ذلك ‪َ { :‬وقَت َ َل دَ ُاو ُد َجال ُ َ‬
‫وت } ‪.‬‬
‫وجالوت هو زعيم جيش الكفار‬
‫الذي هرب ‪ ،‬فطارده داود وقتله ‪.‬‬
‫وألول مرة يظهر لنا اسم { دَ ُاودَ }‬
‫يف هذه القصة الطويلة ‪ ،‬وهو اسم‬
‫لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل ‪،‬‬
‫وستأيت الفكرة عنه بعد هذه القصة‬
‫يف قوله تعاىل ‪َ { :‬ول َ َق ْد آتَيْنَا دَ ُاوودَ‬
‫ِمنَّا فَ ْضبل ًياجبال أ َ ِّو ِيب َمعَ ُه والطَت‬
‫وأَلنَّا ل َ ُه ا‪ٟ‬تديد * أ َ ِن اعمل سابِغ َ ٍ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َوقَ ِ ّد ْر ِيف السرد واعملوا َص ِا‪ٟ‬تا ًإ ِِّين‬
‫ون ب َ ِصَتٌ} ػ سبأ ‪-10 :‬‬ ‫ِ‬
‫ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫‪] 11‬‬
‫إذن فبداية داود جاءت من هذه‬
‫ا‪١‬تعركة بعد قتل جالوت ‪ ،‬وكان {‬
‫دَ ُاودَ} أخا ًلعشرة وهو أصغرهم ‪،‬‬
‫وقال النبي للقوم ‪ :‬إن من يدخل‬
‫ا‪١‬تعركة ضد جالوت البد أن يأيت‬
‫درع موىس عىل مقاسه ‪ ،‬وهنا‬
‫استعرض والد { دَ ُاوودَ} الدرع‬
‫عىل ‪ٚ‬تيع أبنائه ‪ ،‬فلم يأيت عىل‬
‫مقاس أي واحد منهم إال عىل‬
‫أصغرهم ‪ ،‬وهو { دَ ُاوودَ } ‪ .‬جاء‬
‫الدرع عىل مقاسه ‪ ،‬ودخل { دَ ُاوودَ‬
‫} ا‪١‬تعركة فقتل جالوت قائد‬
‫ا‪١‬تشركُت ‪ ،‬وشاءت حكمة اهلل أن‬
‫يكون أصغر ا‪١‬تؤمنُت هو الذي‬
‫يقتل كبَت جيش ا‪١‬تشركُت ‪.‬‬
‫كانت هذه ا‪١‬تعركة بداية تاريخ‬
‫داود ‪ ،‬وقد جاءت له هذه ا‪١‬تعركة‬
‫بالفتح العظيم ‪ ،‬ثم أنعم اهلل عليه‬
‫با‪١‬تلك وا‪ٟ‬تكمة وجعل ا‪ٞ‬تبال‬
‫والطَت تردد وترجع معه تسبيح اهلل‬
‫وتزنيهه ‪ ،‬كل ذلك نتيجة قتل‬
‫جالوت ‪ .‬وأحب داود الدرع وصار‬
‫أمله أن يعلمه اهلل صناعة الدروع‬
‫‪ ،‬ولذلك لم يتخذ صنعة يف حياته‬
‫إال عمل الدروع ‪ .‬وجعل اهلل له‬
‫ا‪ٟ‬تديد لينا ًليصنع منه ما يشاء كما‬
‫جاء يف قوله تعاىل ‪َ { :‬وعَل َّ ْمن َ ُاه َصنْعَ َة‬
‫وس ل َّ ُك ْم ل ِ ُت ْح ِصن َ ُك ْم ِّمن بَأ ْ ِس ُك ْم‬
‫لَب ُ ٍ‬
‫} ػ األنبياء ‪] 80 :‬‬
‫وهذا دليل عىل أن اإلنسان ٭تب‬
‫الشيء الذي له صلة برفعة شأنه‪.‬‬
‫ولقد كان قتل جالوت هو البداية‬
‫وت َوآتَ ُاه‬ ‫لداود ‪َ { .‬وقَت َ َل دَ ُاو ُد َجال ُ َ‬
‫اهلل ا‪١‬تلك وا‪ٟ‬تكمة َوعَل َّ َم ُه ِ‪٦‬تَّا‬
‫آء َول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس بَعْ َض ُه ْم‬
‫ي َ َش ُ‬
‫بِبَعْ ٍض ل َ َف َس َد ِت األرض ولكن اهلل‬
‫ُذو فَ ْض ٍل عَىلَ العا‪١‬تُت } إن ا‪ٟ‬تق يأيت‬
‫هنا بقضية كونية يف الوجود ‪ ،‬وهي‬
‫أن ا‪ٟ‬ترب ضرورة اجتماعية ‪ ،‬وأن‬
‫ا‪ٟ‬تق يدفع الناس بالناس ‪ .‬وأنه لوال‬
‫وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛‬
‫فلو سيطرت قوة واحدة يف الكون‬
‫لفسد ‪.‬‬

‫فالذي يعمر الكون هو أن توجد‬


‫فيه قوى متكافئة؛ قوة تقابلها قوة‬
‫أخرى ‪ .‬ولذلك ‪٧‬تد العالم دائما‬
‫‪٤‬تروسا بالقوتُت العظميُت ‪ ،‬ولو‬
‫كانت قوة واحدة لعم الضبلل ‪ .‬ولو‬
‫تأملنا التاريخ منذ القدم لوجدنا‬
‫هذه الثنائية يف القوى ٖتفظ‬
‫االستقرار يف العالم ‪.‬‬
‫يف بداية اإلسبلم كانت الدولتان‬
‫العظميان ‪٫‬تا الفرس يف الشرق ‪،‬‬
‫والروم يف الغرب ‪ .‬واْلن سقطت‬
‫قوة روسيا من كفة ميزان العالم ‪،‬‬
‫وتتسابق أ‪١‬تانيا واليابان ليوازنا قوة‬
‫أمريكا ‪.‬‬
‫إن قول اهلل تعاىل ‪َ { :‬ول َ ْوال َدَف ُْع اهلل‬
‫الناس بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض ل َ َف َس َد ِت‬
‫األرض } جاء تعقيبا عىل قصة‬
‫الصراع بُت بٍت إسرائيل وبُت‬
‫أعدائهم الذين أخرجوهم من‬
‫ديارهم وعندما نتأمل هذه القصة‬
‫من بدايتها ‪٧‬تد أهنم طلبوا أوال من‬
‫اهلل اإلذن بالقتال ‪ .‬وبعث اهلل ‪٢‬تم‬
‫ملكا ليقاتلوا ٖتت رايته؛ وكانت‬
‫عبلمة هذا ا‪١‬تلك يف الصدق أن‬
‫يأيت اهلل بالتابوت ‪ .‬ثم جاءت‬
‫قضية اجتماعية ينتهي إليها الناس‬
‫عادة ْتكيم الرأي ولو بدون الوحي‬
‫‪ ،‬وهي أن اإلنسان إذا ما أقبل عىل‬
‫أمر ‪٬‬تب أن يعد له إعدادا ً‬
‫باألسباب البشرية ‪ ،‬حىت إذا ما‬
‫استوىف إعداده كل األسباب ‪ٞ‬تأ إىل‬
‫معونة اهلل ‪ ،‬ألن األسباب كما قلنا‬
‫هي من يد اهلل ‪ ،‬فبل ترد أنت يد اهلل‬
‫بأسبابها ‪ ،‬لتطلب معونة اهلل بذاته‬
‫‪ ،‬بل خذ األسباب أوال ألهنا من يد‬
‫ربك ‪.‬‬
‫ويعلمنا ا‪ٟ‬تق أيضا أن من األسباب‬
‫٘تحيص الذين يدافعون عن ا‪ٟ‬تق‬
‫٘تحيصا يبُت لنا قوة ثباهتم يف‬
‫االختبار اإلٯتاين؛ ألن اإلنسان قد‬
‫يقول قوال ًبلسانه؛ ولكنه حُت‬
‫يتعرض للفعل ٖتدثه نفسه بأال‬
‫يويف ‪ ،‬وقد ‪٧‬تح قلة من القوم يف‬
‫االبتبلءات ا‪١‬تتعددة ‪ .‬وفعبل دارت‬
‫ا‪١‬تعركة؛ وهزم هؤالء ا‪١‬تؤمنون‬
‫أعداءهم ‪ ،‬وانتصر داود بقتل‬
‫جالوت ‪.‬‬
‫إذن فتلك قضية دفع اهلل فيها أناسا‬
‫بأناس ‪ ،‬ويطلقها ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫قضية عامة { َول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس‬
‫بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض ل َ َف َس َد ِت األرض}‬
‫‪ ،‬فالدفع هو الرد عن ا‪١‬تراد ‪ ،‬فإذا‬
‫كان ا‪١‬تراد للناس أن يوجد شر ‪ ،‬فإن‬
‫اهلل يدفعه ‪ .‬إذن فاهلل يدفع ولكن‬
‫بأيدي خلقه ‪ ،‬كما قال سبحانه ‪:‬‬
‫وه ْم يُعَ ِ ّذب ْ ُه ُم اهلل بِأَي ْ ِدي ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫{ قَاتل ُ ُ‬
‫ف‬ ‫و ُٮت ْ ِز ِهم ويَن ْ ُص ْر ُكم عَلَي ِهم وي َ ْش ِ‬
‫ْ ْ ْ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫ُت } ػ التوبة ‪:‬‬ ‫ٍ ِِ‬
‫ور قَ ْوم ُّم ْؤمن َ‬ ‫ُص ُد َ‬
‫‪] 14‬‬
‫إنه دفع اهلل ا‪١‬تؤمنُت ليقاتلوا‬
‫الكافرين ‪ ،‬ويعذب ا‪ٟ‬تق الكافرين‬
‫بأيدي ا‪١‬تؤمنُت ‪ .‬وعندما نتأمل‬
‫القول ا‪ٟ‬تكيم ‪َ { :‬ول َ ْوال َدَف ُْع اهلل‬
‫الناس بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض ل َ َف َس َد ِت‬
‫األرض } فإننا ‪٧‬تد مقدمة سابقة‬
‫٘تهد ‪٢‬تذا القول ‪ ،‬لقد أُخرجوا من‬
‫ديارهم وأبنائهم ‪ ،‬فكان هذا هو‬
‫مْبر القتال ‪ .‬وٕتد آية أخرى أيضا‬
‫تقول ‪ { :‬الذين أُ ْخر ُِجوا ْ ِمن‬
‫َت َح ّ ٍق إِال َّأَن ي َ ُقولُوا ْ َربُّنَا‬
‫ِديَا ِر ِهم بِغ َ ْ ِ‬
‫اهلل َول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس بَعْ َض ُه ْم‬
‫ب ٍض َّ‪٢‬ت ُ ِ ّد َم ْت َص َوا ِم ُع َوبِي َ ٌع‬ ‫بِ ْع‬
‫َ‬
‫ات َو َم َسا ِج ُد يُ ْذ َك ُر فِيهَا اسم‬ ‫َو َصل َ َو ٌ‬
‫اهلل َكثَِتا ً َولَي َ ُنص َر َّن اهلل َمن ي َ ُنص ُر ُه‬
‫إ َِّن اهلل ل َ َق ِو ٌّي َعزِي ٌز } ػ ا‪ٟ‬تج ‪40 :‬‬
‫]‬
‫والسياق ‪٥‬تتلف يف اْليتُت ‪ ،‬السياق‬
‫الذي يأيت يف سورة البقرة عن أناس‬
‫٭تاربون بالفعل ‪ ،‬والسياق الذي‬
‫يأيت يف سورة ا‪ٟ‬تج عن أناس مؤمنُت‬
‫برسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫خرجوا وهم ا‪١‬تستضعفون من مكة‬
‫لينضموا إىل أخوهتم ا‪١‬تؤمنُت يف دار‬
‫اإلٯتان ليعيدوا الكرة ‪ ،‬ويدخلوا‬
‫مكة فاٖتُت ‪.‬‬

‫صحيح أننا ‪٧‬تد وحدة جامعة بُت‬


‫اْليتُت ‪ .‬وهو ا‪٠‬تروج من الديار ‪.‬‬
‫إذن فمرة يكون الدفاع بأن تَ ِف َّر‬
‫لَتِ ِك ّر ‪ . .‬أي أن ٗترج من ديار‬
‫الكفر مهاجرا ًلتجمع أمر نفسك‬
‫أنت ومن معك وتعود إىل بلدك‬
‫مقاتبل ًفاٖتا ً‪ ،‬ومرة يكون الدفاع‬
‫بأن تقاتل بالفعل ‪ ،‬فاْلية اليت ‪٨‬تن‬
‫بصدد خواطرنا عنها هنا تفيد أهنم‬
‫قاتلوا بالفعل ‪ ،‬واْلية الثانية تفيد‬
‫أهنم خرجوا من مكة لَتجعوا إليها‬
‫فاٖتُت ‪ ،‬فا‪٠‬تروج نفسه نوع من‬
‫الدفع ‪١ ،‬تاذا؟ ألن ا‪١‬تسلمُت‬
‫األوائل لو مكثوا يف مكة فرٔتا‬
‫أفناهم خصومهم فبل يبىق لئلسبلم‬
‫‪ٜ‬تَتة ‪ ،‬فذهبوا إىل ا‪١‬تدينة وك ّونوا‬
‫الدولة اإلسبلمية ثم عادوا‬
‫منتصرين فاٖتُت ‪ { :‬إِذَا َجآءَن َ ْص ُر‬
‫اهلل والفتح } ػ النصر ‪] 1 :‬‬
‫إن السياق يف اْليتُت واحد ولكن‬
‫النتيجة ٗتتلف ‪ ،‬هنا يقول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫َول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض‬
‫ل َ َف َس َد ِت األرض } ‪١‬تاذا تفسد‬
‫األرض؟ ألن معٌت دفع اهلل الناس‬
‫بعضهم ببعض أن هناك أناسا ًألفوا‬
‫الفساد ‪ ،‬ويقابلهم أناس خرجوا‬
‫عىل من ألف الفساد لَتدوهم إىل‬
‫الصبلح ‪ .‬ويعطينا ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل يف اْلية الثانية السبب‬
‫فيقول ‪َ { :‬ول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس‬
‫بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض َّ‪٢‬ت ُ ِ ّد َم ْت َص َوا ِم ُع َوبِي َ ٌع‬
‫ات َو َم َسا ِج ُد يُ ْذ َك ُر فِيهَا اسم‬ ‫َو َصل َ َو ٌ‬
‫اهلل َكثَِتا ً} ػ ا‪ٟ‬تج ‪] 40 :‬‬
‫والصوامع هي ما يقابل اْلن الدير‬
‫للنصارى وكانوا يتعبدون هلل فيها ‪،‬‬
‫ألن فيه متعبدا ً َع ِم َل بالتكليف‬
‫العام؛ ومتعبدا ًآخر قد ألزم نفسه‬
‫بشيء فوق ما كلفه اهلل به ‪ .‬فالذين‬
‫يعبدون اهلل بهذه الطريقة ‪٬‬تلسون‬
‫يف أماكن بعيدة عن الناس يسموهنا‬
‫الصوامع ‪ ،‬وهي تشبه الدير اْلن ‪.‬‬
‫وا‪١‬تعٌت العام يف التعبد للنصارى هو‬
‫التعبد يف الكنائس وهو ا‪١‬تقصود‬
‫بالبيع ‪ ،‬وا‪١‬تعٌت ا‪٠‬تاص هو التعبد يف‬
‫الصوامع ‪.‬‬
‫إذن { َّ‪٢‬ت ُ ِ ّد َم ْت َص َوا ِم ُع } هذه‬
‫‪٠‬تاصة ا‪١‬تتدينُت ‪ ،‬وكنائس أو بيع‬
‫لعامة ا‪١‬تتدينُت ‪ .‬وقول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ات } ‪ ،‬من صالوت ‪ ،‬وهي‬ ‫َو َصل َ َو ٌ‬
‫مكان العبادة لليهود ‪ ،‬و { َو َم َسا ِج ُد‬
‫} وهي مساجد ا‪١‬تسلمُت ‪.‬‬
‫إن قوله تعاىل ‪ { :‬ل َ َف َس َد ِت األرض‬
‫} يف هذه اْلية ‪ ،‬وقوله تعاىل هناك‬
‫{ َّ‪٢‬ت ُ ِ ّد َم ْت َص َوا ِم ُع َوبِي َ ٌع َو َصل َ َو ٌ‬
‫ات‬
‫َو َم َسا ِج ُد } أي أنه ستفسد األرض‬
‫إذا لم تقم الصوامع والبيع‬
‫والصلوات وا‪١‬تساجد؛ ألهنا هي‬
‫اليت تربط ا‪١‬تخلوق با‪٠‬تالق ‪ .‬وما‬
‫دامت تلك األماكن هي اليت تربط‬
‫ا‪١‬تخلوق با‪٠‬تالق فإن هدمت ‪. .‬‬
‫يكون الناس عىل َت ذكر لربهم‬
‫وتفتنهم أسباب الدنيا ‪.‬‬
‫فاألديرة والكنائس والصوامع حُت‬
‫كانت وا‪١‬تساجد اْلن هي حارسة‬
‫القيم يف الوجود ‪ ،‬ألهنا تذكرك‬
‫دائما بالعبودية و٘تنع عنك الغرور‬
‫‪ ،‬وهي من السجود الذي هو منتىه‬
‫ا‪٠‬تضوع للرب ‪٩ ،‬تضع بها هلل ‪ٜ‬تس‬
‫مرات يف اليوم والليلة؛ فإن كان‬
‫عند العبد شيء من الغرور البد أن‬
‫يذوب ‪ ،‬ويعرف العبد أن الكون‬
‫كله فضل من اهلل عىل العباد؛ فبل‬
‫يدخلك أيها ا‪١‬تسلم شيء من‬
‫الغرور ‪.‬‬

‫فإذا لم يدخلك شيء من الغرور‬


‫استعملت أسباب اهلل يف مطلوبات‬
‫اهلل ‪ .‬أما أن تأخذ أنت أسباب اهلل‬
‫يف َت مطلوبات اهلل فهذه قحة‬
‫منك ‪ .‬فإذا كان اهلل قد أقدر يدك‬
‫عىل ا‪ٟ‬تركة فلماذا تعىص اهلل بها‬
‫وتضرب بها الناس؟ واهلل أقدر‬
‫لسانك عىل الكبلم ‪ ،‬فلماذا تؤذي‬
‫َتك بالكلمة؟ إن اهلل قد أعطاك‬
‫النعمة فبل تستعملها يف ا‪١‬تعصية ‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل يف هذه اْلية ‪{ :‬‬
‫ل َ َف َس َد ِت األرض } وشرح ذلك يف‬
‫قوله تعاىل ‪َ { :‬ول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس‬
‫بَعْ َض ُه ْم بِبَعْ ٍض َّ‪٢‬ت ُ ِ ّد َم ْت َص َوا ِم ُع َوبِي َ ٌع‬
‫ات َو َم َسا ِج ُد يُ ْذ َك ُر فِيهَا اسم‬ ‫َو َصل َ َو ٌ‬
‫اهلل َكثَِتا ً} فهذه األماكن هي اليت‬
‫تبأصول القيم يف التدين ‪« .‬‬ ‫ىق‬
‫وأصول القيم يف التدين » َت «‬
‫كل القيم يف التدين » ‪ ،‬ولذلك ‪٨‬تن‬
‫قلنا ‪ :‬إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل جعل‬
‫لئلسبلم ‪ٜ‬تسة أركان ‪ ،‬وهي اليت‬
‫بٍت عليها اإلسبلم ‪ .‬والبد أن نقيم‬
‫بنيان اإلسبلم عىل هذه األركان‬
‫ا‪٠‬تمسة ‪ ،‬فبل تقل ‪ :‬إن اإلسبلم هو‬
‫هذه األركان ا‪٠‬تمسة ‪ ،‬ال؛ ألن‬
‫اإلسبلم مبٍت عليها فقط فهي‬
‫األعمدة أو األسس اليت بٍت عليها‬
‫اإلسبلم ‪ .‬فأنت حُت تضع أساسا‬
‫‪١‬تزنل وتقيم األعمدة فهذا ا‪١‬تزنل‬
‫ال يصلح بذلك للسكن ‪ ،‬بل البد‬
‫أن تقيم بقية البنيان ‪ ،‬إذن‬
‫فاإلسبلم مبٍت عىل هذه األسس ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يوضح ذلك‬
‫فيأمر با‪١‬تحافظة عىل أماكن هذه‬
‫القيم؛ ألن ا‪١‬تساجد و‪٨‬تن نتكلم‬
‫بالعرف اإلسبلمي هي ملتىق‬
‫فيوضات ا‪ٟ‬تق النورانية عىل خلقه ‪،‬‬
‫فالذي يريد فيض ا‪ٟ‬تق بنوره‬
‫يذهب إىل ا‪١‬تسجد ‪ .‬إذن لكيبل‬
‫تفسد األرض البد أن توجد‬
‫أماكن العبادة هذه ‪ ،‬فمرة جاء ا‪ٟ‬تق‬
‫بالنتيجة ومرة جاء بالسبب ‪.‬‬
‫و‪١‬تاذا يدفع اهلل الناس بعضهم‬
‫ببعض؟ ألن هناك أناسا ًيريدون‬
‫الشر وأناسا ًيريدون ا‪٠‬تَت ‪ ،‬فمن‬
‫يريد الشر يدفع من يريد ا‪٠‬تَت ‪،‬‬
‫وإذا وقعت ا‪١‬تعركة بهذا الوصف‬
‫فإن يد اهلل ال تتخىل عن ا‪ٞ‬تانب‬
‫ا‪١‬تؤمن الباحث عن ا‪٠‬تَت ‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه القائل ‪َ { :‬ولَي َ ُنص َر َّن اهلل‬
‫َمن ي َ ُنص ُر ُه إ َِّن اهلل ل َ َق ِو ٌّي َعزِي ٌز } ػ‬
‫ا‪ٟ‬تج ‪] 40 :‬‬
‫أي إن ا‪١‬تعركة ال تطول ‪ .‬ولذلك‬
‫قلنا سابقا ‪ :‬إن ا‪١‬تعارك اليت نراها‬
‫يف الكون ال ‪٧‬تد فيها معركة بُت‬
‫حقُت؛ ألنه ال يوجد يف الوجود‬
‫حقان ‪ ،‬فا‪ٟ‬تق واحد ‪ ،‬فبل يقولن‬
‫أحد ‪ :‬إنه عىل حق وخصمه عىل حق‬
‫‪ .‬ال ‪ ،‬إن هناك حقا ًواحدا ًفقط ‪.‬‬
‫وا‪١‬تعركة إن وجدت توجد بُت حق‬
‫وباطل ‪ ،‬أو بُت باطل وباطل ‪.‬‬
‫وا‪١‬تعركة بُت ا‪ٟ‬تق والباطل ال‬
‫تطول؛ ألن الباطل زهوق ‪ .‬والذي‬
‫يطول من ا‪١‬تعارك هي ا‪١‬تعارك بُت‬
‫الباطل والباطل؛ فليس أحد‪٫‬تا‬
‫أوىل بأن ينصره اهلل ‪ .‬فهذا عىل‬
‫فساد وذاك عىل فساد ‪ ،‬وسبحانه‬
‫يدك هذا الفساد بذاك الفساد ‪.‬‬
‫وحُت يندك هذا الفساد بذاك‬
‫الفساد ‪ ،‬فجناحا الفساد يف الكون‬
‫ينتهيان ‪ .‬ويأيت من بعد ذلك أناس‬
‫ليس عندهم فساد ويعمرون‬
‫الكون ‪.‬‬
‫وا‪١‬تعارك اليت تدور يف أي مكان ٕتد‬
‫أن هذا الطرف له هوى واْلخر له‬
‫ه ً‬
‫وى ‪٥‬تتلف ‪.‬‬

‫وال يقف اهلل يف أي جانب منهما؛‬


‫ألنه ليس هناك جانب أ‪ٛ‬تق باهلل‬
‫من اْلخر؛ لذلك يًتكهم‬
‫يصطرع بعضهم مع بعض ‪ ،‬ومادام‬
‫ا‪ٟ‬تق قد تركهم لبعضهم البعض‬
‫فبل بد أن تطول ا‪١‬تعركة ‪ .‬ولو كان‬
‫اهلل يف بال جانب منهم لوقف‬
‫سبحانه يف جانبه ‪ .‬وكذلك نرى يف‬
‫معارك العصر ا‪ٟ‬تديث أن ا‪١‬تعركة‬
‫تطول وتطول؛ ألننا ال ‪٧‬تد القسم‬
‫الثالث الذي جاء يف قوله سبحانه ‪:‬‬
‫ان ِم َن ا‪١‬تؤمنُت‬ ‫{ َوإِن َط ِآئ َفت َ ِ‬
‫اقتتلوا فَأ َ ْصلِ ُحوا ْبَيْن َ ُه َما فَإِن بَغ َ ْت‬
‫ا‪٫‬تا عىل األخرى فَ َقاتِلُوا ْاليت‬ ‫إ ِْح َد ُ َ‬
‫تَبْغِي حىت تفياء إىل أ َ ْم ِر اهلل فَإِن‬
‫فَآءَ ْت فَأ َ ْصلِ ُحوا ْبَيْن َ ُه َما بالعدل‬
‫ب ا‪١‬تقسطُت }‬ ‫وأقسطوا إ َِّن اهلل ُ٭ت ِ ُّ‬
‫ػ ا‪ٟ‬تجرات ‪] 9 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يأمر عند‬
‫اقتتال طائفتُت من ا‪١‬تؤمنُت أن‬
‫يصلح بينهما قوم مؤمنون ‪ ،‬فإن‬
‫تعدت إحدا‪٫‬تا عىل األخرى ‪،‬‬
‫ورفضت الصلح فا‪ٟ‬تق يأمر‬
‫ا‪١‬تؤمنُت بأن يقاتلوا الفئة اليت‬
‫تتعدى إىل أن ترجع إىل حكم اهلل ‪،‬‬
‫فإن رجعت إىل حكم اهلل‬
‫فاإلصبلح بُت الفئتُت يكون‬
‫باإلنصاف؛ ألن اهلل ٭تب العادلُت‬
‫ا‪١‬تنصفُت ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن ‪٧‬تد الباطل يتقاتل مع‬
‫الباطل؛ لذلك ال ‪٧‬تد من يصلح بُت‬
‫الباطلُت ‪ ،‬بل ‪٧‬تد أهواء ًتتعارك ‪،‬‬
‫وكل جانب ينفخ يف الطائفة اليت‬
‫تناسب هواه ‪.‬‬
‫وهذه هي ا‪٠‬تيبة يف الكون ا‪١‬تعاصر؛‬
‫إن ا‪١‬تعارك تطول ألنه ليس يف بال‬
‫ا‪١‬تتقاتلُت شيء جامع ‪ ،‬ولو كان يف‬
‫با‪٢‬تم شيء جامع ‪١ ،‬تا حدثت‬
‫ا‪ٟ‬ترب ‪ .‬وماداموا قد غفلوا عن هذا‬
‫الشيء ا‪ٞ‬تامع ‪ ،‬فمن ا‪١‬تفروض أن‬
‫تتدخل الفئة القادرة عىل اإلصبلح‬
‫‪ ،‬ولكن حىت هؤالء لم يدخلوا‬
‫لئلصبلح ‪ ،‬وهذا معناه أن ا‪٠‬تيبة يف‬
‫العالم كله ‪ .‬وسيظل العالم يف خيبة‬
‫إىل أن يرعووا ويرتدعوا ‪ .‬إهنم‬
‫يطيلون عىل أنفسهم أمد التجربة‬
‫وسيظلون يف هذه ا‪٠‬تيبة حىت يفطنوا‬
‫إىل أنه ال سبيل إىل أن تنتهي هذه‬
‫ا‪١‬تشاكل إال أن يرجعوا ‪ٚ‬تيعا ًعن‬
‫أهوائهم إىل مراد خالقهم ‪.‬‬
‫{ َول َ ْوال َدَف ُْع اهلل الناس بَعْ َض ُه ْم‬
‫بِبَعْ ٍض ل َ َف َس َد ِت األرض } ‪ ،‬نعم‬
‫تفسد األرض فيما جعل اهلل‬
‫لئلنسان يدا ًفيه ‪ ،‬أما الشيء الذي‬
‫لم ‪٬‬تعل اهلل لئلنسان يدا ًفيه‬
‫فستظل النواميس كما هي ال يؤثر‬
‫فيها أحد ‪ ،‬فبل أحد يؤثر يف‬
‫الشمس أو القمر أو ا‪٢‬تواء أو ا‪١‬تطر‬
‫‪ ،‬إ‪٪‬تا الفساد جاء فيما لئلنسان فيه‬
‫يد ‪.‬‬
‫انظر إىل الكون ‪ ،‬إنك ٕتد ا‪١‬تسائل‬
‫اليت ال دخل لئلنسان فيها‬
‫مستقيمة عىل أحسن ما يكون ‪،‬‬
‫وإ‪٪‬تا يأيت الفساد من النواحي اليت‬
‫تدخل فيها اإلنسان بغَت منهج اهلل‬
‫‪ .‬ولو أن اإلنسان دخل فيها ٔتنهج‬
‫اهلل الستقامت األمور كما‬
‫استقامت النواميس العليا ٘تاما ‪.‬‬
‫يف سورة الر‪ٛ‬تن قوله تعاىل ‪{ :‬‬
‫وال‪ٝ‬تآء َرفَعَهَا َو َو َض َع ا‪١‬تيزان } ػ‬
‫الر‪ٛ‬تن ‪] 7 :‬‬
‫ومادام ا‪ٟ‬تق قد رفع السماء ووضع‬
‫ا‪١‬تيزان ‪ ،‬فالسماء ال تقع عىل‬
‫األرض والنظام ‪٤‬تكم ٘تاما ‪،‬‬
‫الشمس تطلع من الشرق وتغرب‬
‫يف الغرب ‪ ،‬والقمر والنجوم تسَت‬
‫يف منتىه الدقة واإلبداع ‪ ،‬ألنه ال‬
‫دخل ألحد من البشر فيه ‪.‬‬

‫فإن أردتم أن تصلح حياتكم ‪ ،‬وأن‬


‫تستقيم أموركم كما استقامت‬
‫هندسة السماء واألرض فخذوا‬
‫ا‪١‬تيزان من السماء يف أعمالكم ‪،‬‬
‫واتبعوا القول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬والسمآء‬
‫َرفَعَهَا َو َو َض َع ا‪١‬تيزان * أَال َّتَ ْطغ َ ْوا ْ ِيف‬
‫َِ‬
‫يموا ْالوزن بالقسط‬ ‫ا‪١‬تيزان * َوأق ُ‬
‫َوال َ ُٗت ْ ِس ُروا ْا‪١‬تيزان } ػ الر‪ٛ‬تن ‪:‬‬
‫‪] 9-7‬‬
‫ومادمتم قد رأيتم أن األمور‬
‫ا‪١‬توجودة اليت تسَت بنظام ال‬
‫تتحكمون فيه تعمل باستقامة‬
‫وترون أن الفساد قد جاء من ناحية‬
‫األمور اليت دخلتم فيها ‪ ،‬فلماذا ال‬
‫نتبع منهج اهلل يف األمور اليت لنا دخل‬
‫فيها؟ إنك إن عملت يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫ٔتنهج اهلل الذي خلق ا‪ٟ‬تياة فإن‬
‫أمورك تستقيم لك كما استقامت‬
‫األمور العليا يف الكون ‪ .‬واحفظ‬
‫جيدا ًقوله تعاىل ‪ { :‬والسمآء‬
‫َرفَعَهَا َو َو َض َع ا‪١‬تيزان * أَال َّتَ ْطغ َ ْوا ْ ِيف‬
‫ا‪١‬تيزان } ػ الر‪ٛ‬تن ‪] 8-7 :‬‬
‫ليحفظ كل منا هذا القول لنعرف أن‬
‫األمور العليا موزونة ألن يد‬
‫اإلنسان ال تدخل فيها ‪ .‬إن السماء‬
‫ال تقع عىل األرض ألهنا ‪٤‬تكومة‬
‫بنظام ‪٤‬تكم ٘تاما ً‪.‬‬
‫واألرض ال تدور بعيدا ًعن فلكها؛‬
‫ألن خالقها قد قدر ‪٢‬تا النظام‬
‫ا‪١‬تحكم ٘تاما ً‪ .‬و‪٢‬تذا يقول ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه عن نظام الكواكب يف‬
‫الكون ‪ { :‬ال َالشمس يَنبَغِي َ‪٢‬تَآ أَن‬
‫ك القمر َوال َاليل َسابِ ُق النهار‬ ‫ت ْد ِر َ‬
‫ون } ػ يس ‪:‬‬ ‫وكُ ٌّل ِيف فَل َ ٍ‬
‫ك ي َ ْسب َ ُح َ‬ ‫َ‬
‫‪] 40‬‬
‫إنه نظام دقيق ‪٤‬تكم ألنه ال دخل‬
‫لئلنسان فيه ‪ .‬اصنعوا ميزانا ًيف كل‬
‫األمور اليت لكم فيها اختيار حىت ال‬
‫تطغوا يف ا‪١‬تيزان ‪.‬‬
‫ومادام اهلل سبحانه وتعاىل قد خلق‬
‫اإلنسان ومنحه االختيار ‪ ،‬وبعض‬
‫الناس اختار مذهبا ً‪ ،‬والبعض‬
‫اْلخر اختار مذهبا مضادا ‪ٌّ ،‬‬
‫وكل‬
‫من ا‪١‬تذهبُت خارج عن منهج اهلل ‪،‬‬
‫فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يًتك الفئتُت‬
‫للتقاتل والتناحر ‪ .‬وألنه سبحانه‬
‫ذو ر‪ٛ‬تة عىل العا‪١‬تُت ‪ ،‬يبىق عناصر‬
‫ا‪٠‬تَت يف الوجود ‪ ،‬لعل أحدا ًيرى‬
‫ويتنبه ويتلفت ويذهب ليأخذها ‪.‬‬
‫فعندما تطىغ ‪ٚ‬تاعة يأيت ‪٢‬تم ا‪ٟ‬تق‬
‫ّتماعة يردوهنم ‪ ،‬حىت تبىق عناصر‬
‫ا‪٠‬تَت يف الوجود لعل إنسانا ًيأيت‬
‫ليأخذ عنصرا ًمنها ٭ترك به حياته‬
‫‪ ،‬وصاحب ا‪٠‬تَت إ‪٪‬تا يأيت من فضل‬
‫اهلل عىل العا‪١‬تُت ‪ .‬ثم يقول ا‪ٟ‬تق‬
‫ات اهلل‬
‫ك آي َ ُ‬ ‫سبحانه وتعاىل ‪ { :‬تِل ْ َ‬
‫ك با‪ٟ‬تق َوإِن ّ ََك َ‪١‬ت ِ َن‬ ‫نَتْل ُ َ‬
‫وها عَلَي ْ َ‬
‫ا‪١‬ترسلُت }‬
‫ك بِا ْ‪ٟ‬ت َ ّ ِق‬ ‫ات َ ِ‬
‫اّلل نَتْل ُ َ‬
‫وها عَلَي ْ َ‬ ‫تِل ْ َ‬
‫ك آي َ ُ ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُت (‪)252‬‬ ‫َوإِن ّ ََك َ‪١‬ت َن ا ْ‪١‬تُ ْر َسل َ‬
‫ك } إشارة ٮتاطب‬ ‫ونعرف أن { تِل ْ َ‬
‫اهلل بها رسوله صىل اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬ويشَت إىل اْليات اليت سبقت‬
‫واليت تدل عىل عظمة ا‪ٟ‬تق وقيومته‬
‫‪ ،‬فقد قال ا‪ٟ‬تق من قبل ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر‬
‫إ َِىل الذين َخ َر ُجوا ْ ِمن ِديَا ِر ِه ْم َو ُه ْم‬
‫وف َح َذ َر ا‪١‬توت فَ َق َ‬
‫ال َ‪٢‬ت ُ ُم اهلل‬ ‫أُل ُ ٌ‬
‫ُمو ُتوا ْ ُث َّم أ َ ْحي َ ُاه ْم إ َِّن اهلل ل َ ُذو فَ ْض ٍل‬
‫عَىلَ الناس ولكن أَكْث َ َر الناس ال َ‬
‫ون } ػ البقرة ‪] 243 :‬‬ ‫ي َ ْش ُك ُر َ‬
‫وساعة طلبوا أن يقاتلوا ‪ ،‬وأن‬
‫يبعث ‪٢‬تم ملكا ً‪ ،‬وبعثه ‪٢‬تم ‪ ،‬وبعث‬
‫‪٢‬تم التابوت فيه سكينة ‪ ،‬أليست‬
‫هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك‬
‫أراد ا‪ٟ‬تق أن يأيت مقتل جالوت‬
‫العمبلق الضخم عىل يد داود الصبي‬
‫الصغَت ‪ .‬أليست هذه آية؟ وآية‬
‫أخرى هي أن ‪ٚ‬تاعة قليلة‬
‫بإقرارهم حيث قالوا ‪َ { :‬كم ِّمن‬
‫فِئ َ ٍة قَلِيل َ ٍة َلَب َ ْت فِئَةً كَثَِت َة ًبِإِذْ ِن اهلل‬
‫} هذه ا‪ٞ‬تماعة القليلة تدخل‬
‫ا‪١‬تعركة وهتزم الكثرة ‪ ،‬أليست‬
‫هذه آية؟‬
‫وهل الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬
‫كان يعرف اْليات اليت سبقت‬
‫رسالته؟ ال ‪ ،‬ولكنها من إخبار اهلل‬
‫له مع إقرار ا‪ٞ‬تميع ‪ ،‬وخاصة الذين‬
‫كفروا ٔتحمد صىل اهلل عليه وسلم‬
‫؛ بأنه ال قرأ وال كتب وال جلس إىل‬
‫معلم ‪ ،‬وال أحد قال له شيئا؛ حىت‬
‫الرحلة اليت ذهب فيها للتجارة كان‬
‫يصحبه فيها أناس َته ‪ ،‬ولو كانوا‬
‫قد رأوه جالسا إىل أحد يعلمه شيئا‬
‫‪ ،‬ألذاعوا أن ‪٤‬تمدا ًقد جلس مع‬
‫فبلن ‪ ،‬وتعلم منه كذا وكذا ‪.‬‬
‫ولكن هذا لم يقله أحد؛ ألنه لم‬
‫٭تدث أصبل ‪ ،‬ولذلك كان إخباره‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ٔتا يعلمونه‬
‫هم عندهم هو بعضا ًمن أسرار‬
‫معجزته ‪ ،‬إنه قد عرف األخبار‬
‫السابقة رغم أنه لم يقرأ ولم‬
‫يكتب ولم يتلق علما ًمن أحد ‪.‬‬
‫وقد ٘تاحك بعض ا‪١‬تشركُت وقال‬
‫‪ :‬إن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫كان ‪٬‬تلس إىل فىت عند ا‪١‬تروة يعلمه‬
‫هذه األخبار ‪ ،‬فزنل القول ا‪ٟ‬تق‬
‫يدحض هذا االفًتاء ‪َ { :‬ول َ َق ْد‬
‫ون إ َِّ‪٪‬تَا يُعَلِ ّ ُم ُه ب َ َش ٌر‬ ‫َ‬
‫نَعْل َ ُم أ َّهن ُ ْم ي َ ُقول ُ َ‬
‫ون إِلَي ْ ِه أ َ ْع َج ِم ٌّي‬ ‫ِ‬
‫ان الذي يُلْح ُد َ‬
‫ِ‬
‫ل ّ َس ُ‬
‫ُت} ػ النحل ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫م‬
‫ُ‬ ‫يب‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ان‬ ‫س‬ ‫وهذا ل ِ‬
‫ّّ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫‪] 103‬‬
‫لقد أثبت ا‪ٟ‬تق أهنا حجة باطلة ‪،‬‬
‫وزعم كاذب من ناحيتهم ‪ .‬ألن‬
‫الذي ّادعوا أنه علم الرسول كان‬
‫أعجميا ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫‪١‬تحمد صىل اهلل عليه وسلم ‪{ :‬‬
‫ك با‪ٟ‬تق‬ ‫ات اهلل نَتْل ُ َ‬
‫وها عَلَي ْ َ‬ ‫تِل ْ َ‬
‫ك آي َ ُ‬
‫ات اهلل } تعٍت‬ ‫} ‪ .‬إن كلمة { آي َ ُ‬
‫األشياء العجيبة ‪ ،‬و { نَتْل ُ َ‬
‫وها } أي‬
‫‪٧‬تعل كلمة بعد كلمة ‪ ،‬وهي من «‬
‫ويل » أي جاء بعده ببل فاصل ‪{ .‬‬
‫ك با‪ٟ‬تق } وا‪ٟ‬تق هو‬ ‫نَتْل ُ َ‬
‫وها عَلَي ْ َ‬
‫الشيء الذي وقع موقعه حيث ال‬
‫يتغَت عنه ‪ ،‬فبل يتضارب أبدا ً‪.‬‬
‫فهب أن حادثة وقعت أمامك ‪ ،‬ثم‬
‫ُسئلت عنها ألف مرة يف طيلة‬
‫حياتك ستجد أن جوابك لن‬
‫ٮتتلف عليها أبداً؛ ألنك ٖتكي‬
‫واقعا ًرأيته ‪ ،‬لكن لو كانت ا‪ٟ‬تكاية‬
‫كذبا ً؛ فستجد أن روايتك ‪٢‬تا يف‬
‫ا‪١‬ترة الثانية تتغَت؛ ألنك ال تذكر‬
‫ماذا قلت يف ا‪١‬ترة األوىل؛ ألنك ال‬
‫ٖتكي عن واقع يأخذك وتلتزم به ‪،‬‬
‫وكذلك ا‪ٟ‬تق ال يتغَت ‪ ،‬وال يتضارب‬
‫‪ ،‬وال يتعارض ‪.‬‬

‫ك‬ ‫ات اهلل نَتْل ُ َ‬


‫وها عَلَي ْ َ‬ ‫{ تِل ْ َ‬
‫ك آي َ ُ‬
‫با‪ٟ‬تق } ومادام ا‪ٟ‬تق سبحانه هو‬
‫الذي يقولها ‪ ،‬فسيقو‪٢‬تا لك حقيقة‬
‫‪ ،‬وعندئذ يعرف اْلخرون أنك‬
‫عرفت ما عندهم ‪٦‬تا ٮتفونه يف‬
‫كتبهم يقوله بعضهم لبعض ‪ ،‬هنا‬
‫يعرفون أنك من ا‪١‬ترسلُت ‪،‬‬
‫ولذلك ‪٨‬تن ‪٧‬تد يف « ماكانات‬
‫القرآن » اليت يقول فيها تعاىل ‪« :‬‬
‫ما ُكنت » ‪ « ،‬ما ُكنت » ‪ ،‬و « ما‬
‫كنت » ومثل قوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و َما‬
‫نت ِّتَانِ ِب الغريب إِذْقَ َضيْنَآ إىل‬
‫ُك َ‬
‫كنت ِم َن‬
‫وىس األمر َو َما َ‬ ‫ُم َ‬
‫الشاهدين } ػ القصص ‪] 44 :‬‬
‫أي ما كنت يا ‪٤‬تمد حاضرا ًمع‬
‫موىس يف ا‪١‬تكان الغريب من ا‪ٞ‬تبل‬
‫حُت عهد اهلل إليه بأمر الرسالة ‪،‬‬
‫ولم تكن معاصرا ً‪١‬توىس وال شاهدا ً‬
‫تبليغه للرسالة فكيف يكذبك‬
‫قومك وأنت تتلو عليهم أنباء‬
‫السابقُت؟ ومثال ذلك قوله ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ ذلك ِم ْن أَنَبَآءِ الغيب نُو ِحي ِه‬
‫نت ل َ َدي ْ ِه ْم إِذْيُل ْ ُقون‬‫يك َو َما ُك َ‬ ‫إِل َ َ‬
‫أَقْبل َ َم ُه ْم أَي ُّ ُه ْم ي َ ْك ُف ُل َم ْري َ َم َو َما‬
‫ِ‬
‫ون } ػ آل‬ ‫ُكن ْ َت ل َ َدي ْ ِه ْم إِذْ َٮتْتَص ُم َ‬
‫عمران ‪] 44 :‬‬
‫إن الذي رواه القرآن لك يا ‪٤‬تمد‬
‫من األخبار ا‪ٞ‬تليلة عمن‬
‫اصطفاهم اهلل هي من الغيب الذي‬
‫أوىح اهلل به إليك ‪ .‬وما كنت‬
‫حاضرا ًمعهم وهم يقًتعون‬
‫بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم‬
‫بشئون مريم ‪ ،‬وما كنت معهم‬
‫وهم ٮتتصمون يف نيل هذا الشرف‬
‫النبيل ‪ .‬ومثال ذلك قوله ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه ‪َ { :‬و َما ُكن ْ َت ِّتَانِ ِب الطور‬
‫ك‬ ‫‪ٛ‬تةً ِّمن َّر ِبّ َ‬
‫إِذْنَادَيْنَا ولكن َّر ْ َ‬
‫ل ِ ُتن ِذ َر قَ ْوما ً َّمآ أَتَ ُاهم ِّمن ن َّ ِذي ٍر ِّمن‬
‫ون } ػ‬ ‫َ‬ ‫قَبْلِ َ‬
‫ك لَعَل َّ ُه ْم يَت َ َذ ّك ُر َ‬
‫القصص ‪] 46 :‬‬
‫أي ما كنت أيها الرسول حاضرا ًيف‬
‫جانب الطور حُت نادينا موىس ‪١‬تا‬
‫أىت ا‪١‬تيقات وكلمه ربه وناجاه ‪،‬‬
‫ولكن اهلل أعلمك بهذا عن طريق‬
‫الوحي ر‪ٛ‬تة بك وبأمتك ‪ ،‬ولتبلغه‬
‫لقوم لم يأهتم رسول من قبلك‬
‫لعلهم يتذكرون ويؤمنون ‪ .‬ومثال‬
‫ذلك قوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وكَ َذل ِ َ‬
‫ك أ َ ْو َحيْنَآ‬
‫ِ‬
‫نت‬ ‫ك ُروحا ً ّم ْن أ َ ْم ِرنَا َما ُك َ‬
‫إِلَي ْ َ‬
‫تَ ْد ِري َما الكتاب َوال َاإلٯتان ولكن‬
‫آء ِم ْن‬ ‫َ ِ ِ‬
‫َجعَلْن َ ُاه ُنورا ً ّهنْدي بِه َمن ن َّ َش ُ‬
‫ِعبا ِدنَا وإِن ّ ََك لتهدي إىل ِص َر ٍ‬
‫اط‬ ‫َ َ‬
‫يم } ػ الشورى ‪] 52 :‬‬ ‫ُّم ْستَقِ ٍ‬
‫إن القرآن هو وحي مزنل من عند‬
‫اهلل ‪ ،‬يُع ّ ِرف ا‪١‬تؤمنُت النور إىل‬
‫ا‪٢‬تداية وتكاليف ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬ويهدي من‬
‫اختار ا‪٢‬تدى ‪ ،‬وإنك يا ‪٤‬تمد‬
‫لتدعو بهذا القرآن إىل صراط‬
‫نت } يف‬‫مستقيم ‪ .‬إن كل { َما ُك َ‬
‫القرآن الكريم هي دليل عىل أن ما‬
‫أخْبك به جْبيل رسوال ًمن عند‬
‫اهلل إليك ‪ ،‬وحامبل للوحي من اهلل‬
‫هو ا‪ٟ‬تق؛ فتعلمه أنت يا ‪٤‬تمد‬
‫بطريقة خاصة وعىل هنج ‪٥‬تصوص ‪،‬‬
‫رغم أنك لم تقرأ كتابا ًولم ٕتلس‬
‫إىل معلم ‪ .‬وما ٗتْبهم به من آيات‬
‫هي موافقة ‪١‬تا معهم ‪ ،‬وكان من‬
‫الواجب أن يقولوا إن الذي علمك‬
‫هذا هو اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وكان‬
‫‪٬‬تب أن يقروا ويشهدوا بأنك من‬
‫ا‪١‬ترسلُت ‪ .‬وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق‬
‫ك الرسل فَ َّضلْنَا‬‫سبحانه ‪ { :‬تِل ْ َ‬
‫بَعْ َض ُه ْم عىل بَعْ ٍض‪} . . .‬‬
‫ك ال ُّر ُس ُل فَ َّضلْنَا بَعْ َض ُه ْم عَىلَ‬ ‫تِل ْ َ‬
‫اّلل َو َرفَ َع‬ ‫َ ْع ٍ ِ م َ‬
‫بض من ْ ُه ْم َ ْن كَل ّ َم َّ ُ‬
‫ات َوآتَيْنَا عِي ََس اب ْ َن‬ ‫بَعْ َض ُهم در َج ٍ‬
‫ْ ََ‬
‫ات َوأَي َّ ْدن َ ُاه بِ ُرو ِح‬
‫َم ْريَم الْب ِيّن َ ِ‬
‫َ َ‬
‫اّلل َما اقْتَت َ َل ال َّ ِذي َن‬ ‫ِ ل‬
‫ال ْ ُق ُدس َو َ ْو َشاءَ َّ ُ‬
‫ِم ْن بَعْ ِد ِه ْم ِم ْن بَعْ ِد َما َجاءَهتْ ُ ُم‬
‫ات َول َ ِك ِن ا ْختَل َ ُفوا فَ ِمن ْ ُه ْم َم ْن‬ ‫الْب َ ِيّن َ ُ‬
‫آ َم َن َو ِمن ْ ُه ْم َم ْن كَ َف َر َول َ ْو َشاءَ ّ َُ‬
‫اّلل َما‬
‫اّللَي َ ْفعَ ُل َما يُ ِر ُ‬
‫يد‬ ‫اقْتَتَلُوا َول َ ِك َّن َّ‬
‫(‪)253‬‬

‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يشَت إىل‬


‫ك الرسل } و‬ ‫الرسل بقوله ‪ { :‬تِل ْ َ‬
‫{ الرسل } هي ‪ٚ‬تع ‪١‬تفرد هو «‬
‫رسول » ‪ .‬والرسول هو المكلف‬
‫بالرسالة ‪ .‬والرسالة هي ا‪ٞ‬تملة من‬
‫الكبلم اليت ٖتمل معٌت إىل هدف ‪.‬‬
‫ومادام الرسل ‪ٚ‬تاعة فلماذا لم‬
‫يقل ا‪ٟ‬تق « هؤالء الرسل » وقال‬
‫ك الرسل } ؟ ذلك ليدلك‬ ‫{ تِل ْ َ‬
‫القرآن الكريم عىل أن الرسل‬
‫مهما اختلفوا فهم مرسلون من‬
‫قبل إله واحد ؤتنهج واحد ‪ .‬وكما‬
‫عرفنا من قبل أن اإلشارة ب «‬
‫تلك » هي إشارة ألمر بعيد ‪.‬‬
‫فعندما نشَت إىل شيء قريب فإننا‬
‫نقول ‪ « :‬ذا » ‪ ،‬وعندما نستخدم‬
‫صيغة اإلشارة مع ا‪٠‬تطاب نقول ‪« :‬‬
‫ذاك » ‪ .‬وعندما نشَت إىل مؤنث‬
‫فنقول ‪ « :‬ت » وعندما نشَت إىل‬
‫خطاب مؤنث ‪ « :‬تيك » ‪ .‬و «‬
‫البلم » كما عرفنا هنا للبعد أو‬
‫للمزنلة العالية ‪.‬‬
‫ك الرسل }‬ ‫إذن فقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬تِل ْ َ‬
‫هو إشارة إىل الرسل الذين يعلمهم‬
‫سيدنا ‪٤‬تمد عليه الصبلة والسبلم ‪،‬‬
‫أو الرسل الذين تقدموا يف السياق‬
‫القرآين ‪ .‬والسياق القرآين الذي‬
‫تقدم ٖتدث عن موىس عليه السبلم‬
‫‪ ،‬وعن عيَس عليه السبلم ‪ ،‬وتكلم‬
‫السياق عن أويل العزم من الرسل ‪.‬‬
‫إن أردت الًتتيب القرآين هنا ‪ ،‬فهو‬
‫يشَت إىل الذي تقدم يف هذه السورة‬
‫‪ ،‬وإن أردت ترتيب الزنول تكون‬
‫اإلشارة إىل من عَلِ َم ُه الرسول من‬
‫الرسل السابقُت ‪ ،‬وا‪١‬تناسبة هنا أن‬
‫ا‪ٟ‬تق قد ختم اْلية السابقة بقوله‬
‫هناك ‪َ { :‬وإِن ّ ََك َ‪١‬ت ِ َن ا‪١‬ترسلُت } ‪،‬‬
‫و‪١‬تا كانت { َوإِن ّ ََك َ‪١‬ت ِ َن ا‪١‬ترسلُت }‬
‫تفيد بعضيته صىل اهلل عليه وسلم‬
‫لكلية عامة ‪ ،‬كأنه يقول ‪ :‬إياكم أن‬
‫تظنوا أهنم ماداموا قد اتفقوا يف‬
‫أهنم مرسلون أو أهنم رسل اهلل ‪،‬‬
‫أهنم أيضا متساوون يف ا‪١‬تزنلة ‪ ،‬ال ‪،‬‬
‫بل كل واحد منهم له مزنلته العامة‬
‫يف الفضلية وا‪٠‬تاصة يف التفضيل ‪.‬‬
‫إهنم ‪ٚ‬تيعا‪ W‬رسل من عند اهلل ‪،‬‬
‫ولكن ا‪ٟ‬تق يعطي كل واحد منهم‬
‫مزنل خاصة يف التفضيل ‪.‬‬
‫فلماذا كان قول اهلل ‪َ { :‬وإِن ّ ََك َ‪١‬ت ِ َن‬
‫ا‪١‬ترسلُت } يؤكد لنا أن سيدنا‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم من‬
‫بُت الرسل فبل تأخذ هذا األمر عىل‬
‫أساس أن كل الرسل متساوون يف‬
‫ا‪١‬تكانة ‪ ،‬وتقول إهنم متماثلون يف‬
‫الفضل ‪ .‬ال ‪ .‬إن اهلل قد فضل‬
‫بعضهم عىل بعض ‪.‬‬
‫وما هو التفضيل؟‬
‫إن التفضيل هو أن تأيت للغَت‬
‫وتعطيه ميزة ‪ ،‬وعندما تعطي له‬
‫مزية عمن سواه قد يقول لك‬
‫إنسان ما « هذه ‪٤‬تاباة » ‪ ،‬لذلك‬
‫نقول ‪١‬تن يقول ذلك ‪ :‬الزم الدقة ‪،‬‬
‫ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغَت‬
‫ٔتزية بدافع ا‪ٟ‬تكمة ‪ ،‬أما ا‪١‬تحاباة‬
‫فهي إيثار الغَت ٔتزية بدافع ا‪٢‬توى‬
‫والشهوة ‪ ،‬فمثبل ًإذا أردنا أن ‪٩‬تتار‬
‫أحدا ًمن الناس ‪١‬تنصب كبَت ‪،‬‬
‫فنحن ‪٩‬تتار عددا ًمن الشخصيات‬
‫اليت ٯتكن أن تنطبق عليهم‬
‫ا‪١‬تواصفات ونقول ‪ « :‬هذا يصلح ‪،‬‬
‫وهذا يصلح ‪ ،‬وهذا يصلح » و «‬
‫هذا فيه ميزات عن ذاك » وهكذا‬
‫‪ ،‬فإن نظرنا إليهم وقيمناهم‬
‫بدافع ا‪ٟ‬تكمة والكفاءة فهذا هو‬
‫التفضيل ‪ ،‬ولكن إن اخًتنا واحدا ً‬
‫ألنه قريب أو صهر أو َت ذلك‬
‫فهذا هو ا‪٢‬توى وا‪١‬تحاباة ‪.‬‬

‫إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي‬


‫مزية ولكن ‪ٟ‬تكمة ‪ ،‬وأما ا‪١‬تحاباة‬
‫فهي أن تؤثر وتعطي مزية ‪ ،‬ولكن‬
‫‪٢‬توى يف نفسك ‪ .‬فمثبل هب أنك‬
‫اشًتيت قاربا ٓتاريا وركبته أنت‬
‫وابنك الصغَت ‪ ،‬ومعك سائق‬
‫القارب البخاري ‪ ،‬وأراد ابنك‬
‫الصغَت أن يسوق القارب البخاري‬
‫‪ ،‬وجلس مكان السائق وأخذ يسوق‬
‫‪ .‬ولكن جاءت أمواج عالية‬
‫واضطرب البحر فنهضت أنت‬
‫مسرعا وأخذت الولد وأمرت‬
‫السائق أن يتوىل القيادة ‪ ،‬وهنا قد‬
‫يصرخ الولد ‪ ،‬فهل هذه ‪٤‬تاباة منك‬
‫للسائق؟ ال ‪ ،‬فلو كانت ‪٤‬تاباة لكانت‬
‫البنك ‪ ،‬لكنك أنت قد آثرت‬
‫السائق ‪ٟ‬تكمة تعرفها وهي أنه‬
‫أعلم بالقيادة من الولد الصغَت ‪.‬‬
‫إذن إذا نظرت إىل حيثية اإليثار‬
‫وحيثية التمييز ‪ٟ‬تكمة فهذا هو‬
‫التفضيل ‪ ،‬ولكن يف المحاباة يكون‬
‫ا‪٢‬توى هو ا‪ٟ‬تاكم ‪.‬‬
‫وكل أعمال ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫تصدر عن حكمة؛ ألنه سبحانه‬
‫ليس له هوى وال شهوة ‪ ،‬فكلنا ‪ٚ‬تيعا‬
‫بالنسبة إليه سواء ‪ .‬إذن هو سبحانه‬
‫حُت يعطي مزية أو يعطي خَتا أو‬
‫يعطي فضلية ‪ ،‬يكون القصد فيها‬
‫إىل حكمة ما ‪.‬‬
‫وحينما قال ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وإِن ّ ََك َ‪١‬ت ِ َن‬
‫ا‪١‬ترسلُت } جاء بعدها بالقول‬
‫الكريم ‪ { :‬تِل ْ َ‬
‫ك الرسل فَ َّضلْنَا‬
‫بَعْ َض ُه ْم عىل بَعْ ٍض} وأعطانا ‪٪‬تاذج‬
‫التفضيل فقال ‪ { :‬منهم من كلم‬
‫اهلل } ‪ .‬وساعة تسمع { منهم من‬
‫كلم اهلل } يأيت يف الذهن مباشرة‬
‫موىس عليه السبلم ‪ ،‬وإال فاهلل جل‬
‫وعبل قد كلم ا‪١‬تبلئكة ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و َرفَ َع‬
‫ات } ‪ .‬ثم قال ‪{ :‬‬ ‫بَعْ َض ُهم در َج ٍ‬
‫ْ ََ‬
‫َوآتَيْنَا عِي ََس ابن َم ْري َ َم البينات}‬
‫إنه سبحانه قد حدد أوال موىس عليه‬
‫السبلم بالوصف الغالب فقال‪{ :‬‬
‫كَل َّ َم اهلل } وكذلك حدد سيدنا‬
‫عيَس عليه السبلم بأنه قد وهبه‬
‫اْليات البينات ‪ .‬وبُت موىس عليه‬
‫السبلم وعيَس عليه السبلم قال‬
‫ا‪ٟ‬تق { ورفَ َع بَعْ َض ُهم در َج ٍ‬
‫ات }‬ ‫ْ ََ‬ ‫ََ‬
‫وا‪٠‬تطاب يف اْليات ‪١‬تحمد عليه‬
‫الصبلة والسبلم ‪ .‬إذن ففيه كبلم‬
‫عن الغَت ‪١‬تخاطب هو ‪٤‬تمد صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وساعة يأيت التشخيص باالسم أو‬
‫بالوصف الغالب ‪ ،‬فقد حدد ا‪١‬تراد‬
‫بالقضية ‪ ،‬ولكن ساعة أن يأيت‬
‫بالوصف ويًتك لفطنة السامع أن‬
‫يرد الوصف إىل صاحبه فكأنه من‬
‫ا‪١‬تفهوم أنه ال ينطبق قوله ‪« :‬‬
‫ورفعنا بعضهم درجات » ْتق إال‬
‫عىل ‪٤‬تمد صىل اهلل عليه وسلم‬
‫وحده ‪ .‬وجاء بها سبحانه يف الوسط‬
‫بُت موىس عليه السبلم وعيَس‬
‫عليه السبلم ‪ ،‬مع أن الرسول صىل‬
‫اهلل عليه وسلم لم يأت يف الوسط ‪،‬‬
‫وإ‪٪‬تا جاء آخر األنبياء ‪ ،‬ولكنك‬
‫ٕتد أن منهجه صىل اهلل عليه وسلم‬
‫هو الوسط ‪ .‬فاليهودية قد أسرفت‬
‫يف ا‪١‬تادية ببل روحانية ‪ ،‬والنصرانية‬
‫قد أسرفت يف الروحانية ببل مادية ‪،‬‬
‫والعالم ٭تتاج إىل وسطية بُت‬
‫ا‪١‬تادية والروحية ‪ ،‬فجاء ‪٤‬تمد صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فكأن ‪٤‬تمدا ًصىل‬
‫اهلل عليه وسلم قطب ا‪١‬تيزان يف‬
‫قضية الوجود ‪.‬‬

‫وإذا أردنا أن نعرف مناطات‬


‫التفضيل ‪ ،‬فإننا ‪٧‬تد رسوال يرسله‬
‫اهلل إىل قريته مثل سيدنا لوط مثبل ‪،‬‬
‫وهناك رسول ‪٤‬تدود الرسالة أو‬
‫عمر رسالته ‪٤‬تدود ‪ ،‬ول َ ِك ْن هناك‬
‫رسول واحد قيل له ‪ :‬أنت مرسل‬
‫لئلنس وا‪ٞ‬تن ‪ ،‬ولكل من يوجد من‬
‫اإلنس وا‪ٞ‬تن إىل أن تقوم الساعة‬
‫إنّه هو ‪٤‬تمد صىل اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫فإذا كان التفضيل هو ‪٣‬تال العمل‬
‫فهو لسيدنا ‪٤‬تمد صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وإذا نظرنا إىل ا‪١‬تعجزات‬
‫اليت أنز‪٢‬تا اهلل لرسله ليثبتوا للناس‬
‫صدق ببلغهم عن ربهم ‪٧ ،‬تد أن‬
‫كل ا‪١‬تعجزات قد جاءت معجزاته‬
‫كونية ‪ ،‬أي معجزات مادية حسية‬
‫الذي يراها يؤمن بها ‪ ،‬فالذي رأى‬
‫عصا موىس وهي تضرب البحر‬
‫فانفلق ‪ ،‬هذه معجزة مادية آمن بها‬
‫قوم موىس ‪ ،‬والذي رأى عيَس عليه‬
‫السبلم يْبئ األكمه واألبرص‬
‫فقد شهد ا‪١‬تعجزة ا‪١‬تادية وآمن بها‬
‫‪ ،‬ولكن هل ‪٢‬تذه ا‪١‬تعجزات اْلن‬
‫وجود َت ا‪٠‬تْب عنها؟ ال ليس ‪٢‬تا‬
‫وجود ‪.‬‬
‫لكن ‪٤‬تمد صىل اهلل عليه وسلم‬
‫حينما يشاء اهلل أن يأتيه با‪١‬تعجزة‬
‫ال يأيت له ٔتعجزة من جنس‬
‫ا‪١‬تحسات اليت ٖتدث مرة وتنتهي ‪،‬‬
‫إنه سبحانه قد بعث ‪٤‬تمدا ًصىل اهلل‬
‫عليه وسلم إىل أن تقوم الساعة ‪،‬‬
‫فرسالته َت ‪٤‬تدودة ‪ ،‬والبد أن‬
‫تكون معجزته صىل اهلل عليه وسلم‬
‫َت ‪٤‬تسة وإ‪٪‬تا تكون معقولة؛ ألن‬
‫العقل هو القدر ا‪١‬تشًتك عند‬
‫ا‪ٞ‬تميع ‪ ،‬لذلك كانت معجزته‬
‫القرآن ‪ .‬ويستطيع كل واحد اْلن‬
‫أن يقول ‪٤ :‬تمد رسول اهلل وتلك‬
‫معجزته ‪.‬‬
‫إن معجزة رسولنا صىل اهلل عليه‬
‫وسلم هي واقع ‪٤‬تسوس ‪ .‬ويف مناط‬
‫التطبيق ل‪١‬تنهج ‪٧‬تد أن الرسل ما‬
‫جاءوا ليشرعوا ‪ ،‬إ‪٪‬تا كانوا ينقلون‬
‫األحكام عن اهلل ‪ ،‬وليس ‪٢‬تم أن‬
‫يشرعوا ‪ ،‬أما الرسول ‪٤‬تمد صىل‬
‫اهلل عليه وسلم فهو الرسول الوحيد‬
‫الذي قال اهلل له ‪َ { :‬و َمآ آتَا ُك ُم‬
‫الرسول فَ ُخ ُذ ُوه َو َما َهنَا ُك ْم َعن ْ ُه‬
‫فانتهوا } ػ ا‪ٟ‬تشر ‪] 7 :‬‬
‫فهو صىل اهلل عليه وسلم قد اختصه‬
‫اهلل بالتشريع أيضا ‪ ،‬أليست هذه‬
‫مزية؟ إن ا‪١‬تراد من ا‪١‬تنهج‬
‫السماوي هو وضع القوانُت اليت‬
‫ٖتكم حركة ا‪ٟ‬تياة يف ا‪٠‬تبلفة يف‬
‫األرض ‪ ،‬وتلك القوانُت نوعان ‪:‬‬
‫نوع جاء من اهلل ‪ ،‬ويف هذا ‪٧‬تد أن‬
‫كل الرسل فيه سواء ‪ ،‬ولك ْن هناك‬
‫نوع ثانٍ من القوانُت فوض اهلل فيه‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أن‬
‫يضع من التشريع ليبلئم ما يرى ‪،‬‬
‫وهذا تفضيل للرسول صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫إذن حُت يقول اهلل تعاىل ‪َ { :‬و َرفَ َع‬
‫ات } فهذا ال ينطبق‬ ‫بَعْ َض ُهم در َج ٍ‬
‫ْ ََ‬
‫إال عىل سيدنا ‪٤‬تمد صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬وهذا أكثر من التصريح‬
‫باالسم ‪ .‬وأضرب هنا ا‪١‬تثل وهلل‬
‫ا‪١‬تثل األعىل أنت أعطيت لولدك‬
‫قلما ًعاديا ً‪ ،‬ولولدك الثاين قلما ً‬
‫مرتفع القيمة ‪ ،‬ولولدك الثالث‬
‫ساعة ‪ ،‬أما الولد الرابع فاشًتيت له‬
‫هدية الية جدا ً‪ ،‬ثم تأيت لؤلوالد‬
‫وتقول ‪٢‬تم ‪ :‬أنا اشًتيت لفبلن‬
‫قلما ًجافا ً‪ ،‬ولفبلن قلم حْب ‪،‬‬
‫واشًتيت لفبلن ساعة ‪ ،‬وبعضهم‬
‫اشًتيت له هدية ‪ٙ‬تينة ‪.‬‬

‫ف « بعضهم » هذا قد ُعرف بأنه‬


‫االبن الرابع الذي لم تذكر ا‪ٝ‬ته ‪،‬‬
‫فيكون قد تعُت وٖتدد ‪.‬‬
‫{ تِل ْ َ‬
‫ك الرسل فَ َّضلْنَا بَعْ َض ُه ْم عىل‬
‫بَعْ ٍض ِّمن ْ ُه ْم َّمن كَل َّ َم اهلل } وحُت‬
‫تقول كلم اهلل إياك أن تغفل عن‬
‫قضية كلية ٖتكم كل وصف هلل‬
‫يوجد يف البشر ‪ ،‬فأنا أتكلم واهلل‬
‫يتكلم ‪ ،‬لكن أكبلمه سبحانه مثل‬
‫كبلمي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي‬
‫مثل وجوده فاجعل كبلمي ككبلمه ‪،‬‬
‫وإن كان وجودي ليس كوجوده‬
‫فكيف يكون كبلمي ككبلمه؟‬
‫رٔتا يقول أحد ‪ :‬إن الكبلم صوت‬
‫وأحبال صوتية و َت ذلك ‪ ،‬نقول له‬
‫‪ :‬ال ‪ ،‬أنت ال تأخذ ما ٮتص اهلل‬
‫سبحانه إال يف إطار { لَي ْ َس كَ ِمثْلِ ِه‬
‫َش ْي ٌء } و‪٨‬تن نأخذ كل وصف يرد‬
‫عن اهلل بواسطة اهلل ‪ ،‬وال نضع‬
‫وصفا ًمن عندنا ‪ ،‬وبعد ذلك ال‬
‫نقارنه بوصف للبشر ‪ .‬فلله حياة‬
‫ولك حياة ‪ .‬لكن أحياة أي منا‬
‫كحياته سبحانه؟ ال ‪ ،‬إن حياته‬
‫ذاتية ‪ ،‬وحياة كل منا موهوبة‬
‫مسلوبة ‪ ،‬فليست مثل حياته ‪.‬‬
‫وعندما يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬اهلل الذي‬
‫َخل َ َق السماوات واألرض َو َما‬
‫بَيْن َ ُه َما ِيف ِستَّ ِة أَيَّا ٍم ُث َّم استوى عَىلَ‬
‫العرش َما ل َ ُك ْم ِّمن ُدونِ ِه ِمن َو ِيل ّ ٍ َوال َ‬
‫َ‬ ‫ِ َ‬
‫ون } ػ السجدة ‪:‬‬ ‫َشفي ٍع أفَبل َتَت َ َذ ّك ُر َ‬
‫‪]4‬‬
‫فهل جلوس ا‪ٟ‬تق كج لوس ا‪٠‬تلق؟‬
‫أو هل يكون كرسي ا‪٠‬تالق‬
‫ككرسي ا‪١‬تخلوق؟ طبعا ال ‪ .‬و‪٨‬تن‬
‫ا‪١‬تؤمنُت نأخذ كل صفة عن اهلل يف‬
‫نطاق التزنيه ‪ :‬سبحان اهلل وليس‬
‫كمثله شيء ‪ ،‬فليس استواء اهلل‬
‫مثل استواء البشر ‪ ،‬وليس جلوس‬
‫ا‪ٟ‬تق مثل جلوس اإلنسان ‪.‬‬
‫ونضرب هذا ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل‬
‫األعىل من قبل ومن بعد هب أن‬
‫صاحبا ًلك دعاك لتأكل عنده ‪ ،‬ثم‬
‫دعاك أحد كْباء القوم لتأكل عنده‬
‫‪ ،‬البد أنك ٕتد الطعام متفاوتا يف‬
‫جودته وأصنافه بُت كل مائة من‬
‫موائد من دعوك ‪ ،‬فإذا كان البشر‬
‫أنفسهم تتفاوت بينهم األمور‬
‫الوصفية تبعا ً‪١‬تقاماهتم وقدراهتم‬
‫وإمكاناهتم ‪ ،‬فإذا ما ترقيت ة‬
‫بالصف‬
‫إىل خالق كل األشياء أيقنت أنه‬
‫سبحانه ُمزنه عن كل من سواه ‪،‬‬
‫وليس كمثله شيء ‪.‬‬
‫إذن { كَل َّ َم اهلل } تعٍت أنه أعلم‬
‫رسوله بأي وسيلة من وسائل‬
‫اإلعبلم ‪ِّ { .‬من ْ ُه ْم َّمن كَل َّ َم اهلل‬
‫ات َوآتَيْنَا عِي ََس‬ ‫ورفَ َع بَعْ َض ُهم در َج ٍ‬
‫ْ ََ‬ ‫ََ‬
‫ابن َم ْري َ َم البينات َوأَي َّ ْدن َ ُاه بِ ُرو ِح‬
‫القدس } وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫يؤكد دائما يف الكبلم عن سيدنا‬
‫أن عيَس ابن مريم مؤيد‬ ‫عيَس ّ‬
‫بروح القدس ؛ ألن ا‪١‬تسائل اليت‬
‫تعرض ‪٢‬تا سيدنا عيَس تتطلب أن‬
‫تكون روح القدس دائما معه ‪،‬‬
‫ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه عنه ‪{ :‬‬
‫والسبلم عَل ََّي ي َ ْو َم ُول ِ ْد ُّت َوي َ ْو َم‬
‫ث َحيّا ً} ػ مريم ‪:‬‬ ‫أ َ ُم ُ‬
‫وت َوي َ ْو َم أُبْعَ ُ‬
‫‪] 33‬‬
‫ففي ا‪١‬تيبلد سيدنا عيَس تعرض‬
‫‪١‬تشكلة؛ ألنه ولد عىل َت طريقة‬
‫ميبلد الناس ‪ ،‬واهتمت فيها أمه ‪،‬‬
‫وجاء القرآن فزنهها ‪ ،‬وبرأها ‪،‬‬
‫ووضع األمر يف نصابه ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬وأيضا‬
‫يف موته عندما أرادوا أن يقتلوه ‪.‬‬
‫وحُت ننظر إىل الرسل ‪٧‬تد أن‬
‫مقتىض أن يرسل اهلل رسبل ًإىل‬
‫العالم هو أنه سبحانه قد خلق ا‪٠‬تلق‬
‫َت مكرهُت عىل فعل ‪ ،‬وال‬
‫مسخرين كما تسخر بقية‬
‫األجناس يف الكون ‪ ،‬ودونه مباشرة‬
‫ا‪ٟ‬تيوان الذي ينقص عنه العقل ‪،‬‬
‫وبعد ا‪ٟ‬تيوان يأيت جنس النبات‬
‫الذي ينقص عنه ا‪ٟ‬تس وا‪ٟ‬تركة ‪،‬‬
‫وبعد ذلك ا‪ٞ‬تماد الذي ينقص عن‬
‫النبات ‪ ،‬تلك هي أجناس الوجود ‪.‬‬
‫واإلنسان هو سيد هذه األجناس ‪.‬‬
‫والسيادة جاءت له من ناحية أن‬
‫األجناس كلها مسخرة ‪٠‬تدمته ال‬
‫باالختيار ‪ ،‬ولكن بالقهر والقسر ‪.‬‬
‫فالشمس لم ٕتيء مرة لتقول ‪ :‬لم‬
‫يعد ا‪٠‬تلق يعجبونٍت لذلك لن‬
‫أشرق ‪٢‬تم اليوم وال ا‪٢‬تواء امتنع‬
‫عن أن يهب ‪ ،‬وال ا‪١‬تطر امتنع عن‬
‫أن يزنل ‪ ،‬وال األرض امتنعت عن‬
‫أن تعطي النبات عناصر ذائه ‪ ،‬إن‬
‫اإلنسان يركب الدابة ويسَتها‬
‫كما ٭تب وكما يريد ‪ ،‬ال شيء يتأىب‬
‫أبدا عىل اإلنسان ‪ .‬وأنت أيها‬
‫اإلنسان ا‪ٞ‬تنس الوحيد الذي‬
‫وهبك اهلل االختيار لتمارس‬
‫مهمتك يف الوجود ‪ ،‬فإن شئت‬
‫فعلت كذا ‪ ،‬وإن شئت لم تفعل‬
‫كذا ‪.‬‬
‫ولكن اهلل لم يدعك هكذا عىل‬
‫إن فيه أمورا ًتصَت‬
‫إطبلقك ‪ ،‬بل ّ‬
‫برغم أنفك وأنت مسخر فيها ‪ ،‬ال‬
‫تستطيع مثبل أن تتحكم يف يوم‬
‫ميبلدك ‪ ،‬وال يف يوم وفاتك ‪ ،‬وال‬
‫فيما يزنل عليك من األحداث‬
‫ا‪٠‬تارجة عنك ‪ ،‬وال فيما يدور من‬
‫ا‪ٟ‬تركة يف بدنك ‪ ،‬كل ذلك أنت‬
‫مسخر فيه فبل تنفلت من قبضة‬
‫ربك ‪ .‬ولكنك ‪٥‬تتار يف أشياء‪.‬‬
‫ونعرف أنه سبحانه وتعاىل قهر‬
‫أجناسا ًعىل أن تكون كما يريد ‪،‬‬
‫وكما ٭تب ‪ ،‬وتلك صفة القدرة؛‬
‫ألن صفة القهر تفيد السيطرة ‪.‬‬
‫فإذا ما ترك جنسا ًٮتتار أن يؤمن ‪،‬‬
‫وٮتتار أال يؤمن ‪ ،‬وإن آمن ٮتتار أن‬
‫يطيع وٮتتار أن يعصي ‪ ،‬فهذه تثبت‬
‫ا‪١‬تحبوبية هلل سبحانه وتعاىل ‪١‬تن‬
‫اختار وآثر طاعة اهلل عىل ا‪١‬تعصية ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن نعرف أن القهر ٮتضع‬
‫القوالب لكنه ال ٮتضع القلب ‪.‬‬
‫فأنت تستطيع أن هتدد إنسانا ً‬
‫ٔتسدس وتقول له ‪ « :‬اسجد يل »‬
‫فيسجد لك ‪ ،‬لكنك ال تستطيع أن‬
‫تقول له وهو ٖتت التهديد « أحبٍت‬
‫» ‪ .‬فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يًتك لنا‬
‫اإلٯتان باالختيار ‪ ،‬ويًتك لنا‬
‫الطاعة وا‪١‬تعصية اختيارا ً‪ ،‬ليعلم‬
‫من يأتيه حبا ًومن يأتيه قهرا ً ‪.‬‬
‫والعالم كله يأيت هلل قهرا ً‪ .‬وأنت‬
‫أيها اإلنسان يف ذاتك أشياء أنت‬
‫مقهور فيها ‪ .‬ومن هنا ثبتت هلل‬
‫تعاىل القدرة ‪ .‬وبىق أن تثبت له‬
‫ا‪ٟ‬تب ‪ .‬والعبد الصاٌف هو الذي‬
‫يطيعه عن حب ‪ .‬و‪٨‬تن قد سبق لنا‬
‫أن ضربنا مثبل ًوهلل ا‪١‬تثل األعىل‬
‫وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد‬
‫ا‪ٝ‬ته سعد واْلخر ا‪ٝ‬ته سعيد ‪،‬‬
‫سعد قيده صاحبه ْتبل و‪٬‬تره قائبل‬
‫‪ « :‬يا سعد » فهل لسعد أال ‪٬‬تيء؟‬
‫ال ‪.‬‬
‫لكن صاحب العبدين ترك لسعيد‬
‫ا‪ٟ‬ترية ‪ ،‬وعندما يناديه فهو يأتيه ‪.‬‬
‫إذن ‪ ،‬أيهما ٭تبه ‪ ،‬الذي جاء با‪ٟ‬تبل‬
‫أم الذي جاء با‪١‬تحبة؟ إذن ‪ ،‬فمن‬
‫كرامة اإلنسان أن يثبت هلل صفة‬
‫ا‪١‬تحبة إن آمن باهلل؛ ألنه سبحانه‬
‫وتعاىل لو شاء أن يهدي الناس ‪ٚ‬تيعا ً‬
‫ما استطاع أي واحد منهم أن يكفر‬
‫به ‪ ،‬ولو شاء أن يكون مطاعا ًدائما ً‬
‫ما استطاع واحد أن يعصيه أبدا ً‪.‬‬
‫ولذلك قلنا ‪ :‬إن إبليس كان عا‪١‬تا ً‬
‫ال‬
‫حينما قال أمام اهلل تعاىل ‪ { :‬قَ َ‬
‫ُت } ػ‬ ‫‪ٚ‬تعِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ك ألُ ْغ ِويَنَّهم أ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فَبِعِ َّزتِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ص ‪] 82 :‬‬
‫أقسم الشيطان هلل بعزته سبحانه‬
‫عن خلقه ‪ ،‬وكأنه قال ‪ :‬أنت يا رب‬
‫لو كنت ٖتتاج عباد فأنا ال أستطيع‬
‫أن آخذهم ‪ ،‬لكن ألنك عزيز‬
‫عليهم ‪ ،‬إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا ‪،‬‬
‫وإن أرادوا أال يؤمنوا لم يؤمنوا؛‬
‫فهذا هو ا‪١‬تدخل الذي سأدخل منه‬
‫‪ .‬ولذلك استثٌت الشيطان بعضا ًمن‬
‫العباد ألنه لن يستطيع أن ‪٬‬تد‬
‫لوسوسته لديهم مدخبل ‪ { :‬إِال َّ‬
‫ك ِمن ْ ُه ُم ا‪١‬تخلصُت } ػ ص ‪:‬‬ ‫ِعبَادَ َ‬
‫‪] 83‬‬
‫أي إن الذي يريد اهلل أن‬
‫يستخلصه لنفسه فلن يستطيع‬
‫الشيطان أن يقًتب منه ‪ .‬إذن‬
‫فإبليس ليس داخبل ًيف معركة مع‬
‫اهلل تعاىل ‪ ،‬ولكنه يف معركة معنا ‪٨‬تن‬
‫‪ .‬ولقد أوضح ا‪ٟ‬تق ذلك حُت جاء‬
‫عىل لسان إبليس يف القرآن ‪ { :‬قَ َ‬
‫ال‬
‫ك ألُ ْغ ِويَنَّ ُهم أ َ ْج عِمُت* إِال َّ‬
‫َ‬ ‫فَبِعِ َّزتِ‬
‫ْ َ َ‬
‫ك ِمن ْ ُه ُم ا‪١‬تخلصُت } ػ ص ‪:‬‬ ‫ِعبَادَ َ‬
‫‪] 83-82‬‬
‫إذن لو أراد اهلل أن نكون طائعُت‬
‫‪ٚ‬تيعا ً‪ ،‬أيستطيع واحد أن يعصي؟‬
‫ال يستطيع ‪ .‬ولو أرادنا مؤمنُت‬
‫‪ٚ‬تيعا ً‪ ،‬أيستطيع واحد أن يكفر؟‬
‫ال يستطيع ‪ .‬إ‪٪‬تا شاء اهلل تعاىل‬
‫لبعض األمور واألفعال أن يًتكها‬
‫الختيارك؛ ألنه يريد أن يعرف‬
‫من الذي يأتيه طوعا ًوليظل العبد‬
‫بُت ا‪٠‬توف والرجاء؛ ولذلك يقول‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم ‪ « :‬لو‬
‫يعلم ا‪١‬تؤمن ما عند اهلل من العقوبة‬
‫ما طمع ّتنته أحد ‪ ،‬ولو يعلم الكافر‬
‫ما عند اهلل من الر‪ٛ‬تة ما قنط من‬
‫جنته أحد » ‪.‬‬
‫و‪٢‬تذا فإن مطلوب االرتفاع‬
‫اإلٯتاين ‪ ،‬واالرتفاع اليقيٍت أن‬
‫ٖتب اهلل لذات اهلل ‪ .‬وهو سبحانه‬
‫‪٬‬تري عليك من األحداث ما يشاء ‪،‬‬
‫وتظل ٖتبه فيباهي اهلل بك‬
‫ا‪١‬تبلئكة فتقول ا‪١‬تبلئكة ‪ :‬يا رب‬
‫٭تبك لنعمتك عليه فيقول ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫وأسلب نعميت وال يزال ٭تبٍت ‪،‬‬
‫ويسلب ا‪ٟ‬تق النعمة لكن العبد ال‬
‫يزال ٭تب اهلل ‪ ،‬ه‬
‫فو ٭تب اهلل وال‬
‫٭تب نعمته ألنه سبحانه ذات ٖتب‬
‫لذاهتا بصرف النظر عن أنه يعطينا‬
‫النعم ‪.‬‬
‫إذن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قد أرسل‬
‫الرسل ٭تملون منهج اهلل ‪١‬ت َ ْن يريد‬
‫أن يعلن حبه هلل ‪ ،‬وأن يكون خليفة‬
‫يف األرض ْتق ‪ ،‬وأن يُصلح يف‬
‫الكون وال يفسده ‪ .‬ونعرف أن‬
‫اإلصبلح له مرتبتان ‪ :‬أن تًتك‬
‫الصاٌف بطبيعته فبل تفسده ‪ ،‬أو أن‬
‫تزيد الصاٌف صبلحا ً‪ .‬فبل تأيت عىل‬
‫عُت ا‪١‬تاء اليت تتدفق للناس وتردمها‬
‫‪ ،‬ولكنك تًتكها عىل صبلحها إن‬
‫لم تستطع أن تزيدها إصبلحا ً‪.‬‬

‫وقد تستطيع أن تزيد عُت ا‪١‬تاء‬


‫صبلحا ً؛ فبدال ًمن أن يذهب الناس‬
‫متعبُت إىل العُت و٭تملون منها ا‪١‬تاء‬
‫‪ ،‬قد تصنع ‪٢‬تم مضخة عالية ‪٢‬تا‬
‫خزان ترفع إليه ا‪١‬تاء و٘تد «‬
‫ا‪١‬تواسَت » وتوصل ا‪١‬تياه إىل‬
‫مناز‪٢‬تم ‪ .‬فأنت بذلك تزيد األمر‬
‫الصاٌف صبلحا ً‪ ،‬وهذه خبلفة‬
‫وعمارة يف الوجود ‪ .‬فإن لم تستطع‬
‫أن تزيد الصاٌف صبلحا ًفجنبنا شر‬
‫إفسادك ‪ ،‬ودع ا‪ٟ‬تال كما هي عليه‬
‫‪ ،‬واقعد كما أنت عالة يف الكون ‪.‬‬
‫ولو أن اإلنسان كان منصفا ًيف‬
‫الكون لسأل نفسه ‪َ :‬م ْن الذي‬
‫اهتدى إىل صناعة الرغيف الذي‬
‫نأكله اْلن؟ وسيعرف أنه قد أخذ‬
‫ٕتارب الناس من أول آدم حىت‬
‫وصل إىل صناعة هذا الرغيف ‪،‬‬
‫فهناك إنسان زرع القمح ‪ ،‬وهناك‬
‫إنسان آخر هداه اهلل أن يطحن‬
‫هذا القمح ‪ ،‬وهو سبحانه هدى‬
‫اإلنسان أن يصنع منخبل ًليفصل‬
‫الدقيق عن النخالة ‪ ،‬ثم هداه أن‬
‫يعجن الدقيق حىت ‪٬‬تد له طعما ً‬
‫أفضل ‪ .‬والشك أنه ترك مرة‬
‫قطعة من العجُت ثم ُشغل عنها‬
‫بأي شا ل أو بأي سبب ثم رجع ‪٢‬تا‬
‫مرة أخرى فوجدها متخمرة ‪ ،‬فلما‬
‫خبزها خرج له العيش أفضل‬
‫طعما ً‪ ،‬إنه سبحانه قدر فهدى ‪،‬‬
‫وإال كيف تأيت هذه التجربة‬
‫الطويلة؟‬
‫ومثال آخر ‪ :‬إن اإلنسان حُت‬
‫ينظف ثوبه ‪ ،‬لو أنه استعرض‬
‫أعمال من سبقوه يف هذا ا‪١‬توضوع‬
‫منذ آدم ‪ ،‬لعلم أن كل واحد سبقه‬
‫يف الوجود أعطاه مرحلة من النفعية‬
‫إىل أن وصل للغسالة الكهربائية‬
‫اليت تغسل له بدون تعب ‪ ،‬كل هذه‬
‫األشياء جاءت له بهدايات من اهلل‬
‫‪ .‬وقد قلت مرة ‪١ :‬تاذا طبخت‬
‫الناس « الكوسة » ولم تطبخ «‬
‫ا‪٠‬تيار »؟ إن هذه دليل عىل أن‬
‫هناك ٕتارب كثَتة مرت عىل‬
‫اإلنسان حىت ٯتيز طعم الكوسة‬
‫ا‪١‬تطبوخة عن ا‪٠‬تيار ‪ ،‬وكذلك طبخ‬
‫الناس ا‪١‬تلوخية ولم يطبخوا‬
‫النعناع ‪ ،‬مع أن النعناع أحسن منها‬
‫‪ ،‬حدث ذلك؛ ألن هناك ٕتارب‬
‫وصلتنا بأن النعناع ال يُستساغ‬
‫طعمه مطبوخا ‪.‬‬
‫وأنت لو نظرت إىل أي شيء‬
‫تستفيد به اليوم ‪ ،‬وقدرت‬
‫األعمال اليت تداولته من يوم أن‬
‫ُوجد ‪ ،‬ستجد أن ا‪ٟ‬تق قد قدر لكل‬
‫إنسان عمبل ًو‪٣‬تاال ً‪ ،‬وظل ٮتدمك‬
‫دمت بهؤال ء‬
‫أنت ‪ .‬ومادمت قد ُخ َ‬
‫الناس كلهم من أول آدم وحىت‬
‫اليوم ‪ ،‬فبل بد أن تنظر لًتى ماذا‬
‫ستقدم ‪١‬تن يأيت من بعدك ‪ ،‬فبل‬
‫تكن كسوال ًيف ا‪ٟ‬تياة؛ تأخذ خَت‬
‫َتك كله يف الوجود ‪ ،‬وبعد ذلك ال‬
‫تعطي أي شيء ‪ ،‬بل البد أن يكون‬
‫لك عطاء ‪ ،‬فكما أخذت من‬
‫بيئتك البد أن تعطي هذه البيئة ‪،‬‬
‫ولو لم يوجد هذا ‪١‬تا ارتقت ا‪ٟ‬تياة؛‬
‫ألن معٌت ارتقاء ا‪ٟ‬تياة أن إنسانا ً‬
‫أخذ خْبة من سبقوه ‪ ،‬وحاول أن‬
‫يزيد عليها ‪ ،‬أي أن يأخذ أكْب ‪ٙ‬ترة‬
‫بأقل ‪٣‬تهود ‪.‬‬
‫فلو قدر الناس جهد اإلنسان الذي‬
‫ابتكر « العجلة » مثبل اليت تسَت‬
‫عليها السيارة لكان عليهم أن‬
‫يستغفروا اهلل له ٔتقدار ما‬
‫أراحهم ‪ ،‬فبعد أن كان اإلنسان‬
‫٭تمل عىل أكتافه قصارى ما ٭تمل‬
‫‪َ ،‬وفَّر عليه َمن اخًتاع هذا أن‬
‫٭تمل ويتعب ‪ ،‬وجعله ٭تمل أكْب‬
‫كمية وينقلها بأقل ‪٣‬تهود ‪.‬‬
‫إذن البد أن تنظر إىل النعم اليت‬
‫تستفيد بها اْلن وترى كم مرحلة‬
‫مرت بها ‪ ،‬وهل صنعها الناس‬
‫هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا‬
‫م ذنبدء الوجود عىل األرض ‪،‬‬
‫وعرف اإلنسان جيبل بعد جيل‬
‫كيفية تطوير تلك األشياء ‪ ،‬وقد‬
‫٭تدث خطأ يف مرحلة معينة فيبدأ‬
‫اإلصبلح أو التحسُت وهكذا‪.‬‬
‫فأنت عندما ٕتد أن العالم قدم لك‬
‫كل هذه ا‪١‬تنتجات ‪ ،‬البد أن تسأل‬
‫نفسك ‪ :‬ما الذي ستقدمه أنت‬
‫‪٢‬تذا العالم ‪ ،‬وبذلك تظل ا‪ٟ‬تلقة‬
‫اإلنسانية مرتقية ومتصلة ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه يرسل الرسل ويضع‬
‫ا‪١‬تنهج ‪ « :‬افعل كذا » و « ال تفعل‬
‫كذا » ‪ ،‬حىت تستقيم حياة الناس‬
‫عىل األرض ‪ ،‬لكن الناس لبت‬
‫عليهم الغفلة عن أمر ا‪١‬تنهج؛‬
‫ولذلك تظهر يف الوجود فسادات‬
‫بقدر الغفلة ‪ ،‬وعندما يزداد الفساد‬
‫يبعث ا‪ٟ‬تق سبحانه رسوال جديدا‬
‫يذكرهم با‪١‬تنهج مرة أخرى ‪،‬‬
‫وعندما يأيت الرسول يؤمن به بعض‬
‫من الناس و٭تاربون معه ‪ ،‬وينتصر‬
‫الرسول وتستقر مبادئ اهلل يف‬
‫األرض ‪ ،‬ثم ٘تر فًتة وتأيت الغفلة‬
‫فيحدث ا‪٠‬تبلف ‪ ،‬فهناك أناس‬
‫يتمسكون ٔتنهج اهلل ‪ ،‬وأناس‬
‫يفرطون يف هذا ا‪١‬تنهج ‪ ،‬و٭تدث‬
‫ا‪٠‬تبلف وتقوم ا‪١‬تعارك ‪.‬‬
‫ولو كان ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد‬
‫الكون ببل معارك بُت حق وباطل‬
‫‪ٞ‬تعل ا‪ٟ‬تق مسيطرا ًسيطرة تسخَت‬
‫‪ .‬لكن اهلل تعاىل أعطانا ٘تكينا ً‪،‬‬
‫وأعطانا اختباراً؛ لذلك ‪٧‬تد من‬
‫ينشأ مؤمنا ً‪ ،‬ومن ينشأ كافرا ً‪٧ ،‬تد‬
‫الطائع ‪ ،‬و‪٧‬تد العاصي ‪ ،‬هذا فريق ‪،‬‬
‫وهذا فريق ‪ .‬وإياك أن تفهم أن‬
‫وجود الكافرين يف األرض ‪ ،‬أو وجود‬
‫العصاة يف الكون دليل عىل أهنم َت‬
‫داخلُت يف حوزة اهلل ‪ ،‬ال ‪ .‬بل إن اهلل‬
‫تعاىل هو الذي أعطاهم هذا‬
‫االختيار ‪ ،‬ولو شاء اهلل أن ‪٬‬تعل‬
‫الناس أمة واحدة ‪١‬تا استطاع‬
‫إنسان أن ٮترج عىل مراد اهلل ‪.‬‬
‫ويف اْلية اليت ‪٨‬تن بصددها جاء ا‪ٟ‬تق‬
‫بأويل العزم من الرسل ‪ :‬سيدنا‬
‫موىس عليه السبلم ‪ ،‬ورسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وسيدنا‬
‫عيَس عليه السبلم وبعد ذلك يقول‬
‫سبحانه ‪:‬‬
‫{ َول َ ْو َشآءَ اهلل َما اقتتل الذين ِمن‬
‫بَعْ ِد ِهم ِّمن بَعْ ِد َما َجآءَهتْ ُ ُم البينات‬
‫ولكن اختلفوا فَ ِمن ْ ُه ْم َّم ْن آ َم َن‬
‫َو ِمن ْ ُه ْم َّمن َك َف َر َول َ ْو َشآءَ اهلل َما‬
‫اقتتلوا ولكن اهلل ي َ ْفعَ ُل َما يُ ِر ُ‬
‫يد } ػ‬
‫البقرة ‪] 253 :‬‬
‫إذن ما الذي جعل الناس تقتتل‬
‫فيما بينها؟ إنه االختبلف بُت‬
‫الناس ‪ ،‬لقد اختلفوا فاقتتلوا ‪ .‬لكن‬
‫أال ٯتكن أن يكونوا قد اختلفوا‬
‫ولم يقتتلوا؟ إن ذلك لو حدث لكان‬
‫إ‪ٚ‬تاعا ًعىل الفساد ‪ .‬وا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫ال يريد أن ٭تدث اإل‪ٚ‬تاع عىل‬
‫الفساد ‪ ،‬فإن لم يسيطر ا‪٠‬تَت عىل‬
‫أمور البشر فبل أقل من أن يظل‬
‫عنصر ا‪٠‬تَت موجودا ً‪ ،‬ويأيت واحد‬
‫ليجد عنصر ا‪٠‬تَت وينميه ‪.‬‬

‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه ال ٯتحو يف أزمنة‬


‫الباطل معالم ا‪٠‬تَت واألفعال‬
‫ا‪ٟ‬تسنة ‪ ،‬بل يستبقي سبحانه‬
‫معالم ا‪٠‬تَت واألفعال ا‪ٟ‬تسنة‬
‫ليذهب إليها أي إنسان يريد ا‪٠‬تَت‬
‫‪ ،‬وقد يكون ا‪٠‬تَت ضعيفا ً‪ ،‬ولكن‬
‫اهلل ال ٯتحوه؛ ألنه يعطي به دفعة‬
‫جديدة ‪١‬تؤمنُت جدد يرفعون راية‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬وإن بدأوا ضعفاء ‪ .‬ولذلك‬
‫‪٧‬تد الرسول الكريم صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يقول ‪ « :‬لوال عباد اهلل ركع‬
‫وصبية ُر ّضع وبهائم رتع لصب‬
‫عليكم العذاب صبا » ‪.‬‬
‫إن الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬
‫ينبهنا أال ننظر إىل الضعفاء عىل أهنم‬
‫عالة وأننا أقوياء ‪١‬تجرد أهنم‬
‫يعيشون يف أكنافنا ‪ .‬بل قد يكونون‬
‫سياج لطف ور‪ٛ‬تة كما يف ا‪ٟ‬تديث‬
‫السابق ‪.‬‬
‫إن اهلل سبحانه وتعاىل رفع عنا‬
‫العذاب من أجل وجود الضعفاء‬
‫بيننا ‪ ،‬ألن يف الضعاف يوجد شيء‬
‫من ا‪٠‬تَت ‪ ،‬ولتظل يف الوجود خلية‬
‫من ا‪٠‬تَت حىت إذا ما أراد الوجود أن‬
‫يفيق إىل الرشد فإنه سيجد من‬
‫ا‪٠‬تَت ما يرشده ‪ .‬إذن لوال االقتتال‬
‫لعم الفساد ‪ ،‬وانتهت ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫لكن الناس اختلفت فمنهم من‬
‫آمن ‪ ،‬ومنهم من كفر ‪َ { ،‬ول َ ْو َشآءَ‬
‫اهلل َما اقتتلوا } أي لظلوا عىل منهج‬
‫واحد من الكفر أو من الفساد ‪،‬‬
‫لكن اهلل يفعل ما يريد ‪ .‬ويف‬
‫االقتتال كما نعرف هناك‬
‫تضحيات بالنفس ‪ ،‬وتضحيات من‬
‫أجل أن تظل القيم السماوية عىل‬
‫األرض ‪.‬‬
‫وتقتضي التضحية إما أن ‪٬‬تود‬
‫اإلنسان بنفسه وإما أن ‪٬‬تود ٔتاله ‪،‬‬
‫ولذلك فمن ا‪١‬تناسب هنا أن نتكلم‬
‫عن النفقة وهي ا‪ٞ‬تود با‪١‬تال ‪،‬‬
‫وخاصة أنه يف الزمن القديم كان‬
‫ا‪١‬تقاتل هو الذي ‪٬‬تهز عدة قتاله ‪:‬‬
‫فرسه ‪ ،‬ر‪٤‬ته ‪ ،‬سيفه ‪ ،‬سهامه ‪،‬‬
‫لذلك فهو ٭تتاج إىل إنفاق ‪ ،‬ويتكلم‬
‫ا‪ٟ‬تق عن هذه ا‪١‬تسألة ألن األمر‬
‫بصدد استبقاء خلية اإلٯتان‬
‫ا‪١‬تصورة يف ا‪١‬تنهج السماوي الذي‬
‫جاء به الرسل؛ ليظل هذا ا‪١‬تنهج‬
‫يف األرض حىت يفيء إليه الناس إن‬
‫صدمهم الشر أو صدمهم الباطل‬
‫فيقول ‪ { :‬ياأيها الذين آمنوا‬
‫أَن ْ ِف ُقوا ْ ِ‪٦‬تَّا َرزَقْنَا ُكم ‪} . . .‬‬
‫يَا أَيُّهَا ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا أَن ْ ِف ُقوا ِ‪٦‬تَّا‬
‫َرزَقْنَا ُك ْم ِم ْن قَب ْ ِل أ َ ْن يَأ ْ ِيت َي َ ْو ٌم َال بَي ْ ٌع‬
‫ِ‬
‫اع ٌة َوالْكَاف ُر َ‬
‫ون‬ ‫فِي ِه َو َال ُخل َّ ٌة َو َال َش َف َ‬
‫الظا ِ‬
‫ون (‪)254‬‬ ‫ُه ُم َّ ُ َ‬
‫‪١‬ت‬

‫و‪٨‬تن نعرف أن كل نداء من ا‪ٟ‬تق‬


‫يبدأ بقوله تعاىل ‪ { :‬ياأيها الذين‬
‫آمنوا } إ‪٪‬تا يدل عىل أن ما يأيت من‬
‫بعد هذا القول هو تكليف ‪١‬تن آمن‬
‫باهلل ‪ ،‬وليس تكليفا ًللناس عىل‬
‫إطبلقهم؛ ألن اهلل ال يكلف من كفر‬
‫به ‪ ،‬إ‪٪‬تا يكلف اهلل من آمن به ‪ ،‬ومن‬
‫اجتاز ذلك وأصبح يف اليقُت‬
‫اإلٯتاين فهو أهل ‪١‬تخاطبة اهلل له ‪،‬‬
‫فكأنه ‪٬‬تد يف القول الرباين نداء‬
‫يقول له ‪ :‬يا من آمن يب إ‪٢‬تا حكيما‬
‫قادرا مشرعا ًلك ‪ ،‬أنا أريد منك أن‬
‫تفعل هذا األمر ‪.‬‬
‫إذن اإلٯتان هو حيثية كل حكم ‪،‬‬
‫فأنت تفعل ذلك ‪١‬تاذا؟ ال تقل ‪:‬‬
‫ألن حكمته كذا وكذا ‪ .‬ال ‪ .‬ولكن‬
‫قل ‪ :‬ألن اهلل الذي آمنت به أمرين‬
‫بهذه األفعال ‪ ،‬سواء فهمت‬
‫ا‪ٟ‬تكمة منها أو لم تفهمها ‪ ،‬بل‬
‫رٔتا كان إقبالك عىل أمر أمرك اهلل‬
‫به وأنت ال تفهم له حكمة أشد يف‬
‫اإلٯتان من تنفيذك ألمر تعرف‬
‫حكمته ‪.‬‬
‫ولو أن إنسانا ًقال له الطبيب ‪ :‬إن‬
‫ا‪٠‬تمر اليت تشربها تفسد كبدك‬
‫وتعمل فيك كذا وكذا ‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫امتنع عن ا‪٠‬تمر ‪ ،‬صحيح أن‬
‫امتناعه عن ا‪٠‬تمر صادف طاعة‬
‫هلل ‪ ،‬لكن هل هو امتنع ألن اهلل‬
‫قال؟ ال ‪ ،‬لم ٯتتنع ألن اهلل قال ‪،‬‬
‫ولكنه امتنع ألن الطبيب قال ‪،‬‬
‫فإٯتانه بالطبيب أكثر من إٯتانه‬
‫برب الطبيب ‪ .‬أما ا‪١‬تؤمن فيقول ‪:‬‬
‫أنا ال أشرب ا‪٠‬تمر؛ ألن اهلل قد‬
‫حرمها ‪ ،‬و‪١‬تاذا انتظر حىت يقول يل‬
‫الطبيب ‪ :‬إن كبدك سيضيع‬
‫بسبب ا‪٠‬تمر ‪ ،‬فالر‪ٛ‬تةهي أال ‪٬‬تيء‬
‫الداء ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬ياأيها الذين‬
‫آمنوا أَن ْ ِف ُقوا ْ ِ‪٦‬تَّا َرزَقْنَا ُكم } أي أنا‬
‫ال أطلب منكم أن تنفقوا علي ‪،‬‬
‫ولكن أنفقوا من رزيق عليكم؛ ألن‬
‫الرزق يأيت من حركة اإلنسان ‪،‬‬
‫وحركة اإلنسان ٖتتاج طاقة‬
‫تتحرك يف شيء أو مادة ‪ ،‬وهذه‬
‫ا‪ٟ‬تركة تأيت عىل ترتيب فكر ‪ ،‬وهذا‬
‫الفكر رتبه من خلقه ‪ ،‬وا‪ٞ‬توارح‬
‫اليت تنفعل ‪ ،‬واليد اليت تتحرك ‪،‬‬
‫وال ّ ِرجل اليت ٘تشي خلقها اهلل ‪،‬‬
‫وا‪١‬تادة اليت تفعل بها ‪٥‬تلوقة هلل ‪.‬‬
‫وسنأخذ الزارع ‪٪‬توذجا ‪٧ ،‬تد أن‬
‫األرض اليت فيها العناصر ‪٥‬تلوقة‬
‫هلل ‪ ،‬إذن فاإلنسان يعمل بالعقل‬
‫الذي خلقه اهلل ‪ ،‬وٮتطط با‪ٞ‬توارح‬
‫اليت خلقها اهلل لتأيت له بالطاقة اليت‬
‫يعمل بها يف ا‪١‬تادة اليت خلقها اهلل‬
‫لتعطي لئلنسان خَتها ‪ . .‬فأي‬
‫شيء لئلنسان إذن؟‬
‫ومع ذلك إن حصل لئلنسان خَت‬
‫من هذا كله فهو سبحانه ال يقول ‪:‬‬
‫« إنه يل » بل أمنحه لك أيها‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ولكن أعطٍت حقي فيه ‪،‬‬
‫وحقي لن آخذه يل ولكن هو ألخيك‬
‫ا‪١‬تسكُت ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬مآ أُ ِر ُ‬
‫يد‬
‫يد أَن‬ ‫ِ‬
‫ِمن ْ ُهم ّمن ِّرزْقٍ َو َمآ أُ ِر ُ‬
‫ون } ػ الذاريات ‪] 57 :‬‬ ‫يُ ْطعِ ُم ِ‬
‫وإياك أن تقول ‪ :‬ما دخلي أنا‬
‫أن‬
‫با‪١‬تسكُت؟ عليك أن تعلم ّ‬
‫ا‪١‬تسكنة َع َرض ‪ ،‬والعرض من‬
‫ا‪١‬تمكن أن يلحق بك أنت ‪.‬‬
‫فبل ُتق ِ ّدر أنك مع ٍط دائما ‪ ،‬ولكن‬
‫قدر أنك رٔتا حدث لك ما ‪٬‬تعلك‬
‫أن تعطي ‪ .‬ا‪ٟ‬تق يقول لك ‪:‬‬ ‫تأخذ ال َ ْ‬
‫أعط ا‪١‬تسكُت وأنت ٍت؛ ألنه‬
‫سبحانه سيقول للناس ‪ :‬أن يعطوك‬
‫وأنت فقَت ‪ ،‬فق ِ ّدر حكم اهلل ساعة‬
‫يُطلب منك ‪ ،‬ليحميك ساعة أن‬
‫يُطلب لك ‪ ،‬وبذلك تتوازن‬
‫ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق ‪،‬‬
‫فهو يريد منكم أيها العباد أن‬
‫تتعاونوا وأن ٭تب بعضكم بعضا ‪،‬‬
‫حىت ُ٘تىح الضغائن من قلوبكم؛‬
‫ألن اإلنسان الضعيف ضعفا طبيعيا ً‬
‫وليس ضعف التسول أو الكسل أو‬
‫االحًتاف ‪ ،‬بل ضعف عدم القدرة‬
‫عىل العمل هو مسئولية ا‪١‬تؤمنُت ‪،‬‬
‫فسبحانه وتعاىل ‪٬‬تعل القوي‬
‫مسئوال أن يساعدك وأنت ضعيف‬
‫‪.‬‬
‫وأنت حُت ترى وأنت ضعيف ال‬
‫تقدر األقوياء الذين قدروا لم‬
‫ينسوك ‪ ،‬وذكروك ٔتا عندهم ‪،‬‬
‫عندئذ تعلم أنك يف بيئة متساندة‬
‫ٖتب لك ا‪٠‬تَت ‪ ،‬فإن رأيت نعمة‬
‫تنالك إن عجزت فأنت ال ٖتسدها‬
‫أبدا ً‪ ،‬وال ٖتقد عىل معطيها ‪ ،‬بل‬
‫تتمٌت من حبلوة وقعها يف نفسك‬
‫ألهنا جاءتك عن حاجة تتمٌت لو أن‬
‫اهلل قدرك لًتدها ‪ ،‬فيكون‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪٣‬تتمعا ًمتكافبل ًمتضامنا ً‪.‬‬
‫فحُت يقول اهلل تعاىل ‪ { :‬أَن ْ ِف ُقوا ْ ِ‪٦‬تَّا‬
‫َرزَقْنَا ُكم } فأنتم ال تتْبعون‬
‫لذات اهلل بل تنفقون ‪٦‬تا رزقكم ‪،‬‬
‫ومن فضل اهلل عليكم أنه احًتم‬
‫أثر عملكم ونسبه لكم حىت وإن‬
‫احتاج أخوك ‪ ،‬فهو سبحانه يقول ‪:‬‬
‫{ َّمن ذَا الذي يُقْ ِر ُض اهلل قَ ْرضا ً‬
‫َح َسنا ًفَي ُ َضا ِع َف ُه ل َ ُه أ َ ْضعَافا ًكَثَِتَة ً‬
‫ِ‬ ‫واهلل يَقْبِ‬
‫ض َويَب ْ ُس ُط َوإِلَيْه ُت ْر َج ُع َ‬
‫ون‬ ‫ُ‬
‫} ػ البقرة ‪] 245 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه قد اعتْب النفقة يف‬
‫سبيل اهلل هي قرض من العبد‬
‫للرب ا‪٠‬تالق الوهاب لكل رزق ‪.‬‬
‫وحىت نفهم معٌت النفقة أقول ‪ :‬قد‬
‫قلنا من قبل ‪ :‬إن الكلمة مأخوذة من‬
‫مادة « النون والفاء والقاف » ‪،‬‬
‫ويقال ‪ :‬نفقت السوق أي انتهت‬
‫بسرعة وتم تبادل البضائع فيها‬
‫باأل‪ٙ‬تان ا‪١‬تقررة ‪٢‬تا ‪ ،‬و‪٨‬تن نعرف‬
‫أن التجارة تعٍت مقايضة بُت سلع‬
‫وأ‪ٙ‬تان ‪ .‬والسلعة هي ما يستفاد بها‬
‫مباشرة ‪ .‬والثمن ما ال يستفاد به‬
‫مباشرة ‪.‬‬
‫فعندما تكون جائعا أيغنيك أن‬
‫يكون عندك جبل من ذهب؟ إن‬
‫هذا ا‪ٞ‬تبل من الذهب أنت ال‬
‫تستفيد منه مباشرة ‪ ،‬أما فائدتك‬
‫من رغيف ا‪٠‬تبز فهي استفادة‬
‫مباشرة ‪ ،‬وكذلك كوب ا‪١‬تاء‬
‫ا‪١‬تمتلئ ‪ ،‬تستفيد منه مباشرة ‪،‬‬
‫وا‪١‬تبلبس اليت ترتديها أنت‬
‫تستفيد منها مباشرة ‪ .‬إذن فالذي‬
‫يستفاد منه مباشرة ا‪ٝ‬ته سلعة ‪،‬‬
‫والذي ال يستفاد منه مباشرة‬
‫نسميه ‪ٙ‬تنا ً‪ .‬ولذلك يقول لنا ا‪ٟ‬تق‬
‫إنذارا ًوٖتذيرا ًمن االعتزاز با‪١‬تال‬
‫‪:‬‬
‫{ ياأيها الذين آمنوا أَن ْ ِف ُقوا ْ ِ‪٦‬تَّا‬
‫َرزَقْنَا ُكم ِّمن قَب ْ ِل أَن يَأ ْ ِيت َي َ ْو ٌم ال َّ بَي ْ ٌع‬
‫فِي ِه َوال َ ُخل َّ ٌة َوال َ َش َف َ‬
‫اع ٌة والكافرون‬
‫ُه ُم الظا‪١‬تون } ػ البقرة ‪] 254 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه ينبهنا أن ننفق من‬
‫رزقه لنا من قبل أن يأيت اليوم‬
‫اْلخر الذي ال بيع فيه؛ أي ال ‪٣‬تال‬
‫فيه الستبدال أ‪ٙ‬تان بسلع أو‬
‫العكس ‪ ،‬وأيضا ال يكون يف هذا‬
‫اليوم « ُخلة » ‪ ،‬ومعٌت « خلة هي‬
‫الود ا‪٠‬تالص ‪ ،‬وهي العبلقة اليت‬
‫تقوم بُت اثنُت فيصَت كل منهما‬
‫موصبل ًباْلخر با‪١‬تحبة؛ ألن كُبل ًّ‬
‫منكما منفصل عن اْلخر وإن‬
‫ربطت بينكم العاطفة ويف اْلخرة‬
‫سيكون كل إنسان مشغوال بأمر‬
‫نفسه ‪.‬‬

‫إن اليوم اْلخر ليس فيه بيع وال‬


‫شراء وال فيه خلة وال شفاعة ‪ ،‬وهذه‬
‫هي ا‪١‬تنافذ اليت ٯتكن لئلنسان أن‬
‫يستند عليها ‪ .‬فأنت ال ٘تلك ‪ٙ‬تنا‬
‫تشًتي به ‪ ،‬وال ٯتلك َتك سلعة‬
‫يف اْلخرة ‪ ،‬إذن فهذا الباب قد سد ‪.‬‬
‫وكذلك ال يوجد خلة أو شفاعة ‪،‬‬
‫والشفاعة هذه مأذون فيها ‪ .‬إن‬
‫كانت ‪٦‬تن أذن له اهلل أن يشفع فهي‬
‫شفع » مأخوذة‬‫يف يد اهلل ‪ ،‬ومعٌت « ي‬
‫من الشفع والوتر ‪ .‬الوتر واحد‬
‫والشفع اثنان ‪ ،‬فكأن الشفيع يضم‬
‫صوته لصويت لنقضي هذه ا‪ٟ‬تاجة‬
‫عند فبلن ‪ .‬فيتشفع اإلنسان‬
‫بإنسان له جاه عند ا‪١‬تشفوع عنده‬
‫حىت ينفذ له ما يطلب ‪ .‬ولكن هذه‬
‫الوسائل يف اْلخرة َت موجودة ‪.‬‬
‫فبل بيع وال خلة وال شفاعة؛ فأنتم‬
‫إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم ‪،‬‬
‫فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأيت‬
‫يوم ال بيع فيه وال خلة وال شفاعة ‪.‬‬
‫وهذه هي أبواب النجاة ا‪١‬تظنونة‬
‫عند البشر اليت ُتغلق يف هذا اليوم‬
‫العظيم ‪ .‬وكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫يقول ‪ :‬أنا لم أفوت فرصة عىل‬
‫خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا‬
‫أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا‬
‫ا‪١‬توقف ‪ ،‬فأنا لم أظلمهم ‪ .‬لذلك‬
‫يذيل ا‪ٟ‬تق اْلية بقوله ‪{ :‬‬
‫والكافرون ُه ُم الظا‪١‬تون } ‪.‬‬
‫وبعد أن تكلم اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫عن الرسل ‪ ،‬وعن االختبلف ‪،‬‬
‫وعن القتال لتثبيت منهج ا‪ٟ‬تق ‪،‬‬
‫وعن اإلنفاق ‪ ،‬يوضح لنا التصور‬
‫اإلٯتاين الصحيح الذي يف ضوئه‬
‫جاءت كل هذه ا‪١‬تسائل ‪ .‬فقد جاء‬
‫موكب الرساالت كلها من أجل‬
‫هذا ا‪١‬تنهج فقال سبحانه ‪ { :‬اهلل ال َ‬
‫إله إِال َّ ُه َو ا‪ٟ‬تي القيوم ‪} . . .‬‬
‫وم َال‬ ‫اّلل َال إِل َ َه إ َِّال ُه َو ا ْ‪ٟ‬ت َ ُّي الْقَي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ ُ‬
‫تَأ ْ ُخ ُذ ُه ِسن َ ٌة َو َال ن َ ْو ٌم ل َ ُه َما ِيف‬
‫ات َو َما ِيف ْاأل َ ْر ِض َم ْن ذَا‬ ‫السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬
‫ال َّ ِذي ي َ ْش َف ُع ِعن ْ َد ُه إ َِّال بِإِذْنِ ِه يَعْل َ ُم َما‬
‫ُت أَي ْ ِدي ِه ْم َو َما َخل ْ َف ُه ْم َو َال‬ ‫بَ ْ َ‬
‫اء‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫ٔت‬ ‫ُ٭ت ِ ُيطون بِ َشيءٍ ِمن عِل ْ ِم ِه إ َِّال ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات َو ْاأل َ ْر َض‬ ‫َوس َع ُك ْرسي ُّ ُه َّ َ َ‬
‫ود ُه ِح ْف ُظ ُه َما َو ُه َو الْعَلِ ُّي‬
‫َو َال ي َ ُئ ُ‬
‫يم (‪)255‬‬ ‫ِ‬
‫الْعَظ ُ‬
‫ونقف بالتأمل اْلن عند قوله ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ اهلل ال َإله إِال َّ ُه َو } ‪ .‬إن كلمة {‬
‫اهلل } هي عَل َ ٌم عىل واجب الوجود ‪.‬‬
‫وعندما نقول ‪ « :‬اهلل » فإن الذهن‬
‫ينصرف إىل الذات الواجبة الوجود‬
‫‪.‬‬
‫ما معٌت « واجبة الوجود »؟ إن‬
‫الوجود قسمان ‪ :‬قسم واجب ‪،‬‬
‫وقسم ‪٦‬تكن ‪ .‬والقسم الواجب هو‬
‫الضروري الذي ‪٬‬تب أن يكون‬
‫موجودا ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حُت‬
‫أعلمنا با‪ٝ‬ته { اهلل } أعطانا‬
‫فكرة عىل أن كلمة { اهلل } هذه‬
‫يتحدى بها سبحانه أن يُس ىم بها‬
‫سواه ‪ .‬ولو كنا ‪ٚ‬تيعا ًمؤمنُت لكان‬
‫احًتامنا ‪٢‬تذا التحدي نابعا من‬
‫اإلٯتان ‪ .‬ولك ْن هنا كافرون باهلل‬
‫ومتمردون وملحدون يقولون ‪« :‬‬
‫اهلل خرافة » ‪ ،‬ومع ذلك هل ‪٬‬ترؤ‬
‫واحد من هؤالء أن يسمي نفسه {‬
‫اهلل } ؟‬
‫لم يفعل أحد هذا؛ ألن اهلل ٖتدى‬
‫بذلك ‪ ،‬فلم ‪٬‬ترؤ واحد أن يدخل‬
‫يف هذه التجربة ‪ .‬وعدم جرأة‬
‫الكفار وا‪١‬تبلحدة يف أن يدخلوا يف‬
‫هذه التجربة دليل عىل أن كفرهم‬
‫َت وطيد يف نفوسهم ‪ ،‬فلو كان‬
‫كفرهم صحيحا ًلقالوا ‪ :‬سنسمي‬
‫ونرى ما ٭تدث ‪ ،‬ولكن هذا لم‬
‫٭تدث ‪.‬‬
‫إذن { اهلل } علم واجب الوجود‬
‫ا‪١‬تتصف بكل صفات الكمال ‪.‬‬
‫وبعد ذلك جاء بالقضية األساسية‬
‫وهي قوله تعاىل ‪ { :‬ال َإله إِال َّ ُه َو }‬
‫وهنا ‪٧‬تد النفي و‪٧‬تد اإلثبات ‪ ،‬النفي‬
‫يف { ال َإله } ‪ ،‬واإلثبات يف { إِال َّ ُه َو‬
‫} ‪ .‬والنفي ٗتلية واإلثبات ٖتلية ‪.‬‬
‫خىل سبحانه نفسه من وجود‬
‫الشريك له ثم أثبت لنا وحدانيته‬
‫‪ .‬و « ال إله إال اهلل » أي ال معبود ْتق‬
‫إال اهلل ‪ .‬ونعرف أن بعضنا من‬
‫البشر يف فًتات الغفلة قد عبدوا‬
‫أصناما ًوعبدوا الكواكب ‪ .‬ولكن‬
‫هل كانت آ‪٢‬تة ْتق أم بباطل؟ لقد‬
‫كانت آ‪٢‬تة بباطل ‪ .‬ودليل صدق‬
‫هذه القضية اليت هي « ال إله إال اهلل‬
‫» ‪ ،‬أي ال معبود إال اهلل أن أحدا من‬
‫تلك اْل‪٢‬تة لم يعًتض عىل صدق‬
‫هذه القضية ‪ .‬إذن فهذا الكبلم هو‬
‫حق وصدق ‪.‬‬
‫وإن ادىع أحد َت ذلك ‪ ،‬نقول له ‪:‬‬
‫إن اهلل قد أخْبنا أنه ال معبود ْتق‬
‫َته؛ ألنه هو الذي خلق وهو الذي‬
‫رزق ‪ ،‬وقال ‪ :‬أنا الذي خلقت ‪ .‬إن‬
‫كان هذا الكبلم صحيحا ًفهو صادق‬
‫فيه ‪ ،‬فبل نعبد إال هو ‪ .‬وإن كان هذا‬
‫الكبلم َت صحيح ‪ ،‬وأن أحدا ً َته‬
‫هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا‬
‫األحد الذي خلق ‪ ،‬ثم ترك من لم‬
‫ٮتلق ليأخذ الكون منه ويقول ‪« :‬‬
‫أنا الذي خلق الكون »؟ إنه أمر من‬
‫اثنُت ‪ ،‬األمر األول ‪ :‬هو أنه ليس‬
‫هناك إله َته ‪ .‬فالقضية إذن‬
‫منتهية ‪ .‬واألمر اْلخر ‪ :‬هو أنه لو‬
‫كان هناك آ‪٢‬تة أخرى ‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫جاء واحد وقال ‪ « :‬أنا اإلله وليس‬
‫هناك إله إال أنا » ‪.‬‬
‫فأين هذه اْل‪٢‬تة األخرى؟ ألم‬
‫تعلم بهذه ا‪ٟ‬تكاية؟‬
‫إن كانوا لم يعلموا بها ‪ ،‬فهم ال‬
‫يصلحون أن يكونوا آ‪٢‬تة ‪ ،‬وإن‬
‫كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا ‪ :‬ال‬
‫‪٨ .‬تن اْل‪٢‬تة ‪ ،‬وهذا الكبلم كذب؟‬
‫وكما بعث اهلل رسبل ٔتعجزات‬
‫كان عليهم أن يبعثوا رسوال‬
‫ٔتعجزات ‪ .‬فصاحب الدعوة إذا‬
‫ّادعاها ولم يوجد معارض له ‪،‬‬
‫تثبت الدعوى إىل أن يوجد ُمنا ِزع ‪.‬‬
‫إذن كلمة « ال إله إال اهلل » معها‬
‫دليل الصدق؛ ألنه إما أن يكون‬
‫هذا الكبلم حقا وصدقا فتنتهي‬
‫ا‪١‬تسألة ‪ ،‬وإن لم يكن حقا فأين‬
‫اإلله الذي خلق والذي ‪٬‬تب أن‬
‫يُعبد بعد أن ‪ٝ‬تع من جاء ليأخذ منه‬
‫هذه القضية؟ وبعد ذلك ال نسمع له‬
‫حسا ًوال حركة ‪ ،‬وال يتكلم ‪ ،‬وال‬
‫نعلم عنه شيئا ‪ ،‬فما هو شأنه؟ إما‬
‫أنه لم يعلم فبل يصلح أن يكون‬
‫إ‪٢‬تا؛ ألنه لو كان قد علم ولم يرد‬
‫فليست له قوة ‪ .‬ولذلك ربنا‬
‫سبحانه يأيت بهذه القضية من‬
‫ناحية أخرى فيقول ‪ُ { :‬ق ْل ل َّ ْو ك َ َ‬
‫ان‬
‫ون إِذا ًالَّبْتَغ َ ْوا ْإىل‬ ‫ِ‬
‫َمعَ ُه آ‪٢‬ت َ ٌة َك َما ي َ ُقول ُ َ‬
‫ِذي العرش َسبِيبل ً* ُسب ْ َحان َ ُه وتعاىل‬
‫ون ُعل ُ ّوا ً َكبَِتا ً} ػ‬‫َع َّما ي َ ُقول ُ َ‬
‫اإلسراء ‪] 43-42 :‬‬
‫فلو كان عند تلك اْل‪٢‬تة ا‪١‬تزعومة‬
‫مظاهر قوة لذهبوا إىل اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل وأنكروا ألوهيته ‪ ،‬ولو كان‬
‫هناك إله َت اهلل ‪ٟ‬تدثت معركة‬
‫بُت اْل‪٢‬تة ‪ ،‬ولكن هذا لم يحدث ‪.‬‬
‫فالكلمة « ال إله إال اهلل » صدق يف‬
‫ذاهتا حىت عند من ينكرها ‪،‬‬
‫والدليل فيها هو عدم وجود ا‪١‬تنازع‬
‫‪٢‬تذه الدعوى؛ ألنه إن لم يوجد‬
‫منازع فقد ثبت أنه سبحانه ال إله‬
‫إال اهلل ‪ .‬وإن وجد ا‪١‬تنازع نقول ‪:‬‬
‫أين هو؟‬
‫وأضرب هذا ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل‬
‫األعىل هب أننا يف اجتماع ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك وجدنا حافظة نقود ‪،‬‬
‫فعرضناها عىل ا‪١‬توجودين ‪ ،‬فلم ‪٧‬تد‬
‫‪٢‬تا صاحبا ً‪ ،‬ثم جاء واحد كان معنا‬
‫وخرج ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا قوم بينما كنت‬
‫أجلس معكم ضاعت حافظة‬
‫نقودي ‪ .‬و‪١‬تا لم يدعها واحد منا‬
‫لنفسه فهي إذن حافظته هو ‪.‬‬
‫إذن « ال إله إال اهلل » هي قضية‬
‫٘تتلئ بالصدق وا‪ٟ‬تق ‪ ،‬واهلل هو‬
‫ا‪١‬تعبود الذي يُت َ َو ّجه إليه بالعبادة ‪،‬‬
‫والعبادة هي الطاعة ‪ .‬فمعٌت عابد‬
‫أي طائع ‪ ،‬وكل طاعة تقتضي أمرا ً‬
‫وتقتضي هنيا ً‪ ،‬ومادامت العبادة‬
‫تقتضي أمرا ًوتقتضي هنيا ً‪ ،‬فبل بد‬
‫أن يكون ا‪١‬تأمور وا‪١‬تنهي صا‪ٟ‬تا ًأن‬
‫يفعل وصا‪ٟ‬تا ًأال ّيفعل ‪ .‬فعندما‬
‫نقول له ‪ :‬افعل كذا كمنهج إٯتان‬
‫‪ ،‬فهو صاٌف لئبل يفعل ‪ .‬وعندما‬
‫نقول له ‪ :‬ال تفعل فهو صاٌف ألن‬
‫يفعل ‪ ،‬وإال لو لم يكن صا‪ٟ‬تا أال‬
‫يفعل أيقول له « افعل »؟ ال ‪ ،‬ال‬
‫يقول له ذلك ‪ .‬ولو كان صا‪ٟ‬تا أال‬
‫يفعل أيقول له « ال تفعل »؟ إن‬
‫ذلك َت ‪٦‬تكن ‪.‬‬

‫إذن البد أن يكون صا‪ٟ‬تا ً‪٢‬تذه‬


‫وتلك وإال لكان األمر والنهي عبثا ً‬
‫وال طائل من ورائهما ‪ .‬لذلك‬
‫عندما أرادوا أن يقصروا اإلسبلم‬
‫يف العبادات الطقسية اليت هي شهادة‬
‫ال إله إال اهلل ‪ ،‬وأن ‪٤‬تمدا ًرسول‬
‫اهلل ‪ ،‬والصبلة ‪ ،‬والصوم ‪ ،‬والزكاة ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تج ‪ ،‬قالوا ‪ :‬هل هذا هو كل‬
‫اإلسبلم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنه دين يعتمد‬
‫عىل ا‪١‬تظاهر فقط ‪ ،‬قلنا ‪٢‬تم ‪ :‬ال ‪ ،‬إن‬
‫اإلسبلم هو كل حركة يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫تناسب خبلفة اإلنسان يف األرض؛‬
‫ألن اهلل يقول يف كتابه الكريم ‪{ :‬‬
‫ُه َو أَن َشأ َ ُك ْم ِّم َن األرض‬
‫واستعمركم فِيهَا } ػ هود ‪] 61 :‬‬
‫{ واستعمركم فِيهَا } أي طلب‬
‫منكم أن تعمروها ‪ ،‬فكل حركة يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة تؤدي إىل عمار األرض فهي‬
‫من العبادة ‪ ،‬فبل تأخذ العبادة عىل أهنا‬
‫صوم وصبلة فقط؛ ألن الصوم‬
‫والصبلة و َت‪٫‬تا هي األركان اليت‬
‫ستقوم عليها حركة ا‪ٟ‬تياة اليت‬
‫َسيبٍت عليها اإلسبلم ‪ ،‬فلو جعلت‬
‫ُ‬
‫اإلسبلم هو هذه األركان فقط‬
‫‪ٞ‬تعلت اإلسبلم أساسا بدون مبٌت ‪،‬‬
‫فهذه هي األركان اليت يُبٍت عليها‬
‫اإلسبلم ‪ ،‬فإذن اإلسبلم هو كل ما‬
‫يناسب خبلفة اإلنسان يف األرض‬
‫يبُت ذلك ويؤكده قول اهلل تعاىل ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫{ ُه َو أَن َشأ َ ُك ْم ِّم َن األرض‬
‫واستعمركم فِيهَا } ػ هود ‪] 61 :‬‬
‫وٮترج إلينا أناس يقولون ‪٨ :‬تن‬
‫ليس لنا إال أن نعبد وال نعمل ‪.‬‬
‫ونقول ألي منهم ‪ :‬كم تأخذ‬
‫الصبلة منك يف اليوم؟ ساعة مثبل ‪.‬‬
‫والزكاة كم تأخذ منك يف العالم‬
‫يوما ًواحدا ًيف العام؟ والصوم كم‬
‫يأخذ منك من وقت؟ هنار أيام‬
‫شهر واحد ‪ .‬وفريضة ا‪ٟ‬تج أتأخذ‬
‫منك أكثر من رحلة واحدة يف‬
‫عمرك؟ فباهلل عليك ماذا تفعل يف‬
‫البايق من عمرك من بعد ذلك وهو‬
‫كثَت؟ إنك ال تأخذ أكثر من ساعة‬
‫يف اليوم للصبلة ‪ ،‬وال تأخذ أكثر من‬
‫يوم يف السنة إلخراج الزكاة ‪،‬‬
‫وتقضي شهرا ًيف السنة تصوم هناره‬
‫‪ .‬وٖتج مرة واحدة يف عمرك ‪،‬‬
‫فماذا تفعل يف بقية الزمان ‪ ،‬ستأكل‬
‫وتلبس ‪ ،‬ستطلب رغيف ا‪٠‬تبز‬
‫للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟‬
‫إن هذا الرغيف ٯتر ٔتراحل حىت‬
‫يصَت لقمة تأكلها ‪ .‬و٭تتاج إىل‬
‫أكثر من علم وأكثر من حركة‬
‫وأكثر من طاقة ‪.‬‬
‫إن ا‪١‬تحل الذي يبيعه فقط وال‬
‫ٮتبزه ٭تتاج إىل واجهة من زجاج أو‬
‫َته ‪ ،‬والبد أن يعمل فيه من‬
‫يذهب بعربته إىل ا‪١‬تخبز ليحمل‬
‫ا‪٠‬تبز ‪ ،‬وينقله إىل ا‪١‬تحل ويبيعه وإذا‬
‫نظرت إىل الفرن فسوف ٕتد‬
‫مراحل عدة من تسليم وتسلم‬
‫للدقيق ‪ ،‬ثم إىل العجُت ‪ ،‬وإىل النار‬
‫اليت توقد با‪١‬تازوت ‪ ،‬ويقوم بذلك‬
‫عمال ٭تتاجون ‪١‬تن ٮتطط ‪٢‬تم ‪،‬‬
‫وقبل ذلك كان الدقيق ‪٣‬ترد حبوب‬
‫‪ ،‬وتم طحنها لتصَت دقيقا ً‪ ،‬وهناك‬
‫مهندسون يديرون ا‪١‬تاكينات اليت‬
‫تطحن ‪ ،‬ويعملون عىل صيانتها ‪،‬‬
‫وبعد ذلك األرض اليت نبت فيها‬
‫القمح وكيف تم حرثها ‪ ،‬وهتيئتها‬
‫للزراعة ‪ ،‬وريها ‪ ،‬وتسميدها ‪،‬‬
‫وزرعها ‪ ،‬وحصدها ‪ ،‬وكيف ُد ِر َس‬
‫القشر والسنابل ‪ ،‬وكيف تتم‬
‫تذريته من بعد ذلك ‪ ،‬لفصل‬
‫ا‪ٟ‬تبوب عن التنب ‪ ،‬وتعبئة ا‪ٟ‬تبوب ‪،‬‬
‫إىل َت ذلك؟‬
‫انظر كم من ا‪ٞ‬تهد أخذ رغيف‬
‫ا‪٠‬تبز الذي تأكله ‪ ،‬وكم من‬
‫الطاقات وكم رجال للعمل ‪،‬‬
‫فكيف تستسيغ لنفسك أن‬
‫يصنعوه لك ‪ ،‬وأنت فقط جالس‬
‫لتصلي وتصوم؟ ال ‪ ،‬إياك أن تأخذ‬
‫عمل َتك دون جهد منك ‪.‬‬

‫مثال آخر ‪ ،‬أنت تلبس جلبابا ‪ ،‬كم‬


‫أخذ هذا ا‪ٞ‬تلباب من غزل ونسج‬
‫وخيط؟ إذن فبل تقعد ‪ ،‬وتنتفع‬
‫ْتركة ا‪١‬تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وتقول ‪:‬‬
‫أنا ‪٥‬تلوق للعبادة فقط ‪ ،‬فليست هذه‬
‫هي العبادة ‪ ،‬ولكن العبادة هي أن‬
‫تطيع اهلل يف كل ما أمر ‪ ،‬وأن تنتهي‬
‫عن كل ما هنى يف إطار قوله تعاىل ‪{ :‬‬
‫ُه َو أَن َشأ َ ُك ْم ِّم َن األرض‬
‫واستعمركم فِيهَا } إن كل عمل‬
‫يعتْب عبادة ‪ ،‬وإال ستكون « تنببل ً»‬
‫يف الوجود ‪ .‬واإلٯتان ا‪ٟ‬تق يقتضي‬
‫منك أن تنتفع بعملك وال تعتمد‬
‫عىل عمل َتك ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قد‬
‫استخلفنا يف األرض من أجل أن‬
‫نعمرها ‪ .‬ومن حسن العبادة أن‬
‫نتقن كل عمل وبذلك ال نقيم‬
‫أركان اإلسبلم فقط ‪ ،‬ولكن نقيم‬
‫األركان والبنيان معا ‪ .‬ونكون قد‬
‫أدينا مسئولية اإلٯتان ‪ ،‬وطابق كل‬
‫فعل من أفعالنا قولنا ‪ « :‬ال إله إال‬
‫اهلل » ‪.‬‬
‫ولقد عرفنا أن كلمة { اهلل } هي‬
‫علَم عىل واجب الوجود ‪ ،‬وهي‬
‫االسم الذي اختاره اهلل لنفسه‬
‫وأعلمنا به ‪ ،‬وهلل أ‪ٝ‬تاء كثَتة كما‬
‫روى يف ا‪ٟ‬تديث عن رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم حُت سأل اهلل بكم‬
‫اسم هو له أنزله يف كتابه أو علمه‬
‫أحدا ًمن خلقه أي ّ‬
‫خصه به أو‬
‫استأثر به يف علم الغيب عنده ‪ ،‬فبل‬
‫تظنن أن أ‪ٝ‬تاء اهلل هي كلها هذه‬
‫األ‪ٝ‬تاء اليت نعرفها ‪ ،‬ولكن هذه‬
‫األ‪ٝ‬تاء هي اليت أذن اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل بأن نعلمها ‪.‬‬
‫ومن ا‪ٞ‬تائز ‪ ،‬أو من لفظ ا‪ٟ‬تديث‬
‫نعلم أن اهلل قد يُعلّم بعضا من‬
‫خلقه أ‪ٝ‬تاء له ‪ ،‬ويستأثر لنفسه‬
‫بأ‪ٝ‬تاء سنعرفها يوم القيامة حُت‬
‫نلقاه ‪ ،‬وحُت نتكلم عن األ‪ٝ‬تاء‬
‫األخرى ‪٧‬تد أهنا ملحوظ فيها‬
‫الصفة ‪ ،‬ولكنها صارت أ‪ٝ‬تاء ألهنا‬
‫الصفة الغالبة ‪ ،‬فإذا قيل ‪ « :‬قادر »‬
‫‪٧‬تد أننا نستخدم هذه الكلمة‬
‫لوصف واحد من البشر ‪ ،‬ولكن «‬
‫القادر إذا أطلق انصرف إىل القادر‬
‫األعىل وهو اهلل ‪ .‬وكذلك » السميع‬
‫« ‪ ،‬و » البصَت « ‪ .‬و » العليم « ‪.‬‬
‫إننا ‪٧‬تد أن بعضا ًمن أ‪ٝ‬تاء اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل له مقابل ‪ ،‬ومن‬
‫أ‪ٝ‬تاء اهلل ا‪ٟ‬تسٌت ما ال ٕتد له مقاببل ً‬
‫‪ .‬فإذا قيل » ا‪١‬تحيي « ٕتد »‬
‫ا‪١‬تميت « و » ا‪١‬تعز « ٕتد » ا‪١‬تذل‬
‫« ‪ ،‬ألهنا صفة يظهر أثرها يف الغَت ‪،‬‬
‫فهو ‪٦‬تيت لغَته ‪ ،‬ومع ّز لغَته ‪،‬‬
‫ومذل لغَته ‪ ،‬لكن الصفة إن لم‬
‫يوجد ‪٢‬تا مقابل نسميها صفة ذات‬
‫‪ ،‬فهو » حي « وال نأيت با‪١‬تقابل إ‪٪‬تا‬
‫» ُ‪٤‬تيي « نأيت با‪١‬تقابل وهو »‬
‫ا‪١‬تميت « ‪ ،‬فهذه ا‪ٝ‬تها صفة فعل‬
‫‪.‬‬

‫فصفات الفعل يتصف بها‬


‫ؤتقابلها ألهنا يف الغَت ‪ .‬لكن صفة‬
‫الذات ال يتصف إال بها ‪.‬‬
‫وحينما قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬اهلل } فهو‬
‫سبحانه يريد أن يعطينا بعض‬
‫ٕتليات اهلل يف أ‪ٝ‬تائه ‪ ،‬فقال ‪« :‬‬
‫اهلل ال إله إال هو » ليحقق لنا صفة‬
‫التوحيد ‪ ،‬و‪٬‬تب أن نعلم أن « إال »‬
‫هنا ليست أداة استثناء ‪ ،‬ألهنا لو‬
‫كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن‬
‫توجد آ‪٢‬تة ويكون اهلل من ضمن‬
‫هذه اْل‪٢‬تة اليت نفيتها وذلك َت‬
‫صحيح ‪ .‬وإ‪٪‬تا ا‪١‬تراد أنه ال آ‪٢‬تة‬
‫أبدا ً َت اهلل فهو واحد ال شريك له‬
‫‪ ،‬وأنه ال معبود ْتق إال هو فكلمة «‬
‫إال ّ» ليست لبلستثناء وإ‪٪‬تا هي‬
‫ٔتعٌت َت ‪ ،‬أي ال إله َت اهلل ‪.‬‬
‫وقد عرفنا أن هذه القضية معها‬
‫دليلها ‪ ،‬وإال فلو كان هناك إله آخر‬
‫لقال لنا ‪ :‬إنه موجود ‪ .‬لكن ال إله إال‬
‫هو سبحانه أبلغنا { اهلل ال َإله إِال َّ ُه َو‬
‫} ‪ .‬وأعجبٍت ما قاله الدكتور عبد‬
‫الوهاب عزام ر‪ٛ‬تة اهلل عليه وكان‬
‫متأثرا بالشاعر الباكستاين« إقبال‬
‫» ‪ ،‬كان للشاعر إقبال شيء ا‪ٝ‬ته «‬
‫ا‪١‬تثاين » ‪ ،‬أي أن يقول بيتُت من‬
‫الشعر يف معٌت ‪ ،‬وبيتُت من الشعر يف‬
‫معٌت ‪ ،‬وكان يغلب عىل شعر إقبال‬
‫الفلسفة اإلسبلمية والفكر‬
‫اإلسبلمي ‪ ،‬وقد تأثر الدكتور عبد‬
‫الوهاب عزام بشعر إقبال فجعل‬
‫له مثاين أيضا يناظر فيها « إقبال »‬
‫‪ ،‬فيقول ‪:‬‬
‫إ‪٪‬تا التوحيد إ‪٬‬تاب وسلب ‪...‬‬
‫وفيهما للنفس عزم ومضاء‬
‫وقوله ‪ « :‬إ‪٪‬تا التوحيد إ‪٬‬تاب‬
‫وسلب » هو قول متأثر بالقضية‬
‫الكهربية ‪ .‬فيقول ‪ :‬إ‪٪‬تا التوحيد‬
‫إ‪٬‬تاب وسلب فيهما للنفس عزم‬
‫ومضاء ‪ .‬فأنت عندما تقول « ال إله‬
‫» ‪ ،‬ف « ال » للنفي ‪ ،‬وعندما‬
‫تكمل قولك ‪ « :‬إال اهلل » ف « إال‬
‫» لئلثبات ‪ ،‬ويكمل الدكتور‬
‫عزام قوله ‪ :‬ال وإال قوة قاهرة ‪.‬‬
‫فهما يف القلب قطبا الكهرباء كأن‬
‫الكهرباء تأيت بأنك تسلب‬
‫وتوجب ‪ .‬فاإل‪٬‬تاب يف « إال »‬
‫والسلب يف « ال » ‪ .‬ومادام فيه‬
‫إ‪٬‬تاب وسلب ‪ ،‬إذن ففيه شرارة‬
‫كهرباء ‪.‬‬
‫{ اهلل ال َإله إِال َّ ُه َو ا‪ٟ‬تي القيوم } ‪ ،‬و‬
‫{ ا‪ٟ‬تي } هو أول صفة ‪٬‬تب أن‬
‫تكون لذلك اإلله ‪ ،‬ألن القدرة بعد‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬والعلم بعد ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬فكل‬
‫صفة البد أن تأيت بعدها الذكر وإال‬
‫فليست صفة من صفات اهلل أسبق‬
‫من صفة وال متقدمة عليها فكلها‬
‫قدٯتة ال أول ‪٢‬تا ‪ ،‬فلو كان عدما ً‬
‫فكيف تأيت الصفات عىل العدم؟ ‪،‬‬
‫وكلمة « ح ّي » عندما نسمعها‬
‫نقول ‪ :‬ما هو ا‪ٟ‬تي؟ ‪ .‬إن الفبلسفة‬
‫قد احتاروا يف تفسَتها ‪ .‬فمنهم‬
‫من قال ‪ :‬ا‪ٟ‬ت ّي هو الذي يكون عىل‬
‫صفة ٕتعله ُم ْد ِركا ًإن ُو ِج َد ما‬
‫ك‪.‬‬‫يُ ْد َر ْ‬
‫كأن الفيلسوف الذي قال ذلك ‪:‬‬
‫يعٍت با‪ٟ‬تياة حياتنا ‪٨‬تن ‪ ،‬وما دوننا‬
‫كأنه ليس فيه إدراك ‪.‬‬

‫ونقول لصاحب هذا الرأي ‪ :‬ال ‪ ،‬إن‬


‫أردت ا‪ٟ‬تياة با‪١‬تعٌت الواسع الدقيق‬
‫فبلبأن تقول ‪ :‬ا‪ٟ‬تياة هي أن‬
‫د‬
‫يكون الشيء عىل الصفة اليت تبىق‬
‫صبلحيته ‪١‬تهمته هذا هو ما ‪٬‬تب‬
‫أن يكون عليه التعريف ‪ ،‬ف {‬
‫ا‪ٟ‬تي } ‪ :‬هو الذي يكون عىل صفة‬
‫ُتبىق له صبلحيته ‪١‬تهمته ‪ ،‬مثال‬
‫ذلك النبات ‪ ،‬مادمت ٕتده ينمو ‪،‬‬
‫إذن ففيه حياة تبىق له صبلحية‬
‫مهمته ‪ .‬فلو قطع النتهت‬
‫الصبلحية ‪ .‬ومثال اإلنسان عندما‬
‫ٯتوت تنتهي صبلحيته ‪١‬تهمته ‪،‬‬
‫والعناصر ا‪ٞ‬تامدة عندما تأيت مع‬
‫بعضها تتفاعل ‪ ،‬هذا التفاعل فرع‬
‫وجود ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬لكنها حياة مناسبة ‪٢‬تا‬
‫وليست مثل حياتنا ‪.‬‬
‫أنت مثبل ًترى « الزلط » الناعم‬
‫األملس ‪ٕ ،‬تده عىل مقدار واحد؟ ال‬
‫‪ ،‬إن أشكاله ‪٥‬تتلفة ‪ ،‬وهذا دليل عىل‬
‫أن هناك مراحل للحجر الواحد‬
‫منها ‪ ،‬ولو استمرت تلك األحجار‬
‫يف بيئتها الطبيعية فبل شك أن هذه‬
‫الكبَتة تتفتت يوما ًوتصَت صغَتة‬
‫ثم تكْب مرة أخرى ‪ ،‬لكن اإلنسان‬
‫حُت يستخدم هذه األحجار تكون‬
‫قد خرجت من بيئتها ‪ .‬ومن‬
‫حكمة اهلل أنه ال يوجد شيء تنتهي‬
‫جدواه أبدا ً‪ ،‬بل هو سبحانه يهيئ‬
‫لكل شيء مهمة أخرى ‪.‬‬
‫إذن فكل كائن يكون عىل صفة ُتبىق‬
‫له صبلحيته ‪١‬تهمة ‪ ،‬وتكون له‬
‫حياة مناسبة لتلك ا‪١‬تهمة ‪٨ .‬تن ال‬
‫نأيت بهذا الكبلم من عندنا ‪ ،‬ولكننا‬
‫نأيت بهذا الكبلم ألننا نقرأ القرآن‬
‫بإمعان وتدبر ‪ ،‬ونقول ‪ :‬ماذا يقابل‬
‫ا‪ٟ‬تياة يف القرآن؟ إنه ا‪٢‬تبلك‬
‫بدليل أن اهلل قال ‪ { :‬لِ ّيَهْلِ َ‬
‫ك َم ْن‬
‫ك َعن ب َ ِيّن َ ٍة و٭تِت َم ْن َح َّي َعن‬‫َهل َ َ‬
‫ب َ ِيّن َ ٍة } ػ األنفال ‪] 42 :‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تياة مقابلة للهبلك ‪ .‬و {‬
‫ا‪ٟ‬تي } َت هالك ‪ .‬وا‪٢‬تالك ال‬
‫يكون حيا ً‪ ،‬ويقول تعاىل يف اْلخرة ‪:‬‬
‫{ كُ ُّل َش ْيءٍ َهال ِ ٌ‬
‫ك إِال َّ َو ْجهَ ُه } ػ‬
‫القصص ‪] 88 :‬‬
‫ومعٌت ذلك أن كل األجناس من‬
‫أعبلها إىل أدناها ‪ ،‬سواء اإلنسان ‪،‬‬
‫أو ا‪١‬تبلئكة ‪ ،‬أو ا‪ٟ‬تيوان أو النبات ‪،‬‬
‫كلها ستكون هالكة ‪ ،‬ومادام كل‬
‫شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم‬
‫يكن هالكا ًقبل ذلك ‪ ،‬وله حياة‬
‫مناسبة له ‪ .‬أليست ا‪ٟ‬تجارة شيئا ً‪،‬‬
‫وستدخل يف ا‪٢‬تبلك يوم القيامة؟ ‪.‬‬
‫إذن فهي قبل ذلك َت هالكة ‪.‬‬
‫لكننا ‪٨‬تن البشر ال نفطن إىل ذلك‬
‫ونفهم ا‪ٟ‬تياة فقط عىل أهنا ا‪ٟ‬تس‬
‫وا‪ٟ‬تركة الظاهرة ‪ .‬مع أن العلماء‬
‫قد أثبتوا أنه حىت الذرة فيها دوران‬
‫‪ ،‬و‪٢‬تا حياة ‪ .‬وأنت عندما تنظر‬
‫با‪١‬تجهر عىل ورقة من النبات ‪،‬‬
‫وترى ما بها من خضر وخبليا ‪،‬‬
‫وتشاهد العمليات اليت ٖتدث بها ‪،‬‬
‫وتقول ‪ :‬هذه حياة أرىق من حياتنا ‪،‬‬
‫وأدق منها ‪.‬‬
‫إذن فكل شيء له حياة ‪ ،‬إياك أن‬
‫تظن أنك أنت الذي هتلكها ‪،‬‬
‫فعندما تأيت ْتجر وتدقه أو تضعه يف‬
‫الفرن لتصنع ا‪ٞ‬تَت؛ إياك أن تقول‬
‫‪ :‬إنك أذهبت من األحجار ا‪ٟ‬تياة‬
‫ا‪١‬تناسب‪٢‬تا ‪ ،‬أنت فقط قد حولت‬
‫ة‬
‫مهمتها من حجر صلب ‪ ،‬وصارت‬
‫‪٢‬تا مهمة أخرى ‪ ،‬فا‪١‬تسائل‬
‫تتسلسل إىل أن يصَت لكل شيء يف‬
‫الوجود حياة تناسب ا‪١‬تهمة اليت‬
‫يصلح ‪٢‬تا ‪.‬‬

‫وانظر إىل مهمة ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬ما شكلها؟‬


‫إهنا ا‪ٟ‬تياة العليا ‪ ،‬وهو ا‪ٟ‬تي األعىل‬
‫وحي ال ُتسلب منه ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬ألن أحدا‬
‫لم يعطه ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬بل حياته سبحانه‬
‫ذاتية ‪ ،‬فهذا هو ا‪ٟ‬تي عىل إطبلقه ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تي عىل إطبلقه هو اهلل وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل قال ‪ { :‬اهلل ال َإله إِال َّ‬
‫ُه َو ا‪ٟ‬تي } وأثر صفة هذه موجود يف‬
‫كل الصفات األخرى فقال ‪{ :‬‬
‫القيوم } ‪ .‬والقيوم هو صفة مبالغة‬
‫يف قائم ‪ .‬ومثلها قولنا ‪ « :‬اهلل غفور‬
‫» لكن أال يوجد افر؟ يوجد افر ‪،‬‬
‫لكن « غفور » هي صفة مبالغة ‪.‬‬
‫وقد يقول قائل ‪ :‬هل صفات اهلل‬
‫فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟ ‪.‬‬
‫نقول ‪ :‬ال ‪ ،‬فصفات اهلل ال يصح أن‬
‫توصف بالضعف أو بالقوة ‪ ،‬صفات‬
‫اهلل نظام واحد ‪ .‬وحىت نفهم ذلك‬
‫فنضرب هذا ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل األعىل‬
‫‪٨‬تن نقول ‪ :‬كلنا نأكل كي نستبقي‬
‫حياتنا ‪ ،‬فكل واحد منا « آكل » ‪،‬‬
‫لكن عندما نقول ‪ :‬فبلن أكول ‪،‬‬
‫فمعٌت ذلك أنه أخذ صفة األكل‬
‫اليت كلنا شركة فيها وزاد فيها‬
‫فنقول عليه ‪ « :‬أكّال » أو « أكول‬
‫»‪.‬‬
‫من أي ناحية تأيت هذه الزيادة؟ قد‬
‫تأيت الزيادة من أنك تأكل يف العادة‬
‫رغيفا ًوهو يأكل رغيفُت أو ثبلثة ‪،‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تدث له يف األكل أثر كبَت ‪،‬‬
‫فنقول عليه ‪ :‬أكول ‪ .‬وقد يأكل‬
‫معك رغيفا يف الوجبة الواحدة ‪،‬‬
‫لكنه يأكل ‪ٜ‬تس وجبات بدال من‬
‫ثبلث وجبات؛ فيكون أيضا أكوال ‪،‬‬
‫إذن ف « أكول » إما مبالغة يف‬
‫ا‪ٟ‬تدث نفسه وإما بتكرار ا‪ٟ‬تدث ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن ننظر إىل صفات اهلل ونقول ‪:‬‬
‫إهنا ال ٖتتمل القوة والضعف يف ذات‬
‫ا‪ٟ‬تدث ‪ ،‬إ‪٪‬تا يف تكررها بالنسبة‬
‫للمخلوقُت ‪ٚ‬تيعا ً‪ ،‬فاهلل افر ‪٢‬تذا‬
‫‪ ،‬و افر لذاك ‪ ،‬و افر لكل عاص‬
‫يتوب ‪ ،‬إذن فا‪ٟ‬تدث يتكرر ‪،‬‬
‫فيكون « غفورا ً» وغفارا ً« ‪.‬‬
‫وهذا ما ٭تل لنا اإلشكال يف كثَت من‬
‫األمور ‪ ،‬فعندما يقول سبحانه ‪{ :‬‬
‫ك بِ َظبل َّ ٍم ل ِ ّلْعَبِي ِد} ػ فصلت‬
‫َو َما َربُّ َ‬
‫‪] 46 :‬‬
‫فنحن هنا ‪٧‬تد قضية لغوية تقول ‪:‬‬
‫إنك إذا جئت بصيغة ا‪١‬تبالغة ‪،‬‬
‫وأثبتها ‪ ،‬تكون الصيغة األخرى‬
‫األقل منها ثابتة بالضرورة ‪ ،‬مثال‬
‫ذلك عندما نقول ‪ :‬فبلن » عبلّم «‬
‫أو » عالم « ‪ ،‬فما دمت أثبت هل‬
‫الصفة القوية؛ تكون الصفة‬
‫الضعيفة موجودة ‪ ،‬لكن إذا نفيت‬
‫الصفة ا‪١‬تبالغ فيها قد تكون الصفة‬
‫األخرى موجودة ‪ ،‬فهو ليس »‬
‫عبلمة « لكنه قد يكون » عبلما ً«‬
‫أو عا‪١‬تا » ‪ ،‬فإذا قلت ‪ :‬فبلن «‬
‫عبلمة » فقد أثبت له األدىن أيضا ً‪،‬‬
‫فيكون « عبلَّما » أو « عا‪١‬تا » ‪.‬‬
‫لكن إذا نفيت عنه « عبلمة » انتىف‬
‫عنه البايق؟ ال ‪ ،‬إذن فنفي األكثر ال‬
‫ينفي األقل ‪.‬‬
‫لكن إذا أُثبت األكثر ثبت األقل ‪،‬‬
‫وإذا نفيت األكثر فلن ينتفي األقل‬
‫‪ ،‬فإذا قلت ‪ :‬اهلل ليس بظبلم للعبيد‬
‫‪ ،‬نفيت األكثر ‪.‬‬

‫صحيح أنه َت مبالغ يف الظلم ‪،‬‬


‫فهل ٯتكن أن يكون ظا‪١‬تا ً؟ عىل‬
‫حسب ما قلنا ‪ :‬إذا نفينا األكثر ال‬
‫ينتفي األقل نقول ‪ :‬ال ‪ ،‬ألننا هنا‬
‫‪٬‬تب أن نأخذ القضية األوىل يف أن‬
‫ا‪١‬تبالغة يف ا‪ٟ‬تدث وا‪١‬تبالغة يف الفعل‬
‫تأيت مرة يف ذات ا‪ٟ‬تدث ‪ ،‬ومرة يف‬
‫تكرار ا‪ٟ‬تدث؛ فيكون معاذ اهلل‬
‫ظبلَّما ً‪ ،‬ولذلك لم يقل ‪ :‬بظبلّم‬
‫للعبد ‪ ،‬بل قال ‪ :‬بظبلّم للعبيد ‪.‬‬
‫إذن فهذا العبد ٭تتاج ظا‪١‬تا ً‪ ،‬والعبد‬
‫اْلخر ٭تتاج ظا‪١‬تا ً‪ ،‬وذاك ٭تتاج‬
‫ظا‪١‬تا ً! فعندما يظلم كل هؤالء‬
‫يكون ظبلما ً‪ ،‬ولذلك نفاها‬
‫ك بِ َظبل َّ ٍم‬
‫سبحانه وقال ‪َ { :‬و َما َربُّ َ‬
‫ل ِ ّلْعَبِي ِد } ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق هنا يقول ‪ « :‬قيوم » وهذه‬
‫صفة مبالغة من قائم ‪ ،‬فاألصل‬
‫فيها ‪ :‬القائم عىل أمر بيته ‪ ،‬والقائم‬
‫عىل أمر رعيته ‪ ،‬والقائم عىل أمر‬
‫ا‪١‬تدرسة ‪ ،‬والقائم عىل أمر هذه‬
‫اإلدارة ‪ ،‬ومعٌت قائم عىل أمرها ‪:‬‬
‫أنه متويل شئوهنا ‪ ،‬فكأن القيام هو‬
‫مظهر اإلشراف ‪ .‬فنحن ال نقول ‪:‬‬
‫« قاعد عىل إدارهتا » ‪ .‬وعندما‬
‫نقول « قيوم » فمعناها أنه أوسع‬
‫يف القيام ‪ .‬كيف جاء هذا االتساع؟‬
‫‪ .‬ألن القائم قد يكون قائما ًبغَته‬
‫‪ ،‬لكن حُت يكون قائما بذاته ‪،‬‬
‫و َته يستمد قيامه منه ‪ ،‬فهو قائم‬
‫عىل كل نفس وهو سبحانه القائل ‪:‬‬
‫{ أَفَ َم ْن ُه َو قَ ِآئ ٌم عىل كُ ّ ِل ن َ ْف ٍس ِٔتَا‬
‫ّلل ُش َركَآءَ ُق ْل‬ ‫َكسب ْت و َجعَلُوا ْ َ ِ‬
‫ّ‬ ‫ََ َ‬
‫وه ْم أ َ ْم ُت ِبَّن ُئون َ ُه ِٔتَا ال َيَعْل َ ُم ِيف‬
‫‪ٝ‬ت ُ‬
‫َ ُّ‬
‫األرض أَم بِ َظا ِه ٍر ِّم َن القول ب َ ْل‬
‫ُز ِي ّ َن لِل َّ ِذي َن َك َف ُروا ْ َمك ُْر ُه ْم َو ُص ُّدوا ْ‬
‫َع ِن السبيل َو َمن يُ ْضلِ ِل اهلل فَ َما ل َ ُه‬
‫ِم ْن َها ٍد } ػ الرعد ‪] 33 :‬‬
‫إن ا‪١‬تشركُت قد بلغو السفه يف‬
‫جحودهم فجعلوا هلل شركاء يف‬
‫العبادة ‪ ،‬فهل يستطيع أحد أن يبلغ‬
‫تلك ا‪١‬ترتبة العالية ‪ ،‬مرتبة خلق‬
‫العالم والقيام عىل كل أمر فيه ‪،‬‬
‫صغر أو كْب؟ ‪ .‬إنه ا‪ٟ‬تافظ ا‪١‬تراقب‬
‫لكل نفس ‪ ،‬العالم بكل ما خفي‬
‫وظهر ‪ ،‬وهذه األوثان ال تضر وال‬
‫تنفع ‪ ،‬فكيف تتو‪٫‬تون يا من‬
‫أشركتم باهلل له ندا ً‪ ،‬إن ا‪ٟ‬تق ُمزنه‬
‫عن ذلك بقيامه عىل كل نفس وكل‬
‫ا‪٠‬تلق ‪ .‬لكن أهل الضبلل أغواهم‬
‫ضبل‪٢‬تم فلم يعد ‪٢‬تم هاد بعد اهلل ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه قائم بذاته ‪،‬‬
‫وقائم عىل َته ‪ .‬والغَت إن كان‬
‫قائما ًإ‪٪‬تا يستمد منه القيام ‪.‬‬
‫فبلبد أن يكون « قيوما ً» ‪ ،‬ومن‬
‫قيومته أنه { ال َتَأ ْ ُخ ُذ ُه ِسن َ ٌة َوال َن َ ْو ٌم‬
‫} ‪ ،‬وقيل يف كتب العلم ‪ :‬إن قوم‬
‫بٍت إسرائيل سألوا موىس عليه‬
‫السبلم ‪ :‬أينام ربنا؟ ‪.‬‬
‫فأوىح اهلل إليه ‪ :‬أن آت بزجاجتُت‬
‫وضعهما يف يد إنسان ‪ ،‬ودعه إىل أن‬
‫ينام ‪ ،‬ثم انظر ا‪ٞ‬تواب ‪ .‬فلما وضع‬
‫يف يده الزجاجتُت ونام ‪.‬‬
‫انكسرت الزجاجتان فقال ‪ :‬هو‬
‫كذلك ‪ ،‬هو قائم عىل أمر السماء‬
‫واألرض ‪ ،‬ولو كانت تأخذه سنة أو‬
‫نوم لتحطمت الدنيا ‪.‬‬
‫وهو سبحانه { ال َتَأ ْ ُخ ُذ ُه ِسن َ ٌة َوال َ‬
‫ن َ ْو ٌم } ‪ .‬و « السنة » هي أول ما يأيت‬
‫من النعاس؛ أي النوم ا‪٠‬تفيف ‪،‬‬
‫فالواحد منا يكون جالسا ًثم يغفو ‪،‬‬
‫بات العميق »‬ ‫الس ْ‬ ‫لك لن ه‬
‫ن ا وم و « ُ‬
‫‪ ،‬فلما قال ‪ { :‬ال َتَأ ْ ُخ ُذ ُه ِسن َ ٌة }‬
‫قالوا ‪ :‬إنه يتغلب عىل النوم ا‪٠‬تفيف‬
‫لكن؛ هل يقدر عىل مقاومة النوم‬
‫العميق؟ ‪.‬‬

‫فقال ا‪ٟ‬تق عن نفسه ‪ { :‬ال َتَأ ْ ُخ ُذ ُه‬


‫ِسن َ ٌة َوال َن َ ْو ٌم } ‪ .‬وعرفنا أن السنة‬
‫هي ‪ :‬النعاس الذي يأيت يف أول النوم‬
‫‪ ،‬ومظهرها يبدو أوال ًيف العُت ويف‬
‫ا‪ٞ‬تفن ‪ ،‬فعندما يذهب إنسان يف‬
‫النوم؛ فإن أثر ذلك يظهر يف عينيه‬
‫‪ ،‬ولذلك يقولون ‪ :‬إن العُت هي‬
‫ا‪ٞ‬تارحة اليت ٯتكن أن تعرف بها‬
‫أحوال اإلنسان ‪ ،‬وقد اكتشفوا يف‬
‫عصرنا ا‪ٟ‬تديث أن الشرايُت ال‬
‫ٯتكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إال‬
‫من العُت ‪ .‬فالفتور الذي يأيت يف‬
‫العُت أوال ًهو السنة أو مقدمات‬
‫النوم ونسميه ‪ :‬النعاس ‪.‬‬
‫{ ال َتَأ ْ ُخ ُذ ُه ِسن َ ٌة َوال َن َ ْو ٌم }‬
‫أتريدون تطمينا ًمن إله ‪١‬تألوه ‪،‬‬
‫ومن معبود لعابد ‪ ،‬ومن خالق‬
‫‪١‬تخلوق أكثر من أنه يقول للعابد‬
‫ا‪١‬تخلوق ‪ « :‬نم أنت ملء جفونك‬
‫‪ ،‬واسًتح؛ ألن ربك ال ينام » ‪.‬‬
‫ماذا تريد أكثر من هذا؟ هو‬
‫سبحانه يعلم أنه خلقك ‪ ،‬وأنك‬
‫ٖتتاج إىل النوم ‪ ،‬وأثناء نومك‬
‫فهناك أجهزة يف جسمك تعمل ‪.‬‬
‫أإذا ‪٪‬تت وقف قلبك؟ أإذا ‪٪‬تت‬
‫انقطع نفسك؟ أإذا ‪٪‬تت وقفت‬
‫معدتك من حركتها الدودية اليت‬
‫هتضم؟ أإذا ‪٪‬تت توقفت أمعاؤك‬
‫عن امتصاص ا‪١‬تادة الغذائية؟ ال ‪،‬‬
‫بل كل شيء يف دوالبك يقوم بعمله‬
‫‪ .‬فمن الذي يُشرف عىل هذه‬
‫العمليات لو كان ربك نائما؟‬
‫إذن فأنت تنام وهو ال ينام ‪ .‬وباهلل‬
‫هل هذه عبودية ُتذلنا أو ُتعزنا؟ إهنا‬
‫عبودية ُتعزنا؛ فالذي نعبده يقول ‪:‬‬
‫ناموا أنتم؛ ألنٍت ال تأخذين سنة وال‬
‫نوم ‪ .‬وإياك أن تفهم أنه ال تأخذه‬
‫سنة وال نوم ‪ ،‬وأن شيئا يف كونه‬
‫ٮترج عىل مراده ‪ ،‬ال؛ ألن كل ما يف‬
‫السماوات واألرض له ‪ ،‬فبل شيء‬
‫وال أحد ٮترج عن قدرته ‪ .‬ولذلك‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ل َّ ُه َما ِيف السماوات‬
‫َو َما ِيف األرض } ‪.‬‬
‫ويتابع سبحانه بقوله ‪َ { :‬من ذَا‬
‫الذي ي َ ْش َف ُع ِعن ْ َد ُه إِال َّبِإِذْنِ ِه } إنّه‬
‫سبحانه وتعاىل يوضح ‪ :‬أنا‬
‫أعطيتك الراحة يف الدنيا ‪ ،‬وحىت‬
‫الكافر جعلته يتنعم بنعمي ‪ ،‬ولم‬
‫أجعل األسباب تضن عليه ‪،‬‬
‫وأعطيته مادام قد اجتهد يف تلك‬
‫األسباب ‪٦‬تا يدل عىل أنٍت ليس‬
‫عندي ‪٤‬تاباة ‪ ،‬قلت لؤلسباب ‪ :‬يا‬
‫أسباب من ُ٭تسنك يأخذك ولو كان‬
‫كافرا ًيب ‪ .‬لكنه سيأيت يوم القيامة‬
‫وليس للكافر إال العذاب ‪ ،‬ألنه ما‬
‫دام قد عمل يف الدنيا وأحسن‬
‫عمبل ًفقد أخذ جزاءه ‪ ،‬فإياكم أن‬
‫تظنوا كما قالوا ‪ « :‬هؤالء شفعاؤنا‬
‫عند اهلل » ‪ ،‬وجاء فيهم قول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫ون ِمن ُد ِ‬
‫ون اهلل َما ال َ‬ ‫{ َويَعْب ُ ُد َ‬
‫ي َ ُض ُّر ُه ْم َوال َيَن َف ُع ُه ْم َوي َ ُقول ُ َ‬
‫ون‬
‫َ ِ‬ ‫ِ‬
‫هؤالء ُش َفعَ ُاؤنَا عن َد اهلل ُق ْل أ ُتنَب ّ ُئ َ‬
‫ون‬
‫اهلل ِٔتَا ال َيَعْل َ ُم ِيف السماوات َوال َ ِيف‬
‫األرض ُسب ْ َحان َ ُه وتعاىل َع َّما‬
‫ون } ػ يونس ‪] 18 :‬‬ ‫يُ ْش ِر ُك َ‬
‫إن هؤالء الذين افًتوا عىل اهلل‬
‫بالشرك به ‪ ،‬واٗتذوا أصناما باطلة‬
‫ال تضرهم وال تنفعهم ‪.‬‬

‫يقولون عن هذه األصنام ‪ :‬إهنا‬


‫تشفع ‪٢‬تم عند اهلل يف اْلخرة ‪،‬‬
‫ويأمر ا‪ٟ‬تق سبحانه رسوله ‪٤‬تمدا ً‬
‫صىل اهلل عليه وسلم أن يبلغ‬
‫ا‪١‬تشركُت ‪ :‬قل ‪٢‬تم يا ‪٤‬تمد ‪ :‬هل‬
‫ٗتْبون اهلل بشريك ال يعلم اهلل له‬
‫وجودا يف السموات وال يف األرض ‪،‬‬
‫وهو ا‪٠‬تالق لكل ما يف السموات‬
‫ومزنه سبحانه عن أن‬ ‫واألرض ُ‬
‫يكون له شريك يف ُا‪١‬تلك ‪.‬‬
‫لقد أرادوا أن ٮتلوا بقضية التوحيد‬
‫و‪٬‬تعلوا هلل شركاء ويقولون ‪ :‬إن‬
‫هؤالء الشركاء هم الذين‬
‫سيشفعون لنا عند اهلل ‪ .‬فيقول ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه ‪ :‬إن الشفاعة ال ٯتكن أن‬
‫تكون عندي إال ‪١‬تن أذنت له أن‬
‫يشفع ‪ .‬إن الشفاعة ليست حقا‬
‫ألحد ‪ .‬ولكنها عطاء من اهلل ‪،‬‬
‫لذلك يقول ‪َ { :‬من ذَا الذي ي َ ْش َف ُع‬
‫ِعن ْ َد ُه إِال َّبِإِذْنِ ِه } ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬يَعْل َ ُم َما ب َ ْ َ‬
‫ُت‬
‫أَي ْ ِدي ِه ْم َو َما َخل ْ َف ُه ْم } ‪ .‬ساعة‬
‫يتعرض العلماء إىل ‪َ { :‬ما ب َ ْ َ‬
‫ُت‬
‫أَي ْ ِدي ِه ْم َو َما َخل ْ َف ُه ْم } يشرحون لنا‬
‫أن ما بُت اليدين أي ما أمامك ‪،‬‬
‫وما خلفك أي ما وراءك ‪ ،‬وما بُت‬
‫يدي اإلنسان يكون ‪ :‬مواجها ْللة‬
‫اإلدراك الرائدة وهي العُت ‪ ،‬فهو‬
‫أمر يُشهد ‪.‬‬
‫والذي يف ا‪٠‬تلف يكون يبا ًال يراه ‪،‬‬
‫كأن ما بُت اليد يراد به ا‪١‬تشهود‬
‫والذي يف ا‪٠‬تلف يراد به الغيب ‪،‬‬
‫ُت أَي ْ ِدي ِه ْم َو َما‬
‫فهو { يَعْل َ ُم َما ب َ ْ َ‬
‫َخل ْ َف ُه ْم } أي يعلم مشهدهم‬
‫و يبهم ‪ ،‬ويطلق « ما بُت اليد »‬
‫إطبلقا آخر ‪ .‬إننا قد نسأل ّ‬
‫عما‬
‫بُت يديك ‪ .‬هل هو مواجه لك أو‬
‫َت مواجه؟ فلو كان أمامك بشر ‪،‬‬
‫فهل هم قادمون إليك أو راحلون‬
‫عنك؟‬
‫إهنم إن كانوا راحلُت عنك فقد‬
‫سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم‬
‫‪ ،‬ومن وراءك سيأيت من بعدك ‪.‬‬
‫أي أن ا‪ٟ‬تق سبحانه ٮتْبنا أنه يعلم‬
‫ا‪١‬تاضي وا‪١‬تستقبل ‪ .‬فمرة يعلم‬
‫ا‪ٟ‬تق ما بُت أيديهم ‪ ،‬أي العالم‬
‫ا‪١‬تشهود ويسمونه « عالم ا‪١‬تلك »‬
‫‪ ،‬وما خلفهم أي الغيب ‪ ،‬ويسمونه‬
‫« عالم ا‪١‬تلكوت » ‪ .‬إنه يعلم‬
‫ا‪١‬تشهود ‪٢‬تم وا‪٠‬تفي عنهم ‪ .‬وكما‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و ِعن َد ُه َم َفاتِ ُح الغيب‬
‫ال َيَعْل َ ُمهَآ إِال َّ ُه َو َويَعْل َ ُم َما ِيف الْب‬
‫والبحر و َما تَس ُق ُط ِمن ورقَ ٍة إِال َّ‬
‫ََ‬ ‫َ ْ‬
‫ات األرض‬ ‫يَعْلَمهَا وال َ َحب َ ٍة ِيف ُظلُم ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ ّ‬
‫اب‬ ‫َوال َ َر ْط ٍب َوال َيَابِ ٍس إِال َّ ِيف ِكت َ ٍ‬
‫ُت } ػ األنعام ‪] 59 :‬‬ ‫ُّمبِ ٍ‬
‫إن عند اهلل علم ‪ٚ‬تيع الغيب و٭تيط‬
‫علمه بكل شيء ‪ ،‬وال ٗتىف عليه‬
‫خافية ‪ .‬إهنا إحاطة من كل ناحية ‪.‬‬
‫ُت أَي ْ ِدي ِه ْم َو َما َخل ْ َف ُه ْم‬
‫{ يَعْل َ ُم َما ب َ ْ َ‬
‫ون بِ َش ْيءٍ ِّم ْن عِل ْ ِم ِه إِال َّ ِٔتَا‬ ‫ِ‬
‫َوال َ ُ٭ت ُيط َ‬
‫َشآءَ} ‪ .‬إنه ا‪ٟ‬تق يعلم مطلق العلم‬
‫‪ .‬وكون ا‪ٟ‬تق يعلم فإن ذلك ال ينفي‬
‫أن يكون َته يعلم أيضا ‪ ،‬لكن‬
‫علم البشر هو بعض علم موهوب‬
‫من ا‪٠‬تالق لعباده ‪.‬‬
‫فعندما يقول واحد ‪ :‬أنا أقول‬
‫الشعر ‪ .‬فهل منع ذلك القول أحدا ً‬
‫آخر من أن يقول الشعر؟ ال ‪.‬‬

‫إنه لم يقل ‪ :‬ما يقول الشعر إال أنا‬


‫‪.‬‬
‫ِ‬
‫ويقول سبحانه ‪َ { :‬وال َ ُ٭ت ُيط َ‬
‫ون‬
‫بِ َش ْيءٍ ِّم ْن عِل ْ ِم ِه إِال َّ ِٔتَا َشآءَ} ‪ ،‬و «‬
‫العلم » هو الصفة اليت تعلم األشياء‬
‫عىل وفق ما هي عليه ‪ ،‬هذا هو العلم ‪.‬‬
‫وصفة اهلل وعلمه أعظم من أن‬
‫٭تاط بهم ‪ ،‬ألهنا لو أحيطت ‪ٟ‬تددت‬
‫‪ ،‬وكماالت اهلل ال ٖتدد ‪ ،‬مثلما ترى‬
‫شيئا يعجبك فتقول ‪ :‬هذه قدرة‬
‫اهلل ‪ ،‬هل هي قدرة اهلل أو مقدور‬
‫اهلل؟ إهنا مقدور اهلل أي أثر القدرة‬
‫ِ‬
‫‪ ،‬فعندما يقول ‪َ { :‬وال َ ُ٭ت ُيط َ‬
‫ون‬
‫بِ َش ْيءٍ ِّم ْن عِل ْ ِم ِه إِال َّ ِٔتَا َشآءَ} أي‬
‫من معلومه ‪.‬‬
‫« و٭تيطون » هي دقة يف األداء ‪،‬‬
‫ألنك قد تدرك معلوما من جهة‬
‫وٕتهله من جهات ‪ ،‬فأوضح‬
‫سبحانه ‪ :‬أنك ال تقدر أن ٖتيط‬
‫بعلم اهلل أو قدرته؛ ألن معٌت‬
‫اإلحاطة أنك تعرف كل شيء ‪،‬‬
‫مثل ا‪١‬تحيط عىل الدائرة ‪ ،‬لكن‬
‫ذلك ال ٯتنع أن نعلم جزئية ما ‪،‬‬
‫و‪٨‬تن نعلم ٔتا آتانا اهلل من قوانُت‬
‫االستنباط ‪ ،‬فهناك مقدمات‬
‫نستنبط منها نتائج ‪ ،‬مثل الطالب‬
‫الذي ٭تل مسألة جْب ‪ ،‬أو ٘ترين‬
‫هندسة ‪ ،‬أيعلم هذه الطالب يبا؟‬
‫ال ‪ ،‬ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة‬
‫له ويصل إىل نتائج معروفة سلفا‬
‫ألستاذه ‪ .‬وأنت ال تحيط بعلم إال ٔتا‬
‫شاء لك اهلل أن ٖتيط ‪َ { ،‬وال َ‬
‫ُ٭ت ِ ُيط ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ون ب َش ْيء ّم ْن علْمه إِال َّٔتَا َشآءَ‬
‫َ‬
‫}‪.‬‬
‫وقول اهلل ‪ { :‬إِال َّ ِٔتَا َشآءَ } هو إذن‬
‫منه سبحانه بأنه سيتفضل عىل‬
‫خلقه بأن يشاء ‪٢‬تم أن يعلموا شيئا‬
‫من معلومه ‪ ،‬وكان هذا ا‪١‬تعلوم خفيا‬
‫عنهم ومستورا يف أسرار الكون ‪،‬‬
‫ثم يأذن اهلل للسر أن ينكشف ‪،‬‬
‫وكل شيء اكتشفه العقل البشري ‪،‬‬
‫كان مطمورا يف علم الغيب وكان‬
‫سرا ًمن أسرار اهلل ‪ ،‬وبعد ذلك أذن‬
‫اهلل للسر أن ينكشف فعرفناه ‪،‬‬
‫ٔتشيئته سبحانه ‪ .‬فكل سر يف‬
‫الكون له ميبلد كاإلنسان ٘تاما ‪،‬‬
‫أي أن له ميعادا ًيظهر فيه ‪ ،‬وهذا‬
‫ا‪١‬تيعاد يس ىم مولد السر ‪ .‬لقد كان‬
‫هذا السر موجودا وكان العالم‬
‫يستفيد منه وإن لم يعلمه ‪ .‬لقد‬
‫كنا ‪٨‬تن نستفيد عىل سبيل ا‪١‬تثال‬
‫من قانون ا‪ٞ‬تاذبية ولم نكن نعلم‬
‫قانون ا‪ٞ‬تاذبية ‪ ،‬وكذلك النسبية‬
‫كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها ‪،‬‬
‫وهذا ما يبينه لنا ا‪ٟ‬تق يف موضع آخر‬
‫من القرآن الكريم ‪ ،‬قال تعاىل ‪{ :‬‬
‫َس ُن ِري ِه ْم آيَاتِنَا ِيف اْلفاق ويف‬
‫ُت َ‪٢‬ت ُ ْم أَن ّ َُه ا‪ٟ‬تق‬ ‫َ ِ‬
‫أ ُنفس ِه ْم حىت يَتَب َ َّ َ‬
‫ك أَن َّه عىل كُ ّ ِل َشيءٍ‬ ‫أَولَم ي َ ْك ِ‬
‫ْ‬ ‫ف بِ َربِّ َ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫َش ِهي ٌد } ػ فصلت ‪] 53 :‬‬
‫ما دام قال سبحانه ‪َ { :‬س ُن ِري ِه ْم }‬
‫‪ ،‬فهذا يعٍت أنه سبحانه سيولد لنا‬
‫أسرارا ًجديدة ‪ ،‬وهذا ا‪١‬تيبلد إ‪٬‬تادا ً‬
‫وإ‪٪‬تا هو إظهار ‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫الناس عن األسرار العلمية ‪ :‬إهنا‬
‫اكتشافات جديدة ‪ ،‬لقد تأدبوا يف‬
‫القول مع أن كثَتا ًمنهم َت‬
‫متدينُت ‪ ،‬قالوا ‪ :‬اكتشفنا كذا ‪،‬‬
‫كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم‬
‫ال يقصدون هذا األدب ‪ .‬إ‪٪‬تا هي‬
‫جاءت كذلك ‪ ،‬أما ا‪١‬تؤمنون‬
‫فيقولون ‪ :‬لقد أذن اهلل لذلك السر‬
‫أن يولد ‪.‬‬
‫ون بِ َش ْيءٍ ِّم ْن‬ ‫ِ‬
‫وقوله ‪َ { :‬وال َ ُ٭ت ُيط َ‬
‫عِل ْ ِم ِه إِال َّ ِٔتَا َشآءَ} فيه ٖتد واضح ‪.‬‬
‫فحىت إذا اجتمع البشر مع بعضهم‬
‫فلن ٭تيطوا بشيء إال بإذنه ‪ .‬وهذا‬
‫ٖتد للكل حُت يشاء سبحانه أن ‪٬‬تد‬
‫إظهار سر يف الوجود ‪ ،‬فهذا السر‬
‫يولد ‪ ،‬وقد يكون إظهار السر‬
‫موافقا لبحث الناس مثل العالم‬
‫الذي ‪٬‬تلس يف معمله ليجرب يف‬
‫العناصر والتفاعبلت ‪ ،‬ويهتدي‬
‫‪٢‬تذه وهذه ‪ ،‬إنه يتعب كثَتا كي‬
‫يعرف بعضا من األسرار ‪ ،‬و‪٨‬تن ال‬
‫ندري بتعبه وجهده إال يوم أن‬
‫يكشف سره ‪.‬‬
‫لقد أخذ ا‪١‬تقدمات اليت وضعها اهلل‬
‫يف الكون حىت إذا تتبعناها نصل إىل‬
‫سره ‪ ،‬مثلما نريد أن نصل إىل‬
‫الولد فنتزوج حىت يأيت ‪ ،‬وقد يأذن‬
‫اهلل مرارا ًكثَتة أن يولد السر‬
‫بدون أن يشتغل ا‪٠‬تلق ٔتقدماته ‪،‬‬
‫لكن ميعاد ميبلد السر قد جاء ولم‬
‫ينشغل العلماء ٔتقدماته؛‬
‫فيخرجه اهلل ألي ‪٥‬تًتع كنتيجة‬
‫‪٠‬تطأ يف ٕتربة ما ‪.‬‬
‫وعندما نبحث يف تاريخ معظم‬
‫االكتشافات ‪٧‬تدها كذلك ‪ ،‬لقد‬
‫جاءت مصادفة ‪ ،‬فهناك عالم‬
‫يبحث يف ‪٣‬تال ما ‪ ،‬فتخرج له‬
‫حقيقة أخرى كانت ‪٥‬تفية عنا‬
‫‪ٚ‬تيعا ً‪ .‬لقد جاء ميعاد ميبلدها عىل‬
‫َت ْتث من ا‪٠‬تلق ‪ ،‬فجاء اهلل بها يف‬
‫طريق آخر لغَتها ‪ ،‬ويف بعض‬
‫األحيان يوفق اهلل عا‪١‬تا يبحث‬
‫ا‪١‬تقدمات ويكشف له السر الذي‬
‫يبحث عنه ‪.‬‬
‫ون بِ َش ْيءٍ ِّم ْن‬ ‫ِ‬
‫إذن ‪ ،‬ف { َوال َ ُ٭ت ُيط َ‬
‫عِل ْ ِم ِه إِال َّ ِٔتَا َشآءَ} تعٍت أن‬
‫اإلنسان قد يصادف السر بالبحث‬
‫‪ ،‬ومرة يأيت سر آخر يف ‪٣‬تال البحث‬
‫عن َته ‪ ،‬فاهلل ال يضن بكشف‬
‫السر حىت لو لم يشتغلوا به‬
‫ونسميها ‪٨‬تن مصادفة إن كل شيء‬
‫‪٬‬تري يف الكون إ‪٪‬تا ‪٬‬تري ٔتقدار ‪،‬‬
‫وهذا هو الذي يفرق لنا بُت معرفة‬
‫غيب كان موجودا ًوله مقدمات يف‬
‫كون اهلل نستطيع أن نصل إليه بها‬
‫‪ ،‬وشيء مستور عند اهلل ليست له‬
‫مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه‬
‫من عنده تفضبل؛ من باب فضل‬
‫ا‪ٞ‬تود ال بذل ا‪١‬تجهود وهو سبحانه‬
‫يفيضه يف « ا‪١‬تصادفة » هنا‬
‫ويفيضه فيما ال مقدمات له عىل‬
‫بعض أصفيائه من خلقه ‪ ،‬ليعلم‬
‫الناس ‪ٚ‬تيعا ًأن هلل فيوضات عىل‬
‫بعض عبيده الذين َواال َ ُه ُم اهلل‬
‫ٔتحبته وإشراقاته وٕتليه ‪.‬‬
‫لكن هل هذا يعٍت أن باستطاعتنا‬
‫أن نعرف كل الغيب؟ ال ‪ ،‬فالغيب‬
‫قسمان ‪ :‬غيب جعل اهلل له يف‬
‫كونه مقدمات ‪ ،‬إن استعملناها‬
‫نصل إليه ‪ ،‬ككثَت من‬
‫االكتشافات ‪ ،‬وإذا شاء اهلل أن يولد‬
‫سر ما ولم نبحث عنه فهو يعطيه لنا‬
‫« مصادفة » من باب فيض ا‪ٞ‬تود ال‬
‫بذل ا‪١‬تجهود ‪ .‬ونوع آخر من‬
‫الغيب ليست له مقدمات ‪ ،‬وهذا ما‬
‫استأثر اهلل بعلمه إال أنه قد يفيض‬
‫به عىل بعض خلقه كما يقول‬
‫سبحانه ‪ { :‬عَال ِ ُم الغيب فَبل َيُ ْظ ِه ُر‬
‫عىل َيْبِ ِه أ َ َحدا ً* إِال َّ َم ِن ارتىض ِمن‬
‫ك ِمن ب َ ْ ِ‬
‫ُت ي َ َدي ْ ِه‬ ‫َّر ُس ٍ‬
‫ول فَإِن ّ َُه ي َ ْسل ُ ُ‬
‫َو ِم ْن َخل ْ ِف ِه َر َصدا ً}‬

‫ػ ا‪ٞ‬تن ‪] 27-26 :‬‬


‫إن اهلل هو عالم الغيب فبل يُطلع‬
‫أحدا من خلقه عىل يبه إال من‬
‫ارتضاه واصطفاه من البشر ‪،‬‬
‫لذلك فبل أحد يستطيع أن يتعلم‬
‫هذا اللون من الغيب ‪ .‬ولذلك فبل‬
‫يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب‬
‫يذهب إليه اإلنسان ليسأله عن‬
‫الغيب ‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬و ِعن َد ُه‬
‫َم َفاتِ ُح الغيب ال َيَعْل َ ُمهَآ إِال َّ ُه َو‬
‫والبر َو َما تَ ْس ُق ُط‬ ‫َويَعْلَم َما ِيف الْب ح‬
‫ُ‬
‫ِمن َو َرقَ ٍة إِال َّيَعْل َ ُمهَا َوال َ َحب َّ ٍة ِيف‬
‫ات األرض َوال َ َر ْط ٍب َوال َ‬ ‫ُظلُم ِ‬
‫َ‬
‫ُت } ػ األنعام‬ ‫يَابِ ٍس إِال َّ ِيف ِكت َ ٍ‬
‫اب ُّمبِ ٍ‬
‫‪] 59 :‬‬
‫وهو سبحانه ال يعطي ا‪١‬تفتاح ألحد‬
‫من خلقه ‪ .‬وقد يريد اهلل أن يعطي‬
‫لواحد كرامة ‪ ،‬فأعطاه كلمة عىل‬
‫لسانه قد يكون هو َت مدرك ‪٢‬تا!‬
‫فيقول ‪ :‬من يسمح هذا القول‬
‫وينتفع به ‪ .‬فبلن قال يل ‪ :‬كذا وكذا‬
‫‪ . .‬يا سبلم! وهذا فيض من اهلل‬
‫عىل عبده حُت يبُت اهلل لنا أنه يوايل‬
‫هؤالء العباد الصا‪ٟ‬تُت ‪.‬‬
‫ون بِ َش ْيءٍ }‬ ‫ِ‬
‫وقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ ُ٭ت ُيط َ‬
‫‪٧‬تد أن كلمة { بِ َش ْيءٍ } تعٍت أقل‬
‫القليل ‪ .‬وقوله سبحانه ‪ِّ { :‬م ْن‬
‫عِل ْ ِم ِه إِال َّ ِٔتَا َشآءَ َو ِس َع ُك ْر ِسي ُّ ُه‬
‫السماوات واألرض } يعلمنا أن‬
‫ا‪ٟ‬تق فيما يتكلم به عن نفسه‬
‫و‪٠‬تلقه فيه نظائر ‪ ،‬كالوجود ‪ ،‬هو‬
‫سبحانه موجود وأنت موجود ‪،‬‬
‫كالغٍت هو ٍت وأنت ٍت ‪ ،‬كالعلم‬
‫هو عالم وأنت تكون عا‪١‬تا ً‪ ،‬فهل‬
‫نقول ‪ :‬إن الصفة هلل كالصفة‬
‫عندنا؟ ال ‪ ،‬كذلك كل ما يرد‬
‫بالنسبة للغيب فيما يتعلق باهلل‬
‫إضافة أو وصفا ً؛ ال تأخذها‬
‫با‪١‬تناسب عندك؛ بل خذها يف‬
‫إطار { لَي ْ َس َك ِمثْلِ ِه َش ْي ٌء } ‪ .‬فإذا‬
‫قيل هلل يد ‪ ،‬قل ‪ :‬هو له يد كما أن‬
‫له وجوداً؛ ؤتا أن وجوده ليس‬
‫كوجودي فيده ليست كيدي بل‬
‫افهمها يف إطار { لَي ْ َس َك ِمثْلِ ِه‬
‫َش ْي ٌء } ‪ ،‬فإذا قال ‪َ { :‬و ِس َع ُك ْر ِسي ُّ ُه‬
‫} نقول ‪ :‬هو قال هذا ‪ ،‬ومادام قال‬
‫هذا فسنأخذ هذه الكلمة يف إطار {‬
‫لَي ْ َس كَ ِمثْلِ ِه َش ْي ٌء } ‪ .‬فبل تقل له‬
‫كرسي وسيقعد عليه مثلنا ‪ ،‬ال ‪ .‬لقد‬
‫وجدنا من قال ‪ :‬أين يوجد اهلل؟ !!‬
‫مىت وجد؟!! وقلنا ونقول ‪ « :‬مىت »‬
‫و « أين » ال تأيت بالنسبة هلل ‪ ،‬إهنا‬
‫تأيت بالنسبة لكم أنتم ‪١ ،‬تاذا؟ ألن‬
‫« مىت » زمان و « أين » مكان ‪.‬‬
‫والزمان وا‪١‬تكان ظرفان للحدث ‪،‬‬
‫فالشيء ا‪ٟ‬تادث هو الذي له زمان‬
‫ومكان ‪ ،‬مثال ذلك أن أقول ‪ « :‬أنا‬
‫شربت » ومادام قد حدث الشرب‬
‫فيكون له زمان ومكان ‪ ،‬لكن هب‬
‫أنٍت لم أشرب ‪ ،‬أيكون هناك‬
‫زمان أو مكان؟! ال ‪ ،‬فمادام اهلل‬
‫ليس حدثا ًفليس متعلقا ًبه زمان أو‬
‫مكان ‪ ،‬ألن الزمان وا‪١‬تكان نشأ‬
‫عندما خلق اهلل وأحدث هذا‬
‫الكون ‪ ،‬فبل تقل ‪ « :‬مىت » ألن «‬
‫مىت » ُخلِقَت به ‪ ،‬وال تقل « أين »‬
‫ألن أين ُخ ِقَلت به وألن « مىت » و‬
‫« أين » ظرفان؛ هذه للزمان ‪،‬‬
‫وهذه للمكان ‪ ،‬والزمان وا‪١‬تكان‬
‫فرعا ا‪ٟ‬تديث ‪.‬‬

‫وعندما يوجد حدث فقل زمان‬


‫ومكان ‪.‬‬
‫إذن فما دام اهلل ليس حدثا ً‪ ،‬فإياك‬
‫أن تقول فيه مىت ‪ ،‬وإياك أن تقول‬
‫فيه أين ‪ ،‬ألن « مىت » و « أين »‬
‫وليدة ا‪ٟ‬تدث ‪ .‬وقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و ِس َع‬
‫ُك ْر ِسي ُّ ُه } نأخذه كما قلنا يف إطار‬
‫{ لَي ْ َس َك ِمثْلِ ِه َش ْي ٌء } ‪ ،‬الكرسي ‪:‬‬
‫يف اللغة من ال ِك ْرس ‪ .‬وال ِك ْر ُس هو ‪:‬‬
‫التجميع ‪ ،‬ومنه الكراسة وهي عدة‬
‫أوراق ‪٣‬تمعة ‪ ،‬وكلمة « كرسي »‬
‫استعملت يف اللغة ٔتعٌت األساس‬
‫الذي يُبٌت عليه الشيء ‪ ،‬فمادة «‬
‫الكرسي » ( الكاف والراء والسُت‬
‫) تدل عىل التجميع وتدل عىل‬
‫األساس الذي تثبت عليه األشياء؛‬
‫فنقول ‪ :‬اصنع ‪٢‬تذا ا‪ٞ‬تدار كرسيًّا ‪،‬‬
‫أي ضع ‪٢‬تذا ا‪ٞ‬تدار أساسا ًيقوم‬
‫عليه ‪ .‬وتطلق أيضا ًعىل القوم‬
‫والعلماء الذين يقوم بهم األمر‬
‫فيما يشكل من األحداث ‪،‬‬
‫والشاعر العريب قال ‪ « :‬كراسي يف‬
‫األحداث حُت تنوب » أي يعتمد‬
‫عليهم يف األمور ا‪ٞ‬تسيمة ‪.‬‬
‫وحُت يُنسب شيء من ذلك للحق‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ .‬فإن السلف ‪٢‬تم‬
‫فيها كبلم وا‪٠‬تلف ‪٢‬تم فيها كبلم ‪،‬‬
‫والسلف يقولون ‪ :‬كما قال اهلل‬
‫نأخذها ولكن نضع كيفيتها‬
‫وتصورها يف إطار { لَي ْ َس كَ ِمثْلِ ِه‬
‫َش ْي ٌء } ‪ ،‬وبعضهم قال ‪ :‬نؤو‪٢‬تا ٔتا‬
‫يُثبت ‪٢‬تا صفة من الصفات ‪ ،‬كما‬
‫يثبتون قدرة ا‪ٟ‬تق بقوله ا‪ٟ‬تكيم ‪:‬‬
‫{ ي َ ُد اهلل فَ ْو َق أَي ْ ِدي ِه ْم } ػ الفتح ‪:‬‬
‫‪] 10‬‬
‫أي أن قدرة اهلل فوق قدرهتم ‪،‬‬
‫وكما قال سبحانه عن قدرته يف‬
‫اها بِأَيي ْ ٍد‬
‫ا‪٠‬تلق ‪ { :‬والسمآء بَنَيْن َ َ‬
‫ِ‬
‫ون } ػ الذاريات ‪47 :‬‬ ‫َوإِن َّا َ‪١‬تُوس ُع َ‬
‫]‬
‫إن كمال قدرة اهلل أحكمت خلق‬
‫السماء ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق سبحانه مقدس‬
‫زن ٌه عن أن يتصور ا‪١‬تخلوق كلمة‬ ‫َو ُم َ َّ‬
‫« يد » بالنسبة هلل ‪ .‬و‪٨‬تن نقول ‪:‬‬
‫اهلل قال ذلك ‪ ،‬ونأخذها من اهلل؛‬
‫ألنه أعلم بذاته وبنفسه ‪ُ ،‬و‪٨‬تيلها‬
‫إىل أال َّيكون له شبيه أو نظَت ‪ ،‬كما‬
‫أثبتنا هلل كثَتا ًمن الصفات ‪ ،‬يف‬
‫خلق اهلل مثلها ومع ذلك نقول ‪:‬‬
‫علمه ال كعلمنا ‪ ،‬وبصره ال كبصرنا‬
‫‪ ،‬فلماذا يكون كرسيه مثل‬
‫كرسينا؟ ‪ .‬فتكون يف إطار { لَي ْ َس‬
‫َك ِمثْلِ ِه َش ْي ٌء } ‪.‬‬
‫والعلماء قالوا عن الكرسي ‪ :‬إنه ما‬
‫يُعتمد عليه ‪ ،‬فهل ا‪١‬تقصود علمه؟‬
‫‪ .‬نعم ‪ .‬وهل ا‪١‬تقصود سلطانه‬
‫وقدرته؟ ‪ .‬نعم ‪ ،‬ألن كلمة «‬
‫كرسي » توحي با‪ٞ‬تلوس فوقه ‪،‬‬
‫واإلنسان ال ‪٬‬تلس عن قيام إال إذا‬
‫استتب له األمر ‪ ،‬ولذلك يسمونه‬
‫« كرسي ا‪١‬تلك »؛ ألن األمر الذي‬
‫٭تتاج إىل قيام وحركة ال ‪٬‬تعلك‬
‫ٕتلس عىل الكرسي ‪ ،‬فعندما تقعد‬
‫عىل الكرسي ‪ ،‬فمعٌت ذلك أن األمر‬
‫بالنسبهلل‬
‫ة‬ ‫قد استتب ‪ ،‬إذن فهو‬
‫السلطان ‪ ،‬والقهر ‪ ،‬والغلبة ‪،‬‬
‫والقدرة ‪.‬‬
‫أو نقول ‪ :‬مادام قال ‪َ { :‬و ِس َع‬
‫ُك ْر ِسي ُّ ُه السماوات واألرض }‬
‫فوسع الشيء أي ‪ :‬دخل يف وسعه‬
‫واحتماله ‪ « .‬والسماوات‬
‫واألرض » ‪٨‬تن نفهمها أهنا كائنات‬
‫كبَتة بالنسبة لنا ‪ ،‬إنه سبحانه‬
‫يقول ‪٠ { :‬تََل ْ ُق السماوات‬
‫ْب ِم ْن َخل ْ ِق الناس‬ ‫َ‬
‫واألرض أكْ َ ُ‬
‫َ‬
‫ولكن أكْث َ َر الناس ال َيَعْل َ ُم َ‬
‫ون } ػ‬
‫افر ‪] 57 :‬‬
‫وعندما يقول ‪ :‬إن الكرسي وسع‬
‫السماوات واألرض ‪ ،‬إذن ‪ ،‬فهو‬
‫أعظم من السماوات واألرض أي‬
‫دخل يف وسعه السماوات واألرض‬
‫‪.‬‬

‫ولذلك « يقول أبو ذر الغفاري‬


‫رضي اهلل عنه ‪ ( :‬سألت النبي صىل‬
‫اهلل عليه وسلم عن الكرسي فقال ‪:‬‬
‫يا أبا ذر ما السماوات السبع‬
‫واألرضون السبع عند الكرسي إال‬
‫كحلقة ملقاة بأرض فبلة ‪ .‬وإن‬
‫فضل العرش عىل الكرسي كفضل‬
‫الفبلة عىل تلك ا‪ٟ‬تلقة ) » ‪.‬‬
‫والبشرية بكل ما وصلت له من‬
‫إ‪٧‬تازات علمية قد وصلت إىل‬
‫القمر فقط وهو ‪٣‬ترد ضاحية من‬
‫ضواحي األرض ‪ ،‬ومفصول عنا‬
‫ٔتسافة تقاس بالثواين الضوئية ‪،‬‬
‫ولقد تعودنا يف حياتنا أن نستخدم‬
‫وحدات ا‪١‬تيل والكيلومًت لقياس‬
‫األطوال واألبعاد الكبَتة ‪ ،‬لكننا‬
‫اكتشفنا أن هذه الوحدات ليست‬
‫ذات نفع يف قياس أبعاد النجوم؛‬
‫ألننا نعرف مثبل أن الشمس تبعد‬
‫عن األرض ثبلثة وتسعُت مليونا‬
‫من األميال ‪ ،‬ولكن عندما نريد أن‬
‫نرصد ا‪١‬تسافة بيننا وبُت أحد‬
‫النجوم فلسوف نضطر إىل‬
‫استخدام أعداد كثَتة من األصفار‬
‫أمام رقم ما ‪ ،‬وهذا ‪٬‬تعل التعبَت‬
‫َت عملي ‪ ،‬و‪٢‬تذا السبب وضع‬
‫علماء الفلك وحدة مبلئمة لقياس‬
‫أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة‬
‫الضوئية ‪ .‬و‪٨‬تن نعرف أن سرعة‬
‫الضوء حوايل ثبل‪ٙ‬تائة ألف كيلومًت‬
‫يف الثانية ‪ .‬ولذلك فقياس أي‬
‫مسافة بيننا وبُت أي ‪٧‬تم يف السماء‬
‫أمر ٭تتاج إىل حسابات دقيقة‬
‫وكثَتة ودراسة علوم متعددة ‪.‬‬
‫فالشمس بيننا وبينها ثبلثة‬
‫وتسعون مليونا ًمن األميال ويصلنا‬
‫ضوؤها يف خبلل ‪ٙ‬تاين دقائق وثلث‬
‫الدقيقة ‪ .‬والشعرى اليمانية وهي‬
‫أ‪١‬تع ‪٧‬توم السماء يصل إلينا ضؤوها‬
‫يف تسع سنوات ضوئية ‪.‬‬
‫إذن فالسنة الضوئية هي وحدة‬
‫لقياس ا‪١‬تسافات الفلكية ‪ .‬و‪٨‬تن‬
‫نذهل عندما نعرف أن بعض‬
‫النجوم يصل ضؤوها إلينا يف‬
‫‪ٜ‬تسُت سنة ضوئية!! كل ذلك‬
‫و‪٨‬تن لم نصل بعد إىل السماء‬
‫الدنيا ‪ ،‬فما بالنا ببقية السماوات؟‬
‫إذن فحدود ملك اهلل فوق تصورنا ‪.‬‬
‫ولنا أن نعرف أي تكريم من ا‪ٟ‬تق‬
‫للمؤمنُت حُت يصور لنا ضخامة‬
‫ا‪ٞ‬تنة يقول سبحانه ‪ { :‬سابقوا إىل‬
‫َمغ ْ ِف َر ٍة ِّمن َّربِّ ُك ْم َو َجنَّ ٍة َع ْر ُضهَا‬
‫كَعَ ْر ِض السمآء واألرض أُعِ ّد َْت‬
‫لِل َّ ِذي َن آ َم ُنوا ْباهلل َو ُر ُسلِ ِه ذَل ِ َ‬
‫ك فَ ْض ُل‬
‫ِ ِ‬
‫آء واهلل ُذو الفضل‬ ‫اهلل يُ ْؤتيه َمن ي َ َش ُ‬
‫العظيم } ػ ا‪ٟ‬تديد ‪] 21 :‬‬
‫هذه هي ا‪ٞ‬تنة اليت أعدها اهلل‬
‫للمؤمنُت باهلل ورسله الذين‬
‫يسارعون إىل طلب غفران اهلل ‪.‬‬
‫فإذا كان عرض ا‪ٞ‬تنة هو السماوات‬
‫واألرض ‪ ،‬فما طو‪٢‬تا إذن؟ وكم‬
‫يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف‬
‫هو أقل البعدين ‪.‬‬
‫إذن ‪٬‬تب أن نفهم أن هناك عوالم‬
‫أخرى َت السماء واألرض ‪ ،‬لكن‬
‫عيوننا ال تبصر فقط إال ما أراده ا‪ٟ‬تق‬
‫لنا من السماء واألرض ‪ ،‬ولذلك‬
‫فعندما نسمع قول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و ِس َع‬
‫ُك ْر ِسي ُّ ُه السماوات واألرض }‬
‫فلنا أن نتخيل أي عظمة هي‬
‫عظمة كرسي ذي ا‪ٞ‬تبلل واإلكرام‬
‫‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬و ِس َع ُك ْر ِسي ُّ ُه‬
‫السماوات واألرض َوال َي َ ُؤ ُ‬
‫ود ُه‬
‫ِح ْف ُظ ُه َما } ‪ ،‬ومعٌت آده الشيء ‪ ،‬أي‬
‫أثقله ‪ .‬وحىت نفهم ذلك هب أن‬
‫إنسانا ًيستطيع أن ٭تمل عشرة‬
‫كيلوجرامات ‪ ،‬فإن زدنا هذا‬
‫ا‪ٟ‬تمل إىل عشرين من‬
‫الكيلوجرامات فإن ا‪ٟ‬تمل يثقل‬
‫عليه ‪ ،‬و‪٬‬تعل عموده الفقري معوجا ً‬
‫حىت يستطيع أن يقاوم الثقل ‪.‬‬

‫فإن زدنا ا‪ٟ‬تمل أكثر فقد يقع‬


‫الرجل عىل األرض من فرط زيادة‬
‫الوزن الثقيل ‪.‬‬
‫ود ُه ِح ْف ُظ ُه َما }‬
‫إذن فمعٌت { َوال َي َ ُؤ ُ‬
‫أي أنه ال يثقل عىل اهلل حفظ‬
‫السماوات واألرض ‪ .‬إن السماء‬
‫واألرض و‪٫‬تا فوق اتساع رؤية‬
‫البشر؛ فقد وسعهما الكرسي‬
‫الرباين ‪ .‬وقال بعض ا‪١‬تفسرين ‪:‬‬
‫إذا كان الكرسي ال يثقل عليه حفظ‬
‫السماوات واألرض فما بالنا‬
‫بصاحب الكرسي!!؟‬
‫هاهو ذا ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يطمئنا‬
‫ك‬ ‫فيقول ‪ { :‬إ َِّن اهلل ُٯت ْ ِس ُ‬
‫السماوات واألرض أَن تَ ُزوال َ َولَئِن‬
‫زَالَتآ إ ِْن أ َ ْم َس َك ُه َما ِم ْن أ َ َح ٍد ِّمن‬
‫ان َحلِيما ً َغ ُفورا ً} ػ‬ ‫ِ‬
‫بَعْ ِده إِن ّ َُه ك َ َ‬
‫فاطر ‪] 41 :‬‬
‫إنه ا‪ٟ‬تق وحده سبحانه وتعاىل الذي‬
‫٭تفظ السماوات واألرض يف‬
‫توازن عجيب ومذهل ‪ ،‬ولئن ُق ِ ّد َر‬
‫‪٢‬تما أن تزوال ‪ .‬فلن ٭تفظهما أحد‬
‫بعد اهلل ‪ ،‬أي ال يستطيع أحد‬
‫إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة‬
‫الواحد القهار ‪ ،‬وإذا أراد اهلل أن‬
‫تزوال فبل يستطيع أح ٌد أن‬
‫ٯتسكهما وٯتنعهما من الزوال ‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه األشياء الضخمة‬
‫من صنع اهلل وهو فوقها ‪ ،‬فإنه عندما‬
‫يصف نفسه بأنه « عل ّي » و «‬
‫عظيم » فذلك أمر طبيعي ‪ .‬إن‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعطينا تذييبل ً‬
‫منطقيا ًيقتضيه ما تقدمت به اْلية‬
‫اًفليلة ‪ :‬آية الكرسي ‪ ،‬إنه ا‪ٟ‬تق‬
‫يقول ‪َ { :‬و ُه َو العلي العظيم }‬
‫وكلمة « عل ّي » صيغة مبالغة يف‬
‫العلو ‪ .‬و « العل ّي » هو الذي ال يوجد‬
‫ما هو أعىل منه فكل شيء دونه ‪.‬‬
‫هذه اْلية الكرٯتة اليت ‪٨‬تن‬
‫بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ ألن‬
‫كلمة « الكرسي » هي الظاهرة‬
‫فيها ‪ .‬وكلمة « الكرسي » فيها ‪:‬‬
‫تعٍت السلطان والقهر والقدرة‬
‫وا‪١‬تلكية وكلها مأخوذة من صفات‬
‫ا‪ٟ‬تق جل وعبل ‪.‬‬
‫إنه ال إله إال هو ‪ .‬إنه ا‪ٟ‬تي ‪ .‬إنه‬
‫القيوم ‪ .‬إنه الذي ال تأخذه سنة وال‬
‫نوم ‪.‬‬
‫والشفاعة عنده مأذون فيها‬
‫بإرادته هو وحده وليس بإرادة‬
‫سواه ‪ .‬وهو العليم بكل شيء ‪ ،‬الذي‬
‫يسع كرسيه السماوات واألرض‬
‫وهو العل ّي فبل أعىل منه ‪ ،‬وهو‬
‫العظيم ٔتطلق العظمة ‪ .‬وتتجمع‬
‫كل هذه الصفات لتضع أمامنا‬
‫أصول التصور يف العقيدة اإلٯتانية‬
‫‪ ،‬وقد وردت فيها أحاديث كثَتة ‪،‬‬
‫ومنها نستخلص أهنا آية ‪٢‬تا قدرها‬
‫ومقدارها عند اهلل ‪ « .‬فعن أيب‬
‫هريرة رضي اهلل عنه قال ‪» :‬‬
‫وكلٍت رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ْتفظ زكاة رمضان فأتاين آت‬
‫فجعل ٭تثو الطعام فأخذته وقلت‬
‫واهلل ألرفعنك إىل رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬إين ‪٤‬تتاج ‪،‬‬
‫وعل ّي عيال ‪ ،‬ويل حاجة شديدة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فخليت عنه ‪ ،‬فأصبحت‬
‫فقال النبي صىل اهلل عليه وسلم يا‬
‫أبا هريرة ‪ « :‬ما فعل أسَتك‬
‫البارحة »؟ قال ‪ :‬قلت يا رسول اهلل‬
‫‪ :‬شكا حاجة شديدة وعياال ‪،‬‬
‫فر‪ٛ‬تته ‪ ،‬فخليت سبيله ‪ ،‬قال ‪« :‬‬
‫أما إنه كذبك وسيعود » فعرفت‬
‫أنه سيعود لقول رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم إنه سيعود ‪ ،‬فرصدته‬
‫فجاء ٭تثو من الطعام فأخذته فقلت‬
‫‪ :‬ألرفعنك إىل رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم قال ‪ :‬دعٍت فإين ‪٤‬تتاج ‪،‬‬
‫وعلي عيال ال أعود ‪ ،‬فر‪ٛ‬تته‬
‫وخليت سبيله ‪ ،‬فأصبحت فقال يل‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا‬
‫أبا هريرة ‪ « :‬ما فعل أسَتك »؟‬
‫فقلت يا رسول اهلل ‪ :‬شكا حاجة‬
‫شديدة وعياال فر‪ٛ‬تته فخليت‬
‫سبيله قال ‪ « :‬أما إنه قد كذبك‬
‫وسيعود » فرصدته الثالثة ‪ ،‬فجاء‬
‫٭تثو من الطعام فأخذته فقلت‬
‫ألرفعنك إىل رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم وهذا آخر ثبلث مرات‬
‫أنك تزعم ال تعود ‪ ،‬قال ‪ :‬دعٍت‬
‫أعلمك كلمات ينفعك اهلل بها‬
‫قلت ‪ :‬ما هي؟‬
‫قال ‪ :‬إذا أويت إىل فراشك فاقرأ‬
‫آية الكرسي « اهلل ال إله إال هو ا‪ٟ‬تي‬
‫القيوم » حىت ٗتتم اْلية؛ فإنه لن‬
‫يزال عليك من اهلل حافظ ‪ ،‬وال‬
‫يقربنك شيطان حىت تصبح ‪،‬‬
‫فخليت سبيله ‪ ،‬فأصبحت فقال يل‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪« :‬‬
‫ما فعل أسَتك البارحة »؟ قلت يا‬
‫رسول اهلل ‪ :‬زعم أنه يعلمٍت‬
‫كلمات ينفعٍت اهلل بها فخليت‬
‫سبيله قال ‪ « :‬ما هي » قلت ‪ :‬قال‬
‫يل ‪ :‬إذا أويت إىل فراشك فاقرأ آية‬
‫الكرسي من أو‪٢‬تا حىت ٗتتم « اهلل ال‬
‫إله إال هو ا‪ٟ‬تي القيوم » ‪ ،‬وقال يل ‪:‬‬
‫لن يزال عليك من اهلل حافظ وال‬
‫يقربك شيطان حىت تصبح ‪ ،‬وكانوا‬
‫( أي الصحابة ) أحرص شيء عىل‬
‫تعلم ا‪٠‬تَت ‪ ،‬فقال النبي صىل اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬أما أنه قد صدقك‬
‫وهو كذوب ‪ ،‬تعلم من ٗتاطب منذ‬
‫ثبلث ليال يا أبا هريرة؟ قال ‪ :‬ال ‪،‬‬
‫قال صىل اهلل عليه وسلم ‪ » :‬ذاك‬
‫الشيطان « » ‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪ « :‬سورة‬
‫البقرة فيها سيدة آي القرآن ال تقرأ‬
‫يف بيت فيه شيطان إال خرج منه آية‬
‫الكرسي » ‪.‬‬
‫وعن أيب أمامه قال ‪ « :‬قال رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم » من قرأ‬
‫دبر كل صبلة آية الكرسي لم ٯتنعه‬
‫من دخول ا‪ٞ‬تنة إال أن ٯتوت « ‪.‬‬
‫وعن علي كرم اهلل وجهه عن‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال‬
‫‪ » :‬من قرأها يعٍت آية الكرسي‬
‫حُت يأخذ مضجعه آمنه اهلل تعاىل‬
‫عىل داره ‪ ،‬ودار جاره ‪ ،‬وأهل‬
‫دويرات حوله « ‪.‬‬
‫كل هذه ا‪١‬تعاين قد وردت يف أفضال‬
‫هذه اْلية الكرٯتة ‪ ،‬وقد جلس‬
‫العلماء يبحثون عن سر هذه‬
‫ا‪١‬تسألة فقال واحد منهم ‪ :‬انظروا‬
‫إىل أ‪ٝ‬تاء اهلل ا‪١‬توجودة فيها ‪.‬‬
‫وبالفعل قام أحد العلماء ْتصر‬
‫أ‪ٝ‬تاء اهلل ا‪ٟ‬تسٌت فيها ‪ ،‬فوجد أن‬
‫فيها ستة عشر ا‪ٝ‬تا ًمن أ‪ٝ‬تاء اهلل ‪،‬‬
‫وبعضهم قال ‪ :‬إن بها سبعة عشر‬
‫ا‪ٝ‬تا ًمن أ‪ٝ‬تاء اهلل ا‪ٟ‬تسٌت ‪،‬‬
‫وبعضهم قال أن فيها واحدا ً‬
‫وعشرين ا‪ٝ‬تا ًمن أ‪ٝ‬تاء اهلل ‪ ،‬كل‬
‫ذلك من أجل أن يستنبطوا منها‬
‫أشياء ‪ ،‬ويعلموا فضل وفضائل‬
‫هذه اْلية الكرٯتة ‪.‬‬

‫والذين قالوا إن بها ستة عشر ا‪ٝ‬تا‬


‫من أ‪ٝ‬تاء اهلل قالوا ‪:‬‬
‫إن بها اسم علم واجب الوجود «‬
‫اهلل » ‪.‬‬
‫واسم « هو » يف ال إله إال هو ‪ :‬هو‬
‫االسم الثاين ‪.‬‬
‫و « ا‪ٟ‬ت ّي » هو االسم الثالث ‪.‬‬
‫و « القيوم » هو االسم الرابع ‪.‬‬
‫وعندما ندقق يف قول ا‪ٟ‬تق « ال‬
‫تأخذه سنة وال نوم » ‪٧‬تد أن‬
‫الضمَت يف « ال تأخذه عائد إىل ذاته‬
‫جل شأنه ‪. .‬‬
‫و » له ما يف السماوات وما يف‬
‫األرض « فيها ضمَت عائد إىل ذاته‬
‫سبحانه ‪.‬‬
‫وكذلك الضمائر يف قوله ‪ » :‬عنده‬
‫« و » بإذنه « و » يعلم « و » من‬
‫علمه « و » ٔتا شاء « و » كرسيه «‬
‫كلها تعود إىل ذاته جل شأنه ‪.‬‬
‫و » ال يؤوده حفظهما « فيها ضمَت‬
‫عائد إىل ذاته كذلك ‪.‬‬
‫و » هو « يف قوله سبحانه » وهو‬
‫العلي العظيم « اسم من أ‪ٝ‬تائه‬
‫تعاىل ‪.‬‬
‫و » العلي « اسم من أ‪ٝ‬تائه جل‬
‫وعبل ‪.‬‬
‫و » العظيم « كذلك اسم من‬
‫أ‪ٝ‬تائه سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫لك َّن عا‪١‬تا ًآخر قال ‪ :‬إهنا سبعة عشر‬
‫ا‪ٝ‬تا ًمن أ‪ٝ‬تاء اهلل؛ ألنك لم‬
‫ٖتسب الضمَت يف ا‪١‬تصدر ا‪١‬تشتق‬
‫منه الفعل ا‪١‬توجود بقوله ‪» :‬‬
‫حفظهما « إن الضمَت يف » ‪٫‬تا «‬
‫يعود إىل السماوات واألرض ‪ .‬و »‬
‫ا‪ٟ‬تفظ « مصدر ‪ .‬فمن الذي ٭تفظ‬
‫السماوات واألرض؟ إنه اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهكذا أصبحوا‬
‫سبعة عشر ا‪ٝ‬تا ًمن أ‪ٝ‬تاء اهلل‬
‫ا‪ٟ‬تسٌت يف آية الكرسي ‪.‬‬
‫وعالم ثالث قال ‪ :‬ال ‪ ،‬أنتم ٕتاهلتم‬
‫أ‪ٝ‬تاء أخرى؛ ألن يف اْلية الكرٯتة‬
‫أ‪ٝ‬تاء واضحة للحق جل وعبل ‪،‬‬
‫وهناك أ‪ٝ‬تاء مشتقة ‪ ،‬مثال ذلك ‪:‬‬
‫اهلل ال إله إال هو ‪ .‬ا‪ٟ‬تي هو ‪ .‬القيوم‬
‫هو ‪ .‬العلي هو ‪ .‬العظيم هو ‪.‬‬
‫ولكن العلماء قالوا ردا عىل ذلك ‪:‬‬
‫صحيح أهنا أ‪ٝ‬تاء مشتقة ولكنها‬
‫صارت أعبلما ً‪.‬‬
‫ا‪١‬تهم أن يف اْلية الكرٯتة ة‬
‫ست‬
‫عشر ا‪ٝ‬تا ً‪ ،‬وإن حسبنا الضمَت‬
‫ا‪١‬تستًت يف » حفظهما « ‪٧‬تد أهنا‬
‫سبعة عشر ا‪ٝ‬تا ً‪ ،‬وإذا حسبنا‬
‫الضمَت ا‪١‬توجود يف ا‪١‬تشتقات مثل‬
‫» ا‪ٟ‬تي هو « و » القيوم هو « و »‬
‫العلي هو « و » العظيم هو « ‪.‬‬
‫صارت أ‪ٝ‬تاء اهلل ا‪ٟ‬تسٌت ا‪١‬توجودة‬
‫يف هذه اْلية الكرٯتة واحدا ً‬
‫وعشرين ا‪ٝ‬تا ً‪ .‬إذن هي آية قد‬
‫‪ٚ‬تعت قدرا ًكبَتا من أ‪ٝ‬تاء اهلل ‪،‬‬
‫ومن ذلك جاءت عظمتها ‪.‬‬
‫وهذه اْلية الكرٯتة قد بيّنت‬
‫ووضحت قواعد التصور اإلٯتاين ‪،‬‬
‫وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز‬
‫ا‪١‬تؤمن أن تكون هذه العقيدة‬
‫عقيدته ‪.‬‬
‫واْلية يف ذاهتا تتضمن حيثيات‬
‫اإلٯتان ‪ ،‬إنه ما دام هو اهلل ال إله إال‬
‫هو ‪ ،‬وما دام هو ا‪ٟ‬ت ّي القيوم عىل أمر‬
‫السماء واألرض ‪ ،‬وكل شيء بيده ‪،‬‬
‫وهو العلي العظيم ‪ ،‬فكل هذه‬
‫مْبرات ألن نؤمن به سبحانه‬
‫وتعاىل ‪ ،‬وأن نعتز بأن نعتقد هذه‬
‫ا‪١‬تعتقدات ‪ ،‬وتكون هي الدليل عىل‬
‫أن ا‪١‬تؤمن فخور بهذا الدين الذي‬
‫كان أمر األلوهية ا‪١‬تطلقة واضحا ً‬
‫وبُتفيه ‪.‬‬
‫ّ اً‬
‫ولذلك فمن الطبيعي أال يقهر ا‪ٟ‬تق‬
‫أحدا ًعىل اإلٯتان به إكراها ً‪ ،‬ألن‬
‫الذي يقهر أحدا ًعىل عقيدة ما ‪ ،‬هو‬
‫أول َم ْن يعتقد أنه لوال اإلكراه عىل‬
‫هذه العقيدة ‪١‬تا اعتقدها أحد ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن يف حياتنا اليومية ‪٧‬تد أن‬
‫أصحاب ا‪١‬تبادئ الباطلة هم الذين‬
‫ٯتسكون السياط من أجل إكراه‬
‫الناس عىل السَت عىل مبادئهم ‪.‬‬
‫وكل من أصحاب هذه ا‪١‬تبادئ‬
‫الباطلة يعلم ٘تام العلم أنه لو‬
‫ترك السوط والقهر ما سار إنسان‬
‫عىل مثل هذه ا‪١‬تبادئ الباطلة ‪.‬‬
‫ولو كان أحد من أصحاب هذه‬
‫ا‪١‬تبادئ الباطلة معتقدا ًأن مبدأه‬
‫سليم لقال ‪ :‬أطرح هذا ا‪١‬تبدأ عىل‬
‫الناس ‪ ،‬وأترك ‪٢‬تم ا‪٠‬تيار؛ ألنه يف‬
‫هذه ا‪ٟ‬تالة سيكون واثقا ًمن مبدئه‬
‫‪ .‬أما الذي يقهر الناس إكراها‬
‫بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ‬
‫ما ‪ ،‬فهو أول من يشك يف هذا ا‪١‬تبدأ‬
‫‪ ،‬وهو أول من يعتقد أنه مبدأ باطل‬
‫‪ .‬مثل هؤالء نراهم عندما تضعف‬
‫أيديهم عن استعمال السوط أو‬
‫السلطان فإن أمر مبدئهم ينهزم‬
‫ويسقط بنيانه ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل بعد ذلك‬
‫يقول ‪ { :‬ال َإِك َْر َاه ِيف الدين قَد تَّب َ َّ َ‬
‫ُت‬
‫الرشد ِم َن الغي ‪} . . .‬‬
‫ِ‬
‫ُت ال ُّر ْش ُد‬‫َال إِك َْر َاه ِيف ال ّدي ِن قَ ْد تَب َ َّ َ‬
‫وت‬‫الطا ُغ ِ‬ ‫ِم َن الْغ َ ِّي فَ َم ْن ي َ ْك ُف ْر بِ َّ‬
‫ك بِال ْ ُع ْر َو ِة‬
‫اّلل فَ َق ِد ْاس َْمت َس َ‬ ‫ويُ ْؤ ِم ْن بِ َ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫‪ٝ‬تي ٌع‬ ‫اّلل َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثْ‬
‫ام َ‪٢‬تَا َو َّ ُ‬ ‫ال ْ ُو َىق َال انْف َص َ‬
‫يم (‪)256‬‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يوضح لنا‬
‫‪٨‬تن العباد ا‪١‬تؤمنُت ولسائر البشرية‬
‫أنه ‪ { :‬ال َإِك َْر َاه ِيف الدين } ‪.‬‬
‫واإلكراه هو أن ٖتمل الغَت عىل‬
‫فعل ال يرى هو خَتا ًيف أن يفعله ‪.‬‬
‫أي ال يرى الشخص ا‪١‬تك َره فيه‬
‫خَتا ًحىت يفعله ‪.‬‬
‫ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من‬
‫حولنا لصا‪ٟ‬تهم ‪ ،‬كأن نرغم األبناء‬
‫عىل ا‪١‬تذاكرة ‪ ،‬وهذا أمر لصاٌف‬
‫األبناء ‪ ،‬وكأن ‪٧‬تْب األطفال ا‪١‬ترىض‬
‫عىل تناول الدواء ‪ .‬ومثل هذه‬
‫األمور ليست إكراها ً‪ ،‬إ‪٪‬تا هي‬
‫أمور نقوم بها لصاٌف من حولنا؛ ألن‬
‫أحدا ًال يسره أن يظل مريضا ً‪.‬‬
‫إن اإلكراه هو أن ٖتمل الغَت عىل‬
‫فعل من األفعال ال يرى فيه هو‬
‫ا‪٠‬تَت ٔتنطق العقل السليم ‪.‬‬
‫ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪ { :‬ال َ‬
‫إِك َْر َاه ِيف الدين } ‪ .‬ومعٌت هذه‬
‫اْلية أن اهلل لم يكره خلقه وهو‬
‫خالقهم عىل دين ‪ ،‬وكان من‬
‫ا‪١‬تمكن أن اهلل يقهر اإلنسان‬
‫ا‪١‬تختار ‪ ،‬كما قهر السماوات‬
‫واألرض وا‪ٟ‬تيوان والنبات وا‪ٞ‬تماد‬
‫‪ ،‬وال أحد يستطيع أن يعىص أمره ‪.‬‬
‫َ‬
‫فيقول سبحانه ‪ { :‬ل ّ ْو ي َ َش ُ‬
‫آء اهلل‬
‫َ‪٢‬ت َ َدى الناس َ‪ٚ‬تِيعا ً} ػ الرعد ‪:‬‬
‫‪] 31‬‬
‫لكن ا‪ٟ‬تق يريد أن يعلم من يأتيه‬
‫‪٤‬تبا ً‪٥‬تتارا ًوليس مقهورا ً‪ ،‬أن‬
‫ا‪١‬تجيء قهرا ًيثبت له القدرة ‪ ،‬وال‬
‫يثبت له ا‪١‬تحبوبية ‪ ،‬لكن من‬
‫يذهب له طواعية وهو قادر أال‬
‫يذهب فهذا دليل عىل ا‪ٟ‬تب ‪،‬‬
‫فيقول تعاىل ‪ { :‬ال َإِك َْر َاه ِيف الدين‬
‫} أي أنا لم أضع مبدأ اإلكراه ‪،‬‬
‫وأنا لو شئت ْلمن من يف األرض‬
‫كلهم ‪ٚ‬تيعا ً‪ .‬فهل الرسل الذين‬
‫أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه‬
‫إن الرسول جاء لينقل‬ ‫الناس؟ ‪ .‬ال ‪ّ ،‬‬
‫عن اهلل ال ليكره الناس ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه قد جعل خلقه ‪٥‬تتارين ‪،‬‬
‫وإال لو أكرههم ‪١‬تا أرسل الرسل ‪،‬‬
‫ولذلك يقول ا‪١‬توىل عز وجل ‪{ :‬‬
‫ك ْل َم َن َمن ِيف األرض‬ ‫َول َ ْو َشآءَ َربُّ َ‬
‫ِ َ‬
‫كُل ُّ ُه ْم َ‪ٚ‬تيعا ًأَفَأ َ‬
‫نت ُت ْك ِر ُه الناس‬
‫ُت } ػ يونس ‪:‬‬ ‫ِِ‬
‫حىت ي َ ُكونُوا ْ ُم ْؤمن َ‬
‫‪] 99‬‬
‫إن الرسول له مهمة الببلغ عن‬
‫اهلل؛ ألن اهلل لم يرد خلقه مكرهُت‬
‫عىل التدين ‪ ،‬إذن فا‪١‬تبلغ عنه ال‬
‫يُكره خلقه عىل التدين ‪ ،‬إال أن هنا‬
‫لبسا ً‪ .‬فهناك فرق بُت القهر عىل‬
‫الدين ‪ ،‬والقهر عىل مطلوب الدين‬
‫‪ ،‬هذا هو ما ٭تدث فيه اٍفالف ‪.‬‬
‫تقول ‪١‬تسلم ‪١ :‬تاذا ال تصلي؟ يقول‬
‫لك ‪ { :‬ال َإِك َْر َاه ِيف الدين } ‪،‬‬
‫ويدعي أنه مثقف ‪ ،‬ويأتيك بهذه‬
‫اْلية ليلجمك بها ‪ ،‬فتقول له ‪ :‬ال ‪.‬‬
‫{ ال َإِك َْر َاه ِيف الدين } عقيدة‬
‫وإٯتانا ً‪ ،‬إ‪٪‬تا إن آمنت وأعلنت‬
‫أنك آمنت باهلل وصرت معنا‬
‫مسلما ًفبل بد أن تعرف أنك إن‬
‫كسرت حكما ًمن أحكام اإلسبلم‬
‫نطلب منك أن تؤديه ‪ ،‬أنت حر أن‬
‫تؤمن أو ال تؤمن ‪ ،‬لكن حُت‬
‫التزمت باإلٯتان ‪ ،‬فعليك مسئولية‬
‫تنفيذ مطلوب اإلٯتان ‪ ،‬وإال حسب‬
‫تصرفك أنه من تصرفات اإلسبلم‬
‫‪ ،‬فإذا كنت تشرب ‪ٜ‬ترا ًفإنك‬
‫حر؛ ألنك كافر مثبل ً‪ ،‬لكن أتؤمن‬
‫ثم تشرب ‪ٜ‬ترا ً!؟ ال ‪.‬‬

‫أنت بذلك تكسر حدا ًمن حدود‬


‫اهلل ‪ ،‬وعليك العقاب ‪.‬‬
‫وألنك مادمت قد علمت كعاقل‬
‫رشيد مطلوب اإلسبلم ‪ ،‬فعليك أن‬
‫تنفذ مطلوب اإلسبلم ‪ ،‬ولذلك لم‬
‫يكلف اهلل اإلنسان قبل أن ينضج‬
‫عقله بالبلوغ؛ حىت ال يقال ‪ :‬إن اهلل‬
‫قد أخذ أحدا ًباإلٯتان وألزمه به‬
‫قبل أن يكتمل عقله ‪ .‬بل ترك‬
‫التكليف حىت ينضج اإلنسان‬
‫ويكتمل ‪ ،‬حىت إذا دخل إىل دائرة‬
‫التكليف عرف مطلوباته ‪ ،‬وهو حر‬
‫أن يدخل إىل اإلٯتان أو ال يدخل ‪،‬‬
‫لكن إن دخل سيحاسب ‪.‬‬
‫ُ‬
‫إذن فبل يقل أحد عندما يسمع‬
‫حكما ًمن أحكام الدين ‪ { :‬ال َ‬
‫إِك َْر َاه ِيف الدين } ؛ ألن هذه اْلية‬
‫نزلت بشأن العقيدة األساسية ‪،‬‬
‫فإن اتبعت هذه العقيدة صار لزاما ً‬
‫عليك أن تويف ٔتطلوباهتا ‪ .‬وقد‬
‫أراد خصوم اإلسبلم أن يصعدوا‬
‫هذه العملية فقالوا كذبا ًوافًتاء ‪:‬‬
‫إن اإلسبلم انتشر ْتد السيف ‪.‬‬
‫ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬لقد شاء اهلل أن ينشأ‬
‫اإلسبلم ضعيفا ًويُضطهد‬
‫السابقون إليه كل أنواع االضطهاد‬
‫‪ ،‬ويُعذبون ‪ ،‬و ُٮترجون من ديارهم‬
‫ومن أموا‪٢‬تم ومن أهلهم ‪ ،‬وال‬
‫يستطيعون عمل شيء ‪ .‬إذن ففًتة‬
‫الضعف اليت مرت باإلسبلم أوال‬
‫فًتة مقصودة ‪.‬‬
‫ونقول ‪٢‬تم أيضا ‪ :‬من الذي قهر‬
‫وأجْب أول حامل للسيف أن ٭تمل‬
‫السيف؟! وا‪١‬تسلمون ضعاف‬
‫ومغلبون عىل أمرهم ‪ ،‬ال يقدرون‬
‫عىل أن ٭تموا أنفسهم ‪ ،‬إنكم‬
‫تقعون يف ا‪١‬تتناقضات عندما‬
‫تقولون ‪ :‬إن اإلسبلم ن ُ ِش َر بالسيف‬
‫‪ .‬ويتحدثون عن ا‪ٞ‬تزية رفضا ً‪٢‬تا ‪،‬‬
‫فنقول ‪ :‬وما هي ا‪ٞ‬تزية اليت يأخذها‬
‫اإلسبلم من َت ا‪١‬تسلمُت‬
‫كضريبة للدفاع عنهم؟ لقد كان‬
‫ا‪١‬تسلمون يأخذون ا‪ٞ‬تزية من‬
‫الببلد اليت دخلها الفتح اإلسبلمي ‪،‬‬
‫أي أن هناك أناسا ًبقوا عىل دينهم ‪.‬‬
‫ومادام هناك أناس باقون عىل‬
‫دينهم فهذا دليل عىل أن اإلسبلم‬
‫لم يُكره أحدا ً‪.‬‬
‫وقول اهلل ‪ { :‬ال َإِك َْر َاه ِيف الدين }‬
‫علته أن الرشد واضح والغي واضح‬
‫‪ ،‬ومادام األمر واضحا فبل يأيت‬
‫اإلكراه يأيت يف وقت اللبس ‪ ،‬وليس‬
‫هناك لبس ‪ ،‬لذلك قيول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ُت الرشد ِم َن الغي } ‪ .‬ومادام‬
‫قَد تَّب َ َّ َ‬
‫الرشد بائنا من الغ ّي فبل إكراه ‪.‬‬
‫لكن اهلل يعطيك األدلة ‪ ،‬وأنت أيها‬
‫اإلنسان بعقلك ٯتكنك أن ٗتتار ‪،‬‬
‫كي تعرف أنك لو دخلت الدين‬
‫اللتزمت ‪ ،‬وحوسبت عىل دخولك يف‬
‫الدين ‪ ،‬فبل تدخل إال وأنت مؤمن‬
‫واثق بأن ذلك هو ا‪ٟ‬تق؛ ألنه‬
‫سيًتتب عليه أن تقبل أحكام‬
‫الدين عليك ‪.‬‬
‫{ ال َإِك َْر َاه ِيف الدين قَد َّتب َ َّ َ‬
‫ُت الرشد‬
‫ِم َن الغي } والرشد ‪ :‬هو طريق‬
‫النجاة ‪ ،‬و « الغي » ‪ :‬هو طريق‬
‫ا‪٢‬تبلك ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق إيضاحا ً‬
‫للرشد والغي يف آية أخرى من آيات‬
‫القرآن الكريم ‪َ { :‬سأ َ ْص ِر ُف َع ْن‬
‫ون ِيف األرض‬ ‫ي‬
‫ْب َ‬ ‫آي َ ِايت الذ ن يَت َ َك َّ ُ‬
‫َت ا‪ٟ‬تق َوإِن ي َ َر ْوا ْكُ َّل آي َ ٍة ال َّيُ ْؤ ِم ُنوا ْ‬ ‫بِغ َ ْ ِ‬
‫ِيل الرشد ال َ‬ ‫بِهَا َوإِن ي َ َر ْوا ْ َسب َ‬
‫ِيل الغي‬ ‫يَتَّ ِخ ُذ ُوه َسبِيبل ً َوإِن ي َ َر ْوا ْ َسب َ‬
‫يَتَّ ِخ ُذ ُوه َسبِيبل ًذلك بِأ َ َّهن ُ ْم َك َّذ ُبوا ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ُت}‬ ‫بِآيَاتنَا َوكَانُوا ْ َع ْ َنها َافل َ‬
‫ػ األعراف ‪] 146 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يعلمنا أن ا‪١‬تتكْبين يف‬
‫األرض بغَت حق لن يستطيعوا‬
‫الفوز برؤية آيات اهلل ودالئل‬
‫قدرته ‪ ،‬وحىت إن رأوا السبيل‬
‫الصحيح فلن يسَتوا فيه ‪ ،‬وإن‬
‫شاهدوا طريق الضبلل سلكوا فيه‬
‫ألهنم يكذبون بآيات الر‪ٛ‬تن‬
‫ويغفلون عنها ‪ .‬والغي أيضا هو‬
‫ضبلل الطريق ‪ ،‬فعندما يسَت‬
‫إنسان يف الصحراء ويضل الطريق‬
‫يقال عنه ‪ « :‬فبلن قد غوى » أي‬
‫فقد االٕتاه الصحيح يف السَت ‪ ،‬وقد‬
‫يتعرض ‪١‬تخاطر ‪ٚ‬تة كلقاء‬
‫الوحوش و َت ذلك ‪ .‬ويوضح لنا‬
‫ا‪ٟ‬تق طريق الرشد ٔتنطوق آخر يف‬
‫قوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وأَن َّا ال َندري أ َ َش ٌّر‬
‫أُ ِري َد بِ َمن ِيف األرض أ َ ْم أ َ َرادَ بِ ِه ْم‬
‫َربُّ ُه ْم َر َشدا ً} ػ ا‪ٞ‬تن ‪] 10 :‬‬
‫إن ا‪ٞ‬تن قد ظنوا كما ظن بعض من‬
‫معشر اإلنس أن اهلل لن يبعث أحدا ً‬
‫بعد ا‪١‬توت أو لن يرسل رسوال ًمن‬
‫البشر ‪٢‬تداية الكون ‪ .‬وقد طلب‬
‫ا‪ٞ‬تن بلوغ السماء فوجدوها قد‬
‫ُملئت حرسا ًمن ا‪١‬تبلئكة ُ‬
‫وشهبا ً‬
‫‪٤‬ترقة ‪ .‬وإن ا‪ٞ‬تن ال يعلمون السر‬
‫يف حراسة السماء وهل يف ذلك َش ٌّر‬
‫بالبشر أو أراد اهلل بهم خَتا ًوهدى‬
‫‪ .‬إذن فال ُّر ْشد بضم الراء وتسكُت‬
‫الشُت وال َر َشد بفتح الراء وفتح‬
‫الشُت كبل‪٫‬تا يوضح الطريق‬
‫ا‪١‬توصل للنجاة ‪ .‬ويقابل الرشد‬
‫الغ ّي ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَ َم ْن ي َ ْك ُف ْر‬
‫بالطاغوت َوي ْ ْؤ ِمن باهلل فَ َق ِد‬
‫استمسك بالعروة الوثىق} أوال ‪:‬‬
‫نلحظ أن ا‪ٟ‬تق هنا قد قدم الكفران‬
‫بالطاغوت ‪ ،‬ثم جاء باإلٯتان باهلل؛‬
‫ألن األمر يتطلب التخلية أوال‬
‫والتحلية ثانيا ‪ ،‬البد أن يتخىل‬
‫اإلنسان من الطاغوت فبل يدخل‬
‫عىل أنه يؤمن باهلل ويف قلبه‬
‫الطاغوت ‪ ،‬فنح ن قبل أن نكوي‬
‫الثوب نغسله وننظفه ‪ ،‬والتخلية‬
‫قبل التحلية ‪.‬‬
‫وما هو « الطاغوت »؟ إنه من مادة‬
‫« طىغ » ‪ ،‬وكلمة « طاغوت »‬
‫مبالغة يف الطغيان ‪ .‬لم يقل ‪ :‬طاغ ‪،‬‬
‫بل طاغوت ‪ ،‬مثل جْبوت ‪،‬‬
‫والطاغوت إما أن يطلق عىل‬
‫الشيطان ‪ ،‬وإما أن يُطلق عىل من‬
‫يعطون أنفسهم حق التشريع‬
‫يفكَ ِّفرون وينسبون من يشاءون‬
‫إىل اإلٯتان حسب أهوائهم ‪،‬‬
‫ويعطون أشياء بسلطة زمنية من‬
‫عندهم ‪ ،‬ويُطلق أيضا ًعىل السحرة‬
‫والدجالُت ‪ ،‬ويُطلق عىل كل من طىغ‬
‫وٕتاوز ا‪ٟ‬تد يف أي شيء ‪ ،‬فكلمة «‬
‫طاغوت » مبالغة ‪ ،‬وقد تكون هذه‬
‫ا‪١‬تبالغة متعددة األلوان ‪ ،‬فمرة‬
‫شيطان‪ ،‬ومرة‬
‫ا‬ ‫يكون الطاغي‬
‫يكون الطاغي كاهنا ً‪ ،‬ومرة يكون‬
‫ساحرا ًأو دجاال ً‪ ،‬ومرة يكون‬
‫حاكما ً‪.‬‬
‫ومادة « الطاغوت » تدل عىل أن‬
‫ا‪١‬توصوف بها هو من تزيده الطاعة‬
‫له طغيانا ً‪ ،‬فعندما ‪٬‬تربك يف حاجة‬
‫صغَتة ‪ ،‬فتطيعه فيها فيزداد بتلك‬
‫الطاعة طغيانا عليك ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه يقول ‪ { :‬فاستخف َق ْو َم ُه‬
‫ُت }‬ ‫وه إ َِّهنُم كَانُوا ْقَوما ًفَا ِسقِ‬‫ع‬ ‫ا‬ ‫ط‬
‫َ‬ ‫فَأ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ػ الزخرف ‪] 54 :‬‬
‫ويزيد يف األمر حىت يصَت طاغية ‪،‬‬
‫وال يوجد أحد استهل عمله‬
‫بالطغيان العايل ‪ ،‬إ‪٪‬تا يبدأ األمر‬
‫خطوة خطوة ‪ ،‬كأي نظام‬
‫ديكتاتوري قهري ‪ ،‬إنه يبدأ ب (‬
‫جس نبض ) فإن صْب الناس ‪ ،‬ازداد‬
‫هذا النظام يف القسوة حىت يصَت‬
‫طاغوتا ‪ ،‬إذن فالطاغوت هو الذي‬
‫تستزيده الطاعة طغيانا ‪ ،‬و ُتطلق‬
‫عىل الشيطان؛ ألنه هو األساس ‪،‬‬
‫وعىل الذين يتكلمون باسم الدين‬
‫للسلطة الزمنية ( سواء كانوا كهانا ً‬
‫أو َتهم ) ‪ ،‬و ُتطلق عىل الذين‬
‫يسحرون ويدجلون ‪ ،‬ألهنم طغوا‬
‫ٔتا علموه؛ إهنم يستعملون أشياء‬
‫يتعبون بها الناس ‪ ،‬وقد جاءت‬
‫الكلمة هنا بصيغة ا‪١‬تبالغة‬
‫الشتما‪٢‬تا عىل كل هذه ا‪١‬تعاين ‪ ،‬وإذا‬
‫استعرضنا الكلمة يف القرآن ‪٧‬تد أن‬
‫« الطاغوت » ترد مذكرة يف بعض‬
‫األحيان ‪ ،‬وقد وردت مؤنثة يف آية‬
‫واحدة يف القرآن ‪:‬‬
‫{ والذين اجتنبوا الطاغوت أَن‬
‫وها وأنابوا إ َِىل اهلل َ‪٢‬ت ُ ُم‬
‫يَعْب ُ ُد َ‬
‫البشرى فَب َ ِّش ْر ِعبَا ِد} ػ الزمر ‪:‬‬
‫‪] 17‬‬
‫لقد أوضحت هذه اْلية أهنم‬
‫تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه‬
‫‪ ،‬أي إن الذين اجتنبوا األلوان‬
‫ا‪١‬تتعددة من الطغيان هم الذين‬
‫يتجهون بالعبادة ا‪٠‬تالصة هلل ‪ ،‬و‪٢‬تم‬
‫البشرى ‪ { .‬فَ َم ْن ي َ ْك ُف ْر بالطاغوت‬
‫َوي ْ ْؤ ِمن باهلل فَقَ ِد استمسك بالعروة‬
‫الوثىق } وكلمة { استمسك }‬
‫َت كلمة « مسك » ‪ .‬ألن {‬
‫استمسك } تدل عىل أن فيه‬
‫‪٣‬تاهدة يف ا‪١‬تسك ‪ ،‬والذي يتدين‬
‫٭تتاج إىل ‪٣‬تاهدة يف التدين؛ ألن‬
‫الشيطان لن يًتكه ‪ ،‬فبل يكفي أن‬
‫٘تسك ‪ ،‬بل عليك أن تستمسك ‪،‬‬
‫كلما وسوس الشيطان لك بأمر‬
‫فعليك أن تستمسك بالتدين ‪،‬‬
‫هذا يدل عىل أن هناك ‪٣‬تاهدة‬
‫وردا ً‪ { .‬فَ َق ِد استمسك‬
‫وأخذا ً ّ‬
‫بالعروة } والعروة هي العبلقة ‪،‬‬
‫مثلما نقول ‪ « :‬عروة الدول » ‪،‬‬
‫اليت ٘تسكها منه ‪ ،‬وهذه عادة ما‬
‫تكون مصنوعة من ا‪ٟ‬تبل ا‪١‬تلفوف‬
‫ا‪١‬تتُت ‪ ،‬و « الوثىق » هي تأنيث «‬
‫األوثق » أي أمر موثوق به ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫{ فَ َق ِد استمسك بالعروة الوثىق }‬
‫‪ ،‬قد يكون تشبيها بعروة الدلو ألن‬
‫اإلنسان يستخدم الدلو ليأيت با‪١‬تاء‬
‫‪ ،‬وبا‪١‬تاء حياة البدن ‪ ،‬وبالدين حياة‬
‫القيم ‪.‬‬
‫{ فَقَ ِد استمسك بالعروة الوثىق }‬
‫كأنه ساعة جاء بكلمة « عروة »‬
‫يأيت بالدلو يف بال اإلنسان ‪ ،‬والدلو‬
‫تأيت با‪١‬تاء ‪ ،‬وا‪١‬تاء به حياة البدن ‪،‬‬
‫إذن فهذه تعطينا إ٭تاءات التصور‬
‫واضحة ‪ { ،‬فَقَ ِد استمسك‬
‫بالعروة الوثىق } ‪ ،‬وما دامت «‬
‫عروة وثىق » اليت هي الدين‬
‫واإلٯتان باهلل ‪ ،‬وما دامت هي‬
‫الدين وحبل اهلل فهذه وثىق ‪ ،‬وما‬
‫دامت « وثىق » فبل انفصام ‪٢‬تا ‪،‬‬
‫وعلينا أن نعرف أن فيه انفصاما ً‪.‬‬
‫وفيه انفصام األول بالفاء والثاين‬
‫بالقاف ‪.‬‬
‫االنفصام ‪ :‬ٯتنع االتصال‬
‫الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها‬
‫تظل معلقة ‪ ،‬واالنقصام ‪ :‬أن‬
‫يذهب كل جزء بعيدا ًعن اْلخر‬
‫أي فيه بينونة ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬ال َ‬
‫ِ ِ‬
‫انفصام َ‪٢‬تَا واهلل َ‪ٝ‬تي ٌع عَل ٌ‬
‫يم }‬
‫توحي بأن عملية الطاغوت‬
‫ستكون دائما ًوسوسة ‪ ،‬وهذه‬
‫الوسوسة هي ‪ :‬الصوت الذي يُغري‬
‫بالكبلم ا‪١‬تعسول ‪ ،‬ولذلك أخذت‬
‫كلمة « وسوسة الشيطان » من‬
‫وسوسة ا‪ٟ‬تُل ّي ‪ ،‬ووسوسة الذهب‬
‫هي رنُت الذهب ‪ ،‬أي وسوسة‬
‫مغرية مثل وسوسة الشيطان ‪،‬‬
‫واهلل عليم بكل أمر ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق‬
‫بعد ذلك ‪ { :‬اهلل َو ِيل ُّالذين آ َم ُنوا ْ‬
‫ُٮت ْ ِر ُج ُه ْم ِّم َن الظلمات إ َِىل النور ‪. .‬‬
‫‪}.‬‬

‫اّلل َو ِيل ُّال َّ ِذي َن آ َم ُنوا ُٮت ْ ِر ُج ُه ْم ِم َن‬


‫َّ ُ‬
‫ات إ َِىل النُّو ِر َوال َّ ِذي َن كَ َف ُروا‬ ‫الظلُم ِ‬
‫ُّ َ‬
‫وهن ُ ْم ِم َن‬
‫وت ُٮتْر ُِج َ‬ ‫الطا ُغ ُ‬ ‫أ َ ْولِي ُاؤ ُه ُم َّ‬
‫َ‬
‫ات أُولَئِ َ َ‬‫الظلُم ِ‬
‫اب‬
‫ك أ ْص َح ُ‬ ‫النُّو ِر إ َِىل ُّ َ‬
‫ون (‪)257‬‬ ‫د‬‫ُ‬ ‫النَا ِر هم فِيها َخال ِ‬
‫َ‬ ‫ّ ُ ْ َ‬
‫إن اهلل ويل ّالذين آمنوا ما دام {‬
‫فَ َم ْن ي َ ْك ُف ْر بالطاغوت َوي ْ ْؤ ِمن باهلل‬
‫فَقَ ِد استمسك بالعروة الوثىق}‬
‫وكأن ا‪ٟ‬تق يشرح ذلك بهذه اْلية ‪،‬‬
‫فما دام العبد سيتصل بالعروة‬
‫الوثىق ويستمسك بها ‪ ،‬وهذه‬
‫ليست ‪٢‬تا انفصام فقد صارت‬
‫واليته هلل ‪ ،‬وكلمة « ويل ّ» إذا‬
‫‪ٝ‬تعتها هي من « َو ِيل َ» أي ‪ :‬جاء‬
‫الشيء بعد الشيء من َت فاصل؛‬
‫هذا يليه هذا ‪ ،‬وما دام يليه من َت‬
‫فاصل فهو األقرب له ‪ ،‬وما دام هو‬
‫األقرب له إذن فهو أول من يفزع‬
‫لينقذ ‪ ،‬فقد يسَت معي إنسان فإذا‬
‫التوت قدمي أناديه؛ ألنه األقرب‬
‫مٍت ‪ ،‬وهو الذي سينجدين ‪.‬‬
‫فبل يوجد فاصل ‪ ،‬وما دام ال يوجد‬
‫فاصل فهو أول من تناديه ‪ ،‬وأول‬
‫من يفزع إليك بدون أن تصرخ‬
‫له؛ ألن من معك ال تقل له ‪ :‬خذ‬
‫بيدي ‪ ،‬إنه من نفسه يأخذ بيدك‬
‫ببل شعور ‪ ،‬إذن فكلمة { اهلل َو ِيل ُّ‬
‫الذين آ َم ُنوا ْ} إذا نظرت إليها‬
‫‪ٝ‬تي ٌع‬ ‫وجدهتا تنسجم أيضا مع { َ ِ‬
‫يم } ‪ ،‬فبل يريدك أن تناديه؛‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫ألن هناك من تصرخ عليه‬
‫لينجدك ‪ ،‬وهو لن تصرخ عليه؛‬
‫ألنه ‪ٝ‬تيع وعليم ‪ { ،‬اهلل َو ِيل ُّالذين‬
‫آ َم ُنوا ْ} ‪.‬‬
‫وكلمة « ويل ّ» أيضا منها ( موىل )‬
‫ومنها ( وال ) ‪َ { ،‬و ِيل ُّالذين آ َم ُنوا ْ‬
‫} أي هو الذي يتوىل شئونهم‬
‫وأمورهم ‪ ،‬كما تقول ‪ :‬الوايل الذي‬
‫توىل أمر الرعية ‪ ،‬وكلمة « موىل »‬
‫مرة تطلق عىل السيد ‪ ،‬ومرة تطلق‬
‫عىل خادمه ‪ ،‬ولذلك يقول الشاعر ‪:‬‬
‫موالك يا موالي طالب حاجة ‪...‬‬
‫أي عبدك يا سيدي طال ْتاجة ‪،‬‬
‫فهي تستعمل يف معان مًتابطة؛‬
‫ألننا قلنا ‪َ « :‬و ِيل ّ» تعٍت القريب ‪،‬‬
‫فإذا كان العبد يف حاجة إىل شيء‬
‫فمن أول من ينصره؟ سيده ‪ ،‬وإذا‬
‫نادى السيد ‪ ،‬فمن أول ‪٣‬تيب له؟‬
‫إنه خادمه ‪ ،‬إذن فيُطلق عىل السيد‬
‫ويُطلق عىل العبد ‪ ،‬ويُطلق عىل الوايل‬
‫اهلل َو ِيل ُّالذين آ َم ُنوا ْ} ‪ .‬وقوله‬
‫‪ُ {،‬‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬الذين آ َم ُنوا ْ} يعٍت‬
‫‪ٚ‬تاعة فيها أفراد كثَتة ‪ ،‬كأنه يريد‬
‫من الذين آمنوا أن ‪٬‬تعلوا إٯتاهنم‬
‫شيئا واحدا ً‪ ،‬وليسوا متعددين ‪ ،‬أو‬
‫أن والية اهلل لكل فرد عىل حدة‬
‫تكون والية ‪ٞ‬تميع ا‪١‬تؤمنُت ‪ ،‬وما‬
‫داموا مؤمنُت فبل تضارب يف‬
‫الواليات؛ ألهنم كلهم صادرون‬
‫وفاعلون عن إٯتان واحد ‪ ،‬ومنهج‬
‫واحد ‪ ،‬وعن قول واحد ‪ ،‬وعن فعل‬
‫واحد ‪ ،‬وعن حركة واحدة ‪.‬‬
‫وكيف يكون { اهلل َو ِيل ُّالذين‬
‫آ َم ُنوا ْ} ؟ إنه وليهم أي ناصرهم ‪.‬‬
‫و‪٤‬تبهم و‪٣‬تيبهم ومعينهم ‪ ،‬هو‬
‫وليهم ٔتا أوضح ‪٢‬تم من األدلة عىل‬
‫اإلٯتان ‪ ،‬هل هناك ُحب أكثر من‬
‫هذا؟ هل تركنا لنبحث عن األدلة‬
‫أو أنه لفتنا إىل األدلة؟‬
‫وتلك هي والية من واليات اهلل ‪.‬‬
‫فقبل أن نؤمن أوجد لنا األدلة ‪،‬‬
‫وعندما آمنا َواالنَا با‪١‬تعونة ‪ ،‬وإن‬
‫حاربنا خصومنا يكن معنا ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك تستمر الوالية إىل أن يعطينا‬
‫ا‪ٞ‬تزاء األوىف يف اْلخرة ‪ ،‬إذن فهو ويل ّ‬
‫يف كل ا‪١‬تراحل ‪ ،‬باألدلة قبل‬
‫اإلٯتان ويل ‪.‬‬
‫ومع اإلٯتان استصحابا ًيكون‬
‫ناصرنا عىل خصومنا وخصومه ‪ .‬ويف‬
‫اْلخرة هو وليّنا با‪١‬تحبة والعطاء‬
‫ويعطينا عطاء ً َت ‪٤‬تدود ‪ ،‬إذن‬
‫فواليته ال تنتهي ‪.‬‬
‫{ اهلل َو ِيل ُّالذين آ َم ُنوا ْ ُٮت ْ ِر ُج ُه ْم ِّم َن‬
‫الظلمات إ َِىل النور } إنه سبحانه‬
‫ٮترجهم من ظلمات ا‪ٞ‬تهل إىل نور‬
‫اإلٯتان؛ ألن الظلمات عادة‬
‫تنطمس فيها ا‪١‬ترائي ‪ ،‬فبل ٯتكن‬
‫أن ترى شيئا ًإال إذا كان هناك ضوء‬
‫يبعث لك من ا‪١‬ترئي أي أشعة تصل‬
‫إليك ‪ ،‬فإن كانت هناك ظلمة‬
‫فمعٌت ذلك أنه ال يأيت من األشياء‬
‫أشعة فبل تراها ‪ ،‬وعندما يأيت النور‬
‫فأنت تستبُت األشياء ‪ ،‬هذه يف‬
‫حسة؛ وكذلك يف مسائل‬ ‫األمور ا‪١‬تُ َّ‬
‫القيم ‪ُ { ،‬ٮت ْ ِر ُج ُه ْم ِّم َن الظلمات‬
‫آؤ ُه ُم‬‫إ َِىل النور والذين كفروا أ َ ْولِي َ ُ‬
‫وهن ُ ْم ِّم َن النور إ َِىل‬
‫الطاغوت ُٮتْر ُِج َ‬
‫الظلمات } ‪.‬‬
‫هل هم دخلوا النور يا ربنا؟ لنا أن‬
‫نفهم أن ا‪١‬تقصود هنا هم ا‪١‬ترتدون‬
‫الذين وسوس ‪٢‬تم الشيطان‬
‫فأدخلهم يف ظلمات الكفر بعد أن‬
‫وهن ُ ْم ِّم َن‬
‫كانوا مؤمنُت ‪ ،‬أو { يُ ْخ ِر ُج َ‬
‫النور إ َِىل الظلمات } ‪ ،‬أي ٭تولون‬
‫بينهم وبُت النور فيمنعوهنم من‬
‫اإلٯتان كما يقول واحد ‪:‬‬
‫أما دريت أن أيب أخرجٍت من‬
‫مَتاثه؟ إن معٌت ذلك أنه كان له‬
‫ا‪ٟ‬تق يف التوريث ‪ ،‬وأخرجه والده‬
‫من ا‪١‬تَتاث ‪ .‬وهذا ينطبق عىل‬
‫الذين تركوا اإلٯتان ‪ ،‬وفضلوا‬
‫الظ‪١‬تات ‪ .‬والقرآن يوضح أمر‬
‫ا‪٠‬تروج من الظلمة إىل النور ومن‬
‫الكفر إىل اإلٯتان يف مواقع أخرى ‪،‬‬
‫كقول سيدنا يوسف للشابُت‬
‫اللذين كانا معه يف السجن ‪{ :‬‬
‫ال‬
‫ان قَ َ‬ ‫َودَ َخ َل َمعَ ُه السجن فَتَي َ ِ‬
‫‪٫‬تآ إين أراين أ َ ْع ِص ُر َ‪ٜ‬تْرا ً َوقَ َ‬
‫ال‬ ‫َ‬
‫أ َح ُد ُ َ‬
‫ف َق َرأ ْ ِسي‬ ‫اْلخر إ ِِّين أراين أ َ ْ ِ‬
‫‪ٛ‬ت ُل َْو‬
‫ُخبْزا ًتَأْكُ ُل الطَت ِمن ْ ُه نَبِ ّئْنَا بِتَأ ْ ِويلِ ِه‬
‫إِن َّا نَر َ ِ‬
‫ال ال َ‬ ‫اك م َن ا‪١‬تحسنُت * قَ َ‬ ‫َ‬
‫ام ُت ْرزَقَانِ ِه إِال َّنَبَّأ ْ ُت ُك َما‬‫يَأتي ُك َما َطعَ ٌ‬
‫ِْ‬
‫بِتَأ ْ ِويلِ ِه قَب ْ َل أَن يَأْتِي َ ُك َما ذلكما ِ‪٦‬تَّا‬
‫عَلَّم ٍِت ريب إ ِِّين تَ َر ْك ُت ِمل َّ َة قَو ٍم ال َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ون باهلل َو ُه ْم باْلخرة ُه ْم‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ي ْؤ ِ‬
‫م‬
‫ُ َ‬
‫ِ‬
‫ون } ػ يوسف ‪] 37-36 :‬‬ ‫كَاف ُر َ‬
‫فهل كان سيدنا يوسف يف ملة القوم‬
‫الكافرين ثم تركها؟ ال ‪ ،‬إنه لم‬
‫يدخل أساسا ًإىل ملة القوم الذين ال‬
‫يؤمنون باهلل ‪ .‬إن هذه ا‪١‬تلة كانت‬
‫أمامه ‪ ،‬لكنه تركها ورفض‬
‫الدخول فيها و٘تسك ٔتلة‬
‫إبراهيم عليه السبلم ‪ .‬ويف التعبَت‬
‫ما فيه من تأكيد حرية االختيار ‪.‬‬
‫وهناك آية أخرى يقول فيها ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ واهلل َخل َ َق ُك ْم ُث َّم يَت َ َو َّفا ُك ْم‬
‫َو ِمن ُكم َّمن يُ َر ّدُإىل أ َ ْرذَ ِل العمر ل ِ َك ْي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َيَعْل َ َم بَعْ َد عل ْ ٍم َشيْئا ًإ َِّن اهلل عَل ٌ‬
‫يم‬
‫قَ ِدي ٌر } ػ النحل ‪] 70 :‬‬
‫إن معٌت اْلية أن اهلل قد خلقنا‬
‫‪ٚ‬تيعا ً‪ ،‬وقدر لكل منا أجبل ً‪ ،‬فمنا‬
‫من ٯتوت صغَتا ً‪ ،‬ومنا من يبلغ‬
‫أرذل العمر ‪ ،‬فيعود إىل الضعف‬
‫وتقل خبليا نشاطه فبل يعلم ما‬
‫كان يعلمه ‪ .‬وليس معٌت اْلية أن‬
‫اإلنسان يوجد يف أرذل العمر ثم‬
‫يرد إىل الطفولة ‪.‬‬
‫وعندما قيول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬والذين‬
‫آؤ ُه ُم الطاغوت‬ ‫كفروا أ َ ْولِي َ ُ‬
‫وهن ُ ْم ِّم َن النور إ َِىل الظلمات }‬
‫ُٮتْر ُِج َ‬
‫فا‪ٟ‬تق أورد هنا كلمة أولياء عن‬
‫الطاغوت ‪ ،‬ألن الطاغوت كما قلنا‬
‫‪ :‬ألوان متعددة ‪ ،‬الشيطان طاغوت‬
‫‪ ،‬والدجال طاغوت ‪ ،‬والساحر‬
‫طاغوت ‪.‬‬

‫وجاء ا‪ٟ‬تق با‪٠‬تْب مفردا ًوهو‬


‫الطاغوت ‪١‬تبتدأ ‪ٚ‬تع وهو أولياء ‪،‬‬
‫ووصف هؤالء األولياء للطاغوت‬
‫بأهنم ٮترجون الذين كفروا من‬
‫النور إىل الظلمات ‪.‬‬
‫لقد أفرد اهلل الطاغوت وأورد‬
‫با‪ٞ‬تمع األفراد الذين ينقلهم‬
‫الطاغوت إىل الظلمات ‪ .‬و‪١‬تاذا لم‬
‫يقل اهلل هنا ‪ « :‬طواغيت » بدال‬
‫من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة‬
‫تتم معاملتها هنا كما نقول ‪« :‬‬
‫فبلن عدل » أو « الرجبلن عدل »‬
‫أو « الرجال عدل » ‪ .‬وعىل هذا‬
‫القياس جاءت كلمة طاغوت ‪،‬‬
‫فالشيطان والدجال والكاهن‬
‫والساحر وا‪ٟ‬تاكم بغَت أمر اهلل؛‬
‫كلهم طاغوت ‪ ،‬لقد التزمت اْلية‬
‫باإلفراد والتذكَت ‪ .‬فالطاغوت‬
‫ُتطلق عىل الواحد أو االثنُت أو‬
‫ا‪ٞ‬تماعة ‪ ،‬أي أن ا‪١‬تُخرجُت من‬
‫النور إىل الظلمات هم أولياء‬
‫الطاغوت ‪ ،‬أو من اٗتذوا‬
‫الطواغيت أولياء ‪ ،‬وهم إىل النار‬
‫خالدون ‪ .‬والدخول للنار يكون‬
‫للطواغيت ويكون ألتباع‬
‫الطواغيت ‪ ،‬كما يقول ا‪ٟ‬تق يف‬
‫ون ِمن‬ ‫كتابه ‪ { :‬إِن َّ ُك ْم َو َما تَعْب ُ ُد َ‬
‫ون اهلل َح َص ُب َجهَنَّ َم أ َ ُتن ْم َ‪٢‬تَا‬ ‫ُد ِ‬
‫ون } ػ األنبياء ‪] 98 :‬‬ ‫َوا ِر ُد َ‬
‫إن أتباع الطواغيت ‪ ،‬والطواغيت‬
‫يف نار جهنم ‪ .‬وقانا اهلل وإياكم‬
‫عذابها ‪ .‬ويريد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫أن يعطينا صورة واقعية يف الكون‬
‫من قوله ‪ { :‬اهلل َو ِيل ُّالذين آ َم ُنوا ْ}‬
‫‪ ،‬فهو الويل ‪ ،‬وهو الناصر فيقول‬
‫سبحانه ‪ { :‬أ َل َ ْم تَ َر إ َِىل الذي َح َّ‬
‫آج‬
‫يم ِيف َر ِبّ ِه أ َ ْن آتَ ُاه اهلل ا‪١‬تلك ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إِب ْ َراه َ‬
‫‪}..‬‬
‫أَلَم تَ َر إ َِىل ال َّ ِذي َح َّ ِ‬
‫يم ِيف‬‫اج إِب ْ َراه َ‬ ‫ْ‬
‫َِ‬
‫ال‬
‫ك إِذْقَ َ‬ ‫َربِّه أ ْن آتَ ُاه َّ ُ‬
‫اّلل ا ْ‪١‬تُل ْ َ‬
‫ِ‬ ‫إِب ْ َرا ِ‬
‫ال‬
‫يت قَ َ‬ ‫يم َر ِ ّيب َال َّ ِذي ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫ُ‬ ‫ه‬
‫يم فَإ َِّن‬ ‫أَنَا أ ُْحيِي وأُ ِميت قَ َ ب ِ‬
‫ال إِ ْ َراه ُ‬ ‫َ ُ‬
‫اّللَيَأ ْ ِيت بِال َّش ْم ِس ِم َن ا ْ‪١‬ت َ ْش ِر ِق فَأ ْ ِت‬ ‫َّ‬
‫بِهَا ِم َن ا ْ‪١‬تَغ ْ ِر ِب فَب ُ ِه َت ال َّ ِذي َك َف َر‬
‫اّلل َال يهْ ِدي ال ْ َقوم َّ ِ‬
‫الظا‪١‬ت ِ َ‬
‫ُت‬ ‫َْ‬ ‫َو َّ ُ َ‬
‫(‪)258‬‬

‫وساعة تسمع { أَل َ ْم تَ َر } ؛ فأنت‬


‫تعلم أهنا مكونة من ‪٫‬تزة هي « أ »‬
‫وحرف نيف وهو « لم » ‪ ،‬ومنفي هو‬
‫« تر » وا‪٢‬تمزة ‪ :‬تأيت هنا لئلنكار ‪،‬‬
‫واإلنكار نفي بتقريع ‪ ،‬ولكنها لم‬
‫تدخل عىل فعل مثبت حىت يقال ‪:‬‬
‫إهنا أنكرت الفعل بعدها ‪ ،‬مثلما‬
‫تقول للولد ‪ :‬أتضرب أباك! هنا‬
‫ا‪٢‬تمزة جاءت ال لتستفهم وإ‪٪‬تا‬
‫أتت تنكر هذه الفعلة ‪ ،‬ألن الفعل‬
‫بعدها مثبت وه و « تضرب » ‪،‬‬
‫وجاءت ا‪٢‬تمزة قبله فتس ىم «‬
‫‪٫‬تزة إنكار » للتقريع ‪ .‬إذن‬
‫فاإلنكار ‪ :‬نفي بتقريع إذا دخلت عىل‬
‫فعل منفي ‪.‬‬
‫وما دام اإلنكار نفيا والفعل بعدها‬
‫منف ٌي فكأنك نفيت النفي ‪ ،‬إذن فقد‬
‫أثبته ‪ ،‬كأنه سبحانه عندما يقول‬
‫للرسول صىل اهلل عليه وسلم ‪{ :‬‬
‫أَل َ ْم تَ َر } فا‪١‬تقصود « أنت رأيت »‬
‫‪ .‬و‪١‬تاذا لم يقل له ‪ :‬أرأيت؟ لقد‬
‫جاء بها بأسلوب النفي كي تكون‬
‫أوقع ‪ ،‬فقد يكون ‪٣‬تيء اإلثبات‬
‫تلقينا ًللمسئول ‪ ،‬فعندما يقول لك‬
‫صديق ‪ :‬أنت لم تسأل عٍت وأنت‬
‫هتملٍت ‪ .‬فأنت قد ترد عليه قائبل ‪:‬‬
‫ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم‬
‫آخذ بيدك وأنت مريض؟‬
‫سق أن قدمت خدماتك ‪٢‬تذا‬ ‫لقد ب‬
‫الصديق ‪ ،‬ولكنك تريد أن تنكر‬
‫النفي الذي يقوله هو ‪ ،‬وهكذا نعلم‬
‫أن نفي النفي إثبات ‪ ،‬ولذلك فنحن‬
‫نأخذ من قوله تعاىل من هذه العبارة‬
‫{ أَل َ ْم تَ َر } عىل معٌت ‪ :‬أنت رأيت ‪،‬‬
‫والرؤية تكون بالعُت ‪ .‬فهل رأى‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم وهو‬
‫ا‪١‬تخاطب األول بالقرآن الكريم‬
‫من ربه هل رأى رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم هذه ا‪ٟ‬تادثة أيام‬
‫إبراهيم؟ طبعا ًال ‪ ،‬فكأن { أَل َ ْم تَ َر‬
‫} هنا تأيت ٔتعٌت ‪ :‬ألم تعلم ‪.‬‬
‫و‪١‬تاذا جاء ب { أَل َ ْم تَ َر } هنا؟ لقد‬
‫جاء بها لنعلم أن اهلل حُت يقول ‪« :‬‬
‫ألم تعلم » فكأنك ترى ما ٮتْبك‬
‫به ‪ ،‬وعليك أن تأخذه عىل أنه‬
‫مصدق كأنك رأيته بعينك ‪.‬‬
‫فالعُت هي حاسة من حواسك ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تاسة قد ٗتدع ‪ ،‬ولكن ربك ال‬
‫ٮتدع ‪ ،‬إذن ف { أَل َ ْم تَ َر } تعٍت ‪« :‬‬
‫ألم تعلم علم اليقُت » ‪ ،‬وكأنك قد‬
‫رأيت ما ٮتْبك به اهلل ‪ ،‬ولذلك‬
‫يقول تعاىل للرسول ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر‬
‫اب الفيل}‬ ‫ك بِأ َ ْص َح ِ‬
‫َكي ْ َف فَعَ َل َربُّ َ‬
‫ػ الفيل ‪] 1 :‬‬
‫والرسول ولد عام الفيل ‪ ،‬فلم ير‬
‫هذه ا‪ٟ‬تادثة ‪ ،‬وكأن اهلل ٮتْبه بها‬
‫ويقول له ‪ :‬ألم تعلم ‪ ،‬وكأنه يقول‬
‫له ‪ :‬اعلم علما ًيقينا كأنك تراه؛‬
‫ألن ربك أوثق من عينيك ‪،‬‬
‫وعندما يقال ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر } فا‪١‬تراد‬
‫بها « ألم تر كذا » ‪ ،‬لكن ا‪ٟ‬تق قال‬
‫‪ { :‬أَلَم تَ َر إ َِىل الذي َح َّ ِ‬
‫آج إِب ْ َراه َ‬
‫يم‬ ‫ْ‬
‫ِيف َر ِبّ ِه } واستعمال حرف{ إ َِىل }‬
‫هنا يشَت إىل أمر عجيب قد حدث‬
‫ومثال ذلك ما نقوله أحيانا ‪ :‬ألم تر‬
‫إىل زيد يفعل كذا ‪.‬‬
‫فكأن ما فعله زيد أمر عجيب ‪،‬‬
‫وكأنه ينبه هنا إىل االلتفات إىل هناية‬
‫األمر ‪ ،‬ألن « إىل » تفيد الوصول‬
‫إىل اية ‪ ،‬فكأهنا مسألة بلغت الغاية‬
‫يف العجب ‪ ،‬فبل تأخذها كأنك‬
‫رأيتها فقط ‪ ،‬ولكن انظر إىل هنايتها‬
‫فيما حدث ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق يقول هنا ‪ { :‬أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذي‬
‫يم ِيف َربِّ ِه } و { إ َِىل }‬ ‫َح َّ ِ‬
‫آج إِب ْ َراه َ‬
‫جاءت هنا لتدل عىل أنه أمر بلغ من‬
‫العجب اية بعيدة ‪ ،‬وهو بالفعل قد‬
‫بلغ من العجب اية بعيدة ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل لم يقل لنا من هو‬
‫ذلك اإلنسان الذي حاج إبراهيم‬
‫يف ربه ‪ ،‬ألنه ال يعنينا التشخيص‬
‫سواء ًكان النمروذ أو َته ‪.‬‬
‫فإذا ذهب بعض ا‪١‬تفسرون إىل‬
‫القول ‪ :‬إنه ملك وا‪ٝ‬ته النمروذ ‪.‬‬
‫فإننا نقول ‪٢‬تم شكرا ًالجتهادكم ‪،‬‬
‫ولكن لو شاء اهلل ٖتديد اسم الرجل‬
‫‪ٟ‬تدده لنا ‪ ،‬والذي يهمنا هو أنه‬
‫واحد خرج عىل رسول اهلل إبراهيم‬
‫عليه السبلم وجادله يف هذه ا‪١‬تسألة‬
‫‪ ،‬والتشخيص هنا ليس ضروريا ً‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حينما يريد‬
‫شيوع األمر وإمكان حدوثه يف أي‬
‫زمان أو مكان فإن اهلل ال يشخص‬
‫األمر ‪ ،‬فأي إنسان يف أي مكان قد‬
‫٭تاجج أي مؤمن ‪ .‬وليس كذلك‬
‫األمر بالنسبة ألي تشخيص أو‬
‫ٖتديد ‪ ،‬ومثال ذلك هؤالء الذين‬
‫يريدون أن يعرفوا قصة أهل‬
‫الكهف ‪ ،‬ويتساءلون ‪ :‬أين ومىت ‪،‬‬
‫وكم عددهم ‪ ،‬ومن هم؟‬
‫ونقول ‪ :‬لو جاءت واحدة من هؤالء‬
‫لفسدت القصة؛ ألنه لو حددنا‬
‫زماهنا سيأيت واحد يقول لك ‪ :‬مثل‬
‫ذلك الزمان الذي حدثت فيه‬
‫القصة كان يسمح بها ‪ .‬ولو حددنا‬
‫ا‪١‬تكان سيقول آخر ‪ :‬إن ا‪١‬تكان كان‬
‫يسمح بهذه ا‪١‬تسألة ‪ .‬ولو حددنا‬
‫األشخاص بأ‪ٝ‬تائهم فبلن وفبلن‬
‫‪ ،‬فسيقول ثالث ‪ :‬إن مثل هذه‬
‫الشخصيات ٯتكن أن يصدر منها‬
‫مثل هذا السلوك َّ‬
‫وأىن لنا بقوة‬
‫إٯتان هؤالء؟‬
‫وا‪ٟ‬تق لم ٭تدد الزمان وا‪١‬تكان‬
‫واألشخاص وجاء بها مبهمة ليدل‬
‫عىل أن أي فتية يف أي زمان ويف أي‬
‫مكان يقولون ما يقولون ‪ ،‬ولو‬
‫شخصها يف واحد لفسد ا‪١‬تراد ‪.‬‬
‫للنظر إىل دقة ا‪ٟ‬تق حُت ضرب مثبل‬
‫للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة‬
‫لوط حُت قال جل وعبل ‪َ { :‬ض َر َب‬
‫اهلل َمثَبل ًل ِ ّل َّ ِذي َن َك َف ُروا ْامرأت نُو ٍح‬
‫وط كَانَتَا َٖتْ َت َعب ْ َدي ْ ِن ِم ْن‬
‫وامرأت ل ُ ٍ‬
‫ا‪٫‬تا فَل َ ْم يُغ ْ ِنيَا‬ ‫ِعبَا ِدنَا َص ِا‪ٟ‬ت َ ْ ِ‬
‫ُت فَ َخانَت َ ُ َ‬
‫يل ادخبل‬ ‫َعن ْ ُه َما ِم َن اهلل َشيْئا ً َوقِ َ‬
‫النار َم َع الداخلُت } ػ التحريم ‪:‬‬
‫‪] 10‬‬
‫ولم ٭تدد لنا اسم امرأة من هاتُت‬
‫ا‪١‬ترأتُت ‪ ،‬بل ذكر األمر ا‪١‬تهم‬
‫فقط؛ وهو أن كبل منهما زوجة‬
‫لرسول كريم ‪ ،‬ولكن كبل منهما‬
‫أصرت عىل الكفر فدخلتا النار ‪.‬‬
‫ولكن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حُت أراد‬
‫التخصيص ْتادث لن يتكرر يف أي‬
‫زمان أو مكان جاء بذكر السيدة‬
‫مريم بالتشخيص والتحديد‬
‫الواضح حُت قال ‪َ { :‬و َم ْري َ َم ابنت‬
‫ان اليت أ َ ْح َصن َ ْت فَ ْر َجهَا‬ ‫ِ‬
‫ع ْم َر َ‬
‫فَن َ َف ْخنَا فِي ِه ِمن ُّرو ِحنَا َو َص َّدقَ ْت‬
‫ات َر ِبّهَا َو ُك ُتبِ ِه َوكَان َ ْت ِم َن‬
‫بِكَلِم ِ‬
‫َ‬
‫القانتُت } ػ التحريم ‪] 12 :‬‬
‫ٖتديد ا‪ٟ‬تق ‪١‬تريم باالسم وا‪ٟ‬تادث‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن الواقعة َت قابلة‬
‫للتكرار من أي َّ ِة امرأة أخرى ‪.‬‬
‫التشخيص هنا واجب؛ ألنه لن تلد‬
‫امرأة من َت زوج إال هذه ‪ ،‬إ‪٪‬تا إذا‬
‫كانت ا‪١‬تسألة ستتكرر يف أي زمان‬
‫أو مكان فهو سبحانه يأيت بوصفها‬
‫العام ‪ ،‬ومثال ذلك قول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫آج إبراهم}‬ ‫أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذي َح َّ‬
‫فلم يقل لنا ‪ :‬من هو؟ « َّ‬
‫حاج »‬
‫أصلها « حاجج » ‪ ،‬مثل « قاتل »‬
‫و « شارك » ‪ .‬وعندما يكون‬
‫هناك حرفان مثبلن ‪ ،‬فنحن‬
‫نسكن األول وندغم الثاين فيه‬
‫وذلك للتخفيف ‪ ،‬فتصَت ( حاج ) ‪،‬‬
‫و « حاج » من مادة « فاعل » اليت‬
‫تأيت للمشاركة ‪ ،‬وحىت نفهم معٌت‬
‫« ا‪١‬تشاركة » ‪ .‬إليكم هذا ا‪١‬تثال ‪:‬‬
‫‪٨‬تن نقول ‪ :‬قاتل زيد َعمرا ً‪ ،‬أو‬
‫نقول ‪ :‬قاتل عمرو زيدا ً‪ ،‬ومعٌت‬
‫ذلك أن كُبل ًّمنهما قد تقاتل ‪،‬‬
‫وكبل‪٫‬تا فاعل ومفعول يف الوقت‬
‫نفسه ‪ ،‬لكننا لبنا جانب الفاعل‬
‫يف واحد ‪ ،‬وجانب ا‪١‬تفعول يف الثاين ‪.‬‬
‫برغم أن كبل منهما فاعل ومفعول‬
‫معا ‪.‬‬
‫ومثال آخر ‪ ،‬حُت نقول ‪ :‬شارك‬
‫زيد عمرا ً‪ ،‬وشارك عمرو زيدا ً‪،‬‬
‫إذن فا‪١‬تفاعلة جاءت من االثنُت ‪،‬‬
‫هذا فاعل وهذا مفعول ‪ ،‬لكننا عادة‬
‫نُغلب الفاعلية فيمن بدأ ‪،‬‬
‫وا‪١‬تفعولية يف الثاين ‪ ،‬وإن كان الثاين‬
‫فاعبل أيضا ‪ .‬ولذلك يقول الشاعر‬
‫عندما يريد أن يشرح حال إنسان‬
‫ٯتشي يف مكان فيه حيات كثَتة‬
‫ومتحرزا ًمن أن حية تلدغه فقال ‪:‬‬
‫قد سالم ا‪ٟ‬تيات منه القدم ‪...‬‬
‫األفعوان والشجاع القشعما‬
‫إن الشاعر هنا يصف لنا إنسانا ًسار‬
‫يف مكان مليء با‪ٟ‬تيات ‪ ،‬وعادة ما‬
‫ٮتاف اإلنسان أن تلدغه حية ‪،‬‬
‫لكن هذا اإلنسان ا‪١‬توصوف يف هذا‬
‫البيت ‪٧‬تد أن ا‪ٟ‬تيات قد سا‪١‬تت‬
‫قدمه ‪ ،‬أي لم تلدغه ألنه لم‬
‫ي َ ِه ْجها ‪ ،‬والثعابُت عادة ال تلدغ إال‬
‫من يبدأها باإلهاجة ‪٧ ،‬تد هنا أن‬
‫الفاعل هو ا‪ٟ‬تيات؛ ألهنا سا‪١‬تت‬
‫قدمه ‪ .‬ويصح أيضا أن نقول ‪ :‬إن‬
‫القدم هي اليت سا‪١‬تت ا‪ٟ‬تيات ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن نعرف من قواعد اللغة ما‬
‫درسناه قدٯتا ما يس ىم بالبدل ‪،‬‬
‫والبدل يأخذ حكم ا‪١‬تبدل منه ‪،‬‬
‫فإن كان ا‪١‬تبدل منه ‪٣‬ترورا ًكان‬
‫البدل كذلك ‪ .‬هنا جاءت « ا‪ٟ‬تيات‬
‫» يف هذا البيت من الشعر مرفوعة‬
‫وان جاءت يف البيت‬‫ولكن األفع َ‬
‫منصوبة مع أهنا بدل من مرفوع هو‬
‫« ا‪ٟ‬تيات » ألنه الحظ ما فيها أيضا ً‬
‫من ا‪١‬تفعولية فأىت بها منصوبة ‪.‬‬
‫كما أن باإلمكان أن ُتقرأ « ا‪ٟ‬تيات‬
‫» بالنصب و « القدم » بالرفع ألن‬
‫كبل منهما فاعل ومفعول من حيث‬
‫ا‪١‬تسا‪١‬تة ‪.‬‬
‫وكذلك يف قول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪{ :‬‬
‫آج إبراهم}‬ ‫أَل َ ْم تَ َر إ َِىل الذي َح َّ‬
‫‪٨‬تن نبلحظ أن كلمة { إبراهم }‬
‫تأيت يف اْلية الكرٯتة منصوبة‬
‫بالفتحة ‪ ،‬أي يغلب عليها ا‪١‬تفعولية‬
‫‪ .‬فمن إذن الذي ّ‬
‫حاج إبراهيم؟‬
‫إنه شخص ما ‪ ،‬وهو الفاعل؛ ألنه‬
‫با‪١‬تحاجة ‪ ،‬وهكذا تدلنا‬
‫ّ‬ ‫الذي بدأ‬
‫اْلية الكرٯتة ‪ ،‬وتصف اْلية ذلك‬
‫الرجل { أ َ ْن آتَ ُاه اهلل ا‪١‬تلك } أي‬
‫أن الرجل هو الذي بدأ ا‪ٟ‬تجاج‬
‫قائبل إلبراهيم ‪ :‬من ربك؟‬
‫فقال إبراهيم عليه السبلم ‪َ { :‬ر ِ ّيب َ‬
‫يت } وهذه هي‬ ‫ِ‬
‫الذي ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫براعة القرآن يف أن يًتك الشيء‬
‫سمع يرد كل شيء إىل‬ ‫ثقة بأن ال ا‬
‫أصله ‪ ،‬فقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬إِذْقَ َ‬
‫ال‬
‫ِ‬
‫يت}‬ ‫إبراهم َر ِ ّيب َالذي ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫فكأن الذي حاج إبراهيم سأله ‪:‬‬
‫م‬
‫ن ربك؟ فقال إبراهيم ‪َ { :‬ر ِ ّيب َ‬
‫ِ‬
‫يت } ‪.‬‬ ‫الذي ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫ولنا أن نلحظ أن هذه اْلية قد‬
‫جاءت بعد قوله ا‪ٟ‬تق يف اْلية‬
‫السابقة ‪ { :‬اهلل َو ِيل ُّالذين آ َم ُنوا ْ}‬
‫‪ ،‬والوالية هي النصر وا‪١‬تحبة‬
‫وا‪١‬تعونة ‪ ،‬فَتيد سبحانه أن يبُت‬
‫لنا كيف أعان اهلل إبراهيم عىل من‬
‫حاجه ‪ ،‬إال أن الذي حاج إبراهيم‬
‫دخل يف متاهات السفسطة بعد أن‬
‫‪ٝ‬تع قول إبراهيم ‪َ { :‬ر ِ ّيب َالذي‬
‫ِ‬
‫يت } ‪ ،‬وقد جاء ا‪ٟ‬تق ب {‬ ‫ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫ِ‬
‫يت } ؛ ألن تلك القضية‬ ‫ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫هي اليت لم ي َّد ِع أحد أنه فعلها ‪،‬‬
‫ولم ي ّدَع أحد أنه شريك فيها ‪،‬‬
‫حىت الكافرون إذا سألتهم ‪ :‬من‬
‫الذي خلق؟ يقولون اهلل ‪.‬‬
‫إذن فهذه قضية ثابتة ‪ .‬إال أن‬
‫حاج إبراهيم أراد أن‬
‫ا‪٠‬تصم الذي ّ‬
‫ينقل ا‪١‬تحاجة نقلة سفسطائية ‪.‬‬
‫والسفسطة كما نعلم ه ي الكبلم‬
‫الذي يطيل ا‪ٞ‬تدل ببل هناية ‪.‬‬
‫وقال الرجل الذي ٭تاج إبراهيم‬
‫عليه السبلم ‪ :‬إذا كان ربك الذي‬
‫٭تيي وٯتيت فأنا أحيي وأميت ‪.‬‬
‫فسأله إبراهيم عليه السبلم؛‬
‫كيف ٖتيي أنت و٘تيت؟‬
‫قال الرجل ‪ :‬أنا أقدر أن أقتل ما‬
‫عندي من مساجُت وأقدر أال‬
‫أقتلهم ‪ ،‬فالذي لم أقتله كأنٍت‬
‫أحييته ‪ ،‬والذي قتلته فقد أمته ‪.‬‬
‫ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق‬
‫أوال ما ا‪ٟ‬تياة؟ وما ا‪١‬توت؟ ذلك أن‬
‫إبراهيم خليل الر‪ٛ‬تن لم يشأ أن‬
‫يطيل هذه ا‪١‬تجادلة ‪ ،‬فجاء له بأمر‬
‫يُلجمه من البداية وينتهي ا‪ٞ‬تدل ‪،‬‬
‫فقال له ‪ { :‬فَإ َِّن اهلل يَأ ْ ِيت بالشمس‬
‫ِم َن ا‪١‬تشرق فَأ ْ ِت بِ َها ِم َن ا‪١‬تغرب‬
‫فَب ُ ِه َت الذي كَ َف َر } ‪ .‬وهكذا أهنى‬
‫سيدنا إبراهيم هذا ا‪ٞ‬تدل ‪ .‬كان‬
‫من ا‪١‬تمكن أن يدخل معه سيدنا‬
‫إبراهيم يف جدل ‪ ،‬ويقول له ‪ :‬ما‬
‫هي ا‪ٟ‬تياة؟‬
‫و‪٨‬تن نعرف أن ا‪ٟ‬تياة هي إعطاء‬
‫ا‪١‬تادة ما ‪٬‬تعلها متحركة حساسة‬
‫مريدة ‪٥‬تتارة ‪ ،‬أما ا‪١‬توت فهو‬
‫إخراج الروح من اًفسد ‪ ،‬فالذي‬
‫يقتل إنسانا ً؛ إ‪٪‬تا ٮترج روحه من‬
‫جسده ‪ ،‬والقتل ٮتتلف عن ا‪١‬توت؛‬
‫ألن ا‪١‬توت خروج الروح من ا‪ٞ‬تسد‬
‫بدون جرح ‪ ،‬أو نقض بنية ‪ ،‬أو‬
‫عمل يفعله اإلنسان يف بدنه‬
‫كاالنتحار ‪.‬‬
‫وقد يكون اإلنسان جالسا ًمكانه‬
‫وينتهي عمره فيموت ‪ ،‬وال أحد‬
‫قادر قبل ذلك أن يقول له ‪ :‬مت‬
‫فيموت ‪ ،‬هذا هو ا‪١‬توت ‪ ،‬لكن‬
‫إزهاق الروح ّترح جسيم أو نقض‬
‫بنية فهذا هو القتل وليس ا‪١‬توت ‪،‬‬
‫ولذلك ‪٬‬تعل اهلل القتل مقاببل ً‬
‫للموت ‪ ،‬يف قوله تعاىل ‪َ { :‬و َما ُ‪٤‬ت َ َّم ٌد‬
‫ول قَ ْد َخل َ ْت ِمن قَبْلِ ِه الرسل‬ ‫إِال َّ َر ُس ٌ‬
‫ات أ َ ْو ُقتِ َل انقلبتم عىل‬ ‫أَفَإ ِْن َّم َ‬
‫ب عىل َعقِبَي ْ ِه‬ ‫أ َ ْعقَ ِ ُك م ِ‬
‫اب ْم َو َن يَنقَل ْ‬
‫فَل َن ي َ ُض َّر اهلل َشيْئا ً َو َسي َ ْج ِزي اهلل‬
‫ان لِن َ ْف ٍس أ َ ْن‬
‫الشاكرين * َو َما ك َ َ‬
‫وت إِال َّبِإِذْ ِن اهلل ِكتَابا ً ُّم َؤ َّجبل ً َو َمن‬
‫َ٘ت ُ َ‬
‫ِِ‬
‫اب الدنيا ن ُ ْؤته ِمنْهَا َو َمن يُ ِردْ‬ ‫يُ ِردْثَ َو َ‬
‫اب اْلخرة ن ُ ْؤتِ ِه ِمنْهَا َو َسن َ ْج ِزي‬
‫ثَ َو َ‬
‫الشاكرين }‬

‫ػ آل عمران ‪] 145-144 :‬‬


‫وقد أوضح لنا اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫الفرق بُت ا‪١‬توت والقتل ‪ ،‬وجعل‬
‫كبل منهما مقاببل ًلآلخر ‪ ،‬فعندما‬
‫أشيع أن رسول اهلل قد قتل ‪َ ،‬ه َّم‬
‫بعض ا‪١‬تسلمُت باالرتداد إىل‬
‫الكفر ‪ ،‬فأنكر اهلل عليهم ذلك‬
‫قائبل ً‪ :‬إن ‪٤‬تمدا ًرسول من عند‬
‫اهلل قد مات من قبله ا‪١‬ترسلون أفإن‬
‫مات أو قتل رجعتم عن اإلٯتان‬
‫للكفر ‪ ،‬و َم ْن يفعل ذلك فإ‪٪‬تا يضر‬
‫نفسه ‪ ،‬والثواب عند اهلل للثابتُت‬
‫عىل منهج اهلل الشاكرين لنعمه ‪،‬‬
‫أوضح لنا ا‪ٟ‬تق أن موت أي إنسان‬
‫ال ٯتكن أن ٭تدث إال بإذن اهلل ‪،‬‬
‫وقد كتب اهلل ذلك يف كتاب‬
‫مشتمل عىل اْلجال ‪.‬‬
‫ويريد اهلل أن يُنبهنا ويُلفتنا إىل‬
‫حقيقة هامة وهي أن الرسل يف‬
‫جد‪٢‬تم مع أ‪٦‬تهم أو مع ا‪١‬تناقشُت‬
‫أن النبي يظفر‬
‫‪٢‬تم ال يكون ا‪٢‬تدف ّ‬
‫بالغلبة وإ‪٪‬تا يكون ا‪٢‬تدف بالنسبة‬
‫للرسول أو النبي أن يصل إىل‬
‫ا‪ٟ‬تقيقة ‪ ،‬ولذلك لم يتوقف‬
‫إبراهيم عليه السبلم مع الرجل‬
‫٭تاجه يف اهلل عند نقطة‬
‫الذي ّ‬
‫اإلحياء واإلماتة؛ ألنه رأى يف‬
‫مناقشة الرجل لونا من السفسطة‬
‫‪.‬‬
‫وعلينا و‪٨‬تن نتدبر آيات القرآن‬
‫با‪٠‬تواطر اإلٯتانية أن نفهم الفرق‬
‫بُت اإلماتة والقتل ‪ .‬الصحيح أن‬
‫اإلماتة والقتل يشًتكان يف أمر‬
‫واحد وهو خروج الروح من ا‪ٞ‬تسد‬
‫‪ .‬واإلماتة ٗتتلف عن القتل بأنه ال‬
‫يقدر عليها إال واهب ا‪ٟ‬تياة الذي‬
‫وضع مقومات خاصة يف البنية‬
‫اإلنسانية حىت تسكنها الروح ‪،‬‬
‫وهو القادر عىل أن يسلب الروح‬
‫بأمر َت ُ‪٤‬تس ‪.‬‬
‫أما القتل فهو أن ٕترح إنسانا ً‬
‫فيموت ‪ ،‬أو تنقض بنيته ‪ ،‬تكسر له‬
‫رأسه مثبل ً‪ ،‬أما « اإلماتة » فهي أن‬
‫تنقبض حياته ٔتجرد األمر دون أن‬
‫تقربه ‪ ،‬هل أحد من البشر يقدر‬
‫عىل هذه؟ ال ‪ .‬إذن فالذي حاج‬
‫إبراهيم لم ٭تي الذي قال ‪ :‬إنه‬
‫سيًتكه بدون عقوبة ‪ ،‬إنه لم‬
‫يقتله ‪ ،‬لكنه أبىق ا‪ٟ‬تياة اليت كانت‬
‫فيه ‪ ،‬هذا إذا أردنا أن ندخل يف‬
‫جدل ‪.‬‬
‫واهلل قد جعل القتل مقاببل ًللموت‬
‫‪ ،‬صحيح أهنما ينتهيان بأن ال روح‬
‫‪ ،‬لك ْن هناك فرق بُت أن تؤخذ‬
‫الروح بدون هذه الوسائل ‪ .‬وأن‬
‫البدن ألن بنيته قد‬
‫روح َ‬ ‫تًتك ال ُ‬
‫هتدمت ‪ .‬وإياك أن تظن أن الروح‬
‫ال ٗتضع لقوانُت معينة ‪ ،‬إن الروح ال‬
‫ٖتل إال يف مادة خاصة ‪ ،‬فإذا انتهت‬
‫ا‪١‬تقومات ا‪٠‬تاصة يف ا‪١‬تادية فالروح‬
‫ال تسكنها ‪ ،‬فبل تقل ‪ :‬إنه عندما‬
‫ضربه عىل رأسه أماته! ال ‪ ،‬هو لم‬
‫ٮترج الروح ألن الروح ٔتجرد ما‬
‫انتهت البنية ٗتتفي ‪.‬‬
‫وا‪١‬تثال الذي يوضح ذلك ‪:‬‬
‫لنفًتض أن أمامنا نورا ً‪ ،‬إذا‬
‫كسرت الزجاجة يذهب ن‬
‫الور ‪.‬‬
‫هل الزجاجة هي النور؟ ال ‪ ،‬لكن‬
‫الكهرباء ال تظهر إال يف هذه‬
‫الزجاجة ‪ ،‬كذلك الروح ال توجد‬
‫إال يف بنية ‪٢‬تا مواصفات خاصة ‪،‬‬
‫إذن فالقاتل ال ٮترج الروح ولكنه‬
‫يهدم البنية بأمر ‪٤‬تس؛ فاألمر‬
‫الغيبي وهو الروح ال يسكن يف بنية‬
‫مهدومة ‪.‬‬
‫{ أَلَم تَ َر إ َِىل الذي َح َّ ِ‬
‫آج إِب ْ َراه َ‬
‫يم‬ ‫ْ‬
‫ِيف َر ِبّ ِه أ َ ْن آتَ ُاه اهلل ا‪١‬تلك} ‪ ،‬انظر‬
‫ك وهو‬‫إىل الطغيان إٔتعل إيتاء ا‪١‬تل ْ ُ‬
‫نعمة وسيلة إىل التمرد عىل من أنعم‬
‫عليك بهذا؟ إٔتعل شكر النعمة‬
‫بأنك ٗتالف ا‪١‬تنعم؟ من الذي‬
‫أبطره؟ أأبطره أن آتاه اهلل ا‪١‬تلك؟‬
‫وكيف يعُت اهلل واحدا ًليس مؤمنا‬
‫ك ٔتعٌت األمر والنهي إ‪٪‬تا‬ ‫به؟ وا‪١‬تُل ْ ُ‬
‫يكون للمبلغ عن اهلل ‪ ،‬إ‪٪‬تا ا‪١‬تلك‬
‫ك السلطان بأن ُ٭ت َ ِّك َم‬‫اْلخر ُمل ْ ُ‬
‫إنسانا عىل ‪ٚ‬تاعة ‪ ،‬فمن ا‪ٞ‬تائز أن‬
‫يكون مؤمنا ‪ ،‬وأن يكون كافرا ً‪.‬‬
‫وقوله { أ َ ْن آتَ ُاه اهلل ا‪١‬تلك إِذْقَ َ‬
‫ال‬
‫ِ‬ ‫ب ِ‬
‫يت }‬ ‫يم َر ِ ّيب َالذي ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫إِ ْ َراه ُ‬
‫هو جواب عىل من قال ‪ « :‬من ربك‬
‫» فجاءته إجابة إبراهيم عليه‬
‫ِ‬
‫السبلم { َر ِ ّيب َالذي ُ٭تْيي َو ُ ِٯت ُ‬
‫يت‬
‫قَ َ َ ِ ِ‬
‫يت } وعرفنا ما‬ ‫ال أنَا أ ُْحيي َوأُم ُ‬
‫يف هذا األمر من سفسطة ‪ ،‬فلم‬
‫يقل له إبراهيم ‪ :‬أأنت ُٖتيي‬
‫و٘تيت ‪ ،‬بل ينقله إىل أمر آخر ‪،‬‬
‫كأنه قد قال له ‪ :‬اترك األمر الغييب‬
‫وهو الروح ‪ ،‬وتعاىل لؤلمر ا‪١‬تشهود‬
‫يم فَإ َِّن اهلل يَأ ْ ِيت‬
‫ُ‬
‫ال إِب ْ َرا ِ‬
‫ه‬ ‫{ قَ َ‬
‫بالشمس ِم َن ا‪١‬تشرق فَأ ْ ِت بِهَا ِم َن‬
‫ا‪١‬تغرب فَب ُ ِه َت الذي َك َف َر } ‪.‬‬
‫وألن اهلل ويل الذي آمنوا فهو‬
‫سبحانه لم يلهم ا‪١‬تحاج أن ي َ ُر ّد؛‬
‫كان يستطيع أن يقول له ‪ :‬اجعل‬
‫يأت بها من‬ ‫من يأيت بها من المشرق ِ‬
‫ا‪١‬تغرب ‪ ،‬لكنه لم يقلها! ‪٦‬تا يدل‬
‫عىل أنه بي! أو يكون ذكيا فيقول ‪:‬‬
‫إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد‬
‫يفعلها ‪ ،‬فخاف ‪ .‬إذن ف { اهلل َو ِيل ُّ‬
‫الذين آ َم ُنوا ْ} حقا ‪ .‬وهو سبحانه‬
‫{ ُٮت ْ ِر ُج ُه ْم ِّم َن الظلمات إ َِىل النور‬
‫} ‪ .‬وما معٌت كلمة « ُب ِه َت »؟ إن‬
‫البهت يأخذ ثبلث صور ‪ :‬الصورة‬
‫األوىل ‪ :‬الدهشة؛ ن َ َقله فيما ٯتكن‬
‫أن ٖتدث فيه ‪٦‬تاحكة إىل ماال‬
‫ٖتدث فيه ‪٦‬تاحكة وجدال ‪ ،‬أراد‬
‫أن ‪٬‬تد أمرا ًيرد به فلم يقدر ‪،‬‬
‫مثلما قال ‪ :‬أنا أحيي وأميت ‪ ،‬لقد‬
‫هش ‪ ،‬وأول ما فاجأه هو الدهش ‪،‬‬
‫التحَت ‪ ،‬أراد أن ‪٬‬تد أي‬
‫ثم كان ّ‬
‫‪٥‬ترج من هذه الورطة فلم ‪٬‬تد ‪،‬‬
‫إذن فقد ُهزم ‪ .‬فهذه هي هناية‬
‫البَهت ‪ .‬ف « ُبهت » تعٍت أنه‬
‫دهش أوال ‪ ،‬فتحَت يف أن يرد ثانيا ‪،‬‬
‫فكان نتيجة ذلك أنه ُهزم ثالثا ‪،‬‬
‫وهذا أمر ليس بعجيب؛ ألنه مادام‬
‫كافرا ًفليس له ويل ‪ ،‬أو وليه من ال‬
‫آؤ ُه ُم الطاغوت } ‪،‬‬‫يقدر { أ َ ْولِي َ ُ‬
‫أما إبراه يم خليل الر‪ٛ‬تن فوليه‬
‫اهلل ‪.‬‬
‫وٮتتم ا‪ٟ‬تق اْلية بقوله ‪ { :‬واهلل ال َ‬
‫يَهْ ِدي القوم الظا‪١‬تُت } ال‬
‫يهديهم إىل برهان ‪ ،‬وال إىل دليل ‪،‬‬
‫وال إىل حجة ‪ ،‬ألن وليهم الشيطان‬
‫‪ { ،‬واهلل ال َيَهْ ِدي القوم الظا‪١‬تُت }‬
‫واْلية اليت تأيت من بعد ذلك كلها‬
‫ستتدخل يف ا‪ٟ‬تياة وا‪١‬توت ‪ ،‬ومن‬
‫ا‪١‬تهم أن اْلية تدخل يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫وا‪١‬توت كي ال نفهم أن إبراهيم‬
‫إ‪٪‬تا ترك ا‪١‬تحاجة مع ذلك الذي‬
‫حاجه يف أمر ا‪١‬توت وا‪ٟ‬تياة هربا من‬ ‫ّ‬
‫الكبلم فيها ‪ ،‬لذلك يريد اهلل أن‬
‫يستويف تلك القضية استيفاء يف‬
‫قصص متعددة ‪ ،‬ويبسط ا‪ٟ‬تق‬
‫القضية اليت عدل عنها إبراهيم‬
‫وهي ا‪١‬توت واٌفياة فيقول سبحانه ‪:‬‬
‫{ أ َ ْو كالذي َم َّر عىل قَ ْري َ ٍة َو ِه َي‬
‫َخا ِوي َ ٌة عىل ُع ُرو ِشهَا ‪} . . .‬‬
‫أ َ ْو كَال َّ ِذي َم َّر عَىلَ قَ ْري َ ٍة َو ِه َي َخا ِوي َ ٌة‬
‫اّلل‬ ‫عَىلَ ُعرو ِشهَا قَ َ َ َ ٭تيِ ِ ِ‬
‫ال أ ّىن ُ ْ ي َهذه َّ ُ‬ ‫ُ‬
‫بَعْ َد َم ْو ِهتَا فَأ َ َماتَ ُه ّ َُ‬
‫اّلل ِمائَ َة عَا ٍم ُث َّم‬
‫ال ل َ ِبث ْ ُت ي َ ْومًا‬
‫ال كَ ْم ل َ ِبث ْ َت قَ َ‬
‫بث َ ُه قَ َ‬ ‫َع‬
‫ال ب َ ْل ل َ ِبث ْ َت ِمائَ َة عَا ٍم‬
‫ض ي َ ْو ٍم قَ َ‬ ‫َ‬
‫أ ْو بَعْ َ‬
‫ك ل َ ْم‬‫ك َو َش َرابِ َ‬ ‫فَان ْ ُظ ْر إ َِىل َطعَا ِم َ‬
‫يتسنَه وان ْ ُظر إ َِىل ِ‬
‫ك‬ ‫ك َولِن َ ْجعَل َ َ‬ ‫‪ٛ‬تا ِر َ‬
‫ََ َّ ْ َ ْ َ‬
‫اس َوان ْ ُظ ْر إ َِىل الْعِ َظا ِم َكي ْ َف‬ ‫آيَةً لِلنَّ ِ‬
‫نُن ْ ِش ُز َها ُث َّم ن َ ْك ُس َ‬
‫وها َ‪ٟ‬ت ْ ًما فَل َ َّما‬
‫اّللَ عَىلَ كُ ّ ِل‬‫ال أَعْل َ ُم أ َ َّن َّ‬
‫ُت ل َ ُه قَ َ‬
‫تَب َ َّ َ‬
‫َش ْيءٍ قَ ِدي ٌر (‪)259‬‬

‫وعندما ننظر إىل بداية اْلية ‪٧‬تدها‬


‫تبدأ ب « أو » ‪ ،‬وما بعد « أو »‬
‫يكون معطوفا ًعىل ما قبلها ‪ ،‬فكأن‬
‫ا‪ٟ‬تق يريد أن يقول لنا ‪ :‬أو ( أَل َ ْم تَ َر‬
‫) إىل مثل الذي مر عىل قرية ‪.‬‬
‫وعندما تسمع كلمة { قَ ْري َ ٍة }‬
‫فإهنا تفيد ٕتمع ‪ٚ‬تاعة من الناس‬
‫يسكنون يف مكان ‪٤‬تدود ‪ ،‬ونفهم أن‬
‫الذي مر عىل هذه القرية ليس من‬
‫سكاهنا ‪ ،‬إ‪٪‬تا هو قد مر عليها سياحة‬
‫يف رحلة ‪ .‬ونلحظ كذلك أن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه لم يشأ أن يأيت لنا باسم‬
‫القرية أو باسم الذي مر عليها ‪.‬‬
‫قال البعض ‪ :‬إنه هو أرمياء بن‬
‫حلقيا أو هو ا‪٠‬تضر ‪ ،‬أو هو عزير ‪،‬‬
‫وقد قلنا من قبل ‪ :‬إنه إذا أبهم ا‪ٟ‬تق‬
‫فمعناه ‪ :‬ال تشخص األمر ‪ ،‬فيمكن‬
‫ألي أحد أن ٭تدث معه هذا ‪.‬‬
‫{ أ َ ْو كالذي َم َّر عىل قَ ْري َ ٍة } ‪ .‬وقالوا‬
‫‪ :‬إهنا بيت ا‪١‬تقدس ‪َ { ،‬و ِه َي َخا ِو َةٌي‬
‫عىل ُع ُرو ِشهَا } وحىت نفهم معٌت‬
‫خاوية عىل عروشها ‪ ،‬لنا أن نعرف‬
‫أنٍت عندما أقول ‪ « :‬أنا خويان »‬
‫أي « أنا بطٍت خاوية » ‪ « :‬جوعان‬
‫» ف « خاوية » ا‪١‬تقصود بها أهنا‬
‫قرية خالية من السكان ‪ ،‬وقد تكون‬
‫أبنيتها منصوبة ‪ ،‬لكن ليس فيها‬
‫سكان ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق بقوله عن تلك‬
‫القرية ‪ :‬إهنا خاوية عىل عروشها ‪ ،‬و‬
‫« العرش » يطلق عىل البيت من‬
‫ا‪٠‬تيام ‪ ،‬ويطلق كما نعرف عىل‬
‫السقف ‪ ،‬فإذا قال ‪َ { :‬خا ِوي َ ٌة عىل‬
‫ُع ُرو ِشهَا } أي أن العرش قد سقط‬
‫أوال ‪ ،‬ثم سقطت ا‪ٞ‬تدران عليه ‪،‬‬
‫مثلما نقول يف لغتنا العامية ‪« :‬‬
‫جاب عاليها عىل واطيها » ‪.‬‬
‫وعندما ٯتر إنسان عىل قرية مثل‬
‫هذه القرية فبل بد أن مشهدها‬
‫يكون شيئا ًالفتا للنظر ‪ ،‬قال ‪ { :‬أىن‬
‫ُ٭تْيِي هذه اهلل بَعْ َد َم ْو ِهتَا } فكأنه‬
‫يسأل عن القرية ‪ ،‬وعن إماتة‬
‫وإحياء الناس الذين يسكنون‬
‫القرية ‪ .‬وا‪ٟ‬تق حُت يذكر القرية‬
‫يف القرآن فهو يقصد يف بعض‬
‫األحيان ا‪ٟ‬تديث عن أهلها مثل‬
‫قوله تعاىل ‪َ { :‬و ْسئ َ ِل القرية اليت‬
‫ُكنَّا فِيهَا والعَت اليت أَقْبَلْنَا فِيهَا َوإِن َّا‬
‫ون } ػ يوسف ‪] 82 :‬‬ ‫ل َ َصا ِد ُق َ‬
‫إن أبناء يعقوب عليه السبلم حُت‬
‫عادوا من مصر وتركوا أخاهم‬
‫األصغر مع يوسف عليه السبلم‬
‫قالوا ألبيهم ‪ :‬أرسل من يأتيك‬
‫بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك‬
‫زمبلءنا الذين كانوا معنا يف القافلة ‪،‬‬
‫وسيقولون لك ‪ :‬إننا قد تركنا أخانا‬
‫ٔتصر ‪ .‬لكن سؤال الذي مر عىل‬
‫القرية ا‪٠‬تاوية عىل عروشها هو‬
‫سؤال عن أهلها ‪.‬‬
‫{ أىن ُ٭تْيِي هذه اهلل بَعْ َد َم ْو ِهتَا }‬
‫وساعة تسمع { أىن } فهي تأيت مرة‬
‫ٔتعٌت « كيف » ‪ ،‬ومرة تأيت ٔتعٌت ‪:‬‬
‫« من أين » ‪ ،‬وا‪١‬تناسب ‪٢‬تا هنا هو‬
‫أن يكون السؤال كالتايل ‪ « :‬كيف‬
‫٭تيي اهلل هذه بعد موهتا »؟ وقوله‬
‫هذا يدل عىل أنه مؤمن ‪ ،‬فهو ال‬
‫يشك يف أن قضية اإلحياء من اهلل ‪،‬‬
‫وإ‪٪‬تا يريد أن يعرف الكيفية ‪،‬‬
‫فكأنه مؤمن بأن اهلل هو الذي ٭تيي‬
‫وٯتيت ‪ ،‬وهذه ستأيت يف قصة سيدنا‬
‫إبراهيم ‪:‬‬
‫{ أ َ ِر ِين َكي ْ َف ُٖتْيِي ا‪١‬توىت } ػ البقرة‬
‫‪] 260 :‬‬
‫هو ال يشك يف أن اهلل ُ٭تيي ا‪١‬توىت ‪،‬‬
‫إ‪٪‬تا يريد أن يرى كيف تتم هذه‬
‫ا‪ٟ‬تكاية؛ ألن الذي يريد أن يعرف‬
‫كيفية الشيء ‪ ،‬البد أن متعجب من‬
‫وجود هذا الشيء ‪ ،‬فيتساءل ‪:‬‬
‫كيف تم عمل هذا الشيء؟ مثلما‬
‫نرى األهرام ‪ ،‬و‪٨‬تن ال نشك أن‬
‫األهرام مبنية بهذا الشكل ‪ ،‬لكننا‬
‫نتساءل فقط ‪ :‬كيف بنوها؟ كيف‬
‫نقلوا ا‪ٟ‬تجارة بضخامتها ألعىل ولم‬
‫يكن هناك سقاالت أو روافع آلية؟‬
‫إذن فنحن نتعجب فقط ‪ ،‬والتعجب‬
‫فرع اإلٯتان با‪ٟ‬تدث ‪.‬‬
‫والسؤال عن الكيفية معناه التيقن‬
‫من ا‪ٟ‬تدث ‪ ،‬فقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬أىن يُ ِْيحي‬
‫هذه اهلل } ‪ . .‬يعٍت ‪ :‬كيف ُ٭تيي اهلل‬
‫هذه القرية بعد موهتا ‪ ،‬فكأن القائل‬
‫ال يشك يف أن اهلل ُ٭تيي ‪ ،‬ولكنه‬
‫يريد الكيفية ‪ ،‬والكيفية ليست‬
‫مناط إٯتان ‪ ،‬فاهلل لم ينهنا عن‬
‫التعرف عن الكيفية؛ فهو يعلم أننا‬
‫نؤمن بأنه قادر عىل إ‪٬‬تاد هذا‬
‫ا‪ٟ‬تدث ‪.‬‬
‫وأضرب هذا ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل‬
‫فمصمم ا‪١‬تبلبس عندما‬ ‫ع‬
‫األ ىل ُ‬
‫يقوم بتفصيل أزياء ‪ٚ‬تيلة ‪ ،‬أنت‬
‫تراها ‪ ،‬فأنت تتيقن من أنه‬
‫صانعها ‪ ،‬ولكنك تتعجب فقط من‬
‫دقة الصنعة ‪ ،‬وتقول له ‪ :‬باهلل كيف‬
‫عملت هذه؟ كأنك قد عشقت‬
‫الصنعة! فتشوقت إىل معرفة كيف‬
‫صارت ‪ ،‬فما بالنا بصنعة ا‪ٟ‬تق‬
‫تبارك وتعاىل؟ إنك تندهش‬
‫وتتعجب لتعيش يف ظل السر‬
‫السائح من ا‪٠‬تالق يف ا‪١‬تخلوق ‪،‬‬
‫وتريد أن تنعم بهذه النعم ‪.‬‬
‫ومثال آخر وهلل ا‪١‬تثل األعىل من‬
‫قبل ومن بعد أنت ترى مثبل لوحة‬
‫ر‪ٝ‬تها رسام ‪ ،‬فتقول له ‪ :‬باهلل‬
‫كيف مزجت هذه األلوان؟ أنت ال‬
‫تشك يف أنه قد مزج األلوان ‪ .‬بل‬
‫تريد أن تسعد نفسك بأن تعرف‬
‫كيف ر‪ٝ‬تها ‪ ،‬إذن فقوله وقول‬
‫إبراهيم بالسؤال يف اإلحياء‬
‫واإلماتة فيما يأيت ليس معناه أنه‬
‫َت مؤمن بل هو عاشق ومشتاق‬
‫ألن يعرف الكيفية؛ ليعيش يف جو‬
‫اإلبداع ا‪ٞ‬تمايل الذي أنشأ هذه‬
‫الصنعة ‪.‬‬
‫ونعلم أن إحياء الناس سيًتتب‬
‫عليه إحياء القرية ‪ ،‬فاإلنسان هو‬
‫باعث ا‪ٟ‬تركة اليت تعمر الوجود ‪،‬‬
‫والناس ‪٢‬تم حياة و‪٢‬تم موت ‪،‬‬
‫والقرية بأنقاضها وجدراهنا‬
‫وعروشها ‪٢‬تا حياة و‪٢‬تا موت ‪.‬‬
‫وعندما سأل العبد هذا السؤال ‪،‬‬
‫أراد اهلل أن تكون اإلجابة ٕتربة‬
‫معاشة يف ذات السائل؛ لذلك يأيت‬
‫القرآن بالقول { فَأ َ َماتَ ُه اهلل ِماْئَ َة‬
‫عَا ٍم } ‪.‬‬
‫إن صاحب السؤال قد أراد أن‬
‫يعرف الكيفية ‪ ،‬وطلبه هو إٯتان‬
‫دليل ‪ ،‬ليصبح فيما بعد إٯتانا بواقع‬
‫مشاهد { فَأ َ َماتَ ُه اهلل ِماْئَ َة عَا ٍم }‬
‫لقد جعل اهلل األمر والتجربة يف‬
‫السائل ذاته وهذا إخبار اهلل ‪ .‬لقد‬
‫أماته مائة عام ‪ ،‬والعام هو ا‪ٟ‬تول ‪،‬‬
‫وقد ‪ٝ‬توا « ا‪ٟ‬تول » عاما؛ ألن‬
‫الشمس تعوم يف الفلك كله يف هذه‬
‫ا‪١‬تدة ‪ ،‬والعوم َسب ْ ٌح ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق يقول ‪:‬‬

‫ون } ػ يس ‪:‬‬ ‫ك ي َ ْسب َ ُح َ‬ ‫{ وكُ ٌّل ِيف فَل َ ٍ‬


‫َ‬
‫‪] 40‬‬
‫ولذلك نسميه عاما ً‪ { .‬فَأ َ َماتَ ُه اهلل‬
‫ِماْئَ َة عَا ٍم ُث َّم بَعَث َ ُه قَ َ‬
‫ال َك ْم ل َ ِبث ْ َت قَ َ‬
‫ال‬
‫ض ي َ ْو ٍم } ‪ ،‬فكأن‬ ‫َ‬
‫ل َ ِبث ْ ُت ي َ ْوما ًأ ْو بَعْ َ‬
‫اهلل قال له كبلما ًكما كلم موىس ‪ ،‬أو‬
‫‪ٝ‬تع صوتا ًأو ملكا ًأو أن أحدا ًمن‬
‫ا‪١‬توجودين رأى التجربة ‪ .‬فا‪١‬تهم‬
‫أن هناك سؤاال ًوجوابا ً‪ .‬وٮتْبنا‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه ْتوار دار يف هذا‬
‫الشأن ‪ ،‬السؤال هو ‪ :‬كم لبثت؟‬
‫فأجاب الرجل ‪ :‬لبثت يوما ًأو‬
‫بعض يوم ‪.‬‬
‫وإجابة الرجل تعٍت أنه دق تشكك‬
‫‪ ،‬فقد وجد اليوم قد قارب عىل‬
‫االنتهاء أو انتىه ‪ ،‬أو أنه عندما رأى‬
‫الشمس مشرقة أجاب هذه‬
‫ض ي َ ْو ٍم‬ ‫َ‬
‫اإلجابة ‪ { :‬ل َ ِبث ْ ُت ي َ ْوما ًأ ْو بَعْ َ‬
‫} أو يكون قد قال ذلك؛ ألنه ال‬
‫يستطيع أن يتحكم يف تقدير‬
‫الزمن ‪ .‬فهل هو صادق يف قوله أو‬
‫كاذب؟ إنه صادق ‪ ،‬ألنه لم ير شيئا ً‬
‫قد تغَت فيه ليحكم ٔتقدار التغَت ‪،‬‬
‫فلو كان قد حلق ‪ٟ‬تيته مثبل ً‪ ،‬وقام‬
‫بعد ذلك ليجد ‪ٟ‬تيته قد طالت ‪ ،‬أو‬
‫قد نام بشعر أسود ‪ ،‬وقام بعد ذلك‬
‫بشعر أشيب ‪ ،‬فلو حدثت أية‬
‫تغَتات فيه لكان قد ‪١‬تسها ‪ ،‬لكنه‬
‫لم ‪٬‬تد تغَتا ً‪.‬‬
‫فماذا كان جواب ا‪ٟ‬تق؟ قال ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ بَل ل َّ ِبث ْ َت ِماْئَةَ عَا ٍم } ‪ .‬إننا هنا‬
‫أمام طرفُت ويكاد األمر أن يصبح‬
‫لغزا ً‪ ،‬وطرف يقول ‪ { :‬ل َ ِبث ْ ُت ي َ ْوما ً‬
‫ض ي َ ْو ٍم } ورب يقول ‪ { :‬بَل‬ ‫َ‬
‫أ ْو بَعْ َ‬
‫ل َّ ِبث ْ َت ِماْئَ َة عَا ٍم } ‪ .‬ونريد أن ‪٨‬تل‬
‫هذا اللغز ‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق سبحانه صادق‬
‫زنه والعبد ا‪١‬تؤمن صادق يف حدود‬ ‫وم ّ‬‫ُ‬
‫ما رأى من أحواله ‪ .‬ونريد دليبل عىل‬
‫هذا ‪ ،‬ودليبل عىل ذاك ‪ .‬نريد دليبل‬
‫عىل صدق العبد يف قوله ‪ { :‬ل َ ِبث ْ ُت‬
‫ض ي َ ْو ٍم } ‪ .‬ونريد من‬ ‫َ‬
‫ي َ ْوما ًأ ْو بَعْ َ‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل دليل اطمئنان‬
‫ال دليل برهان عىل أن الرجل قد‬
‫مات مائة عام وعاد إىل ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫ونقول ‪ :‬إن يف القصة ما يؤيد {‬
‫ض ي َ ْو ٍم } ‪ ،‬وما‬ ‫َ‬
‫ل َ ِبث ْ ُت ي َ ْوما ًأ ْو بَعْ َ‬
‫يؤيد { بَل ل َّ ِبث ْ َت ِماْئَ َة عَا ٍم } ‪ ،‬فقد‬
‫كان مع الرجل ‪ٛ‬تاره ‪ ،‬وكان معه‬
‫طعامه وشرابه من عصَت وعنب‬
‫وتُت ‪ .‬فقال ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪:‬‬
‫{ ل َّ ِبث ْ َت ِماْئَ َة عَا ٍم } ‪ ،‬وأراد أن‬
‫يدلل عىل الصدق يف القضيتُت معا ً‬
‫قال ‪ { :‬فانظر إىل َطعَا ِم َ‬
‫ك‬
‫ك ل َ ْم يَت َ َسنَّ ْه } ‪ ،‬ونظر‬
‫َو َش َرابِ َ‬
‫الرجل إىل طعامه وشرابه فوجد‬
‫الطعام والشراب لم يتغَتا ‪ ،‬وهذا‬
‫دليل عىل أنه لم ٯتكث إال يوما أو‬
‫بعض يوم ‪ ،‬وبذلك ثبت صدق‬
‫الرجل ‪ ،‬بقيت قضية { ِماْئَةَ عَا ٍم‬
‫}‪.‬‬
‫ِ‬
‫ك‬‫‪ٛ‬تا ِر َ‬
‫فقال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬وانظر إىل َ‬
‫ك آيَةً لِلنَّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اس } وهذا القول‬ ‫َول َن ْجعَل َ َ‬
‫يدل عىل أن هنا شيئا عجيبا ‪ ،‬وأراد‬
‫اهلل أن يبُت له بنظرة إىل ا‪ٟ‬تمار‬
‫دليبل ًعىل صدق مرور مائة عام ‪،‬‬
‫ووجد الرجل ‪ٛ‬تاره وقد ٖتول‬
‫عظاما ًمبعثرة ‪ ،‬وال ٯتكن أن ٭تدث‬
‫ذلك يف زمن قصَت ‪ ،‬فإن موت‬
‫ا‪ٟ‬تمار أمر قد ٭تدث يف يوم ‪ ،‬لكن‬
‫أن يرم جسمه ‪ ،‬ثم ينتهي ‪ٟ‬تمه إىل‬
‫رماد ‪ ،‬ثم تبىق العظام مبعثرة ‪،‬‬
‫فتلك قضية تريد زمانا ًطويبل ًال‬
‫يتسع له إال مائة عام ‪ ،‬فكأن النظر‬
‫إىل ا‪ٟ‬تمار هو دليل عىل صدق مرور‬
‫مائة عام ‪ ،‬والنظر إىل الطعام دليل‬
‫ض ي َ ْو ٍم } ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ىل صدق { ي َ ْوما ًأ ْو بَعْ َ‬
‫فالقضية إذن قضية عجيبة ‪ ،‬وكيف‬
‫ُطوي الزمن يف مسألة الطعام ‪،‬‬
‫وكيف ُبسط الزمن يف مسألة‬
‫ا‪ٟ‬تمار ‪ .‬إنه سبحانه يظهر لنا أنه‬
‫هو القابض الباسط ‪ ،‬فهو الذي‬
‫يقبض الزمن يف حق شيء ‪ ،‬ويبسط‬
‫الزمن يف حق شيء آخر ‪ ،‬والشيئان‬
‫متعاصران معا ‪ .‬وتلك العملية ال‬
‫ٯتكن أن تكون إال لقدرة طليقة ال‬
‫٘تلكها النواميس الكونية ‪ ،‬وإ‪٪‬تا‬
‫هي اليت ٘تلك النواميس ‪.‬‬
‫وقد قال ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪{ :‬‬
‫اس } ‪ ،‬فمن هم‬ ‫ك آيَةً لِلنَّ ِ‬
‫َولِن َ ْجعَل َ َ‬
‫الناس الذين سيجعل اهلل من قضية‬
‫الذي مر عىل قرية آية ‪٢‬تم؟ كان‬
‫البد أن يوجد أناس يف القصة ‪،‬‬
‫لكن القرية خاوية عىل عروشها ‪،‬‬
‫وليس فيها إنسان أو بنيان ‪ ،‬أهم‬
‫الذين كانوا يف القرية أم سواهم؟‬
‫قال بعض ا‪١‬تفسرين هذا ‪ ،‬وقال‬
‫البعض اْلخر الرأي ا‪١‬تضاد ‪.‬‬
‫وأصدق شيء ٯتكن أن يتصل‬
‫ك‬‫بصدق اهلل يف قوله ‪َ { :‬ولِن َ ْجعَل َ َ‬
‫اس } هو قبض اهلل للزمن يف‬ ‫آيَةً لِلنَّ ِ‬
‫حق شيء ‪ ،‬وبسطه يف حق شيء آخر‬
‫‪ ،‬وعزيز كما قال ‪ٚ‬تهرة العلماء‬
‫هو الذي مر عىل قرية ‪ ،‬وعزيز هذا‬
‫كان من األربعة الذين ٭تفظون‬
‫التوراة ‪ ،‬فلم ٭تفظ التوراة إال أربعة‬
‫‪ :‬موىس ‪ ،‬وعيَس ‪ ،‬وعزير ‪ ،‬ويوشع ‪،‬‬
‫وقد أراه اهلل العظام وكيف‬
‫ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم‬
‫يكسوها ‪ٟ‬تما ‪ ،‬أي أراه عملية‬
‫اإلحياء مشهديا ً‪ ،‬ويف هذا إجابة‬
‫للسؤال ‪ { :‬أىن يُ ِْيحي هذه اهلل بَعْ َد‬
‫َم ْو ِهتَا } ؟‬
‫وا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬وانظر إ َِىل العظام‬
‫كَي ْ َف نُن ْ ِش ُز َها } و { نُن ْ ِش ُز َها } أي‬
‫نرفعها ‪ ،‬ورأى « عزير » كل‬
‫عظمة يف ‪ٛ‬تاره ‪ ،‬وهي ترفع من‬
‫األرض ‪ ،‬وشاهد كل عظمة‬
‫تركب مكاهنا ‪ ،‬وبعد تكوين ا‪٢‬تيكل‬
‫العظمي للحمار بدأت رحلة‬
‫كسوة العظام ٌفما ً‪ ،‬وبعد ذلك تأيت‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫لقد وجد عزير إجابة يف نفسه ‪،‬‬
‫ووجد إجابة يف ا‪ٟ‬تمار ‪ ،‬ومن بعد‬
‫ذلك تذكر قريته اليت خرج منها ‪،‬‬
‫وأراد العودة إليها ‪ ،‬فلما عاد إليها‬
‫وجد أمرها قد تغَت ٔتا يتناسب مع‬
‫مرور مائة عام ‪ ،‬وكان يف تلك‬
‫القرية موالة ‪٢‬تم ‪ ،‬أي أمة يف أسرته‬
‫‪ ،‬وكانت هذه األمة قد عميت‬
‫وأصبحت مقعدة ‪ ،‬فلما دخل وقال‬
‫‪ :‬أنا العزير ‪ .‬قالت األمة ‪ :‬ذهب‬
‫العزيز من مائة عام وال ندري أين‬
‫ذهب ولم يعد؟‬
‫قال ‪ :‬أنا العزير ‪ .‬قالت ‪ :‬إن للعزير‬
‫عبلمة ‪ ،‬هذه العبلمة أنه ‪٣‬تاب‬
‫الدعوة ‪ ،‬ولم تنس نفسها ‪ .‬قالت ‪:‬‬
‫فإن كنت العزير فادع اهلل أن يرد‬
‫عل َّي بصري وأن ٮترجٍت من قعودي‬
‫هذا ‪ .‬فدعا عزير اهلل فْبئت ‪ ،‬فلما‬
‫برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو‬
‫العزير فذهبت إىل قومها وأعلنت‬
‫أن العزير قد عاد ‪ .‬وبعد ذلك ذهب‬
‫العزير إىل ابنه ‪ ،‬فوجده رجبل قد‬
‫ٕتاوز مائة سنة ‪ ،‬وكان العزير ال‬
‫يزال شابا يف سن ‪ٜ‬تسُت سنة ‪.‬‬

‫ولذلك ترى الشاعر يقول ُملغزا ً‪:‬‬


‫وما اب ٌن رأى أباه وهو يف ضعف‬
‫عمره؟ وا‪١‬تقصود بهذا اللغز هو‬
‫العزير الذي أماته اهلل وهو يف‬
‫ا‪٠‬تمسُت ثم أحياه اهلل يف عمره‬
‫نفسه بعد مائة عام ‪ ،‬والتىق العزير‬
‫بابنه ‪ .‬قال االبن ‪ :‬كنت ا‪ٝ‬تع أن‬
‫أليب عبلمة بُت كتفيه « شامة » ‪.‬‬
‫فلما كشف العزير ه‬
‫كتفالبنه وجد‬
‫الشامة ‪.‬‬
‫وتثبت أهل القرية من صدق‬
‫عزير ‪ :‬بشيء آخر هو أن ( ٓتتنصر‬
‫) حينما جاء إىل بيت ا‪١‬تقدس‬
‫وخربها حرق التوراة ‪ ،‬إال أن رجبل‬
‫قال ‪ :‬إن أباه قد دفن يف مكان ما‬
‫نسخة من التوراة ‪ ،‬فجاءوا‬
‫بالنسخة ‪ ،‬قال العزير ‪ :‬وأنا‬
‫أحفظها ‪ .‬وتبل العزير التوراة كما‬
‫ُوجدت يف النسخة ‪ ،‬فصدق القوم‬
‫أنه العزير ‪ ،‬وتعجب الناس وهم‬
‫يشاهدون ابنا ٗتىط ا‪١‬تائة وأبا يف‬
‫سن ا‪٠‬تمسُت ‪ .‬ولذلك يذيل ا‪ٟ‬تق‬
‫ال أَعْل َ ُم أ َ َّن اهلل‬
‫اْلية بالقول ‪ { :‬قَ َ‬
‫عىل كُ ّ ِل َش ْيءٍ قَ ِدي ٌر } ‪.‬‬
‫ألم يكن قبل ذلك يعلم أن اهلل عىل‬
‫كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم‬
‫االستدالل ‪ ،‬وهو اْلن يعلم علم‬
‫ا‪١‬تشهد ‪ ،‬علم الضرورة ‪ ،‬فليس مع‬
‫العُت أين ‪.‬‬
‫إذن ف { أَعْلَم أ َ َن اهلل عىل كُ ّ ِل َشيءٍ‬
‫ْ‬ ‫ُ ّ‬
‫قَ ِدي ٌر } هي تأكيد وتعريف بقدرة‬
‫اهلل عىل أن يبسط الزمن ويقبضه ‪،‬‬
‫وقدرة اهلل عىل اإلحياء واإلماتة ‪،‬‬
‫فصار يعلم حق اليقُت بعد أن كان‬
‫يعلم علم ايلقُت ‪.‬‬
‫وهذه ا‪١‬تسألة تفسر ما يقوله العلم‬
‫ا‪ٟ‬تديث عن تعليق ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬ومعٌت‬
‫تعليق ا‪ٟ‬تياة هو يشبه ما تفعله بعض‬
‫الثعابُت عندما تقوم بالبيات‬
‫الشتوي ‪ ،‬أي تنكمش يف الشتاء يف‬
‫ذاهتا وال ُتبدي حركة ‪ ،‬وتظل‬
‫هكذا إىل أن يذهب الشتاء ‪ ،‬ومدة‬
‫البيات الشتوي ال ٖتتسب من عمر‬
‫الثعابُت ‪ ،‬ولذلك يقال ‪ :‬إن ذلك‬
‫هو عملية تعليق ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬وهذه‬
‫العملية اليت قد نفسر بها مسألة‬
‫أهل الكهف ‪ .‬فأهل الكهف أيضا‬
‫مرت عليهم العملية نفسها ‪{ :‬‬
‫وكذلك بَعَثْن َ ُاه ْم لِيَت َ َسآءَلُوا بَيْن َ ُه ْم‬
‫ال قَ ِائ ٌل ِّمن ْ ُه ْم كَم لَبِث ْ ُت ْم قَالُوا ْ‬
‫قَ َ‬
‫ض ي َ ْو ٍم } ػ الكهف‬ ‫َ‬
‫لَبِثْنَا ي َ ْوما ًأ ْو بَعْ َ‬
‫‪] 19 :‬‬
‫إهنم لم يروا شيئا ًقد تغَت فيهم ‪.‬‬
‫وبعد ذلك قال ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪{ :‬‬
‫ُت‬ ‫َبلث ِماْئَ ٍة ِس ِ‬
‫ن‬ ‫َولَبِثُوا ْ ِيف كَهْ ِف ِه ْم ث َ‬
‫َ‬
‫وازدادوا تِ ْسعا ً} ػ الكهف ‪] 25 :‬‬
‫إن اهلل حدد الزمن الذي لبثوه ‪،‬‬
‫بينما هم قالوا ‪ :‬إن الزمن هو يوم‬
‫أو بعض يوم ‪ .‬ومعٌت ذلك أهنم‬
‫عندما ناموا هذا اللون من النوم‬
‫واستيقظوا وجدوا أنفسهم عىل‬
‫حالتهم اليت كانت قبل هذا اللون‬
‫من النوم ‪ .‬إذن فقد علق اهلل حياهتم‬
‫‪ .‬ونبلحظ أن كل هذه العملية قد‬
‫جاءت هنا يف قصة العزير بعد آية‬
‫الكرسي اليت تصور العقيدة‬
‫اإلٯتانية ‪ { :‬اهلل ال َإله إِال َّ ُه َو ا‪ٟ‬تي‬
‫القيوم ال َتَأ ْ ُخ ُذ ُه ِسن َ ٌة َوال َن َ ْو ٌم ل َّ ُه َما ِيف‬
‫السماوات َو َما ِيف األرض َمن ذَا‬
‫الذي ي َ ْش َف ُع ِعن ْ َد ُه إِال َّبِإِذْنِ ِه يَعْل َ ُم َما‬
‫ُت أَي ْ ِدي ِه ْم َو َما َخل ْ َف ُه ْم َوال َ‬
‫بَ ْ َ‬
‫ُ٭ت ِ ُيط ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫ون ب َش ْيء ّم ْن علْمه إِال َّٔتَا َشآءَ‬ ‫َ‬
‫َو ِس َع ُك ْر ِسي ُّ ُه السماوات واألرض‬
‫ود ُه ِح ْف ُظ ُه َما َو ُه َو العلي‬
‫َوال َي َ ُؤ ُ‬
‫العظيم }‬

‫ػ البقرة ‪] 255 :‬‬


‫وتصور قضية ا‪ٟ‬تياة وقضية ا‪١‬توت‬
‫ونعلم أن إبراهيم حُت َّ‬
‫حاجه‬
‫الرجل وقال له ‪ { :‬أَنَا أ ُْحيِي‬
‫ِ‬
‫يت } نقل إبراهيم ا‪ٟ‬تجة إىل‬ ‫َوأُم ُ‬
‫الليل والنهار ‪ ،‬وطلب منه أن‬
‫يعكس آية الليل والنهار ‪ ،‬فقال‬
‫للرجل ‪ { :‬فَإ َِّن اهلل يَأ ْ ِيت بالشمس‬
‫ِم َن ا‪١‬تشرق فَأ ْ ِت بِهَا ِم َن ا‪١‬تغرب‬
‫فَب ُ ِه َت الذي َك َف َر } ‪.‬‬
‫وحىت ال يظن أحد أن إبراهيم عليه‬
‫السبلم إ‪٪‬تا ترك الكبلم عن‬
‫اإلحياء واإلماتة فرارا ًمن ا‪ٞ‬تدل ‪.‬‬
‫ونقل األمر إىل الشمس ‪ ،‬لكن أراد‬
‫اهلل أن يأيت بقصة هذا اإلنسان‬
‫الذي مر عىل قرية وهي خاوية ‪،‬‬
‫فيحدث له كل ما تقدم ليثبت ا‪ٟ‬تق‬
‫لنا أن قضية ا‪ٟ‬تياة وقضية ا‪١‬توت‬
‫بيده وحده ‪ .‬وليخرج ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫أمر ا‪ٟ‬تياة وا‪١‬توت عن ‪٣‬تال‬
‫السفسطة ا‪ٞ‬تدلية ‪ .‬وعرفنا أن‬
‫قبل معٌت السفسطة ا‪ٞ‬تدلية حينما‬
‫تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم‬
‫يف ربه باثنُت من ا‪١‬تسجونُت وقال‬
‫‪ :‬أنا أستطيع أن أقتل واحدا ‪ ،‬وأن‬
‫أترك الثاين ببل َقتل‪.‬‬
‫هذه هي السفسطة ‪ :‬إنه لم ٭تيي ‪،‬‬
‫بل أبىق حياة ‪ .‬وعرفنا أن اإلحياء‬
‫ضد اإلماتة؛ ألن اإلماتة هي أن‬
‫ٗترج الروح من ا‪ٞ‬تسد بدون جرح‬
‫‪ ،‬أو نقض بنية ‪ ،‬أو عمل يفعله‬
‫اإلنسان يف البدن ‪ .‬أما إذا فعل‬
‫إنسان أي شيء من هذه األفعال‬
‫ضد إنسان آخر فبل يقال إنه أماته‬
‫بل يقال لقد قتله ‪ .‬وا‪١‬توت كما‬
‫عرفنا َت القتل ‪.‬‬
‫وتأيت بعد ذلك قصة إلبراهيم أيضا‬
‫بعد أن نقل ا‪ٞ‬تدل مع الرجل إىل‬
‫الشمس ‪ ،‬فبهت الرجل الذي كفر‬
‫‪ ،‬أما إبراهيم عليه السبلم فهو‬
‫يؤمن بقدرة اهلل ‪ ،‬لكنه يريد أن‬
‫يعرف الكيفية ‪ .‬إن إبراهيم عليه‬
‫السبلم لم يكن شاكا ألن رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال ‪« :‬‬
‫‪٨‬تن أحق بالشك من إبراهيم إذ‬
‫قال ‪َ { :‬ر ِ ّب أ َ ِر ِين َكي ْ َف ُٖتْيِي ا‪١‬توىت‬
‫ال بىل َول َ ِكن‬ ‫ِ‬
‫ال أ َ َول َ ْم ُت ْؤمن قَ َ‬
‫قَ َ‬
‫لِ ّي َ ْط َمئِ َّن قَلْبِي } » ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن ا‪١‬تسلمُت لم نشك يف هذا‬
‫األمر ‪ .‬إذن ‪ ،‬فإبراهيم عليه‬
‫السبلم لم يشك من باب أوىل‬
‫بدليل منطوق اْلية حُت قال ا‪ٟ‬تق‬
‫يم َر ِ ّب‬ ‫ال إِب ْ َرا ِ‬
‫ه‬ ‫سبحانه ‪َ { :‬وإِذْقَ َ‬
‫ُ‬
‫ال أ َ َول َ ْم‬
‫أ َ ِر ِين َكي ْ َف ُٖتْيِي ا‪١‬توىت قَ َ‬
‫ال بىل َول َ ِكن لِ ّي َ ْط َمئِ َّن قَلْبِي ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُت ْؤمن قَ َ‬
‫‪}..‬‬

‫يم َر ِ ّب أ َ ِر ِين َكي ْ َف‬ ‫ُ‬


‫ال إِب ْ َرا ِ‬
‫ه‬ ‫َوإِذْقَ َ‬
‫ِ‬
‫ال أ َ َول َ ْم ُت ْؤم ْن قَ َ‬
‫ال بَىلَ‬ ‫ُٖتْيِي ا ْ‪١‬ت َ ْو َىت قَ َ‬
‫ال فَ ُخ ْذ أ َ ْربَعَةً‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ول َ ِكن لِي ْطمئِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ّ‬
‫اجعَ ْل‬‫ك ُث َّم ْ‬ ‫َت فَ ُص ْر ُه َّن إِلَي ْ َ‬ ‫ِم َن َّ‬
‫الط ْ ِ‬
‫عَىلَ كُ ّ ِل َجب َ ٍل ِمن ْ ُه َّن ُج ْزءًا ُث َّم ادْ ُع ُه َّن‬
‫ك َسعْيًا َواعْل َ ْم أ َ َّن َّ‬
‫اّللَ َعزِي ٌز‬ ‫يَأْتِين َ َ‬
‫يم (‪)260‬‬ ‫ِ‬
‫َحك ٌ‬
‫إن إبراهيم عليه السبلم يسأل ‪:‬‬
‫كيف ُٖتيي ا‪١‬توىت؟ أي أنه يطلب‬
‫ا‪ٟ‬تال اليت تقع عليها عملية اإلحياء‬
‫‪ .‬فإبراهيم عليه السبلم ال يتكلم‬
‫يف اإلحياء ‪ ،‬وإ‪٪‬تا كان شكه عليه‬
‫السبلم يف أن اهلل سبحانه قد‬
‫يستجيب لطلبه يف أن يريه ويطلعه‬
‫عىل كيفية إحياء ا‪١‬توىت؟ ولنضرب‬
‫هذا ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل األعىل من قبل‬
‫ومن بعد وا‪١‬تثل لتقريب ا‪١‬تسألة‬
‫من العقول؛ ألن اهلل ُمزنه عن أي‬
‫تشبيه ‪.‬‬
‫إن الواحد منا يقول للمهندس ‪:‬‬
‫كيف بنيت هذا البيت؟ إن‬
‫صاحب السؤال يشَت إىل حدث‬
‫وإيل ُ‪٤‬ت ْ َدث وهو البيت الذي تم‬
‫بناؤه ‪ .‬فهل معرفة الكيفية تدخل‬
‫يف عقيدة اإلٯتان؟ ال ‪.‬‬
‫ولنعلم أوال ما معٌت ‪ :‬عقيدة؟ ‪ .‬إن‬
‫العقيدة هي ‪ :‬أمر معقود ‪ ،‬وإذا كان‬
‫هذا فكيف يقول ‪ { :‬لِ ّي َ ْط َمئِ َّن قَلْبِي‬
‫} ؟ فهل هذا دليل عىل أن إبراهيم‬
‫قبل السؤال ‪ ،‬وقبل أن ‪٬‬تاب إليه ‪،‬‬
‫لم يكن قلبه مطمئنا ً؟ ال ‪ ،‬لقد كان‬
‫إبراهيم مؤمنا ً‪ ،‬ولكنه يريد أن‬
‫يزداد اطمئنانا ً‪ ،‬ألنه أدار بفكره‬
‫الكيفية اليت تكون عليها عملية‬
‫اإلحياء ‪ ،‬لكنه ال يعرف عىل أية‬
‫صورة تكون ‪.‬‬
‫إذن فاالطمئنان جاء ‪١‬تراد يف كيفية‬
‫‪٥‬تصوصة ٗترجه من متاهات‬
‫كيفيات متصورة ومتخيلة ‪،‬‬
‫ومادمت تريد الكيفية ‪ ،‬وهذه‬
‫الكيفية ال ٯتكن أن نشرحها لك‬
‫بكبلم ‪ .‬بل البد أن تكون ٕتربة‬
‫عملية واقعية ‪ { ،‬فَ ُخ ْذ أ َ ْربَعَةً ِّم َن‬
‫ك} ‪ .‬و«‬ ‫الطَت فَ ُص ْر ُه َّن إِلَي ْ َ‬
‫صرهن » أي أملهن واضممهن‬
‫إليك لتتأكد من ذوات الطَت ‪ ،‬ومن‬
‫شكل كل طَت ‪ ،‬حىت ال تتوهم أنه قد‬
‫جاء لك طَت آخر ‪.‬‬
‫وقال ا‪١‬تفسرون ‪ :‬إن األربعة من‬
‫الطَت هي ‪ :‬الغراب ‪ ،‬الطاووس ‪،‬‬
‫الديك ‪ ،‬ا‪ٟ‬تمامة ‪ ،‬وهكذا كان كل‬
‫طائر له شكلية ‪٥‬تتلفة ‪.‬‬
‫{ ُث َّم اجعل عىل كُ ّ ِل َجب َ ٍل ِّمن ْ ُه َّن‬
‫ك َسعْيا ً} ‪،‬‬ ‫ُج ْزءًا ُث َّم ادعهن يَأْتِين َ َ‬
‫فهل أجرى سيدنا إبراهيم هذه‬
‫العملية أو اكتىف بأن شرح اهلل له‬
‫الكيفية؟ إن القرآن لم يتعرض‬
‫‪٢‬تذه ا‪ٟ‬تكاية ‪ ،‬فإما أن يكون اهلل قد‬
‫قال له الكيفية ‪ ،‬فإن أراد أن يتأكد‬
‫منها فليفعل ‪ ،‬وإما أنه قد تيقن دون‬
‫أن ‪٬‬تري تلك العملية ‪ .‬إن القرآن‬
‫لم يقل لنا هل أجرى سيدنا‬
‫إبراهيم هذه العملية أم ال؟ وا‪ٟ‬تق‬
‫يقول ‪٥‬تاطبا إبراهيم ٓتطوات‬
‫ك‬‫التجربة ‪ُ { :‬ث َّم ادعهن يَأْتِين َ َ‬
‫َسعْيا ً} وكان ا‪١‬تفروض أن يقول ‪:‬‬
‫يأتينك طَتانا ‪ .‬فكيف تسىع‬
‫الطيور؟ إن الطَت يطَت يف السماء‬
‫ويف ا‪ٞ‬تو ‪ .‬لكن ا‪ٟ‬تق أراد بذلك أال‬
‫يدع أي ‪٣‬تال الختبلط األمر فقال ‪:‬‬
‫« سعيا » أي أن الطَت سيأيت أمامه‬
‫سائرا ‪ ،‬لقد نقل ا‪ٟ‬تق األمر من‬
‫الطَتان إىل السعي كي يتأكد منها‬
‫سيدنا إبراهيم ‪ ،‬إذن فلكي تتأكد‬
‫يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا‬
‫بها من طيور ‪٥‬تتلفة وأنت الذي‬
‫قطعتها ‪ ،‬وأنت الذي جعلت عىل‬
‫كل جبل جزءا ‪ ،‬ثم أنت الذي‬
‫دعوت الطَت فجاءتك سعيا ‪.‬‬
‫وهنا ملحظية يف طبلقة القدرة ‪،‬‬
‫ويف الفرق بُت القدرة الواجبة‬
‫لواجب الوجود ‪ ،‬وهو ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل ‪ ،‬والقدرة ا‪١‬تمنوحة من‬
‫واجب الوجود وهو اهلل سبحانه‬
‫‪١‬تنكر واجب الوجود وهو اإلنسان ‪،‬‬
‫هذا له قدرة ‪ ،‬وذاك له قدرة؛ إن‬
‫قدرة اهلل هي قدرة واجبة ‪ ،‬وقدرة‬
‫اإلنسان هي قدرة ‪٦‬تكنة ‪ ،‬وقدرة‬
‫اهلل ال يزنعها منه أحد ‪ ،‬وقدرة‬
‫اإلنسان يزنعها اهلل منه؛‬
‫فاإلنسان من البشر ‪ ،‬والبشر‬
‫تتفاوت قدراهتم؛ فحُت تكون‬
‫ألحدهم قدرة فهناك آخر ال قدرة‬
‫له ‪ ،‬أي عاجز ‪ .‬ويستطيع القادر من‬
‫البشر أن يعدي أثر قدرته إىل‬
‫العاجز؛ فقد ٭تمل القادر كرسيا‬
‫ليجلس عليه من ال يقدر عىل ‪ٛ‬تله ‪.‬‬
‫لكن قدرة ا‪ٟ‬تق ٗتتلف ‪.‬‬
‫كأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يقول ‪ :‬أنا‬
‫أعدي من قدريت إىل من ال يقدر‬
‫فيقدر ‪ ،‬أنا أقول للضعيف ‪ :‬كن‬
‫قادرا ً‪ ،‬فيكون ‪ .‬وهذا ما نفهمه من‬
‫قوله سبحانه إلبراهيم ‪ُ { :‬ث َّم‬
‫ادعهن يَأْتِين َ َ‬
‫ك َسعْيا ً} ‪ .‬إن‬
‫إبراهيم كواحد من البشر عاجز‬
‫عن كيفية اإلحياء ‪ ،‬ولكن ا‪ٟ‬تق‬
‫يعطيه القدرة عىل أن ينادي الطَت ‪،‬‬
‫فيأيت الطَت سعيا ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يعطي القدرة إلبراهيم أن‬
‫يدعو الطَت فيأيت الطَت سعيا ‪ .‬وهذا‬
‫هو الفرق بُت القدرة الواجبة ‪،‬‬
‫وبُت القدرة ا‪١‬تمكنة ‪ .‬إن قدرة‬
‫ا‪١‬تمكن ال يعديها أح ٌد ٍ‬
‫‪٠‬تال منها ‪،‬‬
‫ولكن قدرة وجب الوجود ُتعديها‬
‫إىل من ال يقدر فيقدر ‪ ،‬ولذلك يأيت‬
‫القول ا‪ٟ‬تكيم ٓتصائص عيَس ابن‬
‫مريم عليه السبلم ‪َ { :‬و َر ُسوال ًإىل‬
‫يل أ َ ِّين قَ ْد ِجئ ْ ُت ُك ْم بِآي َ ٍة‬
‫بٍت إِ ْس َر ِائ َ‬
‫ِّمن َّر ِبّ ُك ْم أين أ َ ْخل ُ ُق ل َ ُك ْم ِّم َن الطُت‬
‫ون‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫يف‬
‫َ‬ ‫كَهَيْئ َ ِة الطَت فَأ َ ُنف ُخ فِي ِ‬
‫ه‬
‫َ ُ‬
‫ُ‬
‫ىء األكمه‬ ‫َط َْتا ًبِإِذْ ِن اهلل َوأب ْ ِر ُ‬
‫واألبرص َوأ ُْح ِي ا‪١‬توىت بِإِذْ ِن اهلل‬
‫ون‬ ‫ر‬ ‫وأُنَبِئ ُكم ِٔتا تَأْكُلُون وما تَ َّد ِ‬
‫خ‬
‫ُ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ ُّ ْ َ‬
‫ِيف ُبيُوتِ ُك ْم إ َِّن ِيف ذلك ْليَةً ل َّ ُك ْم إِن‬
‫ُت } ػ آل عمران ‪:‬‬ ‫ِِ‬
‫ُك ُنتم ُّم ْؤمن َ‬
‫‪] 49‬‬
‫إن خصائص عيَس ابن مريم ال‬
‫تكون إال بإذن من اهلل ‪ ،‬فقدرة‬
‫عيَس عليه السبلم أن يصنع من‬
‫الطُت ما هو عىل هيئة الطَت ‪ ،‬وإذا‬
‫نفخ فيه بإذن اهلل ألصبح طَتا ‪،‬‬
‫وكذلك إبراء األكمه واألبرص‬
‫وإحياء ا‪١‬توىت ‪ ،‬إن ذلك كله بإذن‬
‫‪٦‬تن؟ بإذن من اهلل ‪.‬‬
‫وكذلك كان األمر يف ٕتربة سيدنا‬
‫إبراهيم ‪ ،‬لذلك قال له اٌفق ‪{ :‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫واعلم أ َّن اهلل َعزِي ٌز َحك ٌ‬
‫يم } ‪ .‬إن‬
‫اهلل عزيز أي ال يغلبه أحد ‪ .‬وهو‬
‫حكيم أي يضع كل شيء يف موقعه ‪.‬‬
‫وكذلك يبسط ا‪ٟ‬تق قصة ا‪ٟ‬تياة‬
‫وقصة ا‪١‬توت يف ٕتربة مادية؛‬
‫ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم ‪،‬‬
‫وقد جاءت قصة ا‪ٟ‬تياة وا‪١‬توت؛ ألن‬
‫الشك عند الذين عاصروا الدعوة‬
‫ا‪١‬تحمدية كان يف مسألة البعث من‬
‫ا‪١‬توت ‪ ،‬وكل كبلمهم يؤدي إىل ذلك‬
‫‪ ،‬فهم تعجبوا من حدوث هذا األمر‬
‫‪ { :‬قالوا أَإِذَا ِمتْنَا َو ُكنَّا ُت َرابا ً‬
‫ُون } ػ ا‪١‬تؤمنون‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫َوع َظاما ًأإِن َّا َ‪١‬تَب ْ ُعوث َ‬
‫‪] 82 :‬‬
‫ويف قول آخر ‪َ { :‬و َض َر َب لَنا َمثَبل ً‬
‫ال َمن يُ ِيحي العظام‬ ‫ِ‬
‫َونَس َي َخل ْ َق ُه قَ َ‬
‫يم * ُق ْل ُ٭ت ْ ِييهَا الذي‬ ‫و ِهي ر ِ‬
‫م‬
‫َ َ َ ٌ‬
‫أَن َشأ َ َهآ أ َ َّو َل َم َّر ٍة َو ُه َو بِ ُك ّ ِل َخل ْ ٍق‬
‫يم }‬ ‫ِ‬
‫عَل ٌ‬
‫ػ يس ‪] 79-78 :‬‬
‫لقد أمر ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪٤‬تمدا ًصىل‬
‫اهلل عليه وسلم ليجيب عىل ذلك ‪:‬‬
‫قل يا ‪٤‬تمد ‪ :‬٭تييها الذي أنشأها‬
‫أول مرة؛ فقد خلقها من عدم‬
‫ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪َ { :‬و ُه َو‬
‫الذي يَب ْ َد ُؤا ْا‪٠‬تلق ُث َّم يُعِ ُ‬
‫يد ُه َو ُه َو‬
‫أ َ ْه َو ُن عَلَي ْ ِه َول َ ُه ا‪١‬تثل األعىل ِيف‬
‫السماوات واألرض َو ُه َو العزيز‬
‫ا‪ٟ‬تكيم } ػ الروم ‪] 27 :‬‬
‫إن اهلل سبحانه وتعاىل قادر عىل أن‬
‫يبدأ ا‪٠‬تلق عىل َت مثال ‪ ،‬ثم يعيده‬
‫بعد ا‪١‬توت ‪ ،‬وإعادته أهون عليه من‬
‫ابتدائه بالنظر إىل مقاييس اعتقاد‬
‫من يظن أن إعادة الشيء أسهل من‬
‫ابتدائه؛ فاهلل له مطلق القدرة يف‬
‫خلقه ‪ ،‬وهو الغالب يف ملكه ‪ ،‬وهو‬
‫ا‪ٟ‬تكيم يف فعله وتقديره ‪.‬‬
‫إن الذي يعيد إ‪٪‬تا يعيد من موجود ‪،‬‬
‫أما الذي بدأ فمن معدوم ‪.‬‬
‫فاألهون هو اإلعادة ‪ ،‬أما االبتداء‬
‫فهو ابتداء من معدوم ‪ ،‬وكبل‪٫‬تا من‬
‫قدرة ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪ .‬إن هذه‬
‫القضية إ‪٪‬تا تثبت اليوم اْلخر ‪،‬‬
‫ألن اإلٯتان باليوم اْلخر هو‬
‫ا‪١‬تيزان العقدي فإن استقر يف‬
‫القلب فاإلنسان بكل جوارحه‬
‫يتجه إىل األفعال اليت تسَت عىل ضوء‬
‫منهج اهلل لينال اإلنسان ا‪ٞ‬تزاء‬
‫األوىف ‪.‬‬
‫إن اإلنسان حينما يفهم أن هناك‬
‫حسابا وهناك جزاء ً‪ ،‬وهناك بعثا ‪،‬‬
‫فهو يعرف أنه لم ينطلق يف هذا‬
‫العالم ‪ ،‬ولم يفلت من اإلله الواحد‬
‫القهار ‪ ،‬إن لئلنسان عودة ‪ ،‬فالذي‬
‫يغًت ٔتا آتاه اهلل نقول له ‪ :‬ال ‪ ،‬إنك‬
‫لن تفلت من يد اهلل ‪ ،‬بل لك عودة‬
‫با‪١‬توت وعودة بالبعث ‪ .‬وإذا ما‬
‫استقرت يف أذهان ا‪١‬تسلمُت تلك‬
‫العودة ‪ ،‬فكل إنسان يقيم حسابه‬
‫عىل هذه العودة ‪.‬‬
‫وبعد أن استقر األمر يف شأن ا‪ٟ‬تياة‬
‫وا‪١‬توت أراد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن‬
‫‪٬‬تيء بشيء هو ‪ٙ‬ترة ا‪ٟ‬تياة يف الكائن‬
‫ا‪ٟ‬تي وأول مظهر من مظاهر ا‪ٟ‬تياة‬
‫هو ا‪ٟ‬تس وا‪ٟ‬تركة ‪ .‬وا‪ٟ‬تركة يف‬
‫الوجود أرادها اهلل لئلنسان؛ ألنه‬
‫وهو ا‪ٟ‬تق قد أراد اإلنسان للخبلفة‬
‫يف األرض ‪ .‬وا‪٠‬تبلفة يف األرض‬
‫تقتضي أن يعمر اإلنسان األرض ‪،‬‬
‫كما قال اهلل سبحانه وتعاىل ‪{ :‬‬
‫ِ‬
‫اعبدوا اهلل َما ل َ ُك ْم ّم ْن إله َ ُْ‬
‫َت ُه ُه َو‬
‫أَن َشأ َ ُك ْم ِّم َن األرض واستعمركم‬
‫فِيهَا } ػ هود ‪] 61 :‬‬
‫إن خبلفة اإلنسان يف األرض‬
‫تقتضي أن يتحرك ويعمر األرض‬
‫‪ .‬وحُت يريد اهلل منا أن نتحرك‬
‫ونعمر األرض فبل بد من أعمال‬
‫تنظم هذه ا‪ٟ‬تركة ‪ ،‬وال بد من فنون‬
‫متعددة تقوم عىل العمارة ‪ .‬ويوزع‬
‫اهلل الطاقات الفاعلة ‪٢‬تذه الفنون‬
‫ا‪١‬تتعددة و‪٬‬تعلها مواهب مفكرة‬
‫و‪٥‬تططة يف البشر ‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫لم ‪٬‬تعل من إنسان واحد ‪٣‬تمع‬
‫مواهب ‪ ،‬بل نثر اهلل ا‪١‬تواهب عىل‬
‫ا‪٠‬تلق ‪ ،‬وكل واحد أخذ موهبة ما ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن اهلل قد أراد أن يتكامل‬
‫العالم وال يتكرر؛ فالتكامل يوحي‬
‫باالندماج فإذا كنت أنت تعرف‬
‫شيئا ًخاضعا ‪١‬توهبتك ‪ ،‬وأنا ال‬
‫أعرفه فأنا مضطر أن ألتحم بك ‪،‬‬
‫وأنا أيضا قد أعرف شيئا وأنت ال‬
‫تعرفه ‪ ،‬لذلك تضطر أنت أن‬
‫تلتحم يب ‪.‬‬

‫وهذا اللون من االلتحام ليس‬


‫التحام تفضل ‪ ،‬إ‪٪‬تا هو التحام‬
‫تعايش ضروري ‪.‬‬
‫لكن لو أن كل واحد صار ‪٣‬تمع‬
‫مواهب ‪ ،‬الستغٌت عن َته من‬
‫البشر وأقام وحده ٔتفرده ‪،‬‬
‫وينتهي احتياجه للمجتمع‬
‫اإلنساين ‪ .‬فكأن اهلل حين وزع‬
‫أسباب الفضل عىل ا‪٠‬تلق يريد‬
‫منهم أن يتكاملوا ويلتحم بعضهم‬
‫ببعض ال التحام فضل ‪ ،‬ولكن‬
‫التحام تعايش ضروري؛ ألن‬
‫واحدا ًيريد ما ينتجه اْلخر‬
‫ٔتوهبته ‪ ،‬واْلخر يريد من إنسان‬
‫َته ما هو موهوب فيه ‪ .‬ولذلك‬
‫فالناس ٓتَت ما تباينوا؛ ألن كبل‬
‫منهم ٭تتاج إىل اْلخر ‪.‬‬
‫ولذلك ال ‪٧‬تد أي تقدم يف ‪٣‬تتمع إال‬
‫إذا كانت ا‪١‬تواهب يف هذا ا‪١‬تجتمع‬
‫‪٥‬تتلفة ومتآزرة ‪ .‬أما حُت يوجد‬
‫قوم ‪٢‬تم مواهب متحدة فبلبد أن‬
‫يقاتل بعضهم بعضا لكن عندما‬
‫يكون كل واحد يف حاجة ‪١‬توهبة‬
‫اْلخر ‪ ،‬فهم يتعايشون؛ ألن ا‪ٟ‬تياة‬
‫ال تسَت إال بالكل ‪ ،‬ولذلك إذا‬
‫استوت ‪ٚ‬تاعة يف ا‪١‬تواهب فبل بد‬
‫أن يتفانوا ألهنم يتنافسون فيها‬
‫ويريد كل واحد منهم أن يستأثر‬
‫بها لنفسه ‪ ،‬لكن ال أحد يف ا‪١‬تواهب‬
‫ا‪١‬تتكاملة يقول ‪١ :‬تاذا يكون فبلن‬
‫أفضل مٍت ‪ ،‬ألنه يعرف أنه من‬
‫الضروري أن يوجد ا‪١‬تهندس‬
‫والطبيب والصانع ‪ ،‬ولذلك ٕتد‬
‫الوجود منظما بذاته التنظيم‬
‫الطبيعي الذي يُوجد قاعدة ويُوجد‬
‫قمة ‪ ،‬فالقمة الصغَتة ٖتملها‬
‫القاعدة الكبَتة ‪ .‬ولو عكست‬
‫ا‪٢‬ترم لصارت مشكلة؛ ألن األمر‬
‫يف هذه ا‪ٟ‬تالة َسي َ ِّج ُد به جوانب‬
‫كثَتة ليس ‪٢‬تا أساس وال ترتكز‬
‫عىل شيء ‪ ،‬ولذلك فمن ا‪ٟ‬تكمة إذا‬
‫رأيت يف ا‪١‬تجتمع واحدا ًقد ذهب‬
‫إىل القمة فأعنه عىل أن يستمر‬
‫متفوقا ‪ ،‬وال تصطرع معه فتسقطوا‬
‫‪ٚ‬تيعا ‪ ،‬فبلبد من التفاضل كي‬
‫ينشأ التكامل ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعرض لنا‬
‫هذه القضية عرضا اجتماعيا‬
‫وعرضا اقتصاديا؛ ليبُت لنا أن‬
‫أصل الوجود ‪٬‬تب أن ينشأ عىل أمر‬
‫اجتماعي وأمر اقتصادي ‪١ ،‬تاذا؟‬
‫ألن اإلنسان مشغول أوال باستبقاء‬
‫حياته ‪ ،‬ثم باستبقاء نوعه ‪.‬‬
‫واستبقاء حياة اإلنسان بالقوت ‪،‬‬
‫واستبقاء نوعه بالزواج ‪ .‬واستبقاء‬
‫ا‪ٟ‬تياة بالقوت ٭تتاج إىل حركة يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق ٭تًتم ‪ٙ‬ترهتا ‪ ،‬وعندما‬
‫يريد ا‪ٟ‬تق أن يرقق قلب ا‪١‬تتحرك‬
‫عىل أخيه العاجز فهو يقول ‪َّ { :‬من‬
‫ذَا الذي يُ ْق ِر ُض اهلل قَ ْرضا ً َح َسنا ً}‬
‫ػ البقرة ‪] 245 :‬‬
‫كما ضربنا ا‪١‬تثل من قبل وهلل‬
‫ا‪١‬تثل األعىل وقلنا ‪ :‬إن اإلنسان‬
‫يعطي أوالده مصروفا ‪ ،‬وكل واحد‬
‫منهم يضعه يف حصالته ‪ ،‬فهب أن‬
‫واحدا ًمن األوالد اضطر إىل شيء‬
‫عاجل كإجراء جراحة ‪ ،‬هنا يذهب‬
‫الرجل إىل أوالده ويقول ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫أقرضوين ما يف حصاالتكم ألن‬
‫أخاكم ٭تتاج إىل عملية ‪ ،‬وسأرده‬
‫لكم بعد ذلك مضاعفا ‪ .‬إن األب‬
‫لم يرجع يف هبته ليقول إن ما يف‬
‫ا‪ٟ‬تصاالت هو مايل وسآخذه ‪ .‬ال ‪ ،‬هو‬
‫مالكم ‪ ،‬لكنه سيكون دينا عندي ‪.‬‬
‫كذلك يصنع اهلل مع ا‪٠‬تلق فيوضح ‪:‬‬
‫بعضكم عاجز وبعضكم قادر ‪،‬‬
‫وسأتكفل أنا بالعاجز ‪ ،‬واقًتض‬
‫من القادر ‪.‬‬
‫وكان ضروريا أن يكون بعضنا‬
‫عاجزا ً‪ ،‬حىت ال يظن أحد أن القوة‬
‫ذاتية يف النفس البشرية ‪ .‬ال ‪ ،‬إن‬
‫القوة موهوبة؛ ويستطيع من وهبها‬
‫أن يسلبها ‪ .‬وحىت يعرف صاحب‬
‫القوة أن القوة ليست ذاتية فيه ‪،‬‬
‫و‪٬‬تد ّتانبه إنسانا ًآخر عاجزا ً‪.‬‬
‫لكن هذا العاجز الذي سيلفت‬
‫القوي إىل أن القوة ليست ذاتية ‪ ،‬ما‬
‫ذنبه؟‬
‫إن اهلل قد جعله وسيلة إيضاح يف‬‫ّ‬
‫الكون وكأن ا‪ٟ‬تق يقول ‪ :‬سنضمن‬
‫لك أيها العاجز ا‪١‬تستوى البلئق من‬
‫ا‪ٟ‬تياة من أثر قدرة القادر ‪ ،‬وما دام‬
‫من أثر قدرة القادر ‪ ،‬فهل‬
‫سيتحرك القادر يف الكون عىل قدر‬
‫« حاجته » أو عىل قدر « طاقته »؟‬
‫البد أن يتحرك عىل قدر طاقته؛‬
‫ألنه لو ٖترك عىل قدر حاجته فلن‬
‫‪٬‬تد ما يعطيه للعاجز ‪.‬‬
‫ويتكلم ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل عن‬
‫تلك القضية ا‪١‬تهمة يف البناء‬
‫االجتماعي والبناء االقتصادي بعد‬
‫إثبات قضية البعث واإلحياء‬
‫واإلماتة لكي تكون ماثلة أمامنا‬
‫وينتقل بنا ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل كي‬
‫يعطينا الكيان اإلسبلمي‬
‫االقتصادي االجتماعي فيقول جل‬
‫ِ‬
‫شأنه ‪َّ { :‬مث َ ُل الذين يُنْف ُق َ‬
‫ون‬
‫ِيل اهلل كَ َمث َ ِل َحب َّ ٍة‬
‫أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ‬
‫أَنبَت َ ْت َسب ْ َع َسنَابِ َل ‪} . . .‬‬

‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف‬ ‫ِ‬


‫َمث َ ُل ال َّ ِذي َن يُنْف ُق َ‬
‫اّلل كَ َمث َ ِل َحب َّ ٍة أَنْب َ َت ْت َسب ْ َع‬
‫ِيل َ ِ‬
‫َسب ِ ّ‬
‫َسنَابِ َل ِيف كُ ّ ِل ُسنْبُل َ ٍة ِمائَ ُة َحب َّ ٍة َو ّ َُ‬
‫اّلل‬
‫يم‬‫اّلل وا ِس ٌع عَلِ‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫اء‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫يضا ِعف ِ‬
‫‪١‬ت‬
‫ٌ‬ ‫َُ ُ َْ َ ُ َ ُّ َ‬
‫(‪)261‬‬

‫إن اهلل ينسب ا‪١‬تال للبشر‬


‫ا‪١‬تتحركُت؛ ألهنم أخذوا هذه‬
‫األموال ْتركتهم ‪ .‬ويف موضع آخر‬
‫من القرآن يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬وآتوهم‬
‫من مال اهلل الذي آتاكم } ػ النور‬
‫‪] 33 :‬‬
‫إن ا‪١‬تال كله مال اهلل ‪ ،‬وقد أخذه‬
‫اإلنسان با‪ٟ‬تركة ‪ ،‬فاحًتم اهلل‬
‫هذه ا‪ٟ‬تركة ‪ ،‬واحًتم اهلل يف‬
‫اإلنسان قانون النفعية ‪ ،‬فجعل‬
‫ا‪١‬تال ا‪١‬تتبقي من حركتك ملكا لك‬
‫أيها اإلنسان ‪ ،‬لكن إن أراد اهلل‬
‫هذا ا‪١‬تال فسيأخذه ‪ ،‬ومن فضل‬
‫اهلل عىل اإلنسان أنه سبحانه حُت‬
‫يطلب من اإلنسان بعضا من ا‪١‬تال‬
‫ا‪١‬تتبقي من حركته فهو يطلبه‬
‫كقرض ‪ ،‬ويرده مضاعفا بعد ذلك ‪.‬‬
‫إذن فاإلنفاق يف سبيل اهلل يرده اهلل‬
‫مضاعفا ‪ ،‬وما دام اهلل يضاعفه فهو‬
‫يزيد ‪ ،‬لذلك ال ٖتزن وال ٗتف عىل‬
‫مالك؛ ألنك أعطيته ‪١‬تقتدر قادر‬
‫واسع عليم ‪ .‬إنه ا‪ٟ‬تق الذي يقدر‬
‫عىل إعطاء كل واحد حسب ما يريد‬
‫هو سبحانه؛ إنه يعطي عىل قدر نية‬
‫العبد وقدر إنفاقه ‪ .‬وهذه اْلية‬
‫لشح يف النفس‬
‫تعاًف قضية ا ُ‬
‫اإلنسانية؛ فقد يكون عند‬
‫اإلنسان شيء زائد ‪ ،‬وتشح به‬
‫نفسه ويبخل ‪ ،‬فيخاف أن ينفق‬
‫منه فينقص هذا الشيء ‪.‬‬
‫وهنا تقول لك قضية اإلٯتان ‪:‬‬
‫أنفق ألنه سبحانه سيزيدك ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سيعطيك مثلما يعطيك من‬
‫األرض اليت تزرعها ‪ .‬أنت تضع‬
‫ا‪ٟ‬تبة الواحدة ‪ .‬فهل تعطيك حبة‬
‫واحدة؟ ال ‪ .‬إن حبة القمح تعطي‬
‫كمية من العيدان وكل عود فيه‬
‫سنبلة وهي مشتملة عىل حبوب‬
‫كثَتة ‪ ،‬فإذا كانت األرض وهي‬
‫‪٥‬تلوقة هلل تضاعف لك ما تعطيه‬
‫أفبل يضاعف العطاء لك الذي‬
‫خلقها؟ وإذا كان بعض من خلق اهلل‬
‫يضاعف لك ‪ ،‬فما بالك باهلل جل‬
‫وعبل؟‬
‫إن األرض الصماء بعناصرها‬
‫تعطيك ‪ ،‬أئذا ما أخذت كيلة‬
‫القمح من ‪٥‬تزنك لتبذرها يف‬
‫األرض أيقال ‪ :‬إنك أنقصت‬
‫‪٥‬تزنك ٔتقدار كيلة القمح؟ ال؛‬
‫ألنك ستزرع بها ‪ ،‬وأنت‬
‫تنتظركم ستأيت من حبوب ‪ ،‬وهذه‬
‫أرض صماء ‪٥‬تلوقة هلل ‪ ،‬فإذا كان‬
‫ا‪١‬تخلوق هلل قد استطاع أن يعطيك‬
‫با‪ٟ‬تبة سبعمائة ‪ ،‬أال يعطيك الذي‬
‫خلق هذه األرض أضعاف ذلك؟‬
‫إنه كثَت العطاء ‪ .‬وا‪ٟ‬تق قد نسب‬
‫للمنفقُت األموال اليت رزقهم اهلل‬
‫ِ‬
‫بها فقال ‪َّ { :‬مث َ ُل الذين يُنْف ُق َ‬
‫ون‬
‫ِيل اهلل } وكلمة { ِيف‬ ‫أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ‬
‫ِيل اهلل } كلمة عامة ‪ ،‬يصح أن‬ ‫َسب ِ‬
‫يكون معناها ا‪ٞ‬تهاد ‪ ،‬أو مصارف‬
‫الصدقات؛ ألن كل هذا يف سبيل‬
‫اهلل؛ ألن الضعيف حُت ‪٬‬تد نفسه‬
‫يف ‪٣‬تتمع متكافل ‪ ،‬و‪٬‬تد صاحب‬
‫القوة قد ع ّدى من أثر قوته‬
‫وحركته إليه ‪ ،‬أ٭تقد عىل ذي القوة؟‬
‫ال؛ ألن خَته يأتيه ‪ ،‬نضرب ا‪١‬تثل‬
‫يف الريف نقول ‪:‬‬
‫البهيمة اليت تدر لبنا ًساعة تسَت‬
‫يف ا‪ٟ‬تارة ‪ .‬فالكل كان يدعو اهلل ‪٢‬تا‬
‫ويقول ‪ « :‬٭تميكي » ‪١‬تاذا؟ ألن‬
‫صاحبها يعطي كل من حوله من‬
‫لبنها ومن جبنتها ومن ‪ٝ‬تنها ‪،‬‬
‫لذلك يدعو ‪٢‬تا ا‪ٞ‬تميع ‪ ،‬وال يربطها‬
‫صاحبها ‪ ،‬وال يعلفها ‪ ،‬وال ينشغل‬
‫عليها ‪ ،‬واٍفير القادم منها يذهب‬
‫إىل كل األهل ‪ ،‬وحُت ‪٧‬تد ‪٣‬تتمعا ً‬
‫بهذا الشكل و‪٬‬تد العاجز من القوي‬
‫معينا ًله ‪ ،‬هنا يقول العاجز ‪ :‬إنٍت يف‬
‫عالم متكامل ‪.‬‬
‫وإذا ما ُوجد يف إنسان قوة ويف آخر‬
‫ضعف؛ فالضعيف ال ٭تقد وإ‪٪‬تا‬
‫يقول ‪ :‬إن خَت َتي يصلٍت ‪.‬‬
‫وكذلك يطمئن الواهب أنه إن‬
‫عجز يف يوم ما سيجد من يكفله‬
‫والقدرة أغيار ما دام اإلنسان من‬
‫األغيار ‪ .‬فقد يكون قويا اليوم‬
‫ضعيفا ً دا ً‪.‬‬
‫إذن فقول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ‪{ :‬‬
‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم } هو‬ ‫ِ‬
‫َّمث َ ُل الذين يُنْف ُق َ‬
‫قانون يريد به اهلل أن ٭تارب الشح‬
‫يف نفس ا‪١‬تخلوقُت ‪ ،‬إنه يقول لكل‬
‫منا ‪ :‬انظر النظرة الواعية؛‬
‫فاألرض ال تنقص من ‪٥‬تزنك حُت‬
‫تعطيها كيلة من القمح! صحيح‬
‫أنك أنقصت كيلة من ‪٥‬تزنك‬
‫لتزرعها ‪ ،‬ولكنك تتوقع أن تأخذ‬
‫من األرض أضعافها ‪ .‬وإياك أن‬
‫تظن أن ما تعطيه األرض يكون‬
‫لك فيه ثقة ‪ ،‬وما يعطيه اهلل ال ثقة‬
‫ِ‬
‫لك فيه ‪َّ { .‬مث َ ُل الذين يُنْف ُق َ‬
‫ون‬
‫ِيل اهلل َك َمث َ ِل َحب َّ ٍة‬ ‫أ َ ْم َوال َ ُه ْم ِيف َسب ِ‬
‫أَنبَت َ ْت َسب ْ َع َسنَابِ َل ِيف كُ ّ ِل ُسنبُل َ ٍة ِّمئ َ ُة‬
‫آء واهلل‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫حب ٍة واهلل يضا ِعف ِ‬
‫‪١‬ت‬
‫َُ ُ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬
‫يم } إن اْلية تعاًف الشح ‪،‬‬ ‫وا ِس ٌع عَلِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫وتؤكد أن الصدقة ال تنقص ما عند‬
‫اإلنسان بل ستزيده ‪ .‬وبعد ذلك‬
‫ِ‬
‫ون‬‫يقول تعاىل ‪ { :‬الذين يُنْف ُق َ‬
‫أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ‬
‫ِيل اهلل ُث َّم ال َيُتْبِ ُع َ‬
‫ون‬
‫َمآ أَن ْ َف ُقواُ َمنّا ً َوال َأَذًى ‪} . . .‬‬
‫ِيل َ ِ‬ ‫ال َّ ِذين يُن ْ ِف ُق َ‬
‫ون أ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ ّ‬
‫اّلل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون َما أَن ْ َف ُقوا َمنًّا َو َال أَذًى‬
‫ُث َّم َال يُتْبِ ُع َ‬
‫َ‪٢‬ت ُ ْم أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن ْ َد َربِّ ِه ْم َو َال َخ ْو ٌف‬
‫ون (‪)262‬‬ ‫عَلَي ْ ِه ْم َو َال ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫إهنا لقطة أخرى يوضح فيها ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫إياك حُت تنفق مالك يف سبيل اهلل‬
‫وأنت طامع يف عطاء اهلل أن ٘تن عىل‬
‫من تعطيه أو تؤذيه ‪ .‬وا‪١‬ت ّن هو أن‬
‫يعتد عىل من أحسن إليه بإحسانه‬
‫ويريه أنه أوجب عليه حقا له وأنه‬
‫أصبح صاحب فضل عليه ‪ ،‬وكما‬
‫يقولون يف الريف ( تعاير بها ) ‪،‬‬
‫والشاعر يقول ‪:‬‬
‫وإن ام َرأ ًأسدى إيل ّصنيعة ‪...‬‬ ‫ّ‬
‫وذ َّكرنيها َم َّرة ًللئيم‬
‫ولذلك فمن األدب اإلٯتاين يف‬
‫اإلنسان أن ينَس أنه أهدى‬
‫وينَس أنه أنفق ‪ ،‬وال يطلع أحدا ً‬
‫من ذويه عىل إحسانه عىل الفقَت أو‬
‫تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين‬
‫ال يفهمون منطق اهلل يف األشياء ‪،‬‬
‫فعندما يعرف ابٍت أنٍت أعطي‬
‫دل ابٍت َو َم ّن عىل‬
‫‪ٞ‬تاري كذا ‪ ،‬رٔتا ّ‬
‫ابن جاري ‪ ،‬رٔتا أخذه غروره‬
‫فعَته هو ‪ ،‬وال ٯتكن أن يقدر هذا‬ ‫ّ‬
‫األمر إال ُمكَل َّ ٌف يعرف ا‪ٟ‬تكم‬
‫ْتيثيته من اهلل ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يوضح لنا ‪ :‬إياك أن تتبع‬
‫النفقة منّا أو أذى؛ ألنك إن أتبعتها‬
‫با‪١‬ت ّن ماذا يكون ا‪١‬توقف؟ يكرهها‬
‫ا‪١‬تُعْ َىط الذي تصدقت بها عليه‬
‫ويتولد عنده حقد ‪ ،‬ويتولد عنده‬
‫بغض ‪ ،‬ولذلك حينما قالوا ‪ « :‬اتق‬
‫شر من أحسنت إليه » شرحوا ذلك‬
‫بأن اتقاء شر ذلك اإلنسان بأال‬
‫تذكره باإلحسان ‪ ،‬وإياك أن‬
‫تذكره باإلحسان؛ ألن ذلك يولد‬
‫عنده حقدا ً‪.‬‬
‫ولذلك ٕتد كثَتا من الناس يقولون‬
‫‪ :‬كم صنعت بفبلن وفبلن ا‪ٞ‬تميل‬
‫‪ ،‬هذا كذا وهذا كذا ‪ ،‬ثم خرجوا‬
‫عل ّي فانكروه ‪ .‬وأقول لكل من‬
‫يقول ذلك ‪ :‬ما دمت تتذكر ما‬
‫أسديته إليهم فمن العدالة من اهلل‬
‫أن ينكروه ‪ ،‬ولو أنك عاملت اهلل ‪١‬تا‬
‫أنكروه ‪ ،‬فما دمت لم تعامل اهلل ‪،‬‬
‫فإنك تقابل بنكران ما أنفقت ‪.‬‬
‫فكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫يسخي باْلية األوىل قلب ا‪١‬تنفق‬
‫ليبسط يده بالنفقة ‪ ،‬لذلك قال ‪{ :‬‬
‫ون َمآ أَن ْ َف ُقواُ َمنّا ً َوال َأَذًى‬
‫ُث َّم ال َيُتْبِ ُع َ‬
‫َّ‪٢‬ت ُ ْم أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن ْ َد َربِّ ِه ْم َوال َ َخ ْو ٌف‬
‫ِ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫عَل َْيه ْم َوال َ ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل طمأننا يف‬
‫اْلية األوىل عىل أن الصدقة والنفقة‬
‫ال تنقص ا‪١‬تال بل تزيده ‪ ،‬وضرب‬
‫لنا ا‪ٟ‬تق سبحانه ا‪١‬تثل باألرض اليت‬
‫تؤتينا بدل ا‪ٟ‬تبة الواحدة سبعمائة‬
‫حبة ‪ ،‬ثم يوضح ا‪ٟ‬تق لنا أن آفة‬
‫اإلنفاق أن يكون مصحوبا ًب «‬
‫ا‪١‬ت ّن » أو « األذى »؛ ألن ذلك‬
‫يفسد قضية االستطراق الصفائي‬
‫يف الضعفاء والعاجزين ‪ ،‬ولذلك‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪:‬‬
‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ‬ ‫ِ‬
‫ِيل‬ ‫{ الذين يُنْف ُق َ‬
‫ون َمآ أَن ْ َف ُقواُ َمنّا ً َوال َ‬
‫اهلل ُث َّم ال َيُتْبِ ُع َ‬
‫أَذًى َّ‪٢‬ت ُ ْم أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن ْ َد َر ِبّ ِه ْم } ػ‬
‫البقرة ‪] 262 :‬‬
‫انظر إىل الدقة األدائية يف قوله‬
‫ون َمآ أَن ْ َف ُقواُ‬
‫الكريم ‪ُ { :‬ث َّم ال َيُتْبِ ُع َ‬
‫َمنّا ً َوال َأَذًى } ‪ .‬قد يستقيم الكبلم‬
‫لو جاء كاْليت ‪ « :‬الذين ينفقون‬
‫أموا‪٢‬تم يف سبيل اهلل وال يتبعون ما‬
‫أنفقوا منا وال أذى » ‪ ،‬لكن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه قد جاء ب « ثم » هنا؛ ألن‬
‫‪٢‬تا موقعا ً‪.‬‬

‫إن ا‪١‬تنفق با‪١‬تال قد ال ٯتن ساعة‬


‫العطاء ‪ ،‬ولكن قد يتأخر ا‪١‬تنفق‬
‫با‪١‬تن ‪ ،‬فكأن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫ينبه كل مؤمن ‪:‬‬
‫‪٬‬تب أن يظل اإلنفاق َت‬
‫مصحوب با‪١‬تن وأن يبتعد ا‪١‬تنفق‬
‫عن ا‪١‬تن دائما ً‪ ،‬فبل ٯتتنع عن ا‪١‬تن‬
‫فقط وقت العطاء ‪ ،‬ولكن البد أن‬
‫يستمر عدم ا‪١‬تن حىت بعد العطاء‬
‫وإن طال الزمن ‪.‬‬
‫إن « ثم » تأيت يف هذا ا‪١‬تعٌت لوجود‬
‫مسافة زمنية تراىخ فيها اإلنسان‬
‫عن فعل ا‪١‬تن ‪ .‬فا‪ٟ‬تق ٯتنع ا‪١‬تن منعا ً‬
‫متصبل ًمًتاخيا ً‪ ،‬ال ساعة العطاء‬
‫فحسب ‪ ،‬ولكن بعد العطاء أيضا ً‪.‬‬
‫وشويق أمَت الشعراء ر‪ٛ‬ته اهلل‬
‫عندما كتب الشعر يف ‪ٛ‬تل األثقال‬
‫وضع أبياتا ًمن الشعر يف ‪٣‬تال ‪ٛ‬تل‬
‫األثقال النفسية ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫أ‪ٛ‬تلت دَيْنا ًيف حياتك مرة؟ ‪...‬‬
‫أ‪ٛ‬تلت يوما يف الضلوع ليبل؟‬
‫أ‪ٛ‬تلت َمنّا ًيف النهار ُمك ََّررا؟ ‪...‬‬
‫والليل ِمن ُم ْس ٍد إليك ‪ٚ‬تيبل؟‬‫ِ‬
‫وبعد أن عدد شويق أوجه األ‪ٛ‬تال‬
‫الثقيلة يف ا‪ٟ‬تياة قال ‪:‬‬
‫تلك اٌفياة وهذه أثقا‪٢‬تا ‪ُ ...‬و ِز َن‬
‫ا‪ٟ‬تديد بها فعاد ضئيبل‬
‫ُ‬
‫كأن ا‪١‬تن إذن عبء نفسي كبَت ‪.‬‬
‫ويطمئن ا‪ٟ‬تق سبحانه من ينفقون‬
‫أموا‪٢‬تم دون َم ٍّن وال أذى يف سبيل‬
‫اهلل بأن ‪٢‬تم أجرا ًعند ربهم ‪.‬‬
‫وكلمة « األجر » واإليضاح من‬
‫عند الرب هي طمأنة إىل أن األمر‬
‫قد أحيل إىل موثوق بأدائه ‪ ،‬وإىل‬
‫قادر عىل هذا األداء ‪ .‬أما الذي ٯتن‬
‫أو يؤذي فقد أخذ أجره با‪١‬تن أو‬
‫األذى ‪ ،‬وليس له أجر عند اهلل؛ ألن‬
‫الذي ٯتن أو يؤذي لم يتصور َر َّب‬
‫الضعيف ‪ ،‬وإ‪٪‬تا تصور الضعيف ‪.‬‬
‫وا‪١‬تنفق يف سبيل اهلل حُت يتصور‬
‫رب الضعيف ‪ ،‬وأن رب الضعيف‬
‫هو الذي استدعاه إىل الوجود ‪ ،‬وه و‬
‫الذي أجرى عليه الضعف ‪ ،‬فهو‬
‫يؤمن أن اهلل هو الكفيل برزق‬
‫الضعيف ‪ ،‬وحُت ينفق القوي عىل‬
‫الضعيف فإ‪٪‬تا يؤدي عن اهلل ‪،‬‬
‫ولذلك ‪٧‬تد يف أقوال ا‪١‬تقربُت ‪:‬‬
‫« إننا نضع الصدقة يف يد اهلل قبل‬
‫أن نضعها يف يد الضعيف » ولننظر‬
‫إىل ما فعلته سيدتنا فاطمة بنت‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫لقد راحت ٕتلو الدرهم وتطيبه ‪،‬‬
‫فلما قيل ‪٢‬تا ‪ :‬ماذا تصنعُت؟ قالت‬
‫‪ :‬أجلو در‪٫‬تا ًوأطيبه ألين نويت أن‬
‫أتصدق به ‪ .‬فقيل ‪٢‬تا ‪ :‬أتتصدقُت‬
‫به ‪٣‬تلوا ًومعطراً؟‬
‫قالت الزهراء بنت رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬ألين أعلم أنه يقع‬
‫يف يد اهلل قبل أن يقع يف يد الفقَت ‪.‬‬
‫إن األجر يكون عند من يغليه‬
‫ويعليه ويرتفع بقيمته وهو ا‪٠‬تالق‬
‫الوهاب ‪.‬‬
‫ولنتأمل قول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ َخ ْو ٌف‬
‫ون } ‪١‬تاذا لم‬ ‫عَلَي ْ ِه ْم َوال َ ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫يقل اهلل ‪ :‬وال خوف منهم؟ ‪ .‬ألن‬
‫ا‪ٟ‬تق يريد أن يوضح لنا بقوله ‪{ :‬‬
‫َوال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم } أن هناك‬
‫عنصرا ًثالثا ًسيتدخل ‪ .‬إنه تدخل‬
‫من شخص قد يظهر لئلنسان‬
‫ا‪١‬تنفق أنه ‪٤‬تب له ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ادخر‬
‫لؤليام القادمة ‪ ،‬ادخر ألوالدك ‪.‬‬

‫‪١‬تثل هذا العنصر يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ‬


‫َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم } أي إياك يا صاحب‬
‫مثل هذا الرأي أن تتدخل باسم‬
‫ا‪ٟ‬تب ‪ ،‬ولتوفر كبلمك؛ ألن ا‪١‬تنفق‬
‫يف سبيل اهلل إ‪٪‬تا ‪٬‬تد العطاء‬
‫وا‪ٟ‬تماية من اهلل ‪ .‬فبل خوف عىل‬
‫ا‪١‬تنفق يف سبيل اهلل ‪ ،‬وليس ذلك‬
‫فقط ‪ ،‬إ‪٪‬تا يقول ا‪ٟ‬تق عن ا‪١‬تنفقُت‬
‫يف سبيل اهلل دون م ٍّن وال أذى ‪{ :‬‬
‫َوال َ ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫ون } ومعناها أنه سوف‬
‫يأيت يف تصرفات ا‪ٟ‬تق معهم ما‬
‫يفرحهم بأهنم تصدقوا إما‬
‫بسرعة ا‪٠‬تلف عليهم ‪ ،‬أو برىض‬
‫النفس ‪ ،‬أو برزق السلب ‪ ،‬فآفة‬
‫الناس أهنم ينظرون إىل رزق‬
‫اإل‪٬‬تاب دائما ‪ ،‬أي أن يقيس‬
‫البشر الرزق ٔتا يدخل له من مال‬
‫‪ ،‬وال يقيسون األمر برزق السلب ‪،‬‬
‫ورزق السلب هو ‪٤‬تط الْبكة ‪.‬‬
‫هب أن إنسانا راتبه ‪ٜ‬تسون‬
‫جنيها ‪ ،‬وبعد ذلك يسلب اهلل منه‬
‫مصارف تطلب م هنمائة جنيه ‪،‬‬
‫كأن يدخل فيجد ولده متعبا‬
‫وحرارته مرتفعة ‪ ،‬فَتزق اهلل قلب‬
‫الرجل االطمئنان ‪ ،‬ويطلب من‬
‫األم أن تعد كوبا من الشاي لبلبن‬
‫ويعطيه قرصا من األسْبين ‪،‬‬
‫وتذهب الوعكة وتنتهي ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫ورجل آخر يدخل و‪٬‬تد ولده متعبا‬
‫وحرارته مرتفعة ‪ ،‬وتستمر‬
‫ا‪ٟ‬ترارة ألكثر من يوم ‪ ،‬فيقذف اهلل‬
‫يف قلبه الرعب ‪ ،‬وتأيت ا‪٠‬تياالت‬
‫واألوهام عن ا‪١‬ترض يف ذهن‬
‫الرجل ‪ ،‬فيذهب بابنه إىل الطبيب‬
‫فينفق ‪ٜ‬تسُت أو مائة من ا‪ٞ‬تنيهات‬
‫‪.‬‬
‫الرجل األول ‪ ،‬أبرأ اهلل ابنه بقرش‬
‫‪ .‬والثاين ‪ ،‬أبرأ اهلل ابنه ّتنيهات‬
‫كثَتة ‪ .‬إن رزق الرجل األول هو‬
‫رزق السلب ‪ ،‬فكما يرزق اهلل‬
‫باإل‪٬‬تاب ‪ ،‬فاهلل يرزق بالسلب أي‬
‫يسلب ا‪١‬تصرف ويدفع الببلء ‪.‬‬
‫وهناك رجل دخله مائة جنيه ‪،‬‬
‫ويأيت له اهلل ٔتصارف تأخذ مائتُت‬
‫‪ ،‬وهناك رجل دخله ‪ٜ‬تسون‬
‫جنيها فيسلب اهلل عنه مصارف‬
‫تزيد عىل مائة جنيه ‪ ،‬فأيهما‬
‫األفضل ‪.‬‬
‫إنه الرجل الذي سلب اهلل عنه‬
‫مصارف تزيد عىل طاقته ‪ .‬إذن فعىل‬
‫الناس أن تنظر إىل رزق السلب‬
‫كما تنظر إىل رزق اإل‪٬‬تاب ‪ ،‬وقوله‬
‫ا‪ٟ‬تق عن ا‪١‬تنفقُت يف سبيله دون َم ٍّن‬
‫أو أذى ‪َ { :‬وال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم َوال َ ُه ْم‬
‫ون } هذا القول دليل عىل أن‬ ‫َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫اهلل سيأيت بنتيجة النفقة بدون َم ّن‬
‫أو أذى ٔتا يفرح له قلب ا‪١‬تؤمن ‪،‬‬
‫وإما بسلب‬ ‫إما بالْبكة يف الرزق ّ‬
‫ا‪١‬تصارف عنه ‪ ،‬فيقول القلب‬
‫ا‪١‬تؤمن ‪ :‬إهنا بركة الصدقة اليت‬
‫أعطيتها ‪.‬‬
‫إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف‬
‫عنه اهلل شيئا ضارا ‪ ،‬فيفرح بذلك‬
‫القلب ا‪١‬تؤمن ‪ .‬وبعد ذلك ينبهنا‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل إىل قضية مهمة‬
‫هي ‪ :‬إن لم َ ُٕتد أيها ؤ‬
‫الممن ٔتالك‬
‫فأحسن ٔتقالك ‪ ،‬فإن لم تسعوا‬
‫الناس بأموالكم فسعوهم ْتسن‬
‫الرد ‪ ،‬والرسول صىل اهلل عليه وسلم‬
‫يقول ‪ « :‬اتقوا النار ولو بشق ٘ترة ‪،‬‬
‫فمن لم ‪٬‬تد فبكلمة طيبة » ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ٭تدد القضية‬
‫يف هذه اْلية ‪ { :‬قَ ْو ٌل َّمعْ ُر ٌ‬
‫وف‬
‫َو َمغ ْ ِف َرةٌ َخ َْتٌ ِّمن َ َد‬
‫صقَ ٍة يَتْب َ ُعهَآ أَذًى‬
‫واهلل َ ِ ِ‬
‫يم ‪} . . .‬‬ ‫ٍتٌ َحل ٌ‬ ‫ّ‬
‫وف َو َمغ ْ ِف َرةٌ َخ َْتٌ ِم ْن‬
‫قَ ْو ٌل َمعْ ُر ٌ‬
‫اّلل َ ِ ِ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ٍتٌ َحل ٌ‬
‫يم‬ ‫َص َدقَة يَتْب َ ُعهَا أذًى َو َّ ُ ّ‬
‫(‪)263‬‬
‫وف } ؟ إننا يف‬ ‫ما معٌت { قَ ْو ٌل َّمعْ ُر ٌ‬
‫العادة ‪٧‬تد أن ا‪١‬تعروف مقابل‬
‫للمنكر ‪ ،‬كأن األمر ا‪٠‬ت َ ِ َّت أمر‬
‫متعارف عليه بالسجية ‪ ،‬وكأن‬
‫ا‪١‬تتعارف عليه دائما من جنس‬
‫ا‪ٞ‬تمال ومن جنس ا‪٠‬تَت ‪ ،‬أما األمر‬
‫الذي تنكره النفس فمن جنس‬
‫الشر وجنس القبح ‪ .‬ولذلك يقول‬
‫وف } فكأن من‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬قَ ْو ٌل َّمعْ ُر ٌ‬
‫شأن ا‪ٞ‬تمال ومن شأن ا‪ٟ‬تسن أن‬
‫يكون معروفا ‪ ،‬ومن شأن النقيض‬
‫أن يكون منكرا ‪ ،‬إذن فالقول‬
‫ا‪١‬تعروف هو أن ترد السائل الرد‬
‫ا‪ٞ‬تميل ْتيث ال ٘تتلئ نفسه‬
‫با‪ٟ‬تفيظة عليك ‪ ،‬وْتيث ال توٓته‬
‫ألنّه سألك ‪ ،‬وإذا كان السائل قد‬
‫ٕتهم عليك ٕتهم ا‪١‬تحتاج فاغفر له‬
‫ذلك ‪١ ،‬تاذا؟‬
‫ألن هناك إنسانا تلهب ظهره‬
‫سياط ا‪ٟ‬تاجة ‪ ،‬ويراك أهبل لغٌت أو‬
‫ليسار أو جدة وسعة من ا‪١‬تال ‪ ،‬وقد‬
‫يزيد بالقول واللسان قليبل ًعليك ‪،‬‬
‫ورٔتا ٕتاوز أدب ا‪ٟ‬تديث معك ‪،‬‬
‫فعليك أن تتحمله ‪.‬‬
‫وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع‬
‫ا‪١‬تعاصي اليت تغضب اهلل ‪ ،‬و٭تلم‬
‫ا‪ٟ‬تق عليك ويغفرها لك وال‬
‫يعذبك بها ‪ ،‬فإذا ما صنع إنسان‬
‫معك شيئا فكن أيضا صاحب قول‬
‫معروف ومغفرة وحلم؛ إن ا‪ٟ‬تق‬
‫ون أَن‬ ‫َ ِ‬
‫سبحانه يقول لنا ‪ { :‬أال َ ُٖتب ُّ َ‬
‫يَغ ْ ِف َر اهلل ل َ ُك ْم } ؟‬
‫إننا ‪ٚ‬تيعا ‪٨‬تب أن يغفر اهلل لنا ‪،‬‬
‫ولذلك ‪٬‬تب أن نغفر لغَتنا‬
‫وخصوصا للمحتاج ‪ .‬وا‪ٟ‬تق حُت‬
‫يم } ففي‬ ‫يقول ‪ { :‬واهلل َ ِ ِ‬
‫ٍتٌ َحل ٌ‬
‫ّ‬
‫ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقَت‬
‫‪ ،‬وكأنه يقول له ‪ :‬إ‪٪‬تا حرمت‬
‫نفسك أيها القادر من أجر اهلل ‪.‬‬
‫إنك أيها القادر حُت ٖترم فقَتا ً‪،‬‬
‫فأنت ا‪١‬تحروم؛ ألن اهلل ٍت عنك‬
‫‪ ،‬وهو سبحانه يقول ‪َ { :‬ها أ َ ُنت ْم‬
‫ِيل اهلل‬ ‫هؤالء ُت ْد َع ْو َن ل ِ ُتن ِف ُقوا ْ ِيف َسب ِ‬
‫فَ ِمن ُكم َّمن يَب ْ َخ ُل َو َمن يَب ْ َخ ْل فَإ َِّ‪٪‬تَا‬
‫يَب ْ َخ ُل َعن ن َّ ْف ِس ِه واهلل الغٍت َوأ َ ُنت ُم‬
‫الفقرآء َوإِن تَت َ َول َّ ْوا ْي َ ْستَب ْ ِد ْل قَ ْوما ً‬
‫َ َْت َ ُك ْم ُث َّم ال َيكونوا أ َ ْمثَال َ ُكم } ػ‬
‫‪٤‬تمد ‪] 38 :‬‬
‫إن اهلل ٍت بقدرته ا‪١‬تطلقة ‪ٍ ،‬ت‬
‫وقادر أن يستبدل بالقوم البخبلء‬
‫قوما يسخون ٔتا أفاء اهلل عليهم‬
‫من رزق يف سبيل اهلل ‪ .‬فالذي‬
‫ٯتسك عن العطاء إ‪٪‬تا منع عن‬
‫نفسه باب ر‪ٛ‬تة ‪ .‬ولذلك يقول‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ياأيها الذين آ َم ُنوا ْال َ‬
‫ُتب ْ ِطلُوا ْ َص َدقَاتِ ُكم با‪١‬تن واألذى ‪. .‬‬
‫‪}.‬‬
‫يَا أَيُّهَا ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا َال ُتب ْ ِطلُوا‬
‫َص َدقَاتِ ُك ْم بِا ْ‪١‬ت َ ِّن َو ْاألَذَى كَال َّ ِذي‬
‫اس و َال يُ ْؤ ِمن بِ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل‬
‫ُ ّ‬ ‫يُنْف ُق َمال َ ُه ِرئَاءَ النَّ ِ َ‬
‫َوالْي َ ْو ِم ْاْل ِخ ِر فَ َمثَل ُ ُه كَ َمث َ ِل َص ْف َوانٍ‬
‫اب فَأ َ َصاب َ ُه َوابِ ٌل فَ ًَت َ َك ُه‬ ‫ِ‬
‫عَلَيْه ُت َر ٌ‬
‫ون عَىلَ َش ْيءٍ ِ‪٦‬تَّا‬
‫َصل ْ ًدا َال يَقْ ِد ُر َ‬
‫اّلل َال يَهْ ِدي ال ْ َق ْو َم‬ ‫كسب‬
‫َ َ ُوا َو َّ ُ‬
‫الْكَافِرِي َن (‪)264‬‬

‫فالذي يتصدق ويتبع صدقته با‪١‬تن‬


‫واألذى ‪ ،‬إ‪٪‬تا يُبطل صدقته ‪،‬‬
‫وخسارته تكون خسارتُت ‪:‬‬
‫ا‪٠‬تسارة األوىل أنه أنقص ماله‬
‫بالفعل؛ ألن اهلل لن يعوض عليه؛‬
‫ألنه أتبع الصدقة ٔتا يبطلها من‬
‫ا‪١‬تن واألذى ‪ ،‬وا‪٠‬تسارة األخرى‬
‫هي ا‪ٟ‬ترمان من الثواب؛ فالذي‬
‫ينفق ليقول الناس عنه إنه ينفق ‪،‬‬
‫عليه أن يعرف أن ا‪ٟ‬تق يوضح لنا ‪:‬‬
‫أنه يعطي األجر عىل قاعدة أن الذي‬
‫يدفع األجر هو من عملت له‬
‫العمل ‪.‬‬
‫إن اإلنسان عىل ‪٤‬تدودية قدرته‬
‫يعطي األجر ‪١‬تن عمل له عمبل ‪،‬‬
‫والذي يعمل من أجل أن يقول‬
‫الناس إنه عمل ‪ ،‬فليأخذ أجره من‬
‫القدرة ا‪١‬تحدودة للبشر ‪ ،‬ولذلك‬
‫قال لنا رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم عن الذي يفعل ا‪ٟ‬تسنة أو‬
‫الصدقة ليقال عنه إنه فعل ‪ ،‬فإنه‬
‫يأيت يوم القيامة وال ‪٬‬تد أجرا له ‪.‬‬
‫وقد جاء يف ا‪ٟ‬تديث الشريف ‪« :‬‬
‫ورجل آتاه اهلل من أنواع ا‪١‬تال‬
‫فأىت به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما‬
‫عملت فيها؟ قال ‪ :‬ما تركت من‬
‫شيء ٕتب أن أنفق فيه إال ّأنفقت‬
‫فيه لك ‪ ،‬قال ‪ :‬كذبت إ‪٪‬تا أردت‬
‫أن يقال ‪ :‬فبلن جواد فقد قيل ‪،‬‬
‫فأمر به فسحب عىل وجهه حىت ألىق‬
‫يف النار » ‪.‬‬
‫إياك إذن أن تقول ‪ :‬أنا أنفقت ولم‬
‫يوسع اهلل رزيق؛ ألن اهلل قد يبتليك‬
‫وٯتتحنك ‪ ،‬فبل تفعل الصدقة من‬
‫أجل توسيع الرزق ‪ ،‬فعطاء اهلل‬
‫للمؤمن ليس يف الدنيا فقط ‪ ،‬ولكن‬
‫اهلل قد يريد أال يعطيك يف الفانية‬
‫وأبىق لك العطاء يف الباقية وهي‬
‫اْلخرة ‪ .‬وهو خَت وأبىق ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق يقول ‪َ { :‬وال َيُ ْؤ ِم ُن باهلل‬
‫واليوم اْلخر فَ َمثَل ُ ُه كَ َمث َ ِل َص ْف َوانٍ‬
‫اب } والصفوان هو ا‪ٟ‬تجر‬ ‫ِ‬
‫عَلَيْه ُت َر ٌ‬
‫األملس ‪ ،‬ويُس ىم ا‪١‬تروة والذي‬
‫نسميه بالعامية « الزلطة » ‪.‬‬
‫ويقال لؤلصلع « صفوان » ‪ ،‬أي‬
‫رأسه أملس كا‪١‬تروة ‪ .‬والشيء‬
‫األملس هو الذي ال مسام له ٯتكن‬
‫أن تدركها العُت ا‪١‬تدركة ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫يدرك اإلنسان هذه ا‪١‬تسام بوضع‬
‫ا‪ٟ‬تجر ٖتت ا‪١‬تجهر ‪ .‬وعندما يكون‬
‫الشيء ناعما قد يأيت عليه تراب ‪،‬‬
‫ثم يأيت ا‪١‬تطر فيزنل عىل الًتاب‬
‫ويزنلق الًتاب من عىل الشيء‬
‫األملس ‪ ،‬ولو كان با‪ٟ‬تجر بعض من‬
‫ا‪٠‬تشونة ‪ ،‬لبىق شيء من الًتاب بُت‬
‫النتوءات ‪ ،‬فالذي ينفق ماله رئاء‬
‫الناس ‪ ،‬كالصفوان يًتاكم عليه‬
‫الًتاب ‪ ،‬ويزنل ا‪١‬تطر عىل الًتاب‬
‫فيزيله كلّه فيصَت األمر ‪ { :‬ال َّ‬
‫ون عىل َش ْيءٍ ِّ‪٦‬تَّا كَ َسبُوا ْ} أي‬
‫ي َ ْق ِد ُر َ‬
‫فقدوا القدرة عىل امتبلك أي شيء؛‬
‫ألن اهلل جعل ما ‪٢‬تم من عمل هباء‬
‫منثورا ً‪.‬‬
‫وهؤالء كا‪ٟ‬تجر الصفوان الذي عليه‬
‫تراب فزنل عليه وابل ‪ . .‬أي مطر‬
‫شديد فًتكه صلدا ‪ . .‬تلك هي‬
‫صفات من قصدوا باإلنفاق رئاء‬
‫الناس ‪ ،‬فيبطل اهلل جزاءهم؛ ألن‬
‫اهلل ال يوفقهم إىل ا‪٠‬تَت والثواب ‪.‬‬
‫ويأيت اهلل با‪١‬تقابل ‪ ،‬وهم الذين‬
‫ينفقون أموا‪٢‬تم ابتغاء مرضاة اهلل‬
‫ِ‬
‫فيقول ‪َ { :‬و َمث َ ُل الذين يُنْف ُق َ‬
‫ون‬
‫ات اهلل‬‫أ َ ْموا َ‪٢‬تم ابتغآء َم ْر َض ِ‬
‫َ ُُ‬
‫َوتَثْبِيتا ً ِّم ْن أَن ْ ُف ِس ِه ْم‪} . . .‬‬
‫ومث َ ُل ال َّ ِذين يُن ْ ِف ُق َ‬
‫ون أ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ُم ابْتِغَاءَ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫اّلل َوتَثْبِيتًا ِم ْن أَن ْ ُف ِس ِه ْم‬
‫ات َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َم ْر َض ّ‬
‫َك َمث َ ِل َجنَّ ٍة بِ َرب ْ َو ٍة أ َ َصابَهَا َوابِ ٌل‬
‫ُت فَإ ِْن ل َ ْم يُ ِصبْهَا‬‫فَآتَ ْت أُكُلَهَا ِضعْ َف ْ ِ‬
‫اّلل ِٔتَا تَعْ َمل ُ َ ِ‬ ‫ٌ‬
‫ون بَصَتٌ‬ ‫َوابِ ٌل فَ َط ّل َو َّ ُ‬
‫(‪)265‬‬
‫إن ابتغاء مرضاة اهلل يف اإلنفاق‬
‫تعٍت خروج الرياء من دائرة‬
‫اإلنفاق ‪ ،‬فيكون خالصا لوجهه‬
‫سبحانه وأما التثبيت من أنفسهم‬
‫‪ ،‬فهو ألنفسهم أيضا ‪ .‬فكأن النفس‬
‫اإلٯتانية تتصادم مع النفس‬
‫الشهوانية ‪ ،‬فعندما تطلب النفس‬
‫اإلٯتانية أي شيء فإن النفس‬
‫الشهوانية ٖتاول أن ٘تنعها ‪.‬‬
‫وتتغلب النفس اإلٯتانية عىل‬
‫النفس الشهوانية وتنتصر هلل ‪.‬‬
‫وا‪١‬تراد ب { َوتَثْبِيتا ً ِّم ْن أَن ْ ُف ِس ِه ْم }‬
‫هو أن يتثبت ا‪١‬تؤمن عىل أن ٭تب‬
‫نفسه حبا أعمق ال حبا أ‪ٛ‬تق ‪ .‬إذن‬
‫فعملية اإلنفاق ‪٬‬تب أن تكون أوال‬
‫إنفاقا يف سبيل اهلل ‪ ،‬وتكون‬
‫بتثبيت النفس بأن وهب ا‪١‬تؤمن‬
‫أوال دمه ‪ ،‬وثبت نفسه ثانيا بأن‬
‫وهب ماله ‪ ،‬وهكذا يتأكد التثبيت‬
‫فيكون كما تصوره اْلية الكرٯتة‬
‫‪َ { :‬ك َمث َ ِل َجنَّ ٍة بِ َرب ْ َو ٍة أ َ َصابَهَا َوابِ ٌل‬
‫ُت فَإِن ل َّ ْم يُ ِصبْهَا‬ ‫فَآتَ ْت أُكُلَهَا ِضعْ َف ْ ِ‬
‫َت‬ ‫ص‬‫ون ب َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫وابِ ٌل فَ َط ٌّل واهلل ِ‬
‫ٔت‬
‫َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫} ػ البقرة ‪] 265 :‬‬
‫وا‪ٞ‬تنة كما عرفنا ُتطلق يف اللغة عىل‬
‫ا‪١‬تكان الذي يوجد به زرع كثيف‬
‫أخضر لدرجة أنه يسًت من يدخله‬
‫‪ .‬ومنها « جن » أي « سًت » ‪ ،‬ومن‬
‫يدخل هذه ا‪ٞ‬تنة يكون مستورا ً ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يريد أن يضرب لنا ا‪١‬تثل‬
‫الذي يوضح الصنف الثاين من‬
‫ا‪١‬تنفقُت يف سبيل اهلل ابتغاء‬
‫مرضاته وتثبيتا من أنفسهم‬
‫اإلٯتانية ضد النفس الشهوانية ‪،‬‬
‫فيكون الواحد منهم كمن دخل‬
‫جنة كثيفة الزرع ‪ ،‬وهذه ا‪ٞ‬تنة‬
‫توجد بربوة عالية ‪ ،‬وعندما تكون‬
‫ا‪ٞ‬تنة بربوة عالية فمعٌت ذلك أهنا‬
‫‪٤‬تاطة بأمكنة وطيئة ومنخفضة‬
‫عنها ‪ ،‬فماذا يفعل ا‪١‬تطر بهذه ا‪ٞ‬تنة‬
‫اليت توجد عىل ربوة؟ وقد أخْبنا‬
‫ا‪ٟ‬تق ٔتا ٭تدث ‪١‬تثل هذه ا‪ٞ‬تنة قبل‬
‫أن يتقدم العلم ا‪ٟ‬تديث ويكتشف‬
‫آثار ا‪١‬تياه ا‪ٞ‬توفية عىل الزراعة ‪.‬‬
‫فهذه ا‪ٞ‬تنة اليت بربوة ال تعاين ‪٦‬تا‬
‫تعاين منه األرض ا‪١‬تستوية ‪ ،‬ففي‬
‫األرض ا‪١‬تستوية قد توجد ا‪١‬تياه‬
‫ا‪ٞ‬توفية اليت تذهب إىل جذور‬
‫النبات الشعرية وتفسدها بالعطن‬
‫‪ ،‬فبل تستطيع هذه ا‪ٞ‬تذور أن ٘تتص‬
‫الغذاء البلزم للنبات ‪ ،‬فيشحب‬
‫النبات باالصفرار أوال ثم ٯتوت‬
‫إن ا‪ٞ‬تنة اليت بربوة‬
‫بعد ذلك ‪ّ ،‬‬
‫تستقبل ا‪١‬تياه اليت تزنل عليها من‬
‫ا‪١‬تطر ‪ ،‬وتكون ‪٢‬تا مصارف من‬
‫‪ٚ‬تيع ا‪ٞ‬تهات الوطيئة اليت حو‪٢‬تا ‪،‬‬
‫وترتوي هذه ا‪ٞ‬تنة بأحدث ما‬
‫توصل إليه العلم من وسائل الري‬
‫‪ ،‬إهنا تأخذ ا‪١‬تياه من أعىل ‪ ،‬أي من‬
‫ا‪١‬تطر ‪ ،‬فتزنل ا‪١‬تياه عىل األوراق‬
‫لتؤدي وظيفة أوىل وهي غسل‬
‫األوراق ‪.‬‬
‫إن أوراق النبات كما نعلم مثل‬
‫الرئة بالنسبة لئلنسان مهمتها‬
‫التنفس ‪ ،‬فإذا ما نزل عليها ماء‬
‫ا‪١‬تطر فهو يغسل هذه األوراق ‪٦‬تا‬
‫‪٬‬تعلها تؤدي دورها فيما نُسميه‬
‫‪٨‬تن يف العصر ا‪ٟ‬تديث بالتمثيل‬
‫الكلوروفيلي ‪ .‬وبعد ذلك تزنل‬
‫ا‪١‬تياه إىل ا‪ٞ‬تذور لتذيب العناصر‬
‫البلزمة يف الًتبة لغذاء النبات ‪،‬‬
‫فتأخذ ا‪ٞ‬تذور حاجتها من الغذاء‬
‫ا‪١‬تذاب يف ا‪١‬تاء ‪ ،‬ويزنل ا‪١‬تاء الزائد‬
‫عن ذلك يف ا‪١‬تصارف ا‪١‬تنخفضة ‪.‬‬

‫وهذه أحدث وسائل الزراعة‬


‫ا‪ٟ‬تديثة ‪ ،‬واكتشفوا أن ا‪١‬تحصول‬
‫يتضاعف بها ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق ٮتْبنا أن من ينفق ماله‬
‫ابتغاء مرضاة اهلل وتثبيتا ًمن‬
‫أنفسهم كمثل هذه ا‪ٞ‬تنة اليت‬
‫تروى بأسلوب رباين ‪ ،‬فإن نزل‬
‫عليها وابل من ا‪١‬تطر ‪ ،‬أخذت منه‬
‫حاجتها وانصرف بايق ا‪١‬تطر عنها ‪،‬‬
‫{ فَإِن ل َّ ْم يُ ِصبْهَا َوابِ ٌل فَ َط ٌّل } ؛‬
‫والطل وهو ا‪١‬تطر والرذاذ ا‪٠‬تفيف‬ ‫ُّ‬
‫يكفيها لتؤيت ضعفُت من نتاجها ‪.‬‬
‫وإذا كان الضعف هو ما يساوي‬
‫الشيء مرتُت ‪ ،‬فالضعفان يساويان‬
‫الشيء أربع مرات ‪ .‬واهلل يضرب‬
‫لنا مثبل ليزيد به اإليضاح ‪ٟ‬تالة من‬
‫ينفق ماله رئاء الناس فيسأل عباده‬
‫ا‪١‬تؤمنُت وهو أعلم بهم فيقول جل‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫شأنه ‪ { :‬أي َ َو ّدُ أ َح ُد ُك ْم أن تَ ُك َ‬
‫ون ل َ ُه‬
‫اب َٕتْ ِري ِمن‬
‫يل َوأ َ ْعن َ ٍ‬ ‫َجنَّ ٌة ِّمن َّ‪٩‬تِ ٍ‬
‫َٖتْتِهَا األهنار ‪} . . .‬‬
‫ون ل َ ُه َجنَّ ٌة ِم ْن‬ ‫َ‬
‫أي َ َو ّدُ أ َح ُد ُك ْم أ ْن تَ ُك َ‬
‫َ َ‬
‫اب َٕتْ ِري ِم ْن َٖتْتِهَا‬ ‫يل َوأ َ ْعن َ ٍ‬ ‫َ‪٩‬تِ ٍ‬
‫ات‬‫ْاأل َ ْهنَار ل َ ُه فِيهَا ِم ْن كُ ّ ِل الث ّ ََم َر ِ‬
‫ُ‬
‫ْب َول َ ُه ُذ ِّري َّ ٌة ُضعَ َف ُاء‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َوأ َصاب َ ُه الْك َ ُ‬
‫َ‬
‫اح ًَتَقَ ْت‬ ‫فَأ َصابَهَا إ ِْع َص ٌار فِي ِه َن ٌار فَ ْ‬
‫ات‬‫اّلل ل َ ُكم ْاْلي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُت‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ي‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫كَ َذل ِ‬
‫َُ ُ ُّ ُ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫ون (‪)266‬‬ ‫لَعَل َّ ُك ْم تَت َ َف ّك ُر َ‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه يشركنا يف الصورة‬
‫كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة‬
‫الواضحة ‪ .‬فهل يود أحدكم أن‬
‫تكون له جنة من ‪٩‬تيل وأعناب‬
‫ٕتري من ٖتتها األهنار له فيها من‬
‫كل الثمرات ‪ .‬ونعلم أن النخيل‬
‫واألعناب ‪٫‬تا من أهم ‪ٙ‬تار نَتاج‬
‫ا‪١‬تجتمع الذي نزل به القرآن‬
‫الكريم ‪ .‬ونعرف أن هناك حدائق‬
‫فيها ‪٩‬تيل وأعناب ‪ ،‬ويضيف إليها‬
‫صاحبها أشجارا ًمن ا‪٠‬توخ‬
‫وأشجارا ًمن الفواكة األخرى ‪.‬‬
‫ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق يف أصحاب ا‪ٞ‬تنة‬
‫‪ { :‬واضرب ‪٢‬ت ُ ْم َّمثَبل ً َّر ُجل َ ْ ِ‬
‫ُت‬
‫اب‬ ‫ُت ِم ْن أ َ ْعن َ ٍ‬ ‫‪٫‬تا َجنَّت َ ْ ِ‬ ‫جعلْنا ألَح ِد ِ‬
‫ََ َ َ َ‬
‫ا‪٫‬تا بِن َ ْخ ٍل َو َجعَلْنَا بَيْن َ ُه َما‬‫َو َح َف ْفن َ ُ َ‬
‫زَ ْرعا ً* ِكلْتَا ا‪ٞ‬تنتُت آتَ ْت أُكُلَهَا َول َ ْم‬
‫تَ ْظلِم ِّمن ْ ُه َشيْئا ً َوفَ ّج َْرنَا ِخبل َ‪٢‬ت ُ َما‬
‫ال ل ِ َصا ِحبِ ِه‬ ‫ان ل َ ُه ‪ٙ‬تَ َ ٌر فَ َق َ‬
‫َهنَرا ً* َوك َ َ‬
‫نك َماال ً َوأ َ َع ُّز‬ ‫َو ُه َو ُ٭تَا ِو ُر ُه أَنَا أ َ ْكث َ ُر ِم َ‬
‫ن َ َفرا ً* َودَ َخ َل َجن َّت َ ُه َو ُه َو َظال ِ ٌم‬
‫ال َمآ أ َ ُظ ُّن أَن تَبِي َد هذه‬ ‫ِ‬
‫ل ّن َ ْف ِس ِه قَ َ‬
‫أَبَدا ً* َو َمآ أ َ ُظ ُّن الساعة قَ ِائ َمةً َولَئِن‬
‫دت إىل َر ِ ّيب أل َ ِج َد َّن َخ َْتا ً ِّمنْهَا‬ ‫ُّر ِد ُّ‬
‫ُمنْقَلَبا ً} ػ الكهف ‪] 36-32 :‬‬
‫كأن ا‪ٞ‬تنتُت هنا فيهما أشياء كثَتة ‪،‬‬
‫فيهما أعناب ‪ ،‬وزاد‪٫‬تا اهلل عطاء‬
‫النخيل ‪ ،‬ثم الزرع ‪ ،‬وهذا يس ىم‬
‫يف اللغة عطف العام عىل ا‪٠‬تاص ‪ ،‬أو‬
‫عطف ا‪٠‬تاص عىل العام ‪ ،‬ليذكر‬
‫الشيء مرتُت ‪ ،‬مرة ٓتصوصه ‪،‬‬
‫ومرة يف عموم َته ‪ .‬وعندما‬
‫يتحدث ا‪ٟ‬تق سبحانه عن جنة‬
‫اْلخرة فإنه يقول مرة ‪ { :‬أَع َ َّد اهلل‬
‫ات َٕتْ ِري ِمن َٖتْتِهَا األهنار‬
‫َ‪٢‬تم َجنَّ ٍ‬
‫ُْ‬
‫َخال ِ ِدي َن فِيهَا ذلك الفوز العظيم }‬
‫ػ التوبة ‪] 89 :‬‬
‫لقد هيأ اهلل للمؤمنُت به ‪ ،‬ا‪١‬تقاتلُت‬
‫يف سبيل نصرة دينه وإعبلء كلمته‬
‫جنات تتخللها األهنار ‪ ،‬وذلك هو‬
‫الفوز والنجاح الكبَت ‪ .‬ومرة‬
‫أخرى يتحدث ا‪ٟ‬تق عن جنة‬
‫اْلخرة بقوله ‪ { :‬والسابقون‬
‫األولون ِم َن ا‪١‬تهاجرين واألنصار‬
‫والذين اتبعوهم بِإ ِْح َسانٍ َّر ِض َي‬
‫اهلل َعن ْ ُه ْم َو َر ُضوا ْ َعن ْ ُه َوأَع َ َّد َ‪٢‬ت ُ ْم‬
‫ات َٕتْ ِري َٖتْتَهَا األهنار َخال ِ ِدي َن‬ ‫َجنَّ ٍ‬
‫فِيهَآ أَبَدا ًذلك الفوز العظيم } ػ‬
‫التوبة ‪] 100 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تديث عن األهنار اليت ٕتري‬
‫ٖتت ا‪ٞ‬تنة يأيت مرة مسبوقا ب « ِمن‬
‫» ‪ .‬ومرة أخرى َت مسبوق ب «‬
‫ِمن » ‪ .‬فعندما يأيت ا‪ٟ‬تديث عن‬
‫تلك األهنار اليت ٖتت ا‪ٞ‬تنة مسبوقا‬
‫ب « ِمن » فإن ذلك يوحي أن نبعها‬
‫ذايت فيها وا‪١‬تائية ‪٦‬تلوكة ‪٢‬تا ‪.‬‬
‫وعندما يأيت ا‪ٟ‬تديث عن تلك‬
‫األهنار اليت ٕتري ٖتت ا‪ٞ‬تنة مسبوق‬
‫ب « ِمن » ‪ ،‬فمعٌت ذلك أن نبع هذه‬
‫األهنار َت ذايت فيها ‪ ،‬ولكنه ‪٬‬تري‬
‫ٖتتها بإرادة اهلل فبل ‪٬‬ترؤ أحد أن‬
‫ٯتنع ا‪١‬تاء عن هذه ا‪ٞ‬تنة اليت أعدها‬
‫اهلل للمؤمنُت ‪ .‬وعندما يشركنا‬
‫ا‪ٟ‬تق يف التساؤل ‪:‬‬
‫ون ل َ ُه َجنَّ ٌة‬‫{ أَي َ َو ّدُ أ َ َح ُد ُك ْم أَن تَ ُ‬
‫ك َ‬
‫اب َٕتْ ِري ِمن َٖتْتِهَا‬ ‫يل َوأ َ ْعن َ ٍ‬ ‫ِّمن َّ‪٩‬تِ ٍ‬
‫األهنار ل َ ُه فِيهَا ِمن كُ ّ ِل الثمرات‬
‫َ‬
‫َوأ َصاب َ ُه الكْب َول َ ُه ُذ ِّري َّ ٌة ُضعَ َف ُ‬
‫آء‬
‫فَأ َ َصابَهَآ إ ِْع َص ٌار فِي ِه ن َ ٌار فاحًتقت‬
‫ُت اهلل ل َ ُك ُم اْليات‬ ‫َك َذل ِ َ‬
‫ك يُب َ ّ ُِ‬
‫ون } ػ البقرة ‪:‬‬ ‫َ‬
‫لَعَل َّ ُك ْم تَت َ َف ّك ُر َ‬
‫‪] 266‬‬
‫إن ا‪ٞ‬تنة اليت بهذه الصفة وفيها‬
‫ا‪٠‬تَت الكثَت ‪ ،‬لكن صاحبها يصيبه‬
‫الكْب ‪ ،‬ولم تعد يف صحته فتوة‬
‫الشباب ‪ ،‬إنه ‪٤‬تاط با‪٠‬تَت وهو‬
‫أحوج ما يكون إىل ذلك ا‪٠‬تَت؛ ألنه‬
‫أصبح يف الكْب وليس له طاقة‬
‫يعمل بها ‪ ،‬وهكذا تكون نفسه‬
‫معلقة بعطاء هذه ا‪ٞ‬تنة ‪ ،‬ال لنفسه‬
‫فقط ولكن لذريته من الضعفاء ‪.‬‬

‫وهذه قمة التصوير لبلحتياج‬


‫للخَت ‪ ،‬ال للنفس فقط ولكن لؤلبناء‬
‫الضعفاء أيضا ‪.‬‬
‫إننا أمام رجل ‪٤‬تاط بثبلثة ظروف‬
‫‪ .‬الظرف األول ‪ :‬هو ا‪ٞ‬تنة اليت فيها‬
‫من كل خَت ‪.‬‬
‫والظرف الثاين ‪ :‬هو الكْب والضعف‬
‫والعجز عن العمل ‪.‬‬
‫والظرف الثالث ‪ :‬ه و الذرية من‬
‫الضعفاء ‪.‬‬
‫فيطيح بهذه ا‪ٞ‬تنة إعصار فيه نار‬
‫فاحًتقت ‪ ،‬فأي حسرة يكون فيها‬
‫الرجل؟ إهنا حسرة شديدة ‪.‬‬
‫كذلك تكون حسرة من يفعل‬
‫ا‪٠‬تَت رئاء الناس ‪ .‬واإلعصار كما‬
‫نعرف هو الريح الشديد‬
‫ا‪١‬تصحوبة برعد وبرق ومطر وقد‬
‫يكون فيه نار ‪ ،‬هذا إذا كانت‬
‫الشحنات الكهربائية نإتة من‬
‫تصادم السحب أو حاملة لقذائف‬
‫نارية من بركان ثائر ‪ .‬هكذا‬
‫يكون حال من ينفق ماله رئاء‬
‫الناس ‪ .‬ابتداء مطمع وانتهاء‬
‫موئس أي ميئوس منه ‪.‬‬
‫إذن فكل إنسان مؤمن عليه أن‬
‫يتذكر ساعة أن ينفق هذا االبتبلء‬
‫ا‪١‬تثَت للطمع ‪ ،‬وذلك االنتهاء ا‪١‬تليء‬
‫باليأس ‪ .‬إهنا الفجيعة الشديدة ‪.‬‬
‫ويصورها الشاعر بقوله ‪:‬‬
‫فأصبحت من ليىل الغداة كقابض‬
‫‪ ...‬عىل ا‪١‬تاء خانته فروج األصابع‬
‫ويقول آخر ‪:‬‬
‫كما أبرقت قوما عطاشا غمامة‬
‫‪ ...‬فلما رأوها أقشعت وٕتلت‬
‫إن الذي يرائي ٮتسر كل حاجاته ‪،‬‬
‫وال يقدر عىل شيء ‪٦‬تا كسب ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق من بعد ذلك ‪ { :‬ياأيها‬
‫الذين آمنوا أَن ْ ِف ُقوا ْ ِمن َط ِيّب ِ‬
‫ات َما‬‫َ‬
‫كَ َسب ْ ُت ْم ‪} . . .‬‬

‫يَا أَيُّهَا ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا أَن ْ ِف ُقوا ِم ْن‬


‫ات َما َك َسب ْ ُت ْم َو ِ‪٦‬تَّا أ َ ْخ َر ْجنَا‬‫َط ِيّب ِ‬
‫َ‬
‫ل َ ُك ْم ِم َن ْاأل َ ْر ِض َو َال تَي َ َّم ُموا‬
‫ون َول َ ْس ُت ْم بِآ ِخ ِذي ِه‬ ‫ا‪٠‬تَْب َ ِ ِ‬
‫ِيث من ْ ُه ُتنْف ُق َ‬
‫إ َِّال أ َ ْن ُتغ ْ ِم ُضوا فِي ِه َواعْل َ ُموا أ َ َّن َّ‬
‫اّللَ‬
‫‪ٛ‬تي ٌد (‪)267‬‬ ‫َ ٍِت َ ِ‬
‫ٌّ‬
‫إن هذه اْلية تعطي صورا ٖتدث يف‬
‫ا‪١‬تجتمع البشري ‪ .‬وكانت هذه‬
‫الصور ٖتدث يف ‪٣‬تتمع ا‪١‬تدينة بعد‬
‫أن أسس فيها رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم دولة اإلسبلم ‪ .‬فبعض‬
‫من الناس كانوا ٭تضرون العِذق من‬
‫النخ ل ويعلقه يف ا‪١‬تسجد من أجل‬
‫أن يأكل منه من يريد ‪ ،‬والعِذق هو‬
‫فرع قوي من النخل يضم الكثَت‬
‫من الفروع الصغَتة ا‪١‬تعلقة عليها‬
‫‪ٙ‬تار البلح ‪ .‬وكان بعضهم يأيت‬
‫بعذق َت ناضج أو با‪ٟ‬ت َ َشف‬
‫الصغَتة ا‪١‬تعلقة عليها ‪ٙ‬تار البلح ‪.‬‬
‫وكان بعضهم يأيت بعذق َت ناضج‬
‫أو با‪ٟ‬تشف وهو أردأ التمر ‪ ،‬فأراد‬
‫اهلل أن ‪٬‬تنبهم هذا ا‪١‬توقف ‪ ،‬حىت ال‬
‫‪٬‬تعلوا هلل ما يكرهون ‪ ،‬فأنزل هذا‬
‫القول ا‪ٟ‬تكيم ‪ { :‬ياأيها الذين‬
‫آمنوا أَن ْ ِف ُقوا ْ ِمن َط ِيّب ِ‬
‫ات َما َك َسب ْ ُت ْم‬‫َ‬
‫}‪.‬‬
‫إن اإلنفاق ‪٬‬تب أن يكون من‬
‫الكسب الطيب ا‪ٟ‬تبلل ‪ ،‬فبل تأيت‬
‫ٔتال من مصدر َت حبلل لتنفق‬
‫منه عىل أوجه ا‪٠‬تَت ‪ .‬فاهلل طيب ال‬
‫يقبل إال طيبا ‪ .‬وال يكون اإلنفاق‬
‫من ُرذَال ور ِديء ا‪١‬تال ‪.‬‬
‫و٭تدد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل وسيلة‬
‫اإلنفاق من عطائه فيقول ‪َ { :‬و ِ‪٦‬تَّآ‬
‫أ َ ْخ َر ْجنَا ل َ ُكم ِّم َن األرض } وهو‬
‫سبحانه يذكرنا دائما حُت يقول ‪:‬‬
‫َس ُت ْم }‬ ‫{ أَن ْ ِف ُقوا ْ ِمن َط ِيّب ِ‬
‫ات َما ك َ ب ْ‬‫َ‬
‫أال نظن الكسب هو األصل يف‬
‫الرزق ‪ .‬ال ‪ ،‬إن الكسب هو حركة‬
‫موهوبة لك من اهلل ‪ .‬إنك أيها‬
‫العبد إ‪٪‬تا تتحرك بطاقة موهوبة‬
‫لك من اهلل ‪ ،‬وبفكر ‪٦‬تنوح لك من‬
‫اهلل ‪ ،‬ويف أرض سخرها لك اهلل ‪،‬‬
‫إهنا األدوات ا‪١‬تتعددة اليت خصك‬
‫بها اهلل وليس فيها ما ٘تلكه أنت‬
‫من ذاتيتك ‪ .‬ولكن ا‪ٟ‬تق ٭تًتم‬
‫حركة اإلنسان وسعيه إىل الرزق‬
‫ات َما‬‫فيقول ‪ { :‬أَن ْ ِف ُقوا ْ ِمن َط ِيّب ِ‬
‫َ‬
‫كَ َسب ْ ُت ْم } ‪.‬‬
‫و٭تذرنا ا‪ٟ‬تق من أن ‪٩‬تتار ا‪٠‬تبيث‬
‫و َت الصاٌف من نتاج عملنا لننفق‬
‫منه بقوله سبحانه ‪َ { :‬وال َتَي َ َّم ُموا ْ‬
‫ون } أي ال يصح‬ ‫ِ ِ‬
‫ا‪٠‬تبيث من ْ ُه ُتنْف ُق َ‬
‫وال يليق أن نأخذ ألنفسنا طيبات‬
‫الكسب ونعطي اهلل رديء الكسب‬
‫وخبيثه؛ ألن الواحد منا ال يرىض‬
‫لنفسه أن يأخذ لطعامه أو لعياله‬
‫هذا ا‪٠‬تبيث َت الصاٌف لننفق منه أو‬
‫لنأكله ‪َ { .‬ول َ ْس ُت ْم بِآ ِخ ِذي ِه إِال َّأَن‬
‫ٍتٌ‬‫ُتغ ْ ِم ُضوا ْفِي ِه واعلموا أ َ َّن اهلل َ ِ‬
‫ّ‬
‫‪ٛ‬تي ٌد } أي أنك أيها العبد ا‪١‬تؤمن‬ ‫َِ‬
‫لن ترىض لنفسك أن تأكل من‬
‫ا‪٠‬تبيث إال إذا أغمضت عينيك ‪ ،‬أو‬
‫تم تزنيل سعره لك؛ كأن يعرض‬
‫عليك البائع شيئا متوسط ا‪ٞ‬تودة أو‬
‫شيئا رديئا ًبسعر يقل عن سعر‬
‫ا‪ٞ‬تيد ‪.‬‬
‫لقد أراد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أن‬
‫يوضح لنا بهذه الصور أوجه‬
‫اإلنفاق ‪:‬‬
‫* إن النفقة ال تنقص ا‪١‬تال وإ‪٪‬تا‬
‫تزيده سبعمائة مرة ‪.‬‬
‫* إن النفقة ال يصح أن يبطلها‬
‫اإلنسان با‪١‬تن واألذى ‪.‬‬
‫* إن القول ا‪١‬تعروف خَت من‬
‫الصدقة ا‪١‬تتبوعة با‪١‬تن أو األذى ‪.‬‬
‫* إن اإلنفاق ال يكون رئاء الناس‬
‫إ‪٪‬تا يكون ابتغاء ً‪١‬ترضاة اهلل ‪.‬‬
‫هذه اْليات الكرٯتة تعاًف آفات‬
‫اإلنفاق سواء ًآفة الشح أو آفة ا‪١‬تن‬
‫أو األذى ‪ ،‬أو اإلنفاق من أجل‬
‫التظاهر أمام الناس ‪ ،‬أو اإلنفاق‬
‫من رديء ا‪١‬تال ‪ .‬وبعد ذلك يقول‬
‫سبحانه ‪ { :‬الشيطان يَعِ ُد ُك ُم‬
‫الفقر َويَأ ْ ُم ُر ُكم بالفحشآء ‪} . . .‬‬
‫ان يَعِ ُد ُك ُم ال ْ َفقْ َر َويَأ ْ ُم ُر ُك ْم‬ ‫ال َّشي ْ َط ُ‬
‫اّلل يَعِ ُد ُك ْم َمغ ْ ِف َرة ً ِمن ْ ُه‬
‫بِال ْ َف ْح َشاءِ َو ّ َُ‬
‫وفَ ْض ًبل و َ ِ ِ‬
‫يم (‪)268‬‬ ‫اّلل َواس ٌع عَل ٌ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ‬
‫إن الشيطان قد يوسوس لكم بأن‬
‫اإلنفاق إفقار لكم ‪ ،‬و٭تاول أن‬
‫يصرفكم عن اإلنفاق يف وجوه‬
‫ا‪٠‬تَت ‪ ،‬ويغريكم با‪١‬تعاصي‬
‫ٍتُحُت يقبض يده‬ ‫ِ‬
‫والفحشاء ‪ ،‬فالْغ َ ّ‬
‫عن ا‪١‬تحتاج فإنه يُ ْد ِخل يف قلب‬
‫ا‪١‬تحتاج ا‪ٟ‬تقد ‪ .‬وأي ‪٣‬تتمع يدخل‬
‫يف قلبه ا‪ٟ‬تقد ‪٧‬تد كل ا‪١‬تنكرات‬
‫تنتشر فيه ‪ .‬ويعاًف ا‪ٟ‬تق هذه‬
‫ا‪١‬تسائل بقوله ‪ { :‬إ َِّ‪٪‬تَا ا‪ٟ‬تياة‬
‫ب َو َ‪٢‬ت ْ ٌو َوإِن ُت ْؤ ِم ُنوا ْ َوتَتَّ ُقوا ْ‬ ‫ِ‬
‫الدنيا لَع ٌ‬
‫ور ُك ْم َوال َي َ ْسأَل ْ ُك ْم‬ ‫ِ ُ‬
‫يُ ْؤت ُك ْم أ ُج َ‬
‫أ َ ْم َوال َ ُك ْم * إِن ي َ ْسأَل ْ ُك ُم َ‬
‫وها‬
‫تَلُوا ْ َو ُٮت ْ ِر ْج أ َ ْضغَان َ ُك ْم‬ ‫فَي ْح ِف ُك ْم ْ َٓت‬
‫ُ‬
‫} ػ ‪٤‬تمد ‪] 37-36 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ال يسألك‬
‫أن ترد عطاءه لك من ا‪١‬تال ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫يطلب ا‪ٟ‬تق تطهَت ا‪١‬تال باإلنفاق‬
‫منه يف سبيل اهلل ليزيد ولينمو ‪،‬‬
‫وليخرج الضغن من ا‪١‬تجتمع؛ ألن‬
‫الضغن حُت يدخل ‪٣‬تتمعا فعىل هذا‬
‫ا‪١‬تجتمع السبلم ‪ .‬وال يُفيق‬
‫ا‪١‬تجتمع من هذا الضغن إال بأن‬
‫تأتيه ضربة قوية تزلزله ‪ ،‬فينتبه‬
‫إىل ضرورة إخراج الضغن منه‬
‫لذلك ٭تذرنا اهلل أن نسمع‬
‫للشيطان ‪ { :‬الشيطان يَعِ ُد ُك ُم‬
‫الفقر َويَأ ْ ُم ُر ُكم بالفحشآء واهلل‬
‫يَعِ ُد ُكم َّمغ ْ ِف َرة ً ِّمن ْ ُه َوفَ ْضبل ًواهلل‬
‫يم } ػ البقرة ‪] 268 :‬‬ ‫وا ِس ٌع عَلِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫فالذي يسمع لقول الشيطان‬
‫ووعده ‪ ،‬وال يستمع إىل وعد اهلل‬
‫يصبح كمن ر ّجح عدو اهلل عىل اهلل‬
‫أعاذنا اهلل وإياكم من مثل هذا‬
‫ا‪١‬توقف إن الشيطان قد وسوس‬
‫لكم بالفقر إذا أنفقتم ‪ ،‬وخْبة‬
‫اإلنسان مع الشيطان تؤكد‬
‫لئلنسان أن الشيطان كاذب مضلل‬
‫‪ ،‬وخْبة اإلنسان مع اإلٯتان باهلل‬
‫تؤكد لئلنسان أن اهلل واسع ا‪١‬تغفرة‬
‫‪ ،‬كثَت العطاء لعباده ‪ .‬وا‪ٟ‬تكمة‬
‫تقتضي أن نعرف إىل أي الطرق‬
‫هنتدي ونسَت ‪ .‬وبعد ذلك يقول‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬يُ ْؤ ِيت ا ْ‪ٟ‬تِ ْك َمةَ َمن ي َ َش ُ‬
‫آء‬
‫َو َمن يُ ْؤ َت ا ِْ‪ٟ‬ت ْك َم َة فَ َق ْد أُ ِويت َ َخ َْتا ً‬
‫كَثَِتا ً‪} . . .‬‬

‫يُ ْؤ ِيت ا ْ‪ٟ‬تِ ْك َمةَ َم ْن ي َ َش ُاء َو َم ْن يُ ْؤ َت‬


‫ا ِْ‪ٟ‬ت ْك َم َة فَ َق ْد أُ ِويت َ َخ َْتًا َكثَِتًا َو َما‬
‫اب (‪)269‬‬ ‫ي َ َّذ َّك ُر إ َِّال أُولُو ْاألَلْب َ ِ‬
‫وا‪ٟ‬تكمة هي وضع الشيء يف‬
‫موضعه النافع ‪ .‬فكأن ا‪ٟ‬تق يقول ‪:‬‬
‫كل ما أمرتكم به هو عُت ا‪ٟ‬تكمة؛‬
‫ألين أريد أن أُ َؤ ِّم َن حياتكم الدنيا‬
‫فيمن تًتكون من الذرية الضعفاء‬
‫‪ ،‬وأُ َؤ ِّم َن لكم سعادة اْلخرة ‪ .‬فإن‬
‫صنع العبد ا‪١‬تؤمن ما يأمر به اهلل‬
‫فهذا وضع األشياء يف موضعها وهو‬
‫أخذ با‪ٟ‬تكمة ‪.‬‬
‫وقد أراد ا‪ٟ‬تق أن يعلم اإلنسان من‬
‫خبلل عاطفته عىل أوالده ‪ ،‬ألن‬
‫اإلنسان قد ٘تر عليه فًتة يهون‬
‫فيها عنده أمر نفسه ‪ ،‬وال ينشغل‬
‫إال بأمر أوالده ‪ ،‬فقد ‪٬‬توع من أجل‬
‫أن يشبع األوالد ‪ ،‬وقد يعرى من‬
‫أجل أن يكسوهم ‪ .‬ولنا ا‪١‬تثل‬
‫الواضح يف سيدنا إبراهيم خليل‬
‫الر‪ٛ‬تن عليه السبلم ‪ ،‬لقد ابتبله‬
‫ربه يف بداية حياته باإلحراق يف‬
‫النار ‪ ،‬وألن إبراهيم قوى اإلٯتان‬
‫فقد جعل اهلل النار بردا ًوسبلما ً‬
‫‪ .‬وابتبله اهلل يف آخر حياته برؤيا‬
‫ذبح ابنه ‪ ،‬وألن إبراهيم عظيم‬
‫اإلٯتان فقد امتثل ألمر الر‪ٛ‬تن‬
‫الذي افتدى إ‪ٝ‬تاعيل بكبش‬
‫عظيم ‪ .‬واإلنسان يف العمر‬
‫ا‪١‬تتأخر يكون تعلقه بأبنائه أكْب‬
‫من تعلقه بنفسه ‪ .‬وهكذا كان‬
‫الًتيق يف ابتبلء اهلل لسيدنا إبراهيم‬
‫عليه السبلم ‪ ،‬ولذلك أراد اهلل أن‬
‫يضرب للبشر عىل هذا الوتر وقال ‪:‬‬
‫{ َولْي َ ْخ َش الذين ل َ ْو تَ َر ُكوا ْ ِم ْن‬
‫َخل ْ ِف ِه ْم ُذ ِّريَّةً ِضعَافا ً َخا ُفوا ْعَلَي ْ ِه ْم‬
‫فَلْيَتَّ ُقواّ اهلل َولْي َ ُقولُوا ْقَ ْوال ً َس ِديدا ً }‬
‫ػ النساء ‪] 9 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه يريد من عباده أن‬
‫ؤمنوا عىل أوالدهم بالعمل الصاٌف‬
‫ي ّ‬
‫والقول السديد ‪.‬‬
‫ومثال آخر حُت أراد ا‪ٟ‬تق أن ٭تمي‬
‫مال اليتاىم ‪ ،‬وأعلمنا بدخول موىس‬
‫عليه السبلم مع العبد الصاٌف الذي‬
‫أوىت العلم من اهلل ‪ ،‬يقول سبحانه ‪:‬‬
‫{ فانطلقا حىت إِذَآ أَتَيَآ أ َ ْه َل قَ ْري َ ٍة‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫استطعمآ أ ْهلَهَا فَأب َ ْوا ْأن يُ َض ِي ّ ُف ُ َ‬
‫و‪٫‬تا‬
‫ض‬‫يد أَن يَنقَ َّ‬ ‫فَ َو َج َدا فِيهَا ِج َدارا ًيُ ِر ُ‬
‫ال ل َ ْو ِشئ ْ َت لتَّ َخ ْذ َت عَلَي ْ ِه‬ ‫َ‬
‫فَأقَ َام ُه قَ َ‬
‫أ َ ْجرا ً} ػ الكهف ‪] 77 :‬‬
‫كان موىس عليه السبلم ال يعلم علم‬
‫العبد الصاٌف من أن ا‪ٞ‬تدار كان ٖتته‬
‫كزن ليتيمُت ‪ ،‬كان أبو‪٫‬تا رجبل ً‬
‫صا‪ٟ‬تا ‪ ،‬وأهل هذه القرية لئام ‪،‬‬
‫فقد رفضوا أن يطعموا العبد‬
‫الصاٌف وموىس عليه السبلم ‪ ،‬لذلك‬
‫كان من الضروري إقامة ا‪ٞ‬تدار‬
‫حىت ال ينكشف الكزن يف قرية من‬
‫اللئام ويستولوا عليه وال يأخذ‬
‫الغبلمان كزن أبيهما الذي كان‬
‫رجبل ًصا‪ٟ‬تا ً‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق سبحانه يعلمنا أن ن ُ َؤ ِم َن‬
‫عىل أبنائنا بالعمل الصاٌف ‪ ،‬وهذه‬
‫هي ا‪ٟ‬تكمة عينها اليت ال يصل إليها‬
‫أصحاب العقول القادرة عىل‬
‫الوصول إىل عمق التفكَت السديد‬
‫‪.‬‬
‫وسيدنا ا‪ٟ‬تسن البصري يعطينا‬
‫ا‪١‬تثل يف العمل الصاٌف عندما يقول‬
‫‪١‬تن يدخل عليه طالبا حاجة ‪:‬‬
‫مرحبا ًٔتن جاء ٭تمل زادي إىل‬
‫اْلخرة بغَت أجرة ‪ .‬إن سيدنا‬
‫اٌفسن البصري قد أويت من ا‪ٟ‬تكمة‬
‫ما ‪٬‬تعله ال ينظر إىل ا‪٠‬تَت ٔتقدار‬
‫زمنه ‪ ،‬ولكن ٔتقدار ما يعود عليه‬
‫بعد الزمن ‪.‬‬
‫وقد ضربت من قبل ا‪١‬تثل‬
‫بالتلميذ الذي َ ِ‪٬‬ت ُّد ويتعب يف‬
‫دروسه ليحصل عىل النجاح ‪ ،‬بينما‬
‫أخوه ٭تب لنفسه الراحة والكسل‬
‫‪ .‬ثم ‪٧‬تد التلميذ الذي يتعب هو‬
‫الذي يرتقي يف ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬بينما‬
‫الذي ارتىض لنفسه الكسل يصَت‬
‫صعلوكا ًيف ا‪١‬تجتمع ‪ .‬وبعد ذلك‬
‫يقول سبحانه ‪َ { :‬و َمآ أَن َف ْق ُت ْم ِّمن‬
‫ن َّ َفقَ ٍة أ َ ْو ن َ َذ ْر ُت ْم ِّمن ن َّ ْذ ٍر فَإ َِّن اهلل‬
‫ُت ِم ْن أَن ْ َصا ٍر }‬ ‫يعلَمه وما ل ِ َّ ِ‬
‫لظا‪١‬ت ِ َ‬ ‫َْ ُ ُ ََ‬
‫َو َما أَن ْ َف ْق ُت ْم ِم ْن ن َ َف َق ٍة أ َ ْو ن َ َذ ْر ُت ْم ِم ْن‬
‫لظ ِ‬ ‫اّلل يعلَمه وما ل ِ‬
‫ُت‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ا‪١‬ت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن َ ْذ ٍر فَإ َِّن َّ َ َ ْ ُ ُ َ َ‬
‫ِم ْن أَن ْ َصا ٍر (‪)270‬‬

‫وقد عرفنا النفقة من قبل ‪ ،‬فما هي‬


‫مسألة النذر؟ ‪ .‬إن النذر هو أن‬
‫ُتلزم نفسك بشيء من جنس ما‬
‫شرع اهلل فوق ما أوجب اهلل ‪ .‬فإذا‬
‫نذرت أن تصلي هلل كل ليلة عددا‬
‫من الركعات فهذا نذر من جنس‬
‫ما شرع اهلل؛ ألن اهلل قد شرع‬
‫الصبلة وفرضها ‪ٜ‬تسة فروض ‪،‬‬
‫فإن نذرت فوق ما فرضه اهلل فهذا‬
‫هو النذر ‪ .‬ويقال يف الذي ينذر شيئا‬
‫من جنس ما شرع اهلل فوق ما‬
‫فرضه اهلل ‪ :‬إن هذا دليل عىل أن‬
‫العبادة قد َحل َ َت له ‪ ،‬فأحبها‬
‫وعشقها ‪ ،‬ودليل عىل أنه قارب أن‬
‫يعرف قدر ربه؛ وأن ربه يستحق‬
‫منه فوق ما افًتضه عليه ‪ ،‬فكأن اهلل‬
‫يف افًتاضه كان رحيما ًبنا ‪ ،‬ألنه لو‬
‫فرض ما يستحقه منا ‪١‬تا استطاع‬
‫واحد أن يفي ْتق اهلل ‪.‬‬
‫إذن فعندما تنذر أيها العبد ا‪١‬تؤمن‬
‫نذرا ً‪ ،‬فإنك ُتلزم نفسك بشيء‬
‫من جنس ما شرع اهلل لك فوق ما‬
‫فرض اهلل عليك ‪ .‬وأنت ‪٥‬تَت أن‬
‫تقبل عىل نذر ما ‪ ،‬أو ال تقبل ‪ .‬لكن‬
‫إن نطقت بنذر فقد لزم ‪١ .‬تاذا؟‬
‫ألنك ألزمت نفسك به ‪ .‬ولذلك‬
‫فمن التعقل أال يورط اإلنسان‬
‫نفسه ويسرف يف النذر ‪ ،‬ألنه يف‬
‫ساعة األداء قد ال يقدر عليه ‪.‬‬
‫وأهل القرب من اهلل يقولون ‪١‬تن‬
‫ٮتل بالنذر بعد أن نذر ‪ :‬هل‬
‫جربت ربك فلم ٕتده أهبل ً‬
‫الستمرار الود ‪ .‬وليس فينا من‬
‫‪٬‬ترؤ عىل ذلك؛ ألن اهلل أهل لعميق‬
‫الود ‪ .‬و‪٢‬تذا فمن األفضل أن‬
‫يًتيث اإلنسان قبل أن ينذر شيئا‬
‫‪.‬‬
‫ونقف اْلن عند تذييل اْلية ‪{ :‬‬
‫ُت ِم ْن أَن ْ َصا ٍر } ‪ .‬إن‬ ‫وما ل ِ َّ ِ‬
‫لظا‪١‬ت ِ َ‬ ‫ََ‬
‫الظا‪١‬تُت هم من ظلموا أنفسهم؛‬
‫ألن ا‪ٟ‬تق عرفنا أن ظلم اإلنسان‬
‫إ‪٪‬تا يكون لنفسه ‪ ،‬وقال لنا ‪ { :‬إ َِّن‬
‫اهلل ال َي َ ْظلِ ُم الناس َشيْئا ًولكن‬
‫ون } ػ‬ ‫م‬ ‫الناس أ َ ُنفسهم ي َ ْظلِ‬
‫َُ ْ ُ َ‬
‫يونس ‪] 44 :‬‬
‫ومن أشد الظلم للنفس اإلنفاق‬
‫رياء ً‪ ،‬أو اإلنفاق يف ا‪١‬تعاصي ‪ ،‬أو‬
‫عدم الوفاء بالنذر ‪ ،‬فليس ‪١‬تن‬
‫يفعل ذلك أعوان يدفعون عنه‬
‫عذاب اهلل يف اْلخرة ‪ .‬ويقول ا‪ٟ‬تق‬
‫من بعد ذلك ‪ { :‬إِن ُتب ْ ُدوا ْ‬
‫ِ‬
‫الصدقات فَ ِنعِ َّما ه َي َوإِن ُٗت ْ ُف َ‬
‫وها‬
‫وها الفقرآء ‪} . . .‬‬ ‫َو ُت ْؤ ُت َ‬
‫ات فَ ِنعِ َّما ِه َي َوإ ِْن‬
‫الص َدقَ ِ‬ ‫إ ِْن ُتب ْ ُدوا َّ‬
‫وها ال ْ ُفقَ َراءَفَ ُه َو َخ َْتٌ‬
‫وها َو ُت ْؤ ُت َ‬
‫ُٗت ْ ُف َ‬
‫ل َ ُك ْم َويُ َك ِّف ُر َعن ْ ُك ْم ِم ْن َس ِيّئَاتِ ُك ْم‬
‫و َ ِ‬
‫ون َخبَِتٌ (‪)271‬‬ ‫اّلل ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫َ ُّ‬
‫فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما‬
‫تفعلون؛ لتكونوا قدوة لغَتكم ‪،‬‬
‫ولًتدوا الضغن عن ا‪١‬تجتمع ‪ .‬وإن‬
‫أخفيتم الصدقة وأعطيتموها‬
‫الفقراء فإن اهلل يكفر عنكم‬
‫بذلك من سيئاتكم ‪ ،‬واهلل خبَت‬
‫بالنية وراء إعبلن الصدقة ووراء‬
‫إخفاء الصدقة ‪ .‬والتذييل يف هذه‬
‫اْلية الكرٯتة ٮتدم قضية إبداء‬
‫الصدقة وقضية إخفاء الصدقة ‪،‬‬
‫فا‪ٟ‬تق خبَت بنية من أبدى الصدقة‬
‫‪ ،‬فإن كان غنيا ًفعليه أن يبدي‬
‫الصدقة حىت ٭تمي عرضه من‬
‫وقوع الناس فيه؛ ألن الناس حُت‬
‫يع‪١‬تون بالغٍت فبل بد أن يعلموا‬
‫بإنفاق الغٍت ‪ ،‬وإال فقد ٭تسب‬
‫الناس عىل الغٍت عطاء اهلل له ‪ ،‬وال‬
‫٭تسبون له النفقة يف سبيل اهلل ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن اهلل يريد أن ٭تمي‬
‫أعراض الناس من الناس ‪.‬‬
‫أما إن كان اإلنسان َت ظاهر الغٌت‬
‫فمن ا‪١‬تستحسن أن ٮتفي الصدقة‬
‫‪ .‬وإن ظهرت الصدقة كما قلت‬
‫ليتأىس الناس بك ‪ ،‬وليس يف ذهنك‬
‫الرياء فهذا أيضا مطلوب ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫ِ‬
‫يقول ‪ { :‬واهلل ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫ون َخبَِتٌ}‬
‫أي أن اهلل ‪٬‬تازي عىل قدر نية العبد‬
‫يف اإلبداء أو يف اإلخفاء ‪.‬‬
‫إنه باستقراء اْليات اليت تعرضت‬
‫لئلنفاق ‪٧‬تده سبحانه يسد أمام‬
‫لشح ‪،‬‬‫النفس البشرية كل منافذة ا ُ‬
‫ويقطع عنها كل سبيل ٖتدثه به إذا‬
‫ما أرادت أن تبخل ٔتا أعطاها اهلل‬
‫‪ ،‬وا‪٠‬تالق الذي وهب للمخلوق ما‬
‫وهبه يطلب منه اإلنفاق ‪ ،‬وإذا‬
‫نظرنا إىل األمر يف عرف ا‪١‬تنطق‬
‫وجدناه أمرا ًطبيعيا؛ ألن اهلل ال‬
‫يسأل خلقه النفقة ‪٦‬تا َخل َ ُقوا ولكنه‬
‫يسأ‪٢‬تم النفقة ‪٦‬تا خلقه ‪٢‬تم ‪.‬‬
‫إن اإلنسان يف هذا الكون حُت‬
‫يُطلب إٯتانيا ًمنه أن ينفق فبلزم‬
‫ذلك أن يكون عنده ما ينفقه ‪ ،‬وال‬
‫ٯتكن أن يكون عنده ما ينفقه إال‬
‫إذا كان مالكا ًلشيء زاد عىل حاجته‬
‫وحاجة من يعوله ‪ ،‬وذلك ال يتأىت إال‬
‫ْتصيلة العمل ‪ .‬إذن فأمر اهلل‬
‫للمؤمن بالنفقة يقتضي أن يأمره‬
‫أوال ًبأن يعمل عىل قدر طاقته ال عىل‬
‫قدر حاجته ‪ ،‬فلو عمل كل إنسان‬
‫من القادرين عىل قدر حاجته ‪،‬‬
‫فكيف توجد مقومات ا‪ٟ‬تياة ‪١‬تن ال‬
‫يقدر عىل العمل؟ ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق يريد منا أن نعمل عىل‬
‫قدر طاقتنا يف العمل لنعول أنفسنا‬
‫ولنعول من يف واليتنا ‪ ،‬فإذا ما زاد‬
‫شيء عىل ذلك وهبناه ‪١‬تن ال يقدر‬
‫عىل العمل ‪.‬‬
‫ولقائل أن يقول ‪ :‬إذا كان اهلل قد‬
‫أراد أن ٭تنن قلوب ا‪١‬تنفقُت عىل‬
‫العاجزين فلماذا لم ‪٬‬تعل‬
‫العاجزين قادرين عىل أن يعملوا‬
‫هم أيضا ً؟‬
‫نقول لصاحب هذا القول ‪ :‬إن ا‪ٟ‬تق‬
‫حُت ٮتلق ‪ . .‬ٮتلق كونا ًمتكامبل ً‬
‫منسجما ًدانت له األسباب ‪ ،‬فرٔتا‬
‫أطغاه أن األسباب ٗتضع له ‪ ،‬فقد‬
‫يظن أنه أصبح خالقا ًلكل شيء ‪،‬‬
‫فحُت تستجيب له األرض إن‬
‫حرث وزرع ‪ ،‬وحُت يستجيب‬
‫ا‪١‬تاء له إن أدىل دلوه ‪ ،‬وحُت‬
‫تستجيب له كل األسباب ‪ ،‬رٔتا‬
‫ظن نفسه أصيبل ًيف الكون ‪.‬‬

‫فيشاء اهلل أن ‪٬‬تعل القوة اليت تفعل‬


‫يف األسباب لتنتج ‪ ،‬يشاء سبحانه أن‬
‫‪٬‬تعلها عرضا ًمن أعراض هذا‬
‫الكون ‪ ،‬وال ‪٬‬تعلها الزمة من لوازم‬
‫اإلنسان ‪ ،‬فمرة ٕتده قادرا ً‪ ،‬ومرة‬
‫ٕتده عاجزا ً‪.‬‬
‫فلو أنه كان بذاتيته قادرا ً‪١‬تا ُو َج َد‬
‫عَاج ٌز ‪ .‬إذن فوجود العاجزين عن‬
‫ا‪ٟ‬تركة يف ا‪ٟ‬تياة لفت للناس عىل‬
‫أهنم ليسوا أصبلء يف الكون ‪ ،‬وأن‬
‫الذي وهبهم القدرة يستطيع أن‬
‫يسلبهم إياها ليعيدها إىل سواهم ‪،‬‬
‫فيصبح العاجز باألمس قادرا ًاليوم‬
‫‪ ،‬ويصبح القادر باألمس عاجزا ً‬
‫اليوم وبذلك يظل اإلنسان منتبها ً‬
‫إىل القوة الواهبة اليت استخلفته يف‬
‫األرض ‪.‬‬
‫ولذلك كان الفارق بُت ا‪١‬تؤمن‬
‫والكافر يف حركة ا‪ٟ‬تياة أهنما‬
‫‪٬‬تتمعان يف شيء ‪ ،‬ثم ينفرد ا‪١‬تؤمن‬
‫يف شيء ‪٬ ،‬تتمعان يف أن كل واحد‬
‫من ا‪١‬تؤمنُت ومن الكافرين يعمل‬
‫يف أسباب ا‪ٟ‬تياة لينتج ما يقوته‬
‫ويقوت من يعول ‪ ،‬ذلك قدر‬
‫مشًتك بُت ا‪١‬تؤمن والكافر ‪.‬‬
‫والكافر يقتصر عىل هذا السبب يف‬
‫العمل فيعمل لنفسه و‪١‬تن يعول ‪.‬‬
‫ولكن ا‪١‬تؤمن يشًتك معه يف ذلك‬
‫ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو ‪:‬‬
‫أن يفيض عنه شيء ٯتكن أن‬
‫يتوجه به إىل َت القادر عىل العمل ‪.‬‬
‫‪٤‬تتسبا ذلك عند اهلل ‪.‬‬
‫ولذلك قلنا سابقا ‪ :‬إن ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها‬
‫مرة مطلوبة أداء ‪ ،‬وتكلم عنها مرة‬
‫أخرى مطلوبة اية فقال ‪{ :‬‬
‫ون } ‪ .‬ولم‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫والذين هم لِل َّزكَا ِة فَاعِ‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫يقل للزكاة مؤدون ‪ ،‬فا‪١‬تؤمنون ال‬
‫يعلمون لقصد الزكاة إال إن عملوا‬
‫عمبل عىل قدر طاقاهتم ليقوهتم‬
‫وليقوت من يعو‪٢‬تم ‪ ،‬ثم يفيض‬
‫منهم شيء يؤدون عنه الزكاة ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يف أمر الزكاة ‪:‬‬
‫يموا ْالصبلة َوآ ُتوا ْالزكاة َو َما‬ ‫َِ‬
‫{ َوأق ُ‬
‫ُتقَ ِ ّدموا ْألَن ْ ُف ِس ُكم ِّم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت َ ِٕت ُد ُوه‬ ‫ُ‬
‫ون ب َ ِصَتٌ}‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عن َد اهلل إ َِّن اهلل ٔتَا تَعْ َمل ُ َ‬
‫ػ البقرة ‪] 110 :‬‬
‫إذن فحصيلة األمر أن الزكاة‬
‫مقصودة ‪٢‬تم حُت يقبلون عىل أي‬
‫عمل ‪ .‬لقد صارت الزكاة بذلك‬
‫األمر اإل‪٢‬تي مطلوبة اية ‪ ،‬فهي‬
‫أحد أركان اإلسبلم وبذلك يتميز‬
‫ا‪١‬تؤمن عىل الكافر ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حُت تعرض‬
‫لشح يف النفس البشرية‬ ‫‪١‬تنابع ا ُ‬
‫أوضح ‪ :‬أن أول شيء تتعرض له‬
‫النفس البشرية أن اإلنسان ٮتاف‬
‫من النفقة ألهنا تنقص ما عنده ‪،‬‬
‫وقد حذر رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم من الشح يف قوله ‪ « :‬اتقوا‬
‫الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬واتقوا الشح؛ فإن الشح‬
‫أهلك من كان قبلكم ‪ٛ‬تلهم عىل‬
‫أن سفكوا دماءهم واستحلوا‬
‫‪٤‬تارمهم » ‪ .‬هي كذلك ‪ ،‬ولكن‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه أوضح لكل مؤمن ‪:‬‬
‫أهنا تنقص ما عندك ‪ ،‬ولكنها‬
‫تزيدك ‪٦‬تا عند اهلل؛ فهي إن‬
‫أنقصت ‪ٙ‬ترة فعلك فقد أكملتك‬
‫بفعل اهلل لك ‪ .‬وحُت تكملك‬
‫بفعل اهلل لك ‪٬ ،‬تب أن تقارن بُت‬
‫قوة ‪٥‬تلوقة عاجزة وقوة خالقة قادرة‬
‫‪.‬‬
‫ويلفتنا سبحانه ‪ :‬أن ننظر جيدا ًإىل‬
‫بعض خلقه وهي األرض ‪ ،‬األرض‬
‫اليت نضع فيها البذرة الواحدة أي‬
‫ا‪ٟ‬تبة الواحدة فإهنا تعْ ِطي سبع‬
‫سنابل يف كل سنبلة مائة حبة ‪ ،‬فلو‬
‫نظر اإلنسان أول األمر إىل أن ما‬
‫يضعه يف األرض حُت ٭ترث‬
‫ويزرع يقلل من ‪٥‬تازنه ‪١‬تا زرع‬
‫و‪١‬تا غرس ‪ ،‬ولكنه عندما نظر ‪١‬تا‬
‫تعطيه األرض من سبعمائة ضعف‬
‫أقبل عىل البذر ‪ ،‬وأقبل عىل ا‪ٟ‬ترث‬
‫َت هياب؛ ألهنا ستعوضه أضعاف‬
‫أضعاف ما أعىط ‪.‬‬
‫وإذا كانت األرض وهي ‪٥‬تلوقة هلل‬
‫تعطي هذا العطاء ‪ ،‬فكيف يكون‬
‫عطاء خالق األرض؟ { َّمث َ ُل الذين‬
‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ‬ ‫ِ‬
‫ِيل اهلل‬ ‫يُنْف ُق َ‬
‫َك َمث َ ِل َحب َّ ٍة أَنبَت َ ْت َسب ْ َع َسنَابِ َل ِيف‬
‫كُ ّ ِل ُسنبُل َ ٍة ِّماْئَ ُة َحب َّ ٍة واهلل يُ َضا ِع ُف‬
‫يم } ػ‬ ‫ِ‪١‬تَن ي َ َشآء واهلل وا ِس ٌع عَلِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫البقرة ‪] 261 :‬‬
‫إذن فقد س ّد ا‪ٟ‬تق بهذا ا‪١‬تثل عىل‬
‫لشح ‪ .‬وشيء‬‫النفس البشرية منفذ ا ُ‬
‫آخر تتعرض له اْليات ‪ ،‬وهو أن‬
‫اإلنسان قد ُ٭ت ْ َرج يف ‪٣‬تتمعه من‬
‫سائل يسأله فهو يف حرصه عىل ماله‬
‫ال ٭تب أن ينفق ‪ ،‬و‪ٟ‬ترصه عىل‬
‫مكانته يف الناس ال ٭تب أن ٯتنع ‪،‬‬
‫فهو يعطي ولكن بتأفف ‪ ،‬ورٔتا‬
‫تعدى تأففه إىل هنر الذي سأله‬
‫وزجره ‪ ،‬فقال ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫ليسد ذلك ا‪١‬توقف ‪ { :‬قَ ْو ٌل‬
‫وف َو َمغ ْ ِف َرةٌ َخ َْتٌ ِّمن َص َدقَ ٍة‬
‫َّمعْ ُر ٌ‬
‫يَتْبعهَآ أَذًى واهلل َ ِ ِ‬
‫يم } ػ‬ ‫ٍتٌ َحل ٌ‬
‫ّ‬ ‫َُ‬
‫البقرة ‪] 263 :‬‬
‫وف َو َمغ ْ ِف َرةٌ‬
‫وقول اهلل ‪ { :‬قَ ْو ٌل َّمعْ ُر ٌ‬
‫} يدل عىل أن ا‪١‬تسئول قد أحفظه‬
‫سؤال السائل وأغضبه اإلحراج ‪،‬‬
‫ويطلب ا‪ٟ‬تق من مثل هذا اإلنسان‬
‫أن يغفر ‪١‬تن يسأله هذه الزلة إن‬
‫كان قد اعتْب سؤاله له ذنبا ً‪ { :‬قَ ْو ٌل‬
‫وف َو َمغ ْ ِف َرةٌ َخ َْتٌ ِّمن َص َدقَ ٍة‬
‫َّمعْ ُر ٌ‬
‫يَتْبعهَآ أَذًى واهلل َ ِ ِ‬
‫يم } ػ‬ ‫ٍتٌ َحل ٌ‬
‫ّ‬ ‫َُ‬
‫البقرة ‪] 263 :‬‬
‫وبعد ذلك يتعرض ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل إىل « ا‪١‬تن » الذي يفسد‬
‫العطاء؛ ألنه ‪٬‬تعل اْلخذ يف ذلة‬
‫وانكسار ‪ ،‬ويريد ا‪١‬تعطي أن يكون‬
‫يف عزة العطاء ويف استعبلء ا‪١‬تنفق ‪،‬‬
‫فهو يقول ‪ :‬إنك إن فعلت ذلك‬
‫ستتعدى الصدقة منك إىل الغَت‬
‫فيفيد ‪ ،‬ولكنك أنت ا‪٠‬تاسر؛ ألنك‬
‫لن تفيد بذلك شيئا ‪ ،‬وإن كان قد‬
‫استفاد السائل ‪ .‬إذن فحرصا عىل‬
‫نفسك ال تتبع الصدقة با‪١‬تن وال‬
‫باألذى ‪.‬‬
‫ثم يأيت ا‪ٟ‬تق ليعاًف منفذا من منافذ‬
‫الشح يف النفس البشرية هو ‪ :‬أن‬
‫اإلنسان قد ٭تب أن يعطي ‪ ،‬ولكنه‬
‫حُت ٘تتد يده إىل العطاء يعز عليه‬
‫إنفاق ا‪ٞ‬تيد من ماله ا‪ٟ‬تسن ‪،‬‬
‫فيستبقيه لنفسه ثم يعزل األشياء‬
‫اليت تزهد فيها نفسه ليقدمها‬
‫صدقة فينهانا سبحانه عن ذلك‬
‫فيقول ‪َ { :‬وال َتَي َ َّم ُموا ْا‪٠‬تبيث ِمن ْ ُه‬
‫ون َول َ ْس ُت ْم بِآ ِخ ِذي ِه إِال َّأَن‬ ‫ِ‬
‫ُتنْف ُق َ‬
‫ُتغ ْ ِم ُضوا ْفِي ِه } ػ البقرة ‪] 267 :‬‬
‫أي إن مثل هذا لو أُعىط لك ‪١‬تا قبلته‬
‫إال أن تغمض وتتسامح يف أخذه‬
‫وكأنك ال تبصر عيبه لتأخذه ‪ ،‬فما‬
‫لم تقبله لنفسك فبل يصح أن تقبله‬
‫لسواك ‪ .‬ثم بعد أن تكلم القرآن‬
‫لشح يف النفس‬‫عن منافذ ا ُ‬
‫اإلنسانية بُت لنا أن الذي ينتج‬
‫هذه ا‪١‬تنافذ ويغذيها إ‪٪‬تا هو‬
‫الشيطان ‪:‬‬
‫{ الشيطان يَعِ ُد ُك ُم الفقر‬
‫َويَأ ْ ُم ُر ُكم بالفحشآء واهلل يَعِ ُد ُكم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّمغْف َرة ً ّمن ْ ُه َوفَ ْضبل ًواهلل َواس ٌع عَل ٌ‬
‫يم‬
‫} ػ البقرة ‪] 268 :‬‬
‫فإن س ّويتم بُت عِ َد ِة الشيطان‬
‫ووعد اهلل لكم بالرضوان كان‬
‫ا‪٠‬تسران والضياع ‪ .‬فراجعوا‬
‫إٯتانكم ‪ ،‬وعليكم أن ٕتعلوا عدة‬
‫الشيطان مدحورة أمام وعد اهلل‬
‫لكم بالفضل وا‪١‬تغفرة ‪.‬‬
‫ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن‬
‫الصدقة وعن حال إنفاقها ظاهرة‬
‫أو باطنة وتكون النية عندك هي‬
‫ا‪١‬ترجحة لعمل عىل عمل ‪ ،‬فإذا‬
‫كنت إنسانا غنيا فارحم عرضك‬
‫من أن يتناوله الناس وتصدق‬
‫صدقة علنية فيما هو واجب عليك‬
‫لتحمي عرضك من مقو‪٢‬تم ‪ ،‬وأن‬
‫أردت أن تتصدق تطوعا فبل مانع‬
‫أن ُتسر بها حىت ال تعلم مشالك ما‬
‫أنفقت ٯتينك ‪ . .‬فعن ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما ‪ :‬صدقات السر‬
‫يف التطوع تفضل عبلنيتها سبعُت‬
‫ضعفا ‪ ،‬وصدقة الفريضة عبلنيتها‬
‫أفضل من سرها ٓتمسة وعشرين‬
‫ضعفا ‪.‬‬
‫وكأن اهلل فتح أمام النفس البشرية‬
‫كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح ‪.‬‬
‫انظروا بعد ذلك إىل ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫حينما ٭تمي ضعاف ا‪١‬تؤمنُت‬
‫ليجعلهم يف ‪ٛ‬تاية أقوياء ا‪١‬تؤمنُت ‪.‬‬
‫اعلم أيها العبد ا‪١‬تؤمن أنك حُت‬
‫تتلىق حكم اهلل ال تتلقاه عىل أنه‬
‫مطلوب منك دائما ‪ ،‬ولكن عليك‬
‫أن تتلىق ا‪ٟ‬تكم عىل أنه قد يَصَت‬
‫بتصرفات األغيار مطلوبا لك ‪،‬‬
‫فإن كنت غنيا فبل تعتقد أن اهلل‬
‫يطالبك دائما ‪ ،‬ولكن قَ ّد ْر أنك إن‬
‫أصبحت بعرض األغيار يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫فقَتا ًسيكون اٌفكم مطلوبا ًلك ‪.‬‬
‫فقدر حال كونه مطلوبا ًمنك اْلن؛‬
‫ألنك ٍت أنّه سيطلُب لك إن‬
‫حصلت لك أغيار ‪ ،‬فصرت بها‬
‫فقَتا ً‪.‬‬
‫إذن فالتشريع لك وعليك ‪ ،‬فبل‬
‫تعتْبه عليك دائما ألنك إن‬
‫اعتْبته عليك دائما عزلت‬
‫نفسك عن أغيار ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وأغيار‬
‫ا‪ٟ‬تياة قائمة ال ٯتكن أن يْبأ منها‬
‫أحد أبدا لذلك أمر سبحانه ا‪١‬تؤم َن‬
‫أن يكفل أخاه ا‪١‬تؤمن ‪.‬‬
‫انظروا إىل طموحات اإلٯتان يف‬
‫النفس اإلنسانية ‪ ،‬حىت الذين ال‬
‫يشًتكون معك يف اإلٯتان ‪ .‬إن‬
‫ُطلب منك أن تعطي الصدقة‬
‫ا‪١‬تفروضة الواجبة ألخيك ا‪١‬تؤمن‬
‫فقد طلب منك أيضا أن تتطوع‬
‫بالعطاء ‪١‬تن ليس مؤمنا ‪ .‬وتلك‬
‫ميزة يف اإلسبلم ال توجد أبدا يف‬
‫َته من األديان ‪ ،‬إنه ٭تمي حىت‬
‫َت ا‪١‬تؤمن ‪ .‬ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ك ُه َد ُاه ْم ولكن اهلل‬‫لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ِ‬
‫آء ‪} . . .‬‬‫يَهْدي َمن ي َ َش ُ‬
‫ك ُه َد ُاه ْم َول َ ِك َّن َّ‬
‫اّللَ‬ ‫لَي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫يَهْ ِدي َم ْن ي َ َش ُاء َو َما ُتن ْ ِف ُقوا ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت‬
‫ِ‬ ‫فَ ِؤلَن ْ ُ ِس‬
‫ون إ َِّال ابْتِغَاءَ‬
‫ف ُك ْم َو َما ُتنْف ُق َ‬
‫اّلل َو َما ُتن ْ ِف ُقوا ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت يُ َو َّف‬ ‫و ْج ِه َ ِ‬
‫َ ّ‬
‫َ‬
‫ون (‪)272‬‬ ‫إِلَي ْ ُك ْم َوأن ْ ُت ْم َال ُت ْظل َ ُم َ‬
‫ما أصل هذه ا‪١‬تسألة؟‬
‫أصل هذه ا‪١‬تسألة أن بعض‬
‫السابقُت إىل اإلسبلم كانت ‪٢‬تم‬
‫قرابات لم تسلم ‪ .‬وكان هؤالء‬
‫األقرباء من ق‬
‫الفراء وكان‬
‫ا‪١‬تسلمون ٭تبون أن يعطوا هؤالء‬
‫األقارب الفقراء شيئا من ما‪٢‬تم ‪،‬‬
‫ولكنهم ٖترجوا أن يفعلوا ذلك‬
‫فسألوا رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يف هذا األمر ‪.‬‬
‫وهاهي ذي أ‪ٝ‬تاء بنت أيب بكر‬
‫الصديق وأمها « ُقتَيْل َ َة » كانت‬
‫مازالت كافرة ‪ .‬وتسأل أ‪ٝ‬تاء‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم أن‬
‫تعطي من ما‪٢‬تا شيئا ألمها حىت‬
‫تعيش وتقتات ‪ .‬ويزنل ا‪ٟ‬تق‬
‫ك‬ ‫سبحانه قوله ‪ { :‬لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ِ‬
‫ُه َد ُاه ْم ولكن اهلل يَهْدي َمن ي َ َش ُ‬
‫آء‬
‫} ‪ « ،‬وعن أ‪ٝ‬تاء بنت أيب بكر‬
‫رضي اهلل عنهما قالت ‪ :‬قدمت‬
‫عىل أمي وهي مشركة يف عهد رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم فاستفتيت‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫قدمت عل ّي أمي وهي راغبة‬
‫قلت ‪ْ :‬‬
‫‪ .‬أفأصل أ ّمي؟ قال ‪ » :‬نعم صلي‬
‫ك « ‪ .‬ولقد أراد بعض من‬ ‫ّأم ِ‬
‫ا‪١‬تؤمنُت أن يضيقوا عىل أقاربهم‬
‫‪٦‬تن لم يؤمنوا حىت يؤمنوا ‪ ،‬لكن‬
‫الر‪ٛ‬تن الرحيم يزنل القول‬
‫ك ُه َد ُاه ْم‬‫الكريم ‪ { :‬لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ِ‬
‫آء } ‪.‬‬ ‫ولكن اهلل َ ْيهدي َمن ي َ َش ُ‬
‫إنه الدين ا‪١‬تتسامي ‪ .‬دين يريد أن‬
‫نعول ا‪١‬تخلوق يف األرض من عطاء‬
‫الربوبية وإن كان ال يلتقي معنا يف‬
‫عطاء األلوهية؛ ألن عطاء األلوهية‬
‫تكليف ‪ ،‬وعطاء الربوبية رزق‬
‫وتربية ‪.‬‬
‫والرزق والًتبية مطلوبات لكل من‬
‫كان عىل األرض؛ ألننا نعلم أن‬
‫أحدا ًيف الوجود لم يستدع نفسه يف‬
‫الوجود ‪ ،‬وإ‪٪‬تا استدعاه خالقه ‪ ،‬وما‬
‫دام ا‪٠‬تالق األكرم هو الذي استدىع‬
‫العبد مؤمنا ًأو كافرا ً‪ ،‬فهو ا‪١‬تتكفل‬
‫برزقه ‪ .‬والرزق شيء ‪ ،‬ومنطقة‬
‫اإلٯتان باهلل شيء آخر ‪ ،‬فيقول‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ك ُه َد ُاه ْم ولكن‬
‫ِ‬
‫اهلل يَهْدي َمن ي َ َش ُ‬
‫آء } ‪.‬‬
‫أو أن اْلية حينما نزلت يف ّ‬
‫ا‪ٟ‬تث‬
‫عىل النفقة رٔتا أن بعض الناس‬
‫تكاسل ‪ ،‬ورٔتا كان بعض ا‪١‬تؤمنُت‬
‫يعمدون إىل الرديء من أموا‪٢‬تم‬
‫فينفقونه ‪.‬‬
‫وإذا كان اإلسبلم قد جاء ليواجه‬
‫النفس البشرية بكل أغيارها وبكل‬
‫خواطرها ‪ ،‬فليس بعجيب أن‬
‫يعا‪ٞ‬تهم من ذلك ويردهم إىل‬
‫الصواب إن خطرت ‪٢‬تم خاطرة‬
‫تسيء إىل السلوك اإلٯتاين ‪.‬‬
‫وكان رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ٭تب حُت يزنل أي أمر أن‬
‫يلتفت ا‪١‬تسلمون إليه لفتة اإلقبال‬
‫ْترارة عليه ‪ ،‬فإذا رأى هتاونا ًيف‬
‫شيء من ذلك حزن ‪ ،‬فيوضح له اهلل‬
‫‪ :‬عليك أن تبلغهم أمر اهلل يف‬
‫النفقة ‪ ،‬وما عليك بعد ذلك أن‬
‫يطيعوا ‪ { .‬لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ك ُه َد ُاه ْم‬
‫ِ‬
‫آء } ‪.‬‬‫ولكن اهلل يَهْدي َمن ي َ َش ُ‬
‫ولقائل أن يقول ‪ :‬ما دام اهلل هو‬
‫الذي يهدي فيجب أن نًتك‬
‫الناس عىل ما هم عليه من إٯتان أو‬
‫كفر ‪ ،‬وما علينا إال الببلغ ‪ ،‬ونقول‬
‫ألصحاب هذا الرأي ‪ :‬تنبهوا إىل‬
‫معطيات القرآن فيما يتعلق بقضية‬
‫واحدة ‪ ،‬هذه القضية اليت ‪٨‬تن‬
‫بصددها هي ا‪٢‬تداية ‪ ،‬ولنستقرئ‬
‫اْليات ‪ٚ‬تيعا ‪ ،‬فسنجد أن الذين‬
‫يرون أن ا‪٢‬تداية من اهلل ‪ ،‬وأنه ما‬
‫كان يصح له أن يعذب عاصيا ً‪٢ ،‬تم‬
‫وجهة نظر ‪ ،‬والذين يقولون ‪ :‬إن‬
‫له سبحانه أن يعذبهم؛ ألنه ترك‬
‫‪٢‬تم ا‪٠‬تيار ‪٢‬تم وجهة نظر ‪ ،‬فما‬
‫وجهة النظر المختلفة حىت يصَت‬
‫األمر عىل قدر سواء من الفهم؟‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حينما‬
‫يتكلم يف قرآنه الكبلم ا‪١‬ت َ‬
‫وىح ‪ ،‬فهو‬
‫يطلب منا أن نتدبره ‪ ،‬ومعٌت أن‬
‫نتدبره أال ننظر إىل واجهة النص‬
‫ولكن ‪٬‬تب أن ننظر إىل خلفية‬
‫النص ‪.‬‬
‫ون } يعٍت ال تنظر إىل‬ ‫َ‬
‫{ أفَبل َيَت َ َدبّ َُر َ‬
‫الوجه ‪ ،‬ولكن انظر ما يواجه الوجه‬
‫َ‬
‫وهو ا‪٠‬تلف ‪ { .‬أفَبل َيَت َ َدبّ َُر َ‬
‫ون‬
‫القرآن } ػ النساء ‪] 82 :‬‬
‫فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قد قال ‪{ :‬‬
‫َ‬
‫ود فَهَ َديْن َ ُاه ْم فاستحبوا‬ ‫َوأ َّما ‪ٙ‬تَ ُ ُ‬
‫الع ىم عَىلَ ا‪٢‬تدى } ػ فصلت ‪17 :‬‬
‫]‬
‫كيف يكون اهلل قد هداهم ‪ ،‬ثم‬
‫بعد ذلك يستحبون الع ىم عىل‬
‫ا‪٢‬تدى؟ إذن معٌت « هدام » أي‬
‫د‪٢‬تم عىل ا‪٠‬تَت ‪ .‬وحُت د َّ‪٢‬تم عىل‬
‫ا‪٠‬تَت فقد ترك فيهم قوة الًتجيح‬
‫بُت البدائل ‪ ،‬فلهم أن ٮتتاروا هذا‬
‫‪ ،‬و‪٢‬تم أن ٮتتاروا هذا ‪ ،‬فلما‬
‫هداهم اهلل ود َّ‪٢‬تم استحبوا الع َىم‬
‫عىل ا‪٢‬تدى ‪ .‬واهلل يقول لرسوله يف‬
‫نصُت آخرين يف القرآن الكريم ‪:‬‬
‫{ إِن ّ ََك ال َهتَ ْ ِدي َم ْن أ َ ْحبَب ْ َت } ػ‬
‫القصص ‪] 56 :‬‬
‫فنىف عنه أنه يهدي ‪ .‬وأثبت له ا‪ٟ‬تق‬
‫ا‪٢‬تداية يف آية أخرى يقول فيها ‪{ :‬‬
‫وإِن ّ ََك لتهدي إىل ِص َر ٍ‬
‫اط ُّم ْستَقِ ٍ‬
‫يم‬ ‫َ‬
‫} ػ الشورى ‪] 52 :‬‬
‫فكيف يثبت اهلل فعبل ًواحدا ًلفاعل‬
‫واحد ثم ينفي الفعل ذاته عن‬
‫الفاعل ذاته؟ نقول ‪٢‬تم ‪ :‬رسول‬
‫اهلل صىل اهلل عليه وسلم أن يدل‬
‫الناس عىل منهج اهلل ولكن ليس‬
‫عليه أن ٭تملهم عىل منهج اهلل؛ ألن‬
‫ذلك ليس من عمله هو ‪ ،‬فإذا قال‬
‫اهلل ‪ { :‬إِن ّ ََك لتهدي } أي ال ٖتمل‬
‫بالقصر والقهر من أحببت ‪ ،‬وإ‪٪‬تا‬
‫أنت « هتدي » أي تدل فقط ‪،‬‬
‫وعليك الببلغ وعلينا ا‪ٟ‬تساب ‪.‬‬
‫ك‬‫إذن فقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ِ‬
‫ُه َد ُاه ْم ولكن اهلل يَهْدي َمن ي َ َش ُ‬
‫آء‬
‫} ليس فيه حجة عىل القسرية‬
‫اإلٯتانية اليت يريد بعض‬
‫ا‪١‬تتحللُت أن يدخلوا منها إىل منفذ‬
‫التحلل النفسي عن منهج اهلل‬
‫ونقول ‪٢‬تؤالء ‪ :‬فيه فرق بُت هداية‬
‫الداللة وهداية ا‪١‬تعونة ‪ ،‬فاهلل‬
‫الممن ويهدي الكافر أي‬ ‫يهدي ؤ‬
‫يد‪٢‬تم ‪ ،‬ولكن من آمن به يهديه‬
‫هداية ا‪١‬تعونة ‪ ،‬ويهديه هداية‬
‫التوفيق ‪ ،‬ويهديه هداية ٗتفيف‬
‫أعمال الطاعة عليه ‪.‬‬
‫{ لَّي ْ َس عَلَي ْ َ‬
‫ك ُه َد ُاه ْم ولكن اهلل‬
‫آء َو َما ُتن ْ ِف ُقوا ْ ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت‬ ‫ِ‬
‫يَهْدي َمن ي َ َش ُ‬
‫فَؤلَن ْ ُف ِس ُكم } تلك قضية تعاًف‬
‫معط من ا‪٠‬تلق‬ ‫لشح منطقيا ً‪ ،‬وكل ٍ‬ ‫ا ُ‬
‫عطاؤه عائد إليه هو ‪ ،‬وال يوجد‬
‫معط عطاؤه ال يعود عليه إال اهلل ‪ ،‬هو‬ ‫ٍ‬
‫وحده الذي ال يعود عطاؤه ‪٠‬تلقه‬
‫عليه ‪ ،‬ألنه سبحانه أزال وقدٯتا‬
‫وقبل أن ٮتلق ا‪٠‬تلق له كل صفات‬
‫الكمال ‪ ،‬فعطاء اإلنسان يعود إىل‬
‫اإلنسان وعطاء ربنا يعود إلينا ‪.‬‬
‫ولذلك قال بعض السلف الذين‬
‫‪٢‬تم ‪١‬تحة إٯتانية ‪ :‬ما فعلت ألحد‬
‫خَتا ًقط؟ فقيل له ‪ :‬أتقول ذلك‬
‫وقد فعلت لفبلن كذا ولفبلن كذا‬
‫ولفبلن كذا؟ فقال ‪ :‬إ‪٪‬تا فعلته‬
‫لنفسي ‪.‬‬

‫فكأنه نظر حينما فعل للغَت أنه‬


‫فعل لنفسه ‪ .‬ولقد قلنا سابقا ‪ :‬إن‬
‫العارف باهلل « ا‪ٟ‬تسن البصري »‬
‫كان إذا دخل عليه من يسأله ه ّش‬
‫يف وجهه وب ّش وقال له ‪ :‬مرحبا ًٔتن‬
‫جاء ٭تمل زادي إىل اْلخرة بغَت‬
‫أجرة ‪.‬‬
‫إذن فقد نظر إىل أنه يعطيه وإن كان‬
‫يأخذ منه ‪ .‬فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫يعاًف يف هذه القضية { َو َما ُتن ْ ِف ُقوا ْ‬
‫ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت فَؤلَن ْ ُف ِس ُك ْم } أي إياكم‬
‫أن تظنوا أنٍت أطلب منكم أن‬
‫تعطوا َتكم ‪ ،‬لقد طلبت منكم‬
‫أن تنفقوا ألزيدكم أنا يف النفقة‬
‫والعطاء ‪ ،‬ثم يقول ‪َ { :‬و َما ُتن ْ ِف ُقوا ْ‬
‫ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت يُ َو َّف إِلَي ْ ُك ْم } ومعٌت‬
‫التوفية ‪ :‬األداء الكامل ‪ .‬وال تظنوا‬
‫أنكم تنفقون عىل من ينكر‬
‫معروفكم؛ ألن ما أنفقتم من خَت‬
‫فاهلل به عليم ‪ .‬إذن فاجعل نفقتك‬
‫عند من ‪٬‬تحد ‪ ،‬وال ٕتعل نفقتك‬
‫عند من ٭تمد ‪ ،‬ألنك بذلك قد‬
‫أخذت جزاءك ‪٦‬تن ٭تمدك وليس‬
‫لدى اهلل جزاء لك ‪.‬‬
‫كنت أقول دائما للذين يشكون‬
‫من الناس نكران ا‪ٞ‬تميل ونسيان‬
‫ا‪١‬تعروف ‪ :‬أنتم ا‪١‬تستحقون‬
‫لذلك؛ ألنكم جعلتموهم يف‬
‫بالكم ساعة أنفقتم عليهم ‪ ،‬ولو‬
‫جعلتم اهلل يف بالكم ‪١‬تا حدث ذلك‬
‫منهم أبدا ً‪َ { .‬و َما ُتن ْ ِف ُقوا ْ ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت‬
‫ِ‬
‫ون إِال َّابتغآء‬‫فَؤلَن ْ ُف ِس ُك ْم َو َما ُتنْف ُق َ‬
‫َو ْج ِه اهلل } أهذه اْلية تزكية‬
‫لعمل ا‪١‬تؤمنُت ‪ ،‬أم خْب أريد به‬
‫األمر؟ إهنا االثنان معا ‪ ،‬فهي تعٍت‬
‫أنفقوا ابتغاء وجه اهلل ‪َ { .‬و َما‬
‫ُتن ْ ِف ُقوا ْ ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت يُ َو َّف إِلَي ْ ُك ْم َوأَن ْ ُت ْم ال َ‬
‫ون } أنتم ال تظلمون من‬ ‫ُت ْظل َ ُم َ‬
‫ا‪٠‬تلق ‪ ،‬وال تظلمون من ا‪٠‬تالق ‪ ،‬أما‬
‫من ا‪٠‬تلق فقد استْبأتم دينكم‬
‫وعرضكم حُت أديتم بعض حقوق‬
‫اهلل يف أموالكم ‪ ،‬فلن يعتدي أحد‬
‫عليكم ليقول ما يقول ‪ ،‬وأما عند‬
‫اهلل فهو سبحانه يويف ا‪٠‬تَت أضعاف‬
‫أضعاف ما أنفقتم فيه ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يتكلم ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل عن مصرف من مصارف‬
‫النفقة كان يف صدر اإلسبلم ‪{ :‬‬
‫لِل ْ ُفقَرآءِ الذين أُ ِ‬
‫حص ُروا ْ ِيف َسب ِ‬
‫ِيل‬ ‫َ‬
‫ون َض ْربا ً ِيف األرض‬ ‫يع‬ ‫اهلل ال َيَست َ ِ‬
‫ط‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫}‬
‫لِل ْ ُفقَ َراءِ ال َّ ِذي َن أُ ْح ِص ُروا ِيف َسب ِ‬
‫ِيل‬
‫اّلل َال يست َ ِ‬
‫ون َض ْربًا ِيف ْاأل َ ْر ِض‬ ‫َ‬ ‫يع‬
‫ُ‬ ‫ط‬ ‫َّ ِ َ ْ‬
‫َ٭تْسب ُهم ا‪ٞ‬تَْا ِه ُل أ َ ْغ ِنياءَ ِم َن التَّعَ ّف ِ‬
‫ُف‬ ‫َ‬ ‫َُ ُ‬
‫ون‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫تَعْ ِر ُفهم بِ ِسيماهم َال يسأ َ‬
‫ُ ْ َ ُ ْ َْ َ‬
‫اس إِ ْ‪ٟ‬تَافًا َو َما ُتن ْ ِف ُقوا ِم ْن َخ ْ ٍ‬
‫َت فَإ َِّن‬ ‫النَّ َ‬
‫َ ِ ِ‬
‫يم (‪)273‬‬ ‫اّللَ بِه عَل ٌ‬‫ّ‬
‫ساعة أن نسمع « جارا ًو‪٣‬ترورا ً»‬
‫قد استهلت به آية كرٯتة فنعلم أن‬
‫هناك متعلقا ً‪ .‬ما هو الذي للفقراء؟‬
‫هو هنا النفقة ‪ ،‬أي أن النفقة‬
‫للفقراء الذين أحصروا يف سبيل‬
‫اهلل ‪ .‬وإذا سألنا ‪ :‬ما معٌت « أحصروا‬
‫» فإننا ‪٧‬تد أن هناك « َحصر »‬
‫وهناك « أحصر » وكبلمهما فيه‬
‫ا‪١‬تنع ‪ ،‬إال أن ا‪١‬تنع مرة يأيت ٔتا ال‬
‫تقدر أنت عىل دفعه ‪ ،‬ومرة يأيت ٔتا‬
‫تقدر عىل دفعه ‪.‬‬
‫فالذي مرض مثبل ًو ُح ِص َر عىل‬
‫الضرب يف األرض ‪ ،‬أكانت له قدرة‬
‫أن يفعل ذلك؟ ال ‪ ،‬ولكن الذي أراد‬
‫أن يضرب يف األرض فمنعه إنسان‬
‫مثله فإنه يكون ‪٦‬تنوعا ً‪ ،‬إذن فيئول‬
‫األمر من األمرين إىل ا‪١‬تنع ‪ ،‬فقد‬
‫يكون ا‪١‬تنع من النفس ذاهتا أو منع‬
‫من وجود فعل الغَت ‪ ،‬فهم أحصروا‬
‫يف سبيل اهلل ‪ُ .‬ح ِص ُروا ألن‬
‫الكافرين يضيقون عليهم منافذ‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬أو َح َص ُروا أنفسهم عىل‬
‫ا‪ٞ‬تهاد ‪ ،‬ولم ٭تبوا أن يشتغلوا‬
‫بغَته؛ ألن اإلسبلم كان ال يزال يف‬
‫حاجة إىل قوم ‪٬‬تاهدون ‪ .‬وهؤالء‬
‫الصفة { لِل ْ ُفقَ َرآءِ الذين‬
‫هم أهل ُّ‬
‫ون‬ ‫يع‬ ‫ِيل اهلل ال َيَست َ ِ‬
‫ط‬ ‫أُ ِ‬
‫حص ُروا ْ ِيف َسب ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َض ْربا ً ِيف األرض } وعدم‬
‫استطاعتهم ناشئ من أمر خارج‬
‫عن إرادهتم أو من أمر كان يف‬
‫نيتهم وهو أن يرابطوا يف سبيل اهلل‬
‫‪ ،‬هذا من ا‪ٞ‬تائز وذاك من ا‪ٞ‬تائز ‪.‬‬
‫وكان األنصار يأتون بالتمر‬
‫ويًتكونه يف سبائطه ‪ ،‬ويعلقونه يف‬
‫حبال مشدودة إىل صواري ا‪١‬تسجد‬
‫‪ ،‬وكلما جاع واحد من أهل الصفة‬
‫أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر ‪،‬‬
‫فيزنل بعض التمر فيأكل ‪ ،‬وكان‬
‫البعض يأيت إىل الرديء من التمر‬
‫والشيص ويضعه ‪ ،‬وهذا هو ما قال‬
‫اهلل فيه ‪َ { :‬وال َتَي َ َّم ُموا ْا‪٠‬تبيث ِمن ْ ُه‬
‫ون َول َ ْس ُت ْم بِآ ِخ ِذي ِه إِال َّأَن‬ ‫ِ‬
‫ُتنْف ُق َ‬
‫ُتغ ْ ِم ُضوا ْفِي ِه } ‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إىل قول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ال َ‬
‫ون َض ْربا ً ِيف األرض } و «‬ ‫ِ‬
‫ي َ ْستَط ُيع َ‬
‫الضرب » هو فعل ِمن جارحة‬
‫بشدة عىل متأثر بهذا الضرب ‪ ،‬وما‬
‫هو الضرب يف األرض؟ إن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل يريد أن يبُت لنا أن‬
‫الكفاح يف ا‪ٟ‬تياة ‪٬‬تب أن يكون يف‬
‫منتىه القوة ‪ ،‬وإنك حُت تذهب يف‬
‫األرض فعليك أن تضربها حرثا ً‪،‬‬
‫وتضربها بذرا ً‪ ،‬ال تأخذ األمر‬
‫بهوادة ولُت ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ُه َو الذي َجعَ َل ل َ ُك ُم األرض ذَلُوال ً‬
‫فامشوا ِيف َمنَا ِكبِهَا َوكُلُوا ْ ِمن ِّرزْقِ ِه‬
‫َوإِلَي ْ ِه النشور } ػ ا‪١‬تلك ‪] 15 :‬‬
‫إن األرض مسخرة من ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه لئلنسان ‪ ،‬يسىع فيها ‪،‬‬
‫ويضرب فيها ويأكل من رزق اهلل‬
‫الناتج منها ‪.‬‬
‫وحُت يقول اهلل سبحانه يف وصف‬
‫الذين أحصروا يف سبيل اهلل فبل‬
‫يستطيعون الضرب يف األرض {‬
‫َ٭ت ْ َسب ُ ُه ُم ا‪ٞ‬تاهل أ َ ْغ ِنيَآءَ ِم َن التعفف‬
‫} أي يظنهم ا‪ٞ‬تاهل بأحوا‪٢‬تم‬
‫أهنم أغنياء ‪ ،‬وسبب هذا الظن هو‬
‫تركهم للمسألة ‪ ،‬وإذا كان التعفف‬
‫هو ترك ا‪١‬تسألة فاهلل يقول بعدها ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫{ تَعْ ِر ُف ُهم بِس َ‬
‫يم ُاه ْم ال َي َ ْسأل ُ َ‬
‫ون‬
‫الناس إِ ْ‪ٟ‬تَافا ً} والسمة هي العبلمة‬
‫ا‪١‬تميزة اليت تدل عىل حال صاحبها‬
‫‪ ،‬فكأنك ستجد فيهم خشوعا ً‬
‫وانكسارا ًورثاثة هيئة وإن لم‬
‫يسألوا أو يطلبوا ‪ ،‬ولكنك تعرفهم‬
‫من حالتهم اليت تستحق اإلنفاق‬
‫عليهم ‪ ،‬وإذا كان التعفف هو ترك‬
‫ا‪١‬تسألة فاهلل يقول بعدها ‪ { :‬ال َ‬
‫ون الناس إِ ْ‪ٟ‬تَافا ً} فكأنه أباح‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫يسأ َ‬
‫َْ َ‬
‫‪٣‬ترد السؤال ولكنه هنى عن اإل‪ٟ‬تا ٍح‬
‫واإل‪ٟ‬تاف فيه ‪ ،‬ولو أهنم سألوا ‪٣‬ترد‬
‫سؤال ببل إ‪ٟ‬تاف وال إ‪ٟ‬تاح أ َ َما كان‬
‫هذا دليبل ًعىل أهنم ليسوا أغنياء؟‬
‫نعم ‪ ،‬لكنه قال ‪َ { :‬٭ت ْ َسب ُ ُه ُم‬
‫ا‪ٞ‬تاهل أ َ ْغ ِنيَآءَ ِم َن التعفف } إذن‬
‫فليس هناك سؤال ‪ ،‬ال سؤال عىل‬
‫إطبلقه ‪ ،‬ومن باب أوىل ال إ‪ٟ‬تاف يف‬
‫السؤال؛ بدليل أن ا‪ٟ‬تق يقول ‪{ :‬‬
‫ِ‬
‫تَعْ ِر ُف ُهم بِس َ‬
‫يم ُاه ْم } ‪ ،‬ولو أهنم‬
‫سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤا‪٢‬تم ‪،‬‬
‫إذن فاْلية تدلنا عىل أن ا‪١‬تنفي هو‬
‫مطلق السؤال ‪ ،‬وأما كلمة «‬
‫اإل‪ٟ‬تاف » فجاءت ‪١‬تعٌت من ا‪١‬تعاين‬
‫اليت يقصد إليها أسلوب اإلعجازي‬
‫‪ ،‬ما هو؟‬
‫إن « السيما » كما قلنا هي العبلمة‬
‫ا‪١‬تميزة اليت تدل عىل حال صاحبها‬
‫‪ ،‬فكأنك ستجد خشوعا ًوانكسارا ً‬
‫ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي‬
‫أنت تعرفهم من حالتهم البائسة ‪،‬‬
‫فإذا ما سأل السائل بعد ذلك اعتْب‬
‫سؤاله إ‪ٟ‬تاحا ً؛ ألن حاله تدل عىل‬
‫ا‪ٟ‬تاجة ‪ ،‬ومادامت حالته تدل عىل‬
‫ا‪ٟ‬تاجة فكان ‪٬‬تب أن ‪٬‬تد من يكفيه‬
‫السؤال ‪ ،‬فإذا ما سأل ‪٣‬ترد سؤاله‬
‫فكأنه أ‪ٟ‬تف يف ا‪١‬تسألة وأٌف عليها ‪.‬‬

‫وأيضا يريد اٌفق من ا‪١‬تؤمن أن‬


‫تكون له فراسة نافذة يف أخيه ْتيث‬
‫يتبُت أحواله بالنظرة إليه وال يدعه‬
‫يسأل ‪ ،‬ألنك لو عرفت ب «‬
‫السيما » فأنت ذكي ‪ ،‬أنت فطن ‪،‬‬
‫أنا لو لم تعرف ب « السيما »‬
‫وتنتظر إىل أن يقول لك ويسألك ‪،‬‬
‫إذن فعندك تقصَت يف فطنة النظر ‪،‬‬
‫فهو سبحانه وتعاىل يريد من ا‪١‬تؤمن‬
‫أن يكون فطن النظر ْتيث‬
‫يستطيع أن يتفرس يف وجه إخوانه‬
‫ا‪١‬تؤمنُت لَتى من عليه هم ا‪ٟ‬تاجة‬
‫ومن عنده خواطر العوز ‪ ،‬فإذا ما‬
‫عرف ذلك يكون عنده فطانة‬
‫إٯتانية ‪.‬‬
‫ولنا العْبة يف تلك الواقعة ‪ ،‬فقد دق‬
‫أحدهم الباب عىل أحد العارفُت‬
‫فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء ‪،‬‬
‫فأعطاه الطارق ثم عاد باكيا ًفقالت‬
‫له امرأته ‪ :‬ما يبكيك؟ ‪ .‬قال ‪ :‬إن‬
‫فبلنا ًطرق بايب ‪ .‬قالت ‪ :‬وقد‬
‫أعطيته فما الذي أبكاك؟ ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ألين تركته إىل أن يسألٍت ‪.‬‬
‫إن العارف باهلل بىك؛ ألنه أحس‬
‫ٔتسئولية ما كان ‪٬‬تب عليه أن‬
‫يعرفه بفراسته ‪ ،‬وأن يتعرف عىل‬
‫أخبار إخوانه ‪ .‬ولذلك شرع اهلل‬
‫اجتماعات ا‪ٞ‬تمعة حىت يتفقد‬
‫اإلنسان كل أخ من إخوانه ‪ ،‬ما‬
‫الذي أقعده ‪ :‬أحاجة أم مرض؟‬
‫أحدث أم مصيبة؟ وحىت ال ٭توجه‬
‫إىل أن يذل ويسأل ‪ ،‬وحُت يفعل‬
‫ذلك يكون له فطنة اإلٯتان ‪َ { .‬و َما‬
‫يم }‬ ‫َت فَإ َِن اهلل بِ ِه عَلِ‬
‫ٍ‬ ‫خ‬ ‫ن‬ ‫ُتن ِف ُقوا ْ ِ‬
‫م‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪٬‬تب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد‬
‫علم اهلل أنك ستعطي ‪ ،‬فاألمر‬
‫‪٤‬تسوب عنده ٔتيزان ‪ ،‬و‪٬‬تيء‬
‫تصرف خلقه عىل وفق قدره ‪ ،‬وما‬
‫قدره قدٯتا يلزم حاليا ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه قد قدر؛ ألنه علم أن عبده‬
‫سيفعل وقد فعل ‪ .‬وكل فعل من‬
‫األفعال له زمن ٭تدث فيه ‪ ،‬وله‬
‫هيئة ٭تدث عليها ‪ .‬والزمن ليل أو‬
‫هنار ‪.‬‬
‫ثم يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل مبينا‬
‫حاالت اإلنفاق واألزمان اليت‬
‫٭تدث فيها وذلك يف قوله تعاىل ‪{ :‬‬
‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم باليل‬‫ق‬‫ُ‬ ‫الذين يُن ْ ِ‬
‫ف‬
‫َ‬
‫والنهار ِس ّرا ً َوعَبلَنِيَةً‪} . . .‬‬

‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم بِاللَّي ْ ِل‬ ‫ِ‬


‫ال َّ ِذي َن يُنْف ُق َ‬
‫َوالنَّهَا ِر ِس ًّرا َوع َ َبلنِيَةً فَل َ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم‬
‫ِعن ْ َد َر ِبّ ِه ْم َو َال َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم َو َال ُه ْم‬
‫ون (‪)274‬‬ ‫َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫إن ا‪١‬تسألة يف اإلنفاق تقتضي‬
‫أمرين ‪ :‬إما أن تنفق سرا ً‪ ،‬وإما أن‬
‫تنفق عبلنية ‪ .‬والزمن هو الليل‬
‫والنهار ‪ ،‬فحصر اهلل الزمان وا‪ٟ‬تال‬
‫يف أمرين ‪ :‬الليل والنهار فإياك أن‬
‫ٖتجز عطيّةً تريد أن تعطيها وتقول‬
‫‪ « :‬بالنهار أفعل أو يف الليل أفعل؛‬
‫ألنه أفضل » وتتعلل ٔتا يعطيك‬
‫الفسحة يف تأخَت العطاء ‪ ،‬إن ا‪ٟ‬تق‬
‫يريد أن تتعدى النفقة منك إىل‬
‫الفقَت ليبل ًأو هنارا ً‪ ،‬ومسألة الليلية‬
‫والنهارية يف الزمن ‪ ،‬ومسألة‬
‫السرية والعلنية يف الكيفية ال‬
‫مدخل ‪٢‬تا يف إخبلص النية يف‬
‫العطاء ‪.‬‬
‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم باليل‬ ‫ِ‬
‫{ الذين يُنْف ُق َ‬
‫والنهار ِس ّرا ً َوعَبلَنِيَةً فَل َ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم‬
‫ِعن َد َر ِبّ ِه ْم } أقالت اْلية ‪ :‬الذين‬
‫ينفقون أموا‪٢‬تم بالليل أو النهار؟‬
‫ال ‪ ،‬لقد طلب من كل منا أن يكون‬
‫إنفاقه ليبل ًوهنارا ًوقال ‪ « :‬سرا ً‬
‫وعبلنية » فأنفق أنت ليبل ً‪ ،‬وأنفق‬
‫أنت هنارا ‪ ،‬وأنفق أنت سرا ً‪،‬‬
‫وأنفق أنت عبلنية ‪ ،‬فبل ٖتدد‬
‫اإلنفاق ال بليل وال بنهار ‪ ،‬ال بزمن‬
‫وال بكيفية وال ْتال ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه استوعب زمن‬
‫اإلنفاق ليبل ًوهنارا ‪ ،‬واستوعب‬
‫أيضا ًالكيفية اليت يكون عليها‬
‫اإلنفاق سرا ًوعبلنية ليشيع اإلنفاق‬
‫يف كل زمن بكل هيئة ‪ ،‬وهنا يقول‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل عن هؤالء ‪{ :‬‬
‫فَل َ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن َد َر ِبّ ِه ْم } وهذا‬
‫القول يدل عىل عموم من يتأىت منه‬
‫اإلنفاق ليبل ًأو هنارا ً‪ ،‬سرا ًأو عبلنية‬
‫‪.‬‬
‫وإن كان بعض القوم قد قال ‪ :‬إهنا‬
‫قيلت يف مناسبة خاصة ‪ ،‬وهي أن‬
‫اإلمام عليًّا كرم اهلل وجهه ورىض‬
‫عنه كانت عنده أربعة دراهم ‪،‬‬
‫فتصدق بواحد هنارا ً‪ ،‬وتصدق‬
‫بواحد ليبل ‪ ،‬وتصدق بواحد سرا ً‪،‬‬
‫وتصدق بواحد عبلنية ‪ ،‬فزنلت‬
‫اْلية يف هذا ا‪١‬توقف ‪ ،‬إال أن قول‬
‫اهلل ‪ { :‬فَل َ ُه ْم } يدل عىل عموم‬
‫ا‪١‬توضوع ال عىل خصوص السبب ‪،‬‬
‫فكأن ا‪ٞ‬تزاء الذي رتبه سْتانه‬
‫وتعاىل عىل ذلك شائع عىل كل من‬
‫يتأىت منه هذا العمل ‪.‬‬
‫وقول اهلل ‪ { :‬فَل َ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن َد‬
‫َر ِبّ ِه ْم } هنا ‪٧‬تد أن كلمة « أجر »‬
‫تعطينا ‪١‬تحة يف موقف ا‪١‬تؤمن من‬
‫أداءات اإلنفاق كلها؛ ألن األجر ال‬
‫يكون إال عن عمل فيه ‪ٙ‬تن لشيء‬
‫‪ ،‬ويف أجر لعمل ‪ .‬فالذي تستأجره‬
‫ال يقدم لك شيئا إال ‪٣‬تهودا ‪ ،‬هذا‬
‫ا‪١‬تجهود قد ينشأ عنه ُمث ْ َم ٌن ‪ ،‬أ َ ْي‬
‫شيء له ‪ٙ‬تن ‪ ،‬فقول اهلل { فَل َ ُه ْم‬
‫أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن َد َربِّ ِه ْم } يدل عىل أن‬
‫ا‪١‬تؤمن ‪٬‬تب أن ينظر إىل كل شيء‬
‫جاء عن عمل فاهلل يطلب منه أن‬
‫ينفق منه ‪.‬‬
‫إن اهلل ال يعطيه ‪ٙ‬تن ما أنفق ‪ ،‬وإ‪٪‬تا‬
‫يعطيه اهلل أجر العمل ‪١ ،‬تاذا؟ ألن‬
‫ا‪١‬تؤمن الذي يضرب يف األرض‬
‫ٮتطط بفكره ‪ ،‬والفكر ‪٥‬تلوق هلل ‪،‬‬
‫وينفذ التخطيط الذي خططه‬
‫بفكره بوساطة طاقاته وأجهزته؛‬
‫وطاقا ُته وأجهزته ‪٥‬تلوقة هلل ‪،‬‬
‫ويتفاعل مع ا‪١‬تادة اليت يعمل فيها ‪،‬‬
‫وكلها ‪٥‬تلوقة هلل ‪ ،‬فأي شيء ٯتلكه‬
‫اإلنسان يف هذا كله؟ ال الفكر الذي‬
‫ٮتطط ‪ ،‬وال الطاقة اليت تفعل ‪ ،‬وال‬
‫ا‪١‬تادة اليت تنفعل؛ فكلها هلل ‪.‬‬
‫إذن فأنت فقط لك أجر عملك؛‬
‫ألنك ُتعمل فكرا ‪٥‬تلوقا هلل ‪،‬‬
‫بطاقة ‪٥‬تلوقة هلل ‪ ،‬يف مادة ‪٥‬تلوقة هلل‬
‫‪ ،‬فإن نتج منها شيء أراد اهلل أن‬
‫يأخذه منك ألخيك العاجز الفقَت‬
‫فإنه يعطيك أجر عملك ال ‪ٙ‬تن‬
‫عملك ‪ .‬لكن ا‪١‬تساوي لك يف‬
‫ا‪٠‬تلق هو اإلنسان إن أخذ منك‬
‫حصيلة عملك فهو يعطيك ‪ٙ‬تن ما‬
‫أخذ منك ‪ ،‬فهي من ا‪١‬تخلوق‬
‫ا‪١‬تساوي « ‪ٙ‬تن » ‪ ،‬وهي من ا‪٠‬تالق‬
‫األعىل أجر؛ ألنك ال ٘تلك شيئا يف‬
‫كل ذلك ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ َخ ْو ٌف‬
‫ون } وا‪٠‬توف‬ ‫عَلَي ْ ِه ْم َوال َ ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫هو ا‪ٟ‬تذر من شيء يأيت ‪ ،‬فمن‬
‫ا‪٠‬تائف؟ من ا‪١‬تخوف؟ ومن‬
‫ا‪١‬تخوف عليه؟ { َوال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم‬
‫} ‪٦‬تن؟‬
‫‪٬‬توز أن يكون { َوال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم‬
‫} من أنفسهم؛ فقد ٮتاف الطالب‬
‫عىل نفسه من أن يرسب ‪ ،‬فالنفس‬
‫واحدة خائفة و‪٥‬توف عليها ‪ ،‬إهنا‬
‫خائفة اْلن و‪٥‬توف عليها بعد اْلن ‪.‬‬
‫فالتلميذ عندما ٮتاف أن يرسب ‪،‬‬
‫ال يقال ‪ :‬إن ا‪٠‬تائف هو عُت‬
‫ا‪١‬تخوف؛ ألن هذا يف حاله ‪ ،‬وهذا‬
‫يف حاله ‪.‬‬
‫أو { َوال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم } من َتهم‬
‫‪ ،‬فمن ا‪ٞ‬تائز أن يكون حول كثَت‬
‫من األغنياء أناس ‪ٛ‬تىق حُت يرون‬
‫أيدي هؤالء مبسوطة با‪٠‬تَت للناس‬
‫فيغمروهنم ليمسكوا ‪٥‬تافة أن‬
‫يفتقروا كأن يقولوا ‪٢‬تم ‪« :‬‬
‫استعدوا للزمن فوراءكم عيالكم‬
‫» ‪ .‬لكن أهل ا‪٠‬تَت ال يستمعون‬
‫‪٢‬تؤالء ا‪ٟ‬تمىق ‪.‬‬
‫إذن ف { َوال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم } ال من‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وال من ا‪ٟ‬تمىق حو‪٢‬تم ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫ون }‬
‫أي ال خوف عليهم اْلن ‪ ،‬وال حزن‬
‫عندهم حُت يواجهون ْتقائق‬
‫ا‪٠‬تَت اليت ادخرها اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل ‪٢‬تم بل إهنم سيفرحون ‪.‬‬
‫بعد ذلك يتعرض ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل إىل قضية من أخطر قضايا‬
‫العصر ‪ ،‬وهذه القضية كان والبد‬
‫أن يتعرض ‪٢‬تا القرآن؛ ألنه يتكلم‬
‫عن النفقة وعن اإلنفاق وال شك أن‬
‫ذلك يقتضي من ِفقا وم فَنقا ًعليه؛‬
‫ألنه عاجز ‪ ،‬فهب أن الناس ّ‬
‫شحوا ‪،‬‬
‫ولم ينفقوا ‪ ،‬فماذا يكون موقف‬
‫العاجز الذي ال ‪٬‬تد؟ إن موقفه ال‬
‫يتعدى أمرين ‪ :‬إما أن يذهب‬
‫فيقًتض ‪ ،‬وإن لم يقبل أحد أن‬
‫يقرضه فهو يأخذ بالربا والزيادة‬
‫وإال فكيف يعيش؟‬
‫إذن فاْليات اليت ‪٨‬تن بصددها‬
‫تع ّرضت للهيكل االقتصادي يف أمة‬
‫إسبلمية جوادة ‪ ،‬أو أمة إسبلمية‬
‫ٓتيلة شحيحة ‪١ ،‬تاذا؟‬
‫ألن الذي خلق ا‪٠‬تلق قد صنع حسابا‬
‫دقيقا لذلك ا‪٠‬تلق ‪ْ ،‬تيث لو‬
‫أحصيت ما ‪٬‬تب عىل الواجدين من‬
‫زكاة ‪ ،‬وأحصيت ما ٭تتاج إليه من ال‬
‫يقدر ألن به عجزا طبيعيا عن‬
‫العمل ‪ ،‬لوجدت العاجزين‬
‫٭تتاجون ‪١‬تثل ما يفيض عن‬
‫القادرين ببل زيادة أو نقصان ‪ ،‬وإال‬
‫كان هناك خطأ والعياذ باهلل يف‬
‫حساب ا‪٠‬تالق ‪ ،‬وال ٯتكن أن يتأىت‬
‫ذلك أبدا ً‪.‬‬

‫وحُت ننظر إىل ا‪١‬تجتمعات يف‬


‫تكوينها ‪٧‬تد أن إنسانا ًغنيا يف مكان‬
‫قد نبا به مكانه ‪ ،‬واختار أن يقيم يف‬
‫مكان آخر ‪ ،‬فيعجب الناس ‪١‬تاذا‬
‫ترك ذلك ا‪١‬تكان وه و يف يسر‬
‫ورخاء وغٌت؟ رٔتا لو كان فقَتا ً‬
‫لقلنا طلبا للسعة ‪ ،‬فلماذا خرج من‬
‫هذا ا‪١‬تكان وهو واجد ‪ ،‬وهو عىل هذا‬
‫ا‪ٟ‬تال من اليسر؟ إهنم لم يفطنوا‬
‫إىل أن اهلل الذي خلق ا‪٠‬تلق يُدير‬
‫كونه بتسخَت وتوجيه ا‪٠‬تواطر‬
‫اليت ٗتطر يف أذهان الناس ‪ ،‬فتجد‬
‫مكانه قد نبا به ‪ ،‬وامتؤلت نفسه‬
‫بالقلق ‪ ،‬واختار أن يذهب إىل مكان‬
‫آخر ‪.‬‬
‫ولو أن عندنا أجهزة إحصائية‬
‫دقيقة وحسبنا ا‪١‬تحتاجُت يف البيئة‬
‫اليت انتقل منها لوجدنا قدرا من‬
‫ا‪١‬تال زائد عىل حاجة الذين‬
‫يعيشون يف هذه البيئة؛ فوجهه اهلل‬
‫إىل مكان آخر ٭تتاج إىل مثل هذا‬
‫الكم منه ‪ .‬وهكذا ٕتد التبادل‬
‫منظما ‪ .‬فإن رأيت إنسانا ‪٤‬تتاجا‬
‫أو إنسانا يريد أن يرايب فاعلم أن‬
‫هناك تقصَتا ًيف حق اهلل ا‪١‬تعلوم وال‬
‫أقول يف ا‪ٟ‬تق َت ا‪١‬تعلوم ‪ .‬أي أن‬
‫الغٍت ٓتل ٔتا ‪٬‬تب عليه إنفاقه‬
‫للمحتاج ‪.‬‬
‫والقرآن حُت يواجه هذه ا‪١‬تسألة‬
‫فهو يواجهها مواجهة ُتب ِّشع العمل‬
‫الربوي تبشيعا ‪٬‬تعل ال فنس‬
‫اإلنسانية ا‪١‬تستقيمة التكوين‬
‫تنفر منه فيقول سبحانه ‪ { :‬الذين‬
‫ون إِال َّكَ َما‬‫م‬ ‫و‬‫ق‬‫ُ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ال‬ ‫ربا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ون‬‫ُ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ك‬‫يأ ْ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وم الذي يَت َ َخب َّ ُط ُه الشيطان ِم َن‬ ‫َُ ُ‬
‫يق‬
‫ا‪١‬تس ‪} . . .‬‬

‫ون إ َِّال‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ال‬


‫َ‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ون‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ال َّ ِذين يأ ْ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ َ‬
‫ان‬
‫ش َط ُ‬ ‫وم ال َّ ِذي يَت َ َخب َّ ُط ُه ال َّ ي ْ‬ ‫يق‬
‫َك َما َ ُ ُ‬
‫ك بِأ َ َّهن ُ ْم قَالُوا إ َِّ‪٪‬تَا الْبَي ْ ُع‬
‫ِم َن ا ْ‪١‬ت َ ِ ّس ذَل ِ َ‬
‫اّلل الْبَي ْ َع َو َح َّر َم‬ ‫ِ لِ َ َ‬
‫مث ْ ُل ا ّربَا َوأ َح ّل َّ ُ‬
‫ال ّ ِربَا فَ َم ْن َجاءَ ُه َم ْو ِع َظ ٌة ِم ْن َر ِبّ ِه‬
‫فَانْت َ َىه فَل َ ُه ما سل َ َف وأ َ ْمر ُه إ َِىل َ ِ‬
‫اّلل‬
‫ّ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫ك أ َ ْص َحا ُب النَّا ِر ُه ْم‬ ‫َو َم ْن عَادَ فَأُولَئِ َ‬
‫ون (‪)275‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫فِيها َخال ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫وانظروا إىل كلمة { يَأكُل ُ َ‬
‫ون } ‪،‬‬
‫هل كل حاجات ا‪ٟ‬تياة أكل؟ ال ‪،‬‬
‫فحاجات ا‪ٟ‬تياة كثَتة ‪ ،‬األكل‬
‫بعضها ‪ ،‬ولكن األكل أهم شيء‬
‫فيها؛ ألنه وسيلة استبقاء النفس ‪.‬‬
‫و { الربا } هو األمر الزائد ‪ ،‬وما‬
‫دام هو األمر الزائد يعٍت هو ال‬
‫٭تتاج أن يأكل ‪ ،‬فهذا تقريع له ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يريد أن يبشع هذا األمر‬
‫فيقول ‪٢ :‬تم ‪ٝ‬تة ‪ .‬هذه السمة قال‬
‫العلماء أهي يف اْلخرة يتميزون بها‬
‫يف ا‪١‬تحشر ‪ ،‬كما يقول ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ِ‬
‫يُعْ َر ُف ا‪١‬تجرمون بِس َ‬
‫يم ُاه ْم } ػ‬
‫الر‪ٛ‬تن ‪] 41 :‬‬
‫فهؤالء َت ا‪١‬تصلُت ‪٢‬تم عبلمة‬
‫‪٦‬تيزة ‪ ،‬وهؤالء َت ا‪١‬تزكُت ‪٢‬تم‬
‫عبلمة أخرى ‪٦‬تيزة ْتيث إذا‬
‫رأيتهم عرفتهم بسيماهم ‪،‬‬
‫وأهنم من أي صنف من أصناف‬
‫العصاة فكأهنم حُت يقومون يوم‬
‫القيامة يقومون مصروعُت كالذي‬
‫يتخبطه ويضربه الشيطان من‬
‫ا‪١‬تس فيصرعه ‪ ،‬أو أن ذلك أمر‬
‫حاصل ‪٢‬تم يف الدنيا ‪ ،‬ولنبحث‬
‫هذا األمر ‪:‬‬
‫ون إِال َّ‬ ‫ْ‬
‫{ الذين يَأ ل ُك َ‬
‫ون الربا ال َي َ ُقو ُم َ‬
‫وم الذي يَت َ َخب َّ ُط ُه الشيطان‬ ‫يق‬
‫كَ َما َ ُ ُ‬
‫ِم َن ا‪١‬تس } ‪ .‬نريد أن نعرف كلمة‬
‫« التخبط » وكلمة « الشيطان »‬
‫وكلمة « ا‪١‬تس » ‪ « .‬التخبط » هو‬
‫الضرب عىل َت استواء وهدى ‪،‬‬
‫أنت تقول ‪ :‬فبلن يتخبط ‪ ،‬أي أن‬
‫حركته َت رتيبة ‪َ ،‬ت منطقية ‪،‬‬
‫حركة ليس ‪٢‬تا ضابط ‪ ،‬ذلك هو‬
‫التخبط ‪ .‬و « الشيطان » جنس من‬
‫خلق اهلل؛ ألن اهلل قال لنا ‪ :‬إنه خلق‬
‫اإلنس وا‪ٞ‬تن ‪ ،‬وا‪ٞ‬تن منهم‬
‫شياطُت ‪ ،‬وجن مطلق ‪ ،‬والشيطان‬
‫هو عاصي ا‪ٞ‬تن ‪ .‬و‪٨‬تن لم نر‬
‫الشيطان ‪ ،‬ولكننا علمنا به بوساطة‬
‫إعبلم ا‪ٟ‬تق الذي آمنا به فقال ‪ :‬أنا‬
‫يل خلقا مستًت ‪ ،‬ولذلك ‪ٝ‬تيته ا‪ٞ‬تن‬
‫‪ ،‬من االستتار ومنه ا‪١‬تجنون أي‬
‫ا‪١‬تستور عقله ‪ ،‬والعاصي من هذا‬
‫ا‪٠‬تلق ا‪ٝ‬ته « شيطان » ‪.‬‬
‫إذن فإٯتاننا به ال عن حس ‪ ،‬ولكن‬
‫عن إٯتان بغيب أخْبنا به من آمنا‬
‫به ‪ .‬وحُت ‪٧‬تد شيئا ًا‪ٝ‬ته اإلٯتان‬
‫‪٬‬تب أن نعرف أنه متعلق بشيء َت‬
‫ُ‪٤‬تس؛ ألن ا‪١‬تُحس ال يقال لك ‪:‬‬
‫آمن به؛ ألنه مشهود لك ‪ ،‬فأنا ال‬
‫أقول ‪ :‬أنا أؤمن بأن ا‪١‬تصباح منَت‬
‫اْلن ‪ ،‬أنا ال أؤمن بأننا ‪٣‬تتمعون يف‬
‫ا‪١‬تسجد اْلن ‪ ،‬ال أقول ذلك ألن‬
‫هذا واقع مشهود و ُ‪٤‬ت ّس ‪ .‬إذن‬
‫فاألمر اإلٯتاين يتعلق بالغيب ‪ ،‬مثل‬
‫اإلٯتان بوجود ا‪١‬تبلئكة ‪ .‬فإذا ما‬
‫كنا قد آمنا بالغيب ‪٧‬تد ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل يعطي لنا صورة‬
‫للشيطان ‪ ،‬ولكنه حُت يعطينا‬
‫صورة للشيطان أو لرأس الشيطان‬
‫ا‪١‬تميزة له ‪ ،‬كما أن رءوسنا ‪٨‬تن هي‬
‫اليت ٘تيزنا يتكلم سبحانه عن‬
‫شجرة الزقوم فيقول جل شأنه ‪{ :‬‬
‫إ َِّهنَا َش َج َرةٌ َٗت ْ ُر ُج يف أ َ ْص ِل ا‪ٞ‬تحيم *‬
‫وس الشياطُت } ػ‬ ‫َ‬
‫َطل ْ ُعهَا كَأن ّ َُه ُر ُء ُ‬
‫الصافات ‪] 65-64 :‬‬
‫وشجرة الزقوم يف اْلخرة يف النار ‪،‬‬
‫إذن فنحن ال نراها ‪ ،‬ورءوس‬
‫الشياطُت ال نراها ‪ ،‬فكيف يشبه‬
‫اهلل ما لم نره ٔتا لم نره ‪ ،‬يشبه‬
‫شيئا ‪٣‬تهوال ًبشيء ‪٣‬تهول؟ نقول ‪:‬‬
‫نعم ‪ ،‬وذلك أمر مقصود لئلعجاز‬
‫القرآين؛ ألن للشيطان صورة‬
‫متخيلة بشعة ‪ ،‬بدليل أنك لو‬
‫طلبت من رسامي العالم يف فن‬
‫الكاريكاتَت ‪ ،‬وقلت ‪٢‬تم ‪ :‬ار‪ٝ‬توا لنا‬
‫صورة الشيطان ‪ ،‬ولم تعطهم‬
‫مبلمح صورة ‪٤‬تددة ‪ ،‬فكل منهم‬
‫يرسم وفق ٗتيله كيانا ً اية يف‬
‫القبح ‪ :‬فهذا يصوره بالقبح من‬
‫ناحية ‪ ،‬وذلك يصوره بالقبح من‬
‫ناحية أخرى ْتيث لو ‪ٚ‬تعت‬
‫الرسوم ‪١‬تا اٖتد رسم مع رسم ‪.‬‬
‫إذن فكل واحد يستبشع صورة‬
‫ير‪ٝ‬تها ‪ .‬وساعة نعطي ا‪ٞ‬تائزة ‪١‬تن‬
‫رسم صورة الشيطان أنعطي‬
‫ا‪ٞ‬تائزة أل‪ٚ‬تلهم صورة أم‬
‫ألقبحهم صورة؟ إننا نعطي ا‪ٞ‬تائزة‬
‫لصاحب أشد الصور قبحا ‪ .‬إذن‬
‫فصورة الشيطان ا‪١‬تتمثلة صورة‬
‫بشعة قبيحة ‪ ،‬ولو جاء عىل صورة‬
‫واحدة من القبح الختلف الناس‬
‫حول هذه الصورة فلعل هذا يكون‬
‫قبحا عندك وال يكون قبحا عن‬
‫آخر ‪ ،‬ولكن حُت يُطلق اهلل أخيلة‬
‫الناس يف تصور القبح ‪ ،‬يكون القبح‬
‫مائبل وواضحا يف عمل كل إنسان‬
‫فتكون الصورة أكمل وأوىف‬
‫فاألكمل واألوىف أن يكون القبح‬
‫شائعا فيها ‪ٚ‬تيعا ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬الذي يَت َ َخ ُ َّط‬
‫ب ُه‬
‫الشيطان ِم َن ا‪١‬تس } الشيطان قلنا‬
‫‪ :‬إنه العاصي من ا‪ٞ‬تن ‪ ،‬وقلنا ‪ :‬إن‬
‫ربنا سبحانه وتعاىل حىك لنا كثَتا‬
‫أن الشياطُت ‪٢‬تم التصاق واتصال‬
‫َ‬
‫بكثَت من اإلنس ‪َ { :‬وأن ّ َُه ك َ َ‬
‫ان‬
‫ون بِ ِر َج ٍال‬ ‫وذ َ‬ ‫ال ِّم َن اإلنس ي َ ُع ُ‬
‫ِر َج ٌ‬
‫وه ْم َر َهقا ً} ػ ا‪ٞ‬تن ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ّم َن ا‪ٞ‬تن فَ َز ُاد ُ‬
‫‪]6‬‬
‫وم الذي‬ ‫و { ال َي َ ُقو ُم َ َ يق‬
‫ون إِال ّكَ َما َ ُ ُ‬
‫يَت َ َخب َّ ُط ُه الشيطان ِم َن ا‪١‬تس }‬
‫فكأن الشيطان قد مس التكوين‬
‫اإلنساين مسا ًأفسد استقامة ملكاته‬
‫‪ ،‬فالتكوين اإلنساين له استقامة‬
‫ملكات مع بعضها البعض؛ فكل‬
‫حركة ‪٢‬تا استقامة ‪ ،‬فإذا ما ّ‬
‫مسه‬
‫الشيطان فسد تآزر ا‪١‬تلكات ‪،‬‬
‫فملكاته النفسية تكون َت‬
‫مستقيمة و َت منسجمة مع‬
‫بعضها البعض ‪ ،‬فتكون حركته َت‬
‫رتيبة و َت منطقية ‪.‬‬
‫وما ا‪١‬تناسبة بُت هذه الصورة وبُت‬
‫عملية الربا؟ ‪ .‬إن أردنا يف اْلخرة‬
‫ميزة ‪ ،‬فساعة ترى واحدا ًمصروعا ً‬
‫فاعرف أنه من أصحاب الربا ‪،‬‬
‫هذا يف اْلخرة ‪ ،‬ويف الدنيا تجد أيضا ً‬
‫أن له حركة َت منطقية ‪،‬‬
‫هستَتية ‪ ،‬كيف؟‬
‫انظر إىل العالم اْلن ‪ ،‬لقد خلق اهلل‬
‫العالم عىل هيئة من التكامل ‪ .‬فهذا‬
‫إنسان يتمتع بإمكانات ومواهب ‪،‬‬
‫وذاك يتمتع ٔتواهب وإمكانات‬
‫أخرى ‪ ،‬حىت ٭تتاج صاحب هذه‬
‫اإلمكانات إىل صاحب تلك‬
‫اإلمكانات فيكتمل الكون ‪ ،‬ولو أن‬
‫كل إنسان كان وحدة متكررة‬
‫الستغٌت الكل عن الكل ‪ .‬ولو أن‬
‫األفراد متساوون يف ا‪١‬تواهب ‪١‬تا‬
‫احتاج الناس لبعضهم البعض‪.‬‬
‫لكن ا‪١‬تواهب ٗتتلف؛ ألنك إن‬
‫أجدت فنًّا من فنون ا‪ٟ‬تياة فقد أجاد‬
‫سواك فنونا أخرى أنت ‪٤‬تتاج إليها‬
‫‪ ،‬فإن احتاجوا إليك فيما أ َ َج ْدت ‪،‬‬
‫فقد احتجت إليهم فيما أجادوا ‪،‬‬
‫وهكذا يتكامل العالم ‪ .‬وكذلك‬
‫خلق اهلل الكون ‪ :‬مناطق حارة ‪،‬‬
‫ومناطق باردة ‪ ،‬ومناطق بها معادن ‪،‬‬
‫ومناطق بها زراعة؛ حىت يضطر‬
‫العالم إىل أن يتكامل ‪ ،‬ويضطر‬
‫العالم إىل أن يتعايش مع بعضه‬
‫ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق يف سورة «‬
‫الر‪ٛ‬تن » ‪:‬‬
‫{ واألرض َو َضعَهَا لِؤلَنَا ِم } ػ‬
‫الر‪ٛ‬تن ‪] 10 :‬‬
‫{ َو َضعَهَا } ‪١‬تن؟ ‪ { .‬واألرض } ‪،‬‬
‫أي أرض ‪ ،‬وأي أنام؟ ‪ .‬األرض كل‬
‫األرض ‪ ،‬واألنام كل األنام ‪ ،‬فإن‬
‫ٖتددت ْتواجز فسدت ‪ .‬إن منع‬
‫اإلنسان من حرية االنتقال من‬
‫مكان إىل مكان يفسد حركة‬
‫اإلنسان يف الكون ‪ ،‬فقد يرغب‬
‫إنسان يف أن ينتقل إىل أرض بكر‬
‫ليعمرها ‪ ،‬فَتفض أهل تلك‬
‫األرض ‪ ،‬فلو أن األرض كل‬
‫األرض كانت لؤلنام ْتيث إن‬
‫ضاق العمل يف مكان ذهبت إىل‬
‫مكان آخر ‪ ،‬بدون قيود عليك ‪،‬‬
‫تلك القيود اليت نشأت من‬
‫السلطات الزمنية اليت ٖتتجز‬
‫األماكن ألنفسها ‪ ،‬فهذا ما يفسد‬
‫الكون ‪ .‬فهناك بيئات تشتكي قلة‬
‫القوت ‪ ،‬وبيئات تشتكي قلة‬
‫األيدي العاملة ألرض خراب وهي‬
‫تصلح أن تزرع ‪ ،‬فلو أن األرض‬
‫كل األرض لؤلنام كل األنام ‪١‬تا‬
‫حدث عجز ‪.‬‬
‫ونبلحظ ما يُقال ‪ :‬ازدحام السكان‬
‫أو االنفجار السكاين ‪ ،‬بينما توجد‬
‫أماكن تتطلب خلقا ً! ويوجد خلق‬
‫تتطلب أماكن ‪ ،‬فلماذا هذا‬
‫االختبلل؟ هذا االختبلل ناشئ من‬
‫أن السلوك البشري َت منطقي يف‬
‫هذا الكون ‪ .‬والكون الذي نعيش‬
‫شىت ‪،‬‬
‫فيه ‪ ،‬فيه ارتقاءات عقلية ّ‬
‫وطموحات ابتكارية صعدت إىل‬
‫الكواكب ‪ ،‬وتغزو الفضاء ‪،‬‬
‫وو ِج َدت يف كل بيت آالت الًتفيه ‪،‬‬
‫ُ‬
‫أما كان ا‪١‬تنطق يقتضي أن يعيش‬
‫العالم سعيدا ًمسًت٭تا ً؟‬
‫كان ا‪١‬تنطق يقتضي أن يعيش‬
‫العالم مسًت٭تا ًهادئا ً؛ ألنه يف كل‬
‫يوم يبتكر أشياءَ تعطي له أكْب‬
‫الثمرة بأقل ‪٣‬تهود يف أقل زمن ‪،‬‬
‫فماذا نريد بعد هذا؟ ولكن هل‬
‫العالم الذي نعيش فيه منطقي مع‬
‫هذا الواقع؟ ال ‪ ،‬بل ‪٨‬تن ‪٧‬تد أغٌت‬
‫ببلد العالم وأحسنها وفرة‬
‫اقتصادية هي اليت يعاين الناس فيها‬
‫القلق ‪ ،‬وهي اليت ٘تتلئ‬
‫باالضطراب ‪ ،‬وهي اليت ينتشر فيها‬
‫الشذوذ ‪ ،‬وهي اليت تشكو من‬
‫ارتفاع نسبة ا‪ٞ‬تنون بُت سكاهنا ‪.‬‬
‫إذن فالعالم ليس منطقيا ً‪ .‬وهذا‬
‫التخبط يؤكد ما يقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬إِال َّ‬
‫وم الذي يَت َ َخب َّ ُط ُه الشيطان‬‫يق‬
‫كَ َما َ ُ ُ‬
‫ِم َن ا‪١‬تس } إهنا حركة هستَتية يف‬
‫الكون تدل عىل أنه كون َت‬
‫مسًتيح ‪ ،‬كون َت منسجم مع‬
‫طموحاته وابتكاراته ‪.‬‬
‫أما كان عىل هذا الكون بعقبلئه أن‬
‫يبحثوا عن السبب يف هذا ‪ ،‬وأن‬
‫يعرفوا ‪١‬تاذا نشىق كل هذا الشقاء‬
‫وعندنا هذه الطموحات‬
‫االبتكارية؟ كان ‪٬‬تب أن يبحثوا ‪،‬‬
‫فا‪١‬تصيبة عامة ‪ ،‬ال تعم الدول‬
‫ا‪١‬تتخلفة أو النامية فقط ‪ ،‬بل هي‬
‫أيضا ًيف الدول ا‪١‬تتقدمة ‪ ،‬كان ‪٬‬تب‬
‫أن يعقد ا‪١‬تفكرون ا‪١‬تؤ٘ترات‬
‫ليبحثوا هذه ا‪١‬تسألة ‪ ،‬فإذا ما كانت‬
‫ا‪١‬تسألة عامة تضم كل الببلد‬
‫متقدمها ومتأخرها وجب أن‬
‫نبحث عن سبب مشًتك ‪ ،‬وال‬
‫نبحث عن سبب قد يوجد عند قوم‬
‫وال يوجد عن قوم آخرين؛ ألننا لو‬
‫ْتثنا لقلنا ‪ :‬يوجد يف هذه البيئة ‪.‬‬
‫وكذلك هو موجود يف كل البيئات ‪،‬‬
‫فبل بد أن يوجد القدر ا‪١‬تشًتك ‪.‬‬
‫فاألرزاق اليت توجد يف الكون‬
‫تنقسم إىل قسمُت ‪ :‬رزق أنتفع به‬
‫مباشرة ‪ ،‬ورزق هو سبب ‪١‬تا أنتفع به‬
‫مباشرة ‪.‬‬

‫أنا آكل رغيف ا‪٠‬تبز ‪ ،‬هذا ا‪ٝ‬ته‬


‫رزق مباشر ‪ ،‬وأشرب كون ا‪١‬تاء ‪،‬‬
‫وهو رزق مباشر ‪ ،‬واكتسي بالثوب‬
‫وذلك أيضا ًرزق مباشر ‪ ،‬وأسكن‬
‫يف البيت وهذا رابعا ًرزق مباشر ‪،‬‬
‫وأنَت ا‪١‬تصباح رزق مباشر ‪ .‬ولكن‬
‫ا‪١‬تال يأيت بالرزق ا‪١‬تباشر ‪ ،‬وال يغٍت‬
‫عن الرزق ا‪١‬تباشر ‪ .‬فإذا كان عندي‬
‫جبل من ذهب وأنا جوعان ‪ ،‬ماذا‬
‫أفعل به؟ ‪ .‬إذن فرغيف العيش‬
‫أحسن منه ‪ ،‬هذا رزق مباشر ‪،‬‬
‫فالنقود أو الذهب أشًتي بها هذا‬
‫وهذا ‪ ،‬لكن ال يغنيٍت عن هذا وهذا‬
‫‪.‬‬
‫وقد جاء وقت أصبح الناس يرون‬
‫فيه أن ا‪١‬تال هو كل شيء حىت صار‬
‫هدفا وتعلق الناس به ‪ . .‬ويف ا‪ٟ‬تق‬
‫أن ا‪١‬تال ليس اية ‪ ،‬وال ينفع أن‬
‫ّ‬
‫يكون اية بل هو وسيلة ‪ .‬فإن فقد‬
‫وسيلته وأصبح اية فبل بد أن‬
‫يفسد الكون؛ فعلة فساد الكون‬
‫كله يف القدر ا‪١‬تشًتك الذي هو‬
‫ا‪١‬تال ‪ ،‬حيث أصبح ا‪١‬تال اية ‪ ،‬ولم‬
‫يعد وسيلة ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫يطهر حياة االقتصاد للناس طهارة‬
‫تضمن ِح ّل ما يطعمون ‪ ،‬وما‬
‫يشربون ‪ ،‬وما يكتسون ‪ ،‬حىت‬
‫تصدر أعما‪٢‬تم عن خليات‬
‫إٯتانية طاهرة مصفاة؛ ذلك أن‬
‫الشيء الذي يصدر عن خلية‬
‫إٯتانية طاهرة مصفاة ال ٯتكن أن‬
‫ينشأ عنه إال ا‪٠‬تَت ‪.‬‬
‫ومن العجيب أن ‪٧‬تد القوم الذين‬
‫صدروا لنا النظام الربوي ٭تاولون‬
‫اْلن جاهدين أن يتخلصوا منه ‪ ،‬ال‬
‫ألهنم ينظرون إىل هذا التخلص عىل‬
‫أنه طهارة دينية ‪ ،‬ولكن ألهنم‬
‫يرون أن كل شرور ا‪ٟ‬تياة ناشئة عن‬
‫هذا الربا ‪ .‬وليست هذه الصيحة‬
‫حديثة عهد بنا ‪ ،‬فقدٯتا أي من عام‬
‫ألف وتسعمائة و‪ٜ‬تسُت قام رجل‬
‫االقتصاد العا‪١‬تي « شاخت » يف‬
‫أ‪١‬تانيا وقد رأى اختبلل النظام فيها‬
‫ويف العالم ‪ ،‬فوضع تقريره بأن‬
‫الفساد كله ناشئ من النظام الربوي‬
‫‪ ،‬وأن هذا النظام يضمن للغٍت أن‬
‫يزيد غٌت ‪ ،‬وما دام هذا النظام قد‬
‫ضمن للغٍت أن يزيد غٌت ‪ ،‬فمن‬
‫أين يزداد غٌت؟ الشك أنه يزداد‬
‫غٌت من الفقَت ‪ .‬إذن فستئول‬
‫ا‪١‬تسألة إىل أن ا‪١‬تال سيصبح يف يد‬
‫أقلية يف الكون تتحكم يف مصائره‬
‫كلها والسيما ا‪١‬تصائر ا‪٠‬تلقية ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ‪.‬‬
‫ألن الذين ٭تبون أن يستثمروا‬
‫ا‪١‬تال ال ينظرون إال إىل النفعية‬
‫ا‪١‬تالية ‪ ،‬فهم يديرون ا‪١‬تشروعات‬
‫اليت ٖتقق ‪٢‬تم تلك النفعية ‪.‬‬
‫وهناك رجل اقتصاد آخر هو «‬
‫كيزن » الذي يتزعم فكرة «‬
‫االقتصاد ا‪ٟ‬تر » يف العالم يقول‬
‫قولته ا‪١‬تشهورة ‪ :‬إن ا‪١‬تال ال يؤدي‬
‫وظيفته يف ا‪ٟ‬تياة إال إذا ا‪٩‬تفضت‬
‫الفائدة إىل درجة الصفر ‪ .‬ومعٌت‬
‫ذلك أنه ال ربا ‪.‬‬
‫وإذا ما نظرنا إىل عملية عقد الربا‬
‫يف ذاهتا وجدناها عقدا ًباطبلً؛ ألن‬
‫كل عقد من العقود إ‪٪‬تا يوجد‬
‫‪ٟ‬تماية الطرفُت ا‪١‬تتعاقدين ‪،‬‬
‫وعقد الربا ال ٭تمي إال الطرف‬
‫الدائن فقط ‪ ،‬وهناك أمر خلقي‬
‫آخر وهو أن اإلنسان ال يعطي ربا‬
‫إال إذا كان عنده فائض زائد عىل‬
‫حاجته ‪.‬‬

‫وال يأخذ إنسان من ا‪١‬ترايب إال إذا‬


‫كان ‪٤‬تتاجا ً‪ .‬فانظروا إىل النكسة‬
‫ا‪٠‬تلقية يف الكون ‪ .‬إن ا‪١‬تعدم‬
‫الفقَت الذي ال ‪٬‬تد ما يسد جوعه‬
‫وحاجته يضطر إىل االستدانة ‪،‬‬
‫وهذا الفقَت ا‪١‬تعدم هو الذي‬
‫يتكفل بأن يعطي األصل والزائد‬
‫إىل الغٍت َت ا‪١‬تحتاج ‪.‬‬
‫إهنا نكسة خلقية توجد يف ا‪١‬تجتمع‬
‫ِضغنا ً‪ ،‬وتوجد يف ا‪١‬تجتمع حقدا ً‪،‬‬
‫وتقضي عىل بقية ا‪١‬تعروف وقيمته‬
‫بُت الناس ‪ ،‬وتنعدم ا‪١‬تودة يف‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪ .‬فإذا ما رأى إنسان فقَتٌ‬
‫إنسانا ًغنيا ًعنده ا‪١‬تال ‪ ،‬ويشًتط‬
‫الغٍت عىل الفقَت ا‪١‬تعدم أن يعطيه ما‬
‫يأخذه وأن يزيد عليه ‪ ،‬فعىل أية‬
‫حال ستكون مشاعر وأحاسيس‬
‫الفقَت؟ كان يكفي الغٍت أن يعطي‬
‫الفقَت ‪ ،‬وأن يسًتد الغٍت بعد ذلك‬
‫ما أخذه الفقَت ‪ ،‬ولكن الغٍت ا‪١‬ترايب‬
‫يطلب من الفقَت أن يسدد ما أخذه‬
‫ويزيد عليه ‪ .‬وكانوا يتعللون‬
‫ويقولون ‪ :‬إن النص القرآين إ‪٪‬تا‬
‫يتكلم عن الربا يف األضعاف‬
‫المضاعفة ‪ ،‬فإذا ما منعنا القيد يف‬
‫األضعاف ا‪١‬تضاعفة ال يكون‬
‫حراما ً!!‬
‫أي أهنم يريدون تْبير إعطاء‬
‫الفقَت ماال ً‪ ،‬وأن يرده أضعافا ًفقط‬
‫ال أضعافا ًمضاعفة؛ حىت ال يصَت‬
‫ذلك االسًتداد بالزيادة حراما ً‪.‬‬
‫و‪٢‬تؤالء نقول ‪ :‬إن الذين يقولون‬
‫ذلك ٭تاولون أن يتلصصوا عىل‬
‫الرآين ‪ ،‬وكأن اهلل قد ترك‬ ‫النص ق‬
‫النص ليتلصصوا عليه ويسرقوا منه‬
‫ما شاءوا دون أن يضع يف النص ما‬
‫٭تول دون هذا التلصص ‪ ،‬ولو فطنوا‬
‫إىل أن اهلل يقول يف آخر األمر ‪{ :‬‬
‫وس أ َ ْم َوال ِ ُك ْم ال َ‬
‫َوإ ِْن ُتب ْ ُت ْم فَل َ ُك ْم ُر ُؤ ُ‬
‫ون } ػ البقرة ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫تَ ْظل ُم َ‬
‫ون َوال َ ُت ْظل َ ُم َ‬
‫‪] 279‬‬
‫هذا القول ا‪ٟ‬تاسم يوضح أن اهلل لم‬
‫يستثن ضعفا ًوال أضعافا ً‪ .‬إذن‬
‫فقوله ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬يَآ أَيُّهَا الذين آ َم ُنوا ْ‬
‫ْ‬
‫ال َتَأكُلُوا ْالربا أ َ ْضعَافا ً ُّم َض َ‬
‫اع َفةً‬
‫ِ‬
‫ون } ػ آل‬ ‫واتقوا اهلل لَعَل َّ ُك ْم ُت ْفل ُح َ‬
‫عمران ‪] 130 :‬‬
‫إن هذا القول ا‪ٟ‬تكيم لم ‪٬‬تئ إال‬
‫ليبُت الواقع الذي كانوا يعيشونه ‪،‬‬
‫ولم يستثن اهلل ضعفا ًأو أضعافا ً؛‬
‫ألن ا‪ٟ‬تق جعل التوبة تبدأ من أن‬
‫يأخذ اإلنسان رأس ماله فقط ‪ ،‬فبل‬
‫يسمح اهلل ألحد أن يأخذ نصف‬
‫الضعف أو الضعف أو الضعفُت ‪ ،‬وال‬
‫يسمح باألضعاف وال با‪١‬تضاعفات‬
‫‪.‬‬
‫وكانوا يتعللون أن اتفاق الطرفُت‬
‫عىل أي أمر يعتْب ت ي‬
‫راضا ًويعتْب‬
‫عقدا ً‪ .‬وقد يكون ذلك صحيحا ًإن‬
‫لم يكن هناك مشرع أعىل من كل‬
‫ا‪٠‬تلق يسيطر عىل هذا الًتاضي ‪.‬‬
‫فهل كلما تراىض الطرفان عىل شيء‬
‫يصَت حبلالً؟‬
‫لو كان األمر كذلك لكان الزنا‬
‫حبلال ً‪ :‬ألهنما طرفان قد تراضيا ‪.‬‬
‫وكل ذلك ال يتأىت أي رضاء‬
‫الطرفُت إال يف األمور اليت ليس‬
‫فيها تشريع صدر عن ا‪١‬تشرع‬
‫األعىل ‪ ،‬وهو اهلل ا‪ٟ‬ت ّي القيوم ‪.‬‬
‫إن اهلل قد فرض أمرا ًيقضي عىل‬
‫الًتاضي بيٍت وبينك؛ ألنه هو‬
‫ا‪١‬تسيطر ‪ ،‬وهو الذي حكم يف األمر‬
‫‪ ،‬فبل تراضي بيننا فيما ٮتالف ما‬
‫شرع اهلل أو حكم فيه ‪.‬‬
‫وإذا نظرنا نظرة أخرى فإننا ‪٧‬تد‬
‫أن الًتاضي الذي يدعونه مردود‬
‫راض » باطل‬ ‫عليه ‪ .‬إنه « ت ٍ‬
‫بالفحص الدقيق والبحث ا‪١‬تنطقي‬
‫‪١ .‬تاذا؟ ألننا نقول إن الًتاضي إ‪٪‬تا‬
‫ينشأ بُت اثنُت ال يتعدى أمر ما‬
‫تراضيا عليه إىل َت‪٫‬تا ‪ ،‬أما إذا كان‬
‫األمر قد تعدى من تراضيا عليه إىل‬
‫َت‪٫‬تا فالًتاضي باطل ‪.‬‬
‫فهب أن واحدا ًال ٯتلك شيئا ‪،‬‬
‫وواحدا ًآخر ٯتلك ألفا ‪ ،‬والذي‬
‫ٯتلك ألفا هي ملكه ‪ ،‬وأدار بها‬
‫عمبل من األعمال ‪ ،‬وحُت يدير‬
‫صاحب األلف عمبل فا‪١‬تطلوب له‬
‫أجر عمله ليعيش من هذا األجر ‪.‬‬
‫أما الذي ال ٯتلك شيئا إذا ما أراد أن‬
‫يعمل مثلما عمل صاحب األلف ‪،‬‬
‫فذهب إىل إنسان وأخذ منه ألفا‬
‫ليعمل عمبل كعمل صاحب‬
‫األلف ‪ ،‬فيشًتط من يعطيه هذه‬
‫األلف من األموال أن يزيده مائة‬
‫حُت السداد ‪ ،‬فيكون ا‪١‬تطلوب من‬
‫الذي اقًتض هذه األلف أجر‬
‫عمله كصاحب األلف األول‬
‫ومطلوب منه أيضا أن يزيد عىل‬
‫أجره تلك ا‪١‬تائة ا‪١‬تطلوبة ‪١‬تن‬
‫أقرضه بالربا ‪.‬‬
‫فمن أين يأيت من اقًتض ألفا بهذه‬
‫ا‪١‬تائة الزائدة؟ إن سلعته لو كانت‬
‫تساوي سلعة اْلخر فإنه ٮتسر ‪.‬‬
‫وإن كانت سلعته أقل من سلعة‬
‫اْلخر فإهنا تكسد وتبور ‪.‬‬
‫إذن فبل بد له من االحتيال النكد ‪،‬‬
‫وهذا االحتيال هو أن ٮتلع عىل‬
‫سلعته وصفا شكليا يساوي به سلعة‬
‫اْلخر ‪ ،‬ويعمد إىل إنقاص ا‪ٞ‬تواهر‬
‫الفعالة يف صنعة سلعته ‪ ،‬فيسحب‬
‫منها ما يوازي ا‪١‬تائة ا‪١‬تطلوب‬
‫سدادها للمرايب ‪ .‬فن الذي سيدفع‬
‫ذلك؟ إنه ا‪١‬تستهلك ‪.‬‬
‫إذن فا‪١‬تستهلك قد أضَت بهذا‬
‫الًتاضي؛ فهو الذي سيغرم؛ ألنه‬
‫هو الذي يدفع أخَتا ًقيمة قرض‬
‫الرجل ا‪١‬تتاجر بالسلعة وقيمة‬
‫النسبة الربوية اليت حددها ا‪١‬ترايب‬
‫‪ .‬إذن فالعقد بُت ا‪١‬تقًتض وا‪١‬ترايب‬
‫حىت يف عرفهم عقد باطل رغم أن‬
‫االثنُت ا‪١‬تقًتض وا‪١‬ترايب قد اعتْبا‬
‫هذا العقد تراضيا ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أراد أن‬
‫يشيع يف الناس الر‪ٛ‬تة وا‪١‬تودة ‪ .‬وأن‬
‫يشيع يف الناس التعاطف ‪ .‬إنه ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه صاحب كل النعمة أراد أن‬
‫يشيع يف الناس أن يعرف كل‬
‫صاحب نعمة يف الدنيا أنه ‪٬‬تب‬
‫عليه أن تكون نعمته متعدية إىل‬
‫َته ‪ ،‬فإن رآها ا‪١‬تحروم علم أنه‬
‫مستفيد منها ‪ ،‬فإذا كان مستفيدا ً‬
‫منها فإنه لن ينظر إليها ْتقد ‪ ،‬وال‬
‫أن ينظر إليها ْتسد ‪ ،‬وال يتمٌت أن‬
‫تزول ألن أمرها عائد إليه ‪ .‬ولكن‬
‫إذا كان السائد هو أن يريد صاحب‬
‫النعمة يف الدنيا أن يأخذ‬
‫باالستحواذ عىل كل عائد نعمته ‪،‬‬
‫وال يراعي حق اهلل يف مهمة النعمة‬
‫‪ ،‬وال تتعدى هذه النعمة إىل َته ‪،‬‬
‫فا‪١‬تحروم عندما يرى ذلك يتمٌت‬
‫أن تزول النعمة عن صاحبها‬
‫وينظر إليها ْتسد ‪ .‬ويشيع ا‪ٟ‬تقد‬
‫ومعه الضغينة ‪ ،‬و‪٬‬تد الفساد فرصة‬
‫كاملة للشيوع يف ا‪١‬تجتمع كله ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يريد أن‬
‫يسيطر عىل االقتصاد عناصر ثبلثة‬
‫‪:‬‬
‫العنصر األول ‪ :‬الرفد والعطاء‬
‫ا‪٠‬تالص ‪ ،‬فيجد الفقَت ا‪١‬تعدم غنيا‬
‫يعطيه ‪ ،‬ال بقانون ا‪ٟ‬تق ا‪١‬تعلوم‬
‫ا‪١‬تفروض يف الزكاة ‪ ،‬ولكن بقانون‬
‫ا‪ٟ‬تق َت ا‪١‬تعلوم يف الصدقة ‪ ،‬هذا‬
‫هو الرفد ‪.‬‬

‫العنصر الثاين ‪ :‬يكون ْتق الفرض‬


‫وهو الزكاة ‪.‬‬
‫العنصر الثالث ‪ :‬هو ْتق القرض‬
‫وهو ا‪١‬تداينة ‪.‬‬
‫إذن فأمور ثبلثة هي اليت تسيطر‬
‫عىل االقتصاد اإلسبلمي ‪ :‬إما تطوع‬
‫أداء ‪١‬تفروض من‬
‫بصدقة ‪ ،‬وإما ٌ‬
‫زكاة ‪ ،‬وإما مداينة بالقرض ا‪ٟ‬تسن‬
‫‪ ،‬وذلك هو ما ٯتكن أن ينشأ عليه‬
‫النظام االقتصادي يف اإلسبلم ‪.‬‬
‫ولننظر إىل قول ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫حُت عرض هذه ا‪١‬تسألة وب ّشع‬
‫هيئة الذين يأكلون الربا بأهنم ال‬
‫يقومون إال كما يقوم الذي‬
‫يتخبطه ويصرعه الشيطان من‬
‫ا‪١‬تس ‪.‬‬
‫ك‬‫‪١‬تاذا؟ ألن ا‪ٟ‬تق قال فيهم ‪ { :‬ذَل ِ َ‬
‫بِأ َ َّهن ُ ْم قالوا إ َِّ‪٪‬تَا البيع ِمث ْ ُل الربا }‬
‫فهل الكبلم يف البيع ‪ ،‬أو الكبلم يف‬
‫الربا؟ إن الكبلم يف الربا‪ .‬وكان‬
‫ا‪١‬تنطق يقتضي أن يقول ‪ « :‬الربا‬
‫كالبيع » ‪ ،‬فما الذي جعلهم‬
‫يعكسون األمر؟‬
‫إن النص القرآين هنا يوحي إىل‬
‫التخبط حىت يف القضية اليت‬
‫يريدون أن ٭تتجوا بها ‪ .‬كأهنم قالوا‬
‫‪ :‬ما دمت تريد أن ٖترم الربا ‪،‬‬
‫فالبيع مثل الربا ‪ ،‬وعليك ٖتريم‬
‫البيع أيضا ‪.‬‬
‫وكان القياس أن يقولوا ‪ « :‬إ‪٪‬تا‬
‫الربا مثل البيع » ‪ ،‬لكن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه أراد أن يوضح لنا ٗتبطهم‬
‫فجاء عىل لساهنم ‪ :‬إ‪٪‬تا البيع مثل‬
‫الربا فإن كنتم قد حرمتم الربا‬
‫فحرموا البيع ‪ ،‬وإن كنتم قد‬
‫حللتم البيع فحللوا الربا ‪ .‬إهنم‬
‫يريدون قياسا إما بالطرد ‪ ،‬وإما‬
‫بالعكس ‪.‬‬
‫فقال اهلل القول الفصل ا‪ٟ‬تاسم ‪:‬‬
‫{ َوأ َ َح َّل اهلل البيع َو َح َّر َم الربا فَ َمن‬
‫َجآءَ ُه َم ْو ِع َظ ٌة ِّم ْن َّر ِبّ ِه فانتىه } ػ‬
‫البقرة ‪] 275 :‬‬
‫وعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‬
‫‪ « :‬لَعَ َن رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم آكل الربا وموكله » ‪.‬‬
‫إهنا موعظة من اهلل جاءت ‪،‬‬
‫ا‪١‬توعظة إن كانت من َت مستفيد‬
‫منها ‪ ،‬فا‪١‬تنطق أن ُتقبل بضم التاء‬
‫أما ا‪١‬توعظة اليت يُ َشك فيها ‪ ،‬فهي‬
‫ا‪١‬توعظة اليت تعود عىل الواعظ‬
‫بشيء ما ‪ .‬فإذا كانت ا‪١‬توعظة قد‬
‫جاءت ‪٦‬تن ال يستفيد بهذه‬
‫ا‪١‬توعظة ‪ ،‬فهذه حيثية قبو‪٢‬تا {‬
‫فَ َمن َجآءَ ُه َم ْو ِع َظ ٌة ِّم ْن َّربِّ ِه فانتىه }‬
‫‪ ،‬ولنر كلمة « ربه » حينما تأيت هنا‬
‫فلنفهم منها أن ا‪١‬تقصود بها ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه الذي توىل تربيتكم ‪،‬‬
‫ومتويل الًتبية خلقا بإ‪٬‬تاد ما‬
‫يستبقي ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وإ‪٬‬تاد ما يستبقي‬
‫النوع ‪ ،‬و‪٤‬تافظة عىل كل شيء‬
‫بتسخَت كل شيء لك أيها اإلنسان‬
‫‪ ،‬فيجب أن تكون أيها اإلنسان‬
‫مهذبا أمام ربك فبل توقع نفسك‬
‫يف اهتام الرب ا‪٠‬تالق يف شبهة‬
‫االستفادة من تلك ا‪١‬توعظة معاذ‬
‫اهلل ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن ا‪٠‬تالق رب ‪ ،‬وما دام‬
‫ا‪٠‬تالق ربا ًفهو ا‪١‬تتويل تربيتكم ‪،‬‬
‫تتأىب عىل‬‫فإياك أيها اإلنسان أن َّ‬
‫ريب ‪ { .‬فَ َمن َجآءَ ُه َم ْو ِع َظ ٌة‬
‫عظة ا‪١‬تُ ّ‬
‫ِّم ْن َّر ِبّ ِه فانتىه فَل َ ُه َما َسل َ َف } ومعٌت‬
‫ذلك أن األمر لن يكون بأثر رجعي‬
‫فبل يؤاخذ ٔتا مىض منه؛ ألنه أخذ‬
‫قبل نزول التحريم؛ تلك هي‬
‫الر‪ٛ‬تة ‪١ ،‬تاذا؟‬
‫ألنه من ا‪ٞ‬تائز أن يكون ا‪١‬ترايب قد‬
‫رتب حياته ترتيبا ًعىل ما كان يناله‬
‫من ربا قبل التحريم ‪ ،‬فإذا كان‬
‫األمر كذلك فإن ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل يعفو عما قد سلف ‪.‬‬
‫وعىل ا‪١‬ترايب أن يبدأ حياته يف الوعاء‬
‫االقتصادي ا‪ٞ‬تديد ‪.‬‬
‫تلك هي عظمة التشريع الرباين{‬
‫فانتىه فَل َ ُه َما َسل َ َف َوأ َ ْم ُر ُه إ َِىل اهلل }‬
‫أي أن له ما سبق وما مىض قبل‬
‫ٖتريم الربا ‪ .‬وتفيد كلمة { َوأ َ ْم ُر ُه‬
‫إ َِىل اهلل } أن اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫حينما يعفو عما سلف فله طبلقة‬
‫ا‪ٟ‬ترية يف أن يقنن ما شاء ‪ ،‬فيجب‬
‫أن تتعلق دائما باستدامة الفضل‬
‫من اهلل ‪َ { .‬وأ َ ْم ُر ُه إ َِىل اهلل } إن مثل‬
‫هذا اإلنسان رٔتا قال ‪ :‬سأهنار‬
‫اقتصاديا ومركزي سيتزعزع ‪،‬‬
‫وسأصبح كذا وكذا ‪ .‬ال ‪ .‬اجعل‬
‫سندك يف اهلل ‪ ،‬ففي اهلل عوض عن‬
‫كل فائت ‪ ،‬هو سبحانه ال يريد أن‬
‫يزلزل مراكز الناس ‪ ،‬ولكن يريد‬
‫أن يقول ‪٢‬تم ‪ :‬إنٍت إن سلبتكم‬
‫نعميت فاجعلوا أنفسكم يف حضانة‬
‫ا‪١‬تنعم بالنعمة ‪.‬‬
‫وما دمت قد جعلت نفسك يف‬
‫حضانة ا‪١‬تنعم بالنعمة ‪ ،‬إذن‬
‫فالنعمة ال شيء؛ ألن ا‪١‬تنعم عوض‬
‫عن هذه النعمة ‪ ،‬والربا من السبع‬
‫ا‪١‬توبقات اليت أمر الرسول صىل اهلل‬
‫عليه وسلم باجتنابها حيث قال ‪« :‬‬
‫اجتنبوا السبع ا‪١‬توبقاتقالوا يا‬
‫رسول اهلل وما هن؟ قال ‪ :‬الشرك‬
‫باهلل والسحر ‪ ،‬وقتل النفس اليت‬
‫حرم اهلل إال با‪ٟ‬تق ‪ ،‬وأكل الربا ‪،‬‬
‫وأكل مال اليتيم ‪ ،‬والتويل يوم‬
‫الزحف ‪ ،‬وقذف ا‪١‬تحصنات‬
‫ا‪١‬تؤمنات الغافبلت » { َوأ َ ْم ُر ُه إ َِىل‬
‫اهلل َو َم ْن عَادَ} أي عاد بعد ا‪١‬توعظة‬
‫ماذا يكون أمره؟ { فأولئك‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫اب النار ُه ْم فيهَا َخال ُد َ‬‫أ ْص َح ُ‬
‫وكان يكفي أن يقول عنهم ‪ :‬إهنم‬
‫اب النار } فلعل واحدا ً‬ ‫ح‬ ‫ص‬ ‫{ أَ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يكون مؤمنا وبعد ذلك عاد إىل‬
‫معصية ‪ ،‬فيأخذ حظه من النار ‪.‬‬
‫ون }‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫إ‪٪‬تا قوله ‪ { :‬هم فِيها َخال ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫يدل عىل أنه خرج عن دائرة‬
‫اإلٯتان ‪ .‬وافهم السابق جيدا ً‬
‫لتفهم التذييل البلحق؛ ألن هنا‬
‫أمرين ‪ :‬هنا ربا حرمه اهلل ‪ ،‬وأناس‬
‫يريدون أن ُ٭تلّلوا الربا عندما قالوا‬
‫‪ { :‬إ َِّ‪٪‬تَا البيع ِمث ْ ُل الربا } ‪ ،‬فإن‬
‫عدت إىل الربا حاكما ْترمته فأنت‬
‫عاص تدخل النار ‪.‬‬ ‫مؤمن ٍ‬
‫إ‪٪‬تا إن عدت إىل ما سلف من‬
‫ا‪١‬تناقشة يف التحريم ‪ ،‬وقلت ‪ :‬البيع‬
‫مثل الربا ‪ ،‬وناقشت يف حرمة الربا‬
‫وأردت أن ٖتلله كالبيع فقد خرجت‬
‫عن دين اإلسبلم ‪ .‬وحُت ٗترج عن‬
‫دين اإلسبلم فلك ا‪٠‬تلود يف النار ‪.‬‬
‫ومن هنا ‪٬‬تب أن نلفت الذين‬
‫يقولون بالربا ‪ ،‬ونقول ‪٢‬تم ‪ :‬قولوا ‪:‬‬
‫إن الربا حرام ‪ ،‬ولكننا ال نقدر عىل‬
‫أنفسنا حىت نبطله ونًتكه ‪،‬‬
‫وعليكم أن ٕتاهدوا أنفسكم عىل‬
‫ا‪٠‬تروج منه حىت ال تتعرضوا ‪ٟ‬ترب‬
‫اهلل ورسوله ‪ .‬إهنم باعتقادهم أن‬
‫الربا حرام يكونون عاصُت فقط ‪،‬‬
‫أما أن ٭تاولوا تْبير الربا و٭تللوه‬
‫فسيدخلون يف دائرة أخرى شر من‬
‫ذلك ‪ ،‬وهي دائرة الكفر والعياذ‬
‫باهلل ‪.‬‬

‫وقد عرفنا أن آدم عليه السبلم‬


‫عىص ربه ‪ ،‬وأكل من الشجرة ‪،‬‬
‫وإبليس عىص ربه ‪ ،‬فلما تلىق آدم‬
‫من ربه كلمات فتاب عليه ‪ ،‬أما‬
‫إبليس فقد طرده اهلل ‪ ،‬و‪١‬تاذا طرد‬
‫اهلل إبليس وأحل عليه اللعنة؟‬
‫ألن آدم أقر بالذنب وقال ‪ « :‬ربنا‬
‫ظلمنا أنفسنا » ‪ .‬لقد اعًتف آدم ‪:‬‬
‫حكمك يا رب حكم حق ‪ ،‬ولكٍت‬
‫إبس‬ ‫ظلمت نفسي ‪ .‬ولكن لي‬
‫عارض يف األمر وقال ‪ { :‬أَأ َ ْس ُج ُد‬
‫ِ‪١‬ت َ ْن َخل َ ْق َت ِطينا ً} ‪ ،‬فكأنه رد األمر‬
‫عىل اْلمر ‪.‬‬
‫وبعد ذلك حُت بُت اهلل ا‪ٟ‬تكم يف‬
‫الربا ‪ ،‬وبُت أن من انتىه له ما سلف‬
‫‪ ،‬فماذا عن الذي يعود؟ { َو َم ْن عَادَ‬
‫} وهي ا‪١‬تقابل { فأولئك‬
‫ون }‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫أَصحاب النار هم فِيها َخال ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ْ َ ُ‬
‫‪ ،‬يريد سبحانه أن يقول ‪ :‬إياكم‬
‫أن ٮتدعكم الربا بلفظه ‪ ،‬فاأللفاظ‬
‫ٗتدع البشر؛ ألنكم ‪ٝ‬تيتموه «‬
‫ربا » بالسطحية الناظرة ‪ :‬ألن‬
‫الربا هو الزيادة ‪ ،‬والزكاة تنقص ‪،‬‬
‫فا‪١‬تائة يف الربا تكون مائة وعشرة‬
‫مثبل حسب سعر الفائدة ‪ ،‬ويف‬
‫الزكاة تصبح ا‪١‬تائة ( ‪ ، ) 5 . 97‬يف‬
‫األموال وعروض التجارة ‪،‬‬
‫وٗتتلف عن ذلك يف الزروع و َتها‬
‫‪ ،‬ويف ظاهر األمر أن الربا زاد ‪،‬‬
‫والزكاة أنقصت ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫النقصان وتلك الزيادة هي يف‬
‫اصطبلحاتكم يف أعرافكم ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل ٯتحق الزائد‬
‫‪ ،‬وينمي الناقص؛ فهو سبحانه‬
‫يقول ‪َ { :‬ٯت ْ َح ُق اهلل الربا َويُ ْر ِيب‬
‫الصدقات ‪} . . .‬‬
‫الص َدقَ ِ‬
‫ات‬ ‫اّلل ال ّ ِربَا َويُ ْر ِيب َّ‬ ‫ٯتح‬
‫َ ْ َ ُق َّ ُ‬
‫ب كُ َّل كَ ّفَا ٍر أَثِ ٍ‬
‫يم‬ ‫اّلل َال ُ٭ت ِ ُّ‬
‫َو َّ ُ‬
‫(‪)276‬‬

‫وكلمة { َٯت ْ َح ُق } من « ‪٤‬تق » أي‬


‫ضاع حاال بعد حال ‪ ،‬أي لم يضع‬
‫فجأة ‪ ،‬ولكن تسلل يف الضياع‬
‫بدون شعور ‪ ،‬ومنه « ا‪١‬تحاق » أي‬
‫الذهاب للهبلل ‪َ { .‬ٯت ْ َح ُق اهلل‬
‫الربا } أي ‪٬‬تعله زاهيا أمام‬
‫صاحبه ثم يتسلل إليه ا‪٠‬تراب من‬
‫حيث ال يشعر ‪.‬‬
‫ولعلنا إن دققنا النظر يف البيئات‬
‫ا‪١‬تحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك ‪.‬‬
‫فكم من أناس رابوا ‪ ،‬ورأيناهم ‪،‬‬
‫وعرفناهم ‪ ،‬وبعد ذلك عرفنا كيف‬
‫انتهت حياهتم ‪َ { .‬ٯت ْ َح ُق اهلل الربا‬
‫َويُ ْر ِيب الصدقات } ويقول يف آية‬
‫أخرى ‪َ { :‬و َمآ آتَي ْ ُت ْم ِّمن ِّربا ًل ِ ّ ََت ْ ُب َوا ْ‬
‫ِيف أ َ ْم َو ِال الناس فَبل َي َ ْر ُبوا ْ ِعن َد اهلل }‬
‫ػ الروم ‪] 39 :‬‬
‫فإياكم أن تعتقدوا أنكم ٗتدعون‬
‫اهلل بذلك ‪ . .‬ما هو ا‪١‬تقابل؟{ َو َمآ‬
‫ِ‬
‫ون َو ْج َه اهلل‬ ‫آتَي ْ ُت ْم ّمن زَكَا ٍة ُت ِر ُ‬
‫يد َ‬
‫فأولئك ُه ُم ا‪١‬تضعفون } ػ الروم ‪:‬‬
‫‪] 39‬‬
‫و { ا‪١‬تضعفون } هم الذين ‪٬‬تعلون‬
‫الشيء أضعافا ًمضاعفة ‪ .‬وعندما‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬ٯت ْ َح ُق اهلل الربا }‬
‫فبل تستهن بنسبة الفعل هلل؛ إن‬
‫نسبة الفعل لفاعله ‪٬‬تب أن تأخذ‬
‫كيفيته من ذات الفاعل ‪ ،‬فإذا قيل‬
‫لك ‪ :‬فبلن الضعيف يصفعك ‪ ،‬أو‬
‫فبلن ا‪١‬تبلكم يصفعك ‪ ،‬فبلبد أن‬
‫تقيس هذه الصفعة بفاعلها ‪ ،‬فإذا‬
‫كان اهلل هو الذي قال ‪َ { :‬ٯت ْ َح ُق‬
‫اهلل } ‪ .‬أيوجد ‪٤‬تق فوق هذا؟ ال ‪ ،‬ال‬
‫ٯتكن ‪.‬‬
‫وأيضا حُت يقول اهلل ‪َ { :‬ٯت ْ َح ُق‬
‫اهلل الربا َويُ ْر ِيب الصدقات} يف‬
‫القرآن الذي يُتىل وهو معجز؛‬
‫ومتحدي ْتفظه ‪ ،‬فهذه‬ ‫و‪٤‬تفوظ ُ‬
‫قضية مصونة { َٯت ْ َح ُق اهلل الربا‬
‫َويُ ْر ِيب الصدقات } ؛ ألن الذي‬
‫قا‪٢‬تا هو اهلل يف كتاب اهلل ا‪١‬تحفوظ ‪،‬‬
‫الذي يُتىل ُمتَعَبِ ّدا ًبه ‪ ،‬أي أن القضية‬
‫عىل ألسنة ا‪ٞ‬تماهَت كلها ‪ ،‬ويف قلوب‬
‫ا‪١‬تؤمنُت كلها ‪ ،‬أيقول اهلل قضية‬
‫٭تفظها ذلك ا‪ٟ‬تفظ ليأيت واقع الزمن‬
‫ليكذبها؟ ال ‪ ،‬ال ٯتكن ‪ .‬فاإلنسان‬
‫ال ٭تفظ إال ا‪١‬تستند الذي يؤيده !!‬
‫أنا ال أحفظ إال « الكمبيالة » اليت‬
‫ٗتصٍت! فما دام هو حافظه وهو‬
‫القائل ‪ { :‬إِن َّا َ‪٨‬ت ْ ُن ن َ َّزلْنَا الذكر َوإِن َّا‬
‫ون } ػ ا‪ٟ‬تجر ‪] 9 :‬‬ ‫ظ‬‫ُ‬ ‫لَه َ‪ٟ‬تافِ‬
‫ُ َ َ‬
‫فمعٌت ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه‬
‫قضايا ‪ ،‬وهذه القضايا هو الذي‬
‫تَعهد ْتفظها ‪ ،‬وال يتعهد ْتفظها إال‬
‫لتكون حجة عىل صدقه يف قو‪٢‬تا ‪.‬‬
‫فالشيء الذي ال يكون فيه ُحجة ال‬
‫‪٨‬تافظ عليه ‪ .‬وهو سبحانه القائل ‪:‬‬
‫{ َوإ َِّن ُجن َدنَا َ‪٢‬ت ُ ُم الغالبون } ػ‬
‫الصافات ‪] 173 :‬‬
‫إن هذه قضية قرآنية تعهد اهلل‬
‫ْتفظها ‪ ،‬فبلبد أن يأيت واقع اٌفياة‬
‫ليؤيدها ‪ ،‬فإذا كان واقع ا‪ٟ‬تياة ال‬
‫يؤيدها ‪ ،‬ماذا يكون ا‪١‬توقف؟‬
‫أنكذب القرآن وحاشانا أن‬
‫نكذب القرآن الذي قاله ا‪ٟ‬تق‬
‫الذي ال إله سواه ليدير كونا ًمن‬
‫ُ‬
‫ورائه ‪.‬‬
‫{ َٯت ْ َح ُق اهلل الربا َويُ ْر ِيب الصدقات‬
‫ب كُ َّل َك ّفَا ٍر أَثِ ٍ‬
‫يم } ‪.‬‬ ‫واهلل ال َ ُ٭ت ِ ُّ‬
‫و‪١‬تاذا قال اٌفق ‪ « :‬كفار » ولم‬
‫يقل ‪ « :‬كافر » ‪ ،‬و‪١‬تاذا قال ‪« :‬‬
‫أثيم » وليس ‪٣‬ترد « آثم »؟ ألنه‬
‫يريد أن يرد ا‪ٟ‬تكم عىل اهلل وما دام‬
‫يريد أن يرد ا‪ٟ‬تكم عىل اهلل ‪ ،‬فقد‬
‫كفر كفرين اثنُت ‪ :‬كفر ألنه لم‬
‫يعًتف بهذه ‪ ،‬وكفر ألنه ّ‬
‫رد ا‪ٟ‬تكم‬
‫عىل اهلل ‪ ،‬وهو « أثيم » ‪ ،‬ليس ‪٣‬ترد‬
‫« آثم » ‪ ،‬ويف ذلك صيغة ا‪١‬تبالغة‬
‫لنستدل عىل أن القضية اليت ‪٨‬تن‬
‫بصددها قضية عمرانية‬
‫اجتماعية كونية ‪ ،‬إن لم تكن كما‬
‫أرادها اهلل فسيتزلزل أركان‬
‫ا‪١‬تجتمع كله ‪.‬‬

‫وبعد أن شرح لنا ا‪ٟ‬تق مرارة‬


‫ا‪١‬تبالغة يف « كفار » ويف « أثيم »‬
‫يأيت لنا با‪١‬تقابل حىت ندرك حبلوة‬
‫هذا ا‪١‬تقابل ‪ ،‬ومثال ذلك ما يقول‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫ض ‪...‬‬ ‫فالوجه مثل الصبح مبي ّ‬
‫والشعر مثل الليل مس ّ‬
‫ودُ‬
‫ض ّدان ‪١‬تا استجمعا َح ُسنا ‪...‬‬
‫والضد يظهر حسنَه الض ُّد‬
‫فكأن اهلل بعد أن تكلم عن ال َك ّفَار‬
‫واألثيم يرجعنا ‪ٟ‬تبلوة اإلٯتان‬
‫فيقول ‪ { :‬إ َِّن الذين آ َم ُنوا ْ َو َع ِملُوا ْ‬
‫الصا‪ٟ‬تات َوأَقَا ُموا ْالصبلة َوآتَ ُوا ْ‬
‫الزكاة َ‪٢‬ت ُ ْم أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن َد َربِّ ِه ْم ‪. . .‬‬
‫}‬
‫الص ِا‪ٟ‬ت ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫إ َِّن ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا َو َعملُوا َّ َ‬
‫الص َبلةَ َوآتَ ُوا ال َّزكَاةَ َ‪٢‬ت ُ ْم‬ ‫َوأَقَا ُموا َّ‬
‫أ َ ْج ُر ُه ْم ِعن ْ َد َر ِبّ ِه ْم َو َال َخ ْو ٌف‬
‫ون (‪)277‬‬ ‫عَلَي ْ ِه ْم َو َال ُه ْم َ٭ت ْ َزن ُ َ‬
‫وقلنا ‪ :‬إن كلمة « أجر » تقتضي‬
‫أنه ال يوجد ‪٥‬تلوق ٯتلك سلعة ‪،‬‬
‫إ‪٪‬تا كلنا مستأجرون ‪١ ،‬تاذا؟ ألننا‬
‫نشغل ا‪١‬تخ ا‪١‬تخلوق هلل ‪ ،‬بالطاقة‬
‫ا‪١‬تخلوقة هلل ‪ ،‬يف ا‪١‬تادة ا‪١‬تخلوقة هلل ‪،‬‬
‫فماذا ٘تلك أنت أيها اإلنسان إال‬
‫عملك ‪ ،‬وما دمت ال ٘تلك إال‬
‫عملك فلك أجر { َ‪٢‬ت ُ ْم أ َ ْج ُر ُه ْم‬
‫ِعن َد َر ِبّ ِه ْم } ‪ .‬وكلمة { ِعن َد َر ِبّ ِه ْم‬
‫} ‪٢‬تا ملحظ؛ فعندما يكون لك‬
‫األجر عند ا‪١‬تساوي لك قد يأكلك‬
‫وىل هو‬ ‫‪ ،‬أما أجرك عند رب ت ّ‬
‫تربيتك ‪ ،‬فلن يضيع أبدا ً‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َ َخ ْو ٌف عَلَي ْ ِه ْم }‬
‫ال من أنفسهم عىل أنفسهم ‪ ،‬وال‬
‫من أحبابهم عليهم ‪َ { ،‬وال َ ُه ْم‬
‫ون } ؛ ألن أي شيء فاهتم من‬ ‫ي َ ْحزَن ُ َ‬
‫ا‪٠‬تَت سيجدونه ُ‪٤‬تضرا أمامهم ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ياأيها‬
‫الذين آ َم ُنوا ْاتقوا اهلل ‪} . . .‬‬
‫اّللَ َوذَ ُروا‬‫يَا أَيُّهَا ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا اتَّ ُقوا َّ‬
‫ُت‬ ‫ما بَقِي ِم َن ال ّ ِربَا إ ِْن ُكن ْ ُتم م ْؤ ِم ِ‬
‫ن‬
‫ُْ َ‬ ‫َ َ‬
‫(‪)278‬‬

‫وحُت يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ياأيها الذين‬


‫آ َم ُنوا ْ} فنحن نعرف أن النداء‬
‫باإلٯتان حيثية كل تكليف بعده ‪،‬‬
‫وساعة ينادي ا‪ٟ‬تق ويقول ‪{ :‬‬
‫ياأيها الذين آ َم ُنوا ْ} أي يا من‬
‫آمنتم يب إ‪٢‬تا قادرا ًحكيما ً‪ ،‬عزيزا ً‬
‫عنكم البا ًعىل أمري ‪ ،‬ال تضرين‬
‫معصيتكم ‪ ،‬وال تنفعٍت طاعتكم ‪،‬‬
‫فإذا كنتم قد آمنتم يب وأنا إله قادر‬
‫حكيم فا‪ٝ‬تعوا مٍت ما أحبه لكم‬
‫من األحكام ‪.‬‬
‫إذن فكل { ياأيها الذين آ َم ُنوا ْ} يف‬
‫القرآن هي حيثية كل حكم يأيت‬
‫بعدها ‪ ،‬وأنت تفعل ما يأمرك به‬
‫اهلل ‪ ،‬وإن سألك أحد ‪ :‬وقال لك ‪:‬‬
‫‪١‬تاذا فعلت هذا األمر؟ فقل له فعلته‬
‫ألين مؤمن ‪ ،‬والذي أمرين به هو‬
‫الذي آمنت ْتكمته وقدرته ‪.‬‬
‫وأنت ال تدخل يف متاهة علل‬
‫األحكام ‪ ،‬ألنك آمنت بأن اهلل إله‬
‫حكيم قادر ‪ ،‬أنزل لك تلك‬
‫التكاليف ‪ ،‬وإياك أن تدخل يف‬
‫متاهة علة األحكام ‪١ ،‬تاذا؟ ألن‬
‫هناك أشياء قد تغيب علّتها عنك ‪،‬‬
‫أكنت تؤجلها إىل أن تعرف العلة؟ ‪.‬‬
‫أكنا نؤجل ٖتريم ‪ٟ‬تم ا‪٠‬تزنير إىل‬
‫أن يثبت حاليا ًبالتحليل أنه ضار؟‬
‫ال ‪ ،‬إذا كان قد ثبت حاليا ًبالتحليل‬
‫أنه ضار فنحن نزداد ثقة يف كل‬
‫حكم كلفنا اهلل به ‪ ،‬ولم هنتد إىل‬
‫علته ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق يقول ‪ { :‬ياأيها الذين‬
‫آ َم ُنوا ْاتقوا اهلل } ومن عجائب‬
‫كلمة { اتقوا } أهنا تأيت يف أشياء‬
‫يبدو أهنا متناقضة ‪ ،‬إ‪٪‬تا هي ملتقية‬
‫{ ياأيها الذين آ َم ُنوا ْاتقوا اهلل }‬
‫ولم يقل هنا ‪ :‬اتقوا النار كما قال‬
‫يف آية أخرى ‪ { :‬اتقوا النار } ‪.‬‬
‫إذن فكيف يقول ‪ { :‬اتقوا اهلل }‬
‫ويقول ‪ { :‬اتقوا النار } ؟ ألن معٌت‬
‫{ اتقوا } ‪ :‬أي اجعلوا وقاية‬
‫بينكم وبُت ربكم ‪.‬‬
‫كيف ‪٧‬تعل وقاية بيننا وبُت ربنا مع‬
‫أن ا‪١‬تطلوب منا إٯتانيا ًأن نلتحم‬
‫ٔتنهج اهلل لنكون دائما يف معية‬
‫اهلل؟ نقول ‪ :‬اهلل سبحانه وتعاىل له‬
‫صفات جبلل كالقهار ‪ ،‬وا‪١‬تنتقم ‪،‬‬
‫وا‪ٞ‬تبار ‪ ،‬وذي الطول وشديد‬
‫العقاب؛ فهو يطلب من عبده‬
‫ا‪١‬تؤمن أن ‪٬‬تعل بينه وبُت صفات‬
‫جبلله وقاية ‪ ،‬فالنار جند من جنود‬
‫صفات ا‪ٞ‬تبلل ‪ ،‬وحُت يقول‬
‫سبحانه ‪ { :‬اتقوا اهلل } يعٍت ‪:‬‬
‫اجعلوا وقاية بينكم وبُت صفات‬
‫ا‪ٞ‬تبلل اليت من جنودها النار ‪ .‬إذن‬
‫ف { اتقوا اهلل } مثل { اتقوا النار‬
‫} أي اجعلوا وقاية بينكم وبُت‬
‫النار ‪.‬‬
‫ويتابع ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وذَ ُروا ْ َما بَقِ َي ِم َن‬
‫ِِ‬
‫ُت} ‪ ،‬و { ذَ ُروا ْ‬ ‫الربا إِن ُكن ْ ُت ْم ّمُ ْؤمن َ‬
‫} أي اتركوا ‪ ،‬ودعوا ‪ ،‬وتناسوا ‪،‬‬
‫واطلبوا ا‪٠‬تَت من اهلل فيما بىق من‬
‫الربا إن كنتم مؤمنُت حقا ًباهلل ‪.‬‬
‫كأن اهلل أراد أن ‪٬‬تعلها تصفية‬
‫فاصلة ‪ ،‬يولد من بعدها ا‪١‬تؤمن‬
‫طاهرا نقيا ‪.‬‬
‫إنه أمر من ا‪ٟ‬تق ‪ :‬دعوا الربا الذي‬
‫لم تقبضوه؛ ألن الذي قبضتموه‬
‫أمره { فَل َ ُه َما َسل َ َف } والذي لم‬
‫تقبضوه اتركوه ‪ { :‬اتقوا اهلل َوذَ ُروا ْ‬
‫ُت }‬ ‫ما بَقِي ِم َن الربا إِن ُكن ْ ُتم ُّم ْؤ ِم ِ‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫فإن قلتم إن التعاقد قد صدر قبل‬
‫التحريم ‪ ،‬والتعاقد قد أوجب لك‬
‫ا‪ٟ‬تق يف ذلك ‪ ،‬تذكر أنك لم تقبض‬
‫هذا ا‪ٟ‬تق ليصَت يف يدك ‪ ،‬وال تقل‬
‫إن حيايت االقتصادية مًتتبة عليه ‪،‬‬
‫فًتتيب ا‪ٟ‬تياة االقتصادية لم ينشأ‬
‫باالتفاق عىل هذا الربا ‪ ،‬ولكنه ينشأ‬
‫بقبضه وأنت لم تقبضه ‪ .‬ويتابع‬
‫ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَإِن ل َّ ْم تَ ْفعَلُوا ْفَأْذَنُوا ْ‬
‫ِْت َ ْر ٍب ِّم َن اهلل َو َر ُسول ِ ِه ‪} . . .‬‬
‫فَإِن لَم تَ ْفعَلُوا فَأْذَنُوا ِْت َ ْر ٍب ِم َن َ ِ‬
‫اّلل‬
‫ّ‬ ‫ْ ْ‬
‫وس‬ ‫ء‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ِن‬ ‫إ‬‫و‬ ‫ورسول ِ ِ‬
‫ه‬
‫ْ ُُْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََُ َ‬
‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫أ ْم َوال ُك ْم َال تَ ْظل ُم َ‬
‫ون َو َال ُت ْظل َ ُم َ‬
‫ون‬
‫(‪)279‬‬

‫يف هذه اْلية قضية كونية يتغافل‬


‫عنها كثَت من الناس ‪ .‬لقد جاء‬
‫نظام ليحمي طائفة من ظلم‬
‫طائفة ‪ ،‬ولم يأت هذا النظام إال‬
‫بعد أن وجدت طائفة ا‪١‬ترابُت‬
‫الذين ظلموا طائفة الفقراء‬
‫وح ْس ُب هؤالء‬
‫ا‪١‬تستضعفُت ‪َ .‬‬
‫ا‪١‬تستضعفُت الذين استغلوا من‬
‫ا‪١‬ترابُت أن ينصفهم القرآن وأن‬
‫يُنهي قضية الربا إهناء ًيعطي الذين‬
‫رابوا ما سلف ألهنم بنوا حياهتم عىل‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫و { فَأْذَنُوا ْ ِْت َ ْر ٍب } كلمة ( األلف‬
‫والذال والنون ) من « األذن » وكل‬
‫ا‪١‬تادة مشتقة من « األذن » و «‬
‫األذن » هي األصل األول يف‬ ‫ُ‬
‫اإلعبلم؛ ألن اإلنسان ليس‬
‫مفروضا ًأنه قارئ أوال ‪ ،‬إنّه ال‬
‫يكون قارئا ًإال إذا ‪ٝ‬تع ‪ ،‬إذن فبل‬
‫ٯتكن أن ينشأ إعبلم إال بالسماع‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حينما تكلم‬
‫عن أدوات العلم لئلنسان قال ‪{ :‬‬
‫كم ِّمن ُب ُط ِ‬
‫ون أُ َّمهَاتِ ُك ْم‬ ‫واهلل أ َ ْخ َر َج ُ‬
‫ون َشيْئا ً َو َجعَ َل ل َ ُك ُم السمع‬
‫ال َتَعْل َ ُم َ‬
‫واألبصار واألفئدة لَعَل َّ ُك ْم‬
‫ون } ػ النحل ‪] 78 :‬‬ ‫تَ ْش ُك ُر َ‬
‫ولذلك عندما جاء علم وظائف‬
‫األعضاء ليبحث ذلك وجدوها‬
‫طبق األصل كما قال اهلل عنها ‪.‬‬
‫فالوليد الصغَت حُت يولد إن جاء‬
‫إصبع إنسان عند عينيه فبل يهتز له‬
‫رمش؛ ألن عينه لم تؤد مهمتها بعد‬
‫‪ ،‬ولكن إن تصرخ ّتانب أذنه فإنه‬
‫ينفعل ‪.‬‬
‫وعرفنا أن أول أداة تؤدي مهمتها‬
‫بالنسبة لئلنسان الوليد هي أذنه ‪،‬‬
‫وهي أيضا األداة اليت تؤدي مهمتها‬
‫بالنسبة لئلنسان مستيقظا ًكان أو‬
‫نائما ً‪ .‬إن العُت تغمض يف النوم‬
‫فبل ترى ‪ ،‬لكن األذن مستعدة‬
‫طوال الوقت ألن تسمع؛ ألهنا آلة‬
‫االستدعاء ‪ .‬إذن فمادة « األَذَان » و‬
‫« األ ُُذن » كلها جاءت من مهمة‬
‫السمع ‪ ،‬وقال اهلل سبحانه وتعاىل ‪:‬‬
‫{ َوأ َ ِذن َ ْت ل ِ َر ِبّهَا َو ُح َّق ْت } ػ‬
‫االنشقاق ‪] 5 :‬‬
‫ما معٌت أذنت؟ ‪ .‬أنت حُت تسمع‬
‫من مساو لك ‪ ،‬فقد تنفذ وقد ال‬
‫تنفذ ‪ ،‬لكن حُت تسمعه من إله‬
‫قادر فبل مناص لك إال أن تنفذ ‪،‬‬
‫فكأن اهلل يقول ‪ :‬إن األرض تنشق‬
‫حُت تسمع أمري باالنشقاق ‪.‬‬
‫فبمجرد أن تسمع األرض أمر ا‪ٟ‬تق‬
‫فإهنا تفعل ‪ ،‬وحق ‪٢‬تا أن تفعل‬
‫ذلك؛ إهنا أذنت ألمر اهلل ‪ ،‬أي‬
‫خضعت؛ ألن القائل ‪٢‬تا هو اهلل ‪.‬‬
‫إذن كل ا‪١‬تادة هنا جاءت من « األذن‬
‫» ‪ .‬ولذلك فاهلل يقول ‪١‬تن ال يفعل‬
‫ما أمر به اهلل يف الربا؛{ فَإِن ل َّ ْم‬
‫تَ ْفعَلُوا ْفَأْذَنُوا ْ ِْت َ ْر ٍب ِّم َن اهلل َو َر ُسول ِ ِه‬
‫} ‪ .‬أما حرب اهلل فبل نقول فيها إال‬
‫ك‬‫قول اهلل ‪َ { :‬و َما يَعْل َ ُم ُج ُنودَ َربِّ َ‬
‫المثر ‪] 31 :‬‬ ‫إِال َّ ُه َو } ػ د‬
‫وال يستطيع أحد أن ٭تتاط ‪٢‬تا ‪ .‬وأما‬
‫حرب رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم فهذه هي األمر الظاهر ‪ .‬كأن‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل ‪٬‬ترد عىل‬
‫ا‪١‬ترابُت ٕتريدة هائلة من جنوده‬
‫اليت ال يعلمها إال هو ‪ ،‬وحرب‬
‫رسول اهلل جنودها هم ا‪١‬تؤمنون‬
‫برسوله ‪ ،‬وعليهم أن يكونوا حربا‬
‫عىل كل ظاهرة من ظواهر الفساد‬
‫يف الكون؛ ليطهروا حياهتم من‬
‫دنس الربا ‪.‬‬

‫وهكذا وضع اهلل هناية ألسلوب‬


‫التعامل ‪ ،‬حىت يتطهر ا‪١‬تال من ذلك‬
‫الربا ‪ ،‬فإذا قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَل َ ُك ْم‬
‫ِ‬ ‫ر ُؤ َ ِ‬
‫وس أ ْم َوال ُك ْم ال َتَ ْظل ُم َ‬
‫ون َوال َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ون } فمعٌت هذا أنه سبحانه‬ ‫ُت ْظل َ ُم َ‬
‫يبُت لنا بهذا القول أنه ال حق‬
‫للمرابُت يف ضعف وال ضعفُت ‪ ،‬وال‬
‫يف أضعاف مضاعفة ‪ .‬وحينئذ { ال َ‬
‫ون } من رابيتم ‪ ،‬بأن‬ ‫ِ‬
‫تَ ْظل ُم َ‬
‫تأخذوا منهم زائدا عن رأس ا‪١‬تال‬
‫‪.‬‬
‫ولكن ما موقع { َوال َ ُت ْظل َ ُم َ‬
‫ون } ‪،‬‬
‫ومن الذي يظلمهم؟ قد يظلمهم‬
‫الضعيف الذي ُظلِ َم ‪٢‬تم سابقا ‪،‬‬
‫ويأخذ منهم بعض رأس ا‪١‬تال‬
‫بدعوى أهنم طا‪١‬تا استغلوه فأخذوا‬
‫منه قدرا ًزائدا عىل رأس ا‪١‬تال ‪ .‬إن‬
‫ا‪١‬تشرع يريد أن ٯتنع الظالم‬
‫السابق فينهي ظلمه ‪ ،‬وأن يسعف‬
‫ا‪١‬تظلوم البلحق فيعطيه حقه ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه ال يريد أن يوجه ظلما‬
‫ليستغل به من ُظلم فيظلم الذي‬
‫ظلمه أوال ‪ ،‬بل سبحانه يشاء بهذا‬
‫ا‪ٟ‬تكم أن ينهي هذا النوع من‬
‫الظلم عىل إطبلقه ‪ ،‬وأن ‪٬‬تعل‬
‫ا‪ٞ‬تميع عىل قدر سواء يف االنتفاع‬
‫ٔتزايا ا‪ٟ‬تكم ‪.‬‬
‫وكثَت من النظريات اليت تأيت‬
‫لتقلب نظاما يف ‪٣‬تتمع ما تعمد إىل‬
‫الطائفة اليت َظل َ َمت ‪ ،‬فبل تكتفي‬
‫بأن تكفها عن الظلم ‪ ،‬ولكن‬
‫٘تكن للمظلوم أن يظلم من‬
‫ظلمه ‪ ،‬وذلك هو اإلجحاف يف‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪ ،‬وهذا ما ‪٬‬تب أن يتنبه‬
‫إليه الناس جيدا؛ ألن اهلل الذي‬
‫أنصفك أيها ا‪١‬تظلوم من ظا‪١‬تك ‪،‬‬
‫فمنع ظلمه لك ‪ ،‬هنا ‪٬‬تب أن ٖتًتم‬
‫حكمه حينما قال ‪ { :‬فَل َ ُه َما َسل َ َف‬
‫} وبهذا القول انتهت القضية ‪.‬‬
‫ويستأنف سبحانه األمر بعدالة‬
‫جديدة ٕتمعك وٕتمعه عىل قدم‬
‫ا‪١‬تساواة بدون ظلم منك أيها‬
‫ا‪١‬تظلوم سابقا ْتجة أنه طا‪١‬تا‬
‫ظلمك ‪ .‬وا‪١‬تجتمعات حُت تسَت‬
‫ون َوال َ‬ ‫م‬ ‫عىل هذا النظام{ ال َتَ ْظلِ‬
‫ُ َ‬
‫ون } إ‪٪‬تا تسَت عىل ‪٪‬تط‬ ‫ُت ْظل َ ُم َ‬
‫معتدل ال عىل ظلم موجه ‪ .‬فنحن‬
‫نعيب عىل قوم أهنم ظلموا ‪ ،‬ثم نأيت‬
‫بقوم لنجعلهم ي َ ْظلِمون ‪ ،‬ال ‪ . .‬إن‬
‫اًفميع عىل قدم ا‪١‬تساواة من اْلن ‪.‬‬
‫وفساد أي نظام يف ا‪١‬تجتمع يأيت من‬
‫توجيه الظلم من فئة جديدة إىل‬
‫فئة قدٯتة ‪ ،‬فبذلك يظل النظام‬
‫قائما ‪ ،‬طائفة َظل َ َمت ‪ ،‬وتأيت‬
‫طائفة كانت مظلومة لتظلم‬
‫الطائفة الظا‪١‬تة سابقا ‪ ،‬نقول ‪٢‬تم ‪:‬‬
‫ذلك ظلم موجه ‪ ،‬و‪٨‬تن نريد أن‬
‫تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد‬
‫ا‪١‬تجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه‬
‫‪ ،‬فالذي َظل َ َم سابقا منعناه عن‬
‫ظلمه ‪ ،‬وا‪١‬تغلوب سابقا أنصفناه ‪،‬‬
‫وبذلك يصَت الكل عىل قدم‬
‫ا‪١‬تساواة؛ ليسَت ا‪١‬تجتمع مسَتة‬
‫عادلة ٖتكمه قضية إٯتانية ‪ .‬إننا ال‬
‫نكافئ من عىص اهلل فينا بأكثر من‬
‫أن نطيع اهلل فيه ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يجيء القرآن ليفتح باب‬
‫جديدا من األمل أمام ا‪١‬تظلومُت ‪.‬‬
‫وليضع حدا للذين كانوا ظا‪١‬تُت أوال‬
‫‪ ،‬وحكم ‪٢‬تم برأس ا‪١‬تال ومنعهم‬
‫من الزائد عىل رأس ا‪١‬تال ‪ ،‬فحنن‬
‫قلوبهم عىل هؤالء ‪ .‬أ َ ْي ليست‬
‫ضربة الزب أن تأخذوا رأس ا‪١‬تال‬
‫اْلن ‪ ،‬ولكن عليكم أن ُتن ْ ِظروا‬
‫و٘تهلوا ا‪١‬تدين إن كان معسرا ً‪،‬‬
‫وإن تساميتم يف النضج اإلٯتاين‬
‫اليقيٍت وارتضيتم اهلل بديبل لكم‬
‫عن كل عوض يفوتكم ‪ ،‬فعليكم‬
‫أن تتجاوزوا وتتنازلوا حىت عن‬
‫رءوس أموالكم اليت حكم اهلل‬
‫لكم بها لتًتفعوا بها وهتبوها ‪١‬تن ال‬
‫يقدر ‪ .‬فيأيت قول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وإِن ك َ َ‬
‫ان‬
‫ُذو ُع ْس َر ٍة فَن َ ِظ َرةٌ إىل َمي ْ َس َر ٍة ‪} . . .‬‬

‫ان ُذو ُع ْس َر ٍة فَن َ ِظ َرةٌ إ َِىل َمي ْ َس َر ٍة‬


‫َوإ ِْن ك َ َ‬
‫َوأ َ ْن تَ َص َّد ُقوا َخ َْتٌ ل َ ُك ْم إ ِْن ُكن ْ ُت ْم‬
‫ون (‪)280‬‬ ‫تَعْل َ ُم َ‬
‫ان ُذو ُع ْس َر ٍة } حكم بأن‬
‫و { َوإِن ك َ َ‬
‫للدائن رأس ا‪١‬تال ‪ ،‬ولكن هب ّ‬
‫أن‬
‫ا‪١‬تدين ذو عسرة ‪ ،‬هنا قضية يثَتها‬
‫بعض ا‪١‬تستشرقُت الذين يدعون‬
‫أهنم درسوا العربية ‪ ،‬لقد درسوها‬
‫صناعة ‪ ،‬ولكنها عزت عليهم‬
‫ملكة؛ ألن اللغة ليست صناعة‬
‫فقط ‪ ،‬اللغة طبع ‪ ،‬واللغة ملكة ‪،‬‬
‫اللغة وجدان ‪ ،‬يقولون ‪ :‬إن القرآن‬
‫يفوته بعض التقعيدات اليت‬
‫تقعدها لغته ‪ .‬فمثبل جاءوا بهذه‬
‫ان ُذو ُع ْس َر ٍة فَن َ ِظ َرةٌ‬ ‫اْلية ‪َ { :‬وإِن ك َ َ‬
‫إىل َمي ْ َس َر ٍة َوأَن تَ َص َّد ُقوا ْ َخ َْتٌ ل َّ ُك ْم‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫إِن ُكن ْ ُت ْم تَعْل َ ُم َ‬
‫قال بعض ا‪١‬تستشرقُت ‪ :‬نريد أن‬
‫نبحث مع علماء القرآن عن خْب {‬
‫ان } يف قوله ‪َ { :‬وإِن ك َ َ‬
‫ان ُذو‬ ‫كَ َ‬
‫ٍ‬
‫ُع ْس َرة } ‪ ،‬صحيح ال ‪٧‬تد خْب { ك َ َ‬
‫ان‬
‫} ‪ ،‬ولكن ا‪١‬تلكة العربية ليست‬
‫عنده؛ ألنه إذا كان قد درس العربية‬
‫كان ‪٬‬تب أن يعرف أن { ك َ َ‬
‫ان }‬
‫ٖتتاج إىل اسم وإىل خْب ‪ ،‬اسم‬
‫مرفوع وخْب منصوب وهذه هي‬
‫اليت يقال عنها كان الناقصة ‪ ،‬كان‬
‫‪٬‬تب أن يفهم أيضا معها أهنا قد تأيت‬
‫تامة أي ليس ‪٢‬تا خْب ‪ ،‬وتكتفي‬
‫با‪١‬ترفوع ‪ ،‬وهذه ٖتتاج إىل شرح‬
‫بسيط ‪.‬‬
‫إن كل فعل من األفعال يدل عىل‬
‫حدث وزمن ‪ ،‬وكلمة { ك َ َ‬
‫ان } إن‬
‫‪ٝ‬تعتها دلت عىل وجود وحدث‬
‫مطلق لم تبُت فيه ا‪ٟ‬تالة اليت عليها‬
‫ا‪ٝ‬تها ‪ ،‬كان ‪٣‬تتهدا؟ كان كسوال؟‬
‫مثبل فهي تدل عىل وجود شيء مطلق‬
‫أي ليس له حالة ‪ ،‬ومعٌت ذلك أن{‬
‫ان } دلت عىل الزمن الوجودي‬ ‫كَ َ‬
‫ا‪١‬تطلق أي عىل ا‪١‬تعٌت ا‪١‬تجرد‬
‫الناقص ‪ ،‬والشيء ا‪١‬تطلق ال يظهر‬
‫ا‪١‬تراد منه إال إذا قيد ‪ ،‬فإن أردت أن‬
‫تدل عىل وجود مقيد ليتضح ا‪١‬تعٌت ‪،‬‬
‫ويظهر ‪ ،‬فبل بد أن تأتيها ٓتْب ‪ ،‬كأن‬
‫قتول ‪ :‬كان زيد ‪٣‬تتهدا ‪ ،‬هنا وجد‬
‫شيء خاص وهو اجتهاد زيد ‪ .‬إذن‬
‫ان } هنا ناقصة تريد ا‪٠‬تْب‬
‫ف{ كَ َ‬
‫يكملها وليعطيها الوجود ا‪٠‬تاص ‪،‬‬
‫فإذا لم يكن األمر كذلك وأردنا‬
‫الوجود فقط تكون { ك َ َ‬
‫ان } تامة‬
‫أي تكتفي ٔترفوعها فقط مثل أن‬
‫تقول ‪ :‬عاد الغائب فكان الفرح أي‬
‫وجد ‪ ،‬أو أشرقت الشمس فكان‬
‫النور ‪ ،‬والشاعر يقول ‪:‬‬
‫وكانت وليس الصبح فيها بأبيض‬
‫‪ ...‬وأضحت وليس الليل فيها‬
‫بأسود‬
‫ان ُذو ُع ْس َر ٍة } أي‬
‫فقوله { َوإِن ك َ َ‬
‫فإن وجد ذو عسرة ‪ . .‬أي إن وجد‬
‫إنسان ليس عنده قدرة عىل السداد‬
‫‪ { ،‬فَن َ ِظ َرةٌ } من الدائن { إىل‬
‫َمي ْ َس َر ٍة } أي إىل أن يتيسر ‪،‬‬
‫ويكون رأس ا‪١‬تال يف هذه ا‪ٟ‬تالة {‬
‫قَ ْرضا ً َح َسنا ً} ‪ ،‬وكلما صْب عليه‬
‫‪ٟ‬تظة أعطاه اهلل عليها ثوابا ‪.‬‬
‫ولنا أن نعرف أن ثواب القرض‬
‫ا‪ٟ‬تسن أكثر من ثواب الصدقة؛‬
‫ألن الصدقة حُت تعطيها فقد‬
‫قطعت أمل نفسك منها ‪ ،‬وال‬
‫تشغل بها ‪ ،‬وتأخذ ثوابا عىل ذلك‬
‫دفعة واحدة ‪ ،‬لكن القرض حُت‬
‫تعطيه فقلبك يكون متعلقا به ‪،‬‬
‫فكلما يكون التعلق به شديدا ‪،‬‬
‫ويهب عليك حب ا‪١‬تال وتصْب‬
‫فأنت تأخذ ثوابا ‪ .‬لذلك ‪٬‬تب أن‬
‫تلحظ أن القرض حُت يكون‬
‫قرضا حسنا وا‪١‬تقًتض معذور‬
‫ْتق؛ ألن فيه فرقا ًبُت معذور ْتق ‪،‬‬
‫ومعذور بباطل ‪ ،‬ا‪١‬تعذور ْتق هو‬
‫الذي ٭تاول جاهدا أن يسدد دينه ‪،‬‬
‫ولكن الظروف تقف أمامه وٖتول‬
‫دون ذلك ‪ ،‬أما ا‪١‬تعذور بباطل‬
‫فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه‬
‫ٯتاطل يف السداد ويبىق ا‪١‬تال ينتفع‬
‫به وهو بهذا ظالم ‪.‬‬
‫ولذلك جرب نفسك ‪ ،‬ستجد أن‬
‫كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن‬
‫صاحبه حرص عىل السداد ولم‬
‫يسدد ‪ ،‬وكل دين كان بردا ًو سبلما ً‬
‫عىل قلبك فاعلم أن صاحبه معذور‬
‫ْتق وال يقدر أن يسدد ‪ ،‬ورٔتا‬
‫استحييت أنت أن ٘تر عليه ‪٥‬تافة‬
‫أن ٖترجه ٔتجرد رؤيتك ‪ .‬وهؤالء‬
‫ال يطول بهم ال ّدي ْ ُن طويبل؛ ألن‬
‫الرسول حكم يف هذه القضية‬
‫حكما ‪ ،‬فقال صىل اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫« من أخذ أموال الناس يريد‬
‫أداءها أدى اهلل عنه ‪ ،‬ومن أخذها‬
‫يريد إتبلفها أتلفه اهلل » ‪.‬‬
‫فما دام ساعة أخذها يف نيته أن‬
‫يؤدي فإن اهلل ييسر له سبيل األداء‬
‫‪ ،‬ومن أخذها يريد إتبلفها ‪ ،‬فاهلل ال‬
‫ييسر له أن يسدد؛ ألنه ال يقدر عىل‬
‫ترك ا‪١‬تال يسدد به دينه وهذه‬
‫حادثة يف حياة الرسول صىل اهلل‬
‫عليه وسلم تفسر لنا هذا ا‪ٟ‬تديث ‪،‬‬
‫فقد مات رجل عليه دين ‪ ،‬فلما‬
‫علم رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‬
‫أنه مدين؛ قال ألصحابه ‪ :‬صلوا‬
‫عىل أخيكم ‪.‬‬
‫إذن فهو لم يصل ‪ ،‬ولكنه طلب من‬
‫أصحابه أن يصلوا ‪١ ،‬تاذا لم يصل؟‬
‫ألنه قال قضية سابقة ‪ « :‬من أخذ‬
‫أموال الناس يريد أداءها ّأدى اهلل‬
‫عنه » ما دام قد مات ولم يؤد إذن‬
‫فقد كان يف نيته أن ٯتاطل ‪ ،‬لكن‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم لم‬
‫ٯتنع أصحابه من الصبلة عليه ‪.‬‬
‫والرسول صىل اهلل عليه وسلم يأيت‬
‫للمعسر ويعامله معاملة األر٭تية‬
‫اإلٯتانية فيقول ‪ « :‬من أنظر‬
‫معسرا ًأو وضع عنه أظله اهلل يف ظله‬
‫يوم ال ظل إال ظله » ‪.‬‬
‫ومعٌت « أنظر » أي أمهله وأخر‬
‫أخذ الدين منه فبل يبلحقه ‪ ،‬فبل‬
‫٭تبسه يف دَي ْ ِنه ‪ ،‬فبل يطارده ‪ ،‬وإن‬
‫تساىم يف اليقُت اإلٯتاين ‪ ،‬يقول له ‪:‬‬
‫« اذهب ‪ ،‬اهلل يعوض عل َّي وعليك »‬
‫وتنتهي ا‪١‬تسألة ‪ ،‬ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق‬
‫‪َ { :‬وأَن تَ َص َّد ُقوا ْ َخ َْتٌ ل َّ ُك ْم إِن‬
‫ون } والثمرة هي‬ ‫ُكن ْ ُت ْم تَعْ َ ُمل َ‬
‫حسن ا‪ٞ‬تزاء من اهلل ‪ .‬فإما أن تنظر‬
‫وتؤخر ‪ ،‬وإما أن تتصدق ببعض‬
‫الدين أو بكل الدين ‪ ،‬وأنت حر يف‬
‫أن تفعل ما تشاء ‪ .‬فانظروا دقة‬
‫ا‪ٟ‬تق عند تصفية هذه القضية‬
‫االقتصادية اليت كانت الشغل‬
‫الشا ل للبيئة ا‪ٞ‬تاهلية ‪.‬‬
‫ولقد عرفنا ‪٦‬تا تقدم أن اإلسبلم قد‬
‫بٌت العملية االقتصادية عىل الرفد‬
‫والعطاء ‪ ،‬وتكلم ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل عنها يف آيات النفقة اليت‬
‫سبقت من أول قوله تعاىل ‪َّ { :‬مث َ ُل‬
‫ون أ َ ْم َوا َ‪٢‬ت ُ ْم ِيف َسب ِ‬ ‫ِ‬
‫ِيل اهلل‬ ‫الذين يُنْف ُق َ‬
‫كَ َمث َ ِل َحب َّ ٍة } ‪.‬‬

‫وتكلم طويبل ًعن النفقة ‪ .‬والنفقة‬


‫تشمل ما يكون مفروضا ًعليك‬
‫من زكاة ‪ ،‬وما تتطوع به أنت ‪.‬‬
‫وا‪١‬تتطوع بشيء فوق ما فرض اهلل‬
‫يعتْبه سبحانه حقا ًللفقَت ‪ ،‬ولكنه‬
‫حق َت معلوم ‪ ،‬ولذلك حينما‬
‫تعرضنا إىل قوله سبحانه ‪ { :‬إ َِّن‬
‫ات َو ُعيُونٍ * آ ِخ ِذي َن‬ ‫ا‪١‬تتقُت ِيف َجنَّ ٍ‬
‫َمآ آتَ ُاه ْم َربُّ ُه ْم إ َِّهن ُ ْم كَانُوا ْقَب ْ َل‬
‫ُت* كَانُوا ْقَلِيبل ً ِّمن اليل‬
‫س َ‬
‫ك ُ‪٤‬ت ْ ِ نِ‬
‫ذَل ِ َ‬
‫ون } ػ الذاريات ‪-15 :‬‬ ‫َما يَهْ َج ُع َ‬
‫‪] 17‬‬
‫أيتطلب اإلسبلم منا أال هنجع إال‬
‫قليبل ًمن الليل؟ ال ‪ ،‬إن للمسلم أن‬
‫يصلي العشاء وينام ‪ ،‬ثم يقوم‬
‫لصبلة الفجر ‪ ،‬هذا ما يطلبه‬
‫اإلسبلم ‪ .‬لكن ا‪ٟ‬تق سبحانه هنا‬
‫يتكلم عن ا‪١‬تحسنُت الذين دخلوا‬
‫يف مقام اإلحسان مع اهلل ‪ { .‬إ َِّن‬
‫ات َو ُعيُونٍ * آ ِخ ِذي َن‬ ‫ا‪١‬تتقُت ِيف َجنَّ ٍ‬
‫َمآ آتَ ُاه ْم َربُّ ُه ْم إ َِّهن ُ ْم كَانُوا ْقَب ْ َل‬
‫ُت * كَانُوا ْقَلِيبل ً ِّمن اليل‬ ‫َ‬
‫ك ُ‪٤‬ت ْ ِس ِ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ذَل ِ‬
‫ون * وباألسحار ُه ْم‬ ‫َما يَهْ َج ُع َ‬
‫ِ‬
‫ون } ػ الذاريات ‪-15 :‬‬ ‫ي َ ْستَغْف ُر َ‬
‫‪] 18‬‬
‫هل التشريع يلزم ا‪١‬تؤمن أن يقوم‬
‫بالسحر ليستغفر؟ ال ‪ ،‬إن ا‪١‬تسلم‬
‫عليه أن يؤدي الفروض ‪ ،‬ولكن إن‬
‫كان ا‪١‬تسلم يرغب يف دخول مقام‬
‫اإلحسان فعليه أن يعرف الطريق ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ون } ػ‬ ‫{ وباألسحار ُه ْم ي َ ْستَغْف ُر َ‬
‫الذاريات ‪] 18 :‬‬
‫والكبلم هنا يف مقام اإلحسان ‪.‬‬
‫ويضيف ا‪ٟ‬تق عن أصحاب هذا‬
‫لس ِآئ ِل‬ ‫المقام ‪ { :‬ويف أ َ ْم َو ِ ِ‬
‫ا‪٢‬ت ْم َح ٌّق ل َّ َّ‬
‫وا‪١‬تحروم } ػ الذاريات ‪] 19 :‬‬
‫إن اهلل سبحانه قد حدد يف أموال من‬
‫يدخل يف مقام اإلحسان حقا‬
‫للسائل وا‪١‬تحروم ‪ ،‬ولم ٭تدد اهلل‬
‫قيمة هذا ا‪ٟ‬تق أو لونه ‪ .‬هل هو‬
‫معلوم أو َت معلوم ‪ .‬لكن حُت‬
‫سبحان‬
‫ه‬ ‫تكلم اهلل عن ا‪١‬تؤمنُت قال‬
‫َ ِ‬
‫‪ { :‬والذين يف أ ْم َوا‪٢‬تِ ْم َح ٌّق َّمعْل ُ ٌ‬
‫وم *‬
‫لس ِآئ ِل وا‪١‬تحروم } ػ ا‪١‬تعارج ‪:‬‬ ‫ل ِ ّ َّ‬
‫‪] 25-24‬‬
‫وهكذا ‪٧‬تد يف أموال صاحب مقام‬
‫اإلحسان حقا للسائل وا‪١‬تحروم ‪،‬‬
‫لكن يف أموال صاحب اإلٯتان حق‬
‫معلوم وهو الزكاة ‪ .‬ومقام‬
‫اإلحسان يعلو مقام اإلٯتان؛ ألن‬
‫ا‪ٟ‬تق يف مال ا‪١‬تؤمن معلوم ‪ ،‬أما يف‬
‫مقام اإلحسان فإن يف ما‪٢‬تم حقا‬
‫لئلحسان إىل الفقَت وإن لم يكن‬
‫معلوما ‪ ،‬أي لم ٭تدد ‪.‬‬
‫وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتْب‬
‫الزكاة ما دامت حقا ًللفقَت عند‬
‫الغٍت فإن منع الغٍت ما قدره نصاب‬
‫سرقة ُتقطع يد الغٍت ‪ ،‬ألنه أخذ حق‬
‫الفقَت ‪ .‬ونصاب السرقة ربع دينار‬
‫ذهبا ً‪ ،‬فيبٍت اإلسبلم قضاياه‬
‫االجتماعية إما عل النفقة َت‬
‫ا‪١‬تفروضة وإما عىل النفقة‬
‫شحت نفوس‬ ‫ا‪١‬تفروضة ‪ .‬فإذا ما ّ‬
‫الناس ‪ ،‬ولم تستطيع أن تتْبع‬
‫بالقدر الزائد عىل ا‪١‬تفروض ‪،‬‬
‫و٘تكن حب ما‪٢‬تا يف نفسها ٘تكنا‬
‫قويا ًْتيث ال تتنازل عنه يقول اهلل‬
‫سبحانه لكل منهم ‪:‬‬
‫أنت لم تتنازل عن مالك ‪ ،‬وأنا‬
‫حرمت الربا ‪ ،‬فكيف نلتقي لنضع‬
‫للمجتمع أساسا ًسليما ً؟ سنحتفظ‬
‫لك ٔتالك و‪٪‬تنع عنك فائدة الربا ‪،‬‬
‫وهكذا نلتقي يف منتصف الطريق ‪،‬‬
‫ال أخذنا مالك ‪ ،‬وال أخذت من‬
‫َتك الزائد عىل هذا ا‪١‬تال ‪.‬‬
‫وشرح ا‪ٟ‬تق سبحانه آية الديْن ‪،‬‬
‫وأخذت هذه اْلية أطول حيز يف‬
‫حجم آيات القرآن ‪١ ،‬تاذا؟ ‪ .‬ألن‬
‫عىل الديْن هذا ُتبٌت قضايا ا‪١‬تجتمع‬
‫االقتصادية عند من ال ‪٬‬تد موردا ً‬
‫سَت به حركة حياته ‪.‬‬‫ماليا ًيُ ّ‬
‫وحُت وضع ا‪ٟ‬تق آية الديْن لم‬
‫يضعها وضعا ًتقنينيا ًجافا ًجامدا ً‪،‬‬
‫وإ‪٪‬تا وضعها وضعا ًوجدانيا ‪ .‬أي‬
‫مزج التقنُت بالوجدان ‪ ،‬مزج ا‪ٟ‬تق‬
‫‪ٚ‬تود القانون بروح اإلسبلم ‪ ،‬فلم‬
‫‪٬‬تعلها عملية جافة ‪.‬‬
‫وا‪١‬تشرعون من البشر عندما‬
‫يقننون فهم يضعون القانون جافا ً‪،‬‬
‫فمثال ذلك ‪ :‬من قتل يقتل ‪ ،‬و َت‬
‫ذلك ‪ .‬لكن ا‪ٟ‬تق يقول َت ذلك‬
‫حىت يف أعنف قضايا ا‪٠‬تبلف ‪ ،‬وهي‬
‫خبلفات الدم ‪ ،‬فقال سبحانه ‪{ :‬‬
‫فَ َم ْن ُع ِف َي ل َ ُه ِم ْن أ َ ِخي ِه َش ْي ٌء فاتباع‬
‫با‪١‬تعروف َوأَدَ ٌ‬
‫آء إِلَي ْ ِه بِإ ِْح َسانٍ ذلك‬
‫َٗت ْ ِف ٌ ِ‬
‫‪ٛ‬ت ٌة } ػ‬ ‫يف ّمن َّربِّ ُك ْم َو َر ْ َ‬
‫البقرة ‪] 178 :‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قبل أن يأيت‬
‫بآية الديْن ‪ ،‬يقول ‪ { :‬واتقوا ي َ ْوما ً‬
‫ون فِي ِه إ َِىل اهلل ‪} . . .‬‬
‫ُت ْر َج ُع َ‬
‫ت َج ُعون فِي ِه إ َِىل َ ِ‬
‫اّلل ُث َّم‬ ‫ّ‬ ‫َوا َّت ُقوا ي َ ْومًا ُ ْر َ‬
‫ُت َو َّىف كُ ُّل ن َ ْف ٍس َما َك َسب َ ْت َو ُه ْم َال‬
‫ون (‪)281‬‬ ‫يُ ْظل َ ُم َ‬
‫ولقد أوضحنا من قبل أن تقوى اهلل‬
‫تقتضي أن تقوم باألفعال اليت تقينا‬
‫صفات ا‪ٞ‬تبلل يف اهلل ‪ ،‬وأوضحنا أن‬
‫اهلل قال ‪ { :‬واتقوا ي َ ْوما ً} أي أن‬
‫نفعل ما ‪٬‬تعل بيننا وبُت النار وقاية‬
‫‪ ،‬فالنار من متعلقات صفات ا‪ٞ‬تبلل‬
‫‪ .‬وهاهو ذا ا‪ٟ‬تق سبحانه هنا يقول ‪:‬‬
‫{ واتقوا ي َ ْوما ً} ‪ ،‬فهل نتقي اليوم‬
‫‪ ،‬أو نتقي ما ينشأ يف اليوم؟ إن اليوم‬
‫ظرف زمان ‪ ،‬واألزمان ال ُٗتاف‬
‫بذاهتا ‪ ،‬ولكن ٮتاف اإلنسان ‪٦‬تا‬
‫يقع يف الزمن ‪.‬‬
‫لكن إذا كان شيء يف الزمن مخيفا ً‪،‬‬
‫إذن فا‪٠‬توف ينصب عىل اليوم كله ‪،‬‬
‫ألنه يوم هول؛ كل شيء فيه مف ّزع‬
‫و‪٥‬توف ‪ ،‬وقانا اهلل وإياكم ما فيه‬
‫من هول ‪ ،‬وانظر إىل الدقة‬
‫القرآنية ا‪١‬تتناهية يف قوله ‪{ :‬‬
‫ون فِي ِه إ َِىل اهلل } ‪.‬‬
‫ُت ْر َج ُع َ‬
‫إن الرجوع يف هذا اليوم ال يكون‬
‫بطواعية العباد ولكن بإرادة اهلل ‪.‬‬
‫وسبحانه حُت يتكلم عن ا‪١‬تؤمنُت‬
‫الذين يعملون الصاٌف من‬
‫األعمال؛ فإنه يقول عن رجوعهم‬
‫إىل اهلل يوم القيامة ‪ { :‬واستعينوا‬
‫بالصْب والصبلة َوإ َِّهنَا ل َ َكبَِتَةٌ إِال َّعَىلَ‬
‫ون أ َ َّهنُم‬
‫ا‪٠‬تاشعُت * الذين ي َ ُظنُّ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ون }‬‫مبلقوا َر ِبّ ِه ْم َوأ َّهن ُ ْم إِلَيْه َراج ُع َ‬
‫ػ البقرة ‪] 46-45 :‬‬
‫ومعٌت ذلك أن العبد ا‪١‬تؤمن يشتاق‬
‫إىل العودة إىل اهلل؛ ألنه يرغب أن‬
‫ينال الفوز ‪.‬‬
‫أما َت ا‪١‬تؤمنُت فيقول عنهم ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫ون إىل نَا ِر َجهَنَّ َم دَعًّا }‬
‫{ ي َ ْو َم يُ َد ُّع َ‬
‫ػ الطور ‪] 13 :‬‬
‫إن رجوع َت ا‪١‬تؤمنُت يكون‬
‫رجوعا ًقسريا ًال مرغوبا ًفيه ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق يقول عن هذا اليوم ‪ُ { :‬ث َّم‬
‫توىف كُ ُّل ن َ ْف ٍس َّما كَ َسب َ ْت َو ُه ْم ال َ‬
‫ون } ‪ .‬وبعد ذلك يقنن ا‪ٟ‬تق‬ ‫يُ ْظل َ ُم َ‬
‫سبحانه للدين فيقول سبحانه ‪{ :‬‬
‫ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَ َداي َ ُنتم‬
‫بِ َديْنٍ إىل أ َ َج ٍل ُّم َس ًّىم فاكتبوه ‪. . .‬‬
‫}‬

‫يَا أَيُّهَا ال َّ ِذي َن آ َم ُنوا إِذَا تَ َدايَن ْ ُت ْم‬


‫بِ َديْنٍ إ َِىل أ َ َج ٍل ُم َس ًّىم فَاكْ ُتب ُ ُ‬
‫وه‬
‫ب بِالْعَ ْد ِل َو َال‬ ‫ِ‬
‫ب بَيْن َ ُك ْم كَات ٌ‬ ‫َولْي َ ْك ُت ْ‬
‫ب َك َما عَل َّ َم ُه‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫يَأْب كَاتِب أ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌ‬
‫ب َولْي ْملِ ِل ال َّ ِذي عَلَي ْ ِه‬ ‫اّلل فليكت‬
‫َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ ُ‬
‫اّللَ َربَّ ُه َو َال ْ َيٓت َ ْس ِمن ْ ُه‬
‫ا ْ‪ٟ‬ت َ ُّق َولْيَتَّ ِق َّ‬
‫ان ال َّ ِذي عَلَي ْ ِه ا ْ‪ٟ‬ت َ ُّق َس ِفيهًا‬ ‫َشيْئًا فَإ ِْن ك َ َ‬
‫أ َ ْو َضعِيفًا أ َ ْو َال ي َ ْست َ ِطي ُع أ َ ْن ُ ِٯت َّل ُه َو‬
‫فَلْي ْملِ ْل َولِي ُّ ُه بِالْعَ ْد ِل َو ْاست َ ْش ِه ُدوا‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َش ِهي َدي ْ ِن م ْن ِر َجال ُك ْم فَإ ِْن ل َ ْم‬
‫ان ِ‪٦‬ت َّ ْن‬ ‫ُت فَ َر ُج ٌل َوا ْم َرأ َ َت ِ‬ ‫ي َ ُكونَا َر ُجل َ ْ ِ‬
‫تَ ْر َض ْو َن ِم َن ال ّشُهَ َداءِ أ َ ْن تَ ِض َّل‬
‫األ ْخ َرى‬ ‫ِ‬
‫ا‪٫‬تا فَ ُت َذ ّك َر إ ِْح َد ُ َ‬
‫ا‪٫‬تا ْ ُ‬ ‫إ ِْح َد ُ َ‬
‫َو َال يَأ ْ َب ال ّشُهَ َد ُاء إِذَا َما ُد ُعوا َو َال‬
‫َ‬
‫وه َصغَِتًا أ َ ْو كَبَِتًا‬ ‫تَ ْسأ ُموا أ َ ْن تَ ْك ُتب ُ ُ‬
‫إ َِىل أ َ َجلِ ِه ذَل ِ ُكم أَقْس ُط ِعن ْ َد َ ِ‬
‫اّلل‬
‫ّ‬ ‫ْ َ‬
‫َوأ َ ْق َو ُم لِل َّشهَادَ ِة َوأَدْ َىن أ َ َّال تَ ْرتَا ُبوا إ َِّال‬
‫وهنَا‬‫ارة ً َحا ِض َرة ً ُت ِدي ُر َ‬ ‫أَن تَ ُك ِ‬
‫ون ٕتَ َ‬
‫ْ َ‬
‫اح أ َ َّال‬
‫بَيْن َ ُك ْم فَلَي ْ َس عَلَي ْ ُك ْم ُجن َ ٌ‬
‫وها َوأ َ ْش ِه ُدوا إِذَا تَبَايَعْ ُت ْم َو َال‬
‫تَ ْك ُتب ُ َ‬
‫ب َو َال َش ِهي ٌد َوإ ِْن تَ ْفعَلُوا‬ ‫ِ‬
‫يُ َض َّار كَات ٌ‬
‫وق بِ ُك ْم َوا َّت ُقوا َّ‬
‫اّللَ‬ ‫فَإ َّ ُهِن ُف ُس ٌ‬
‫ٍ ِ‬ ‫َويُعَلِ ّ ُم ُك ُم ّ َُ‬
‫اّلل بِ ُك ّ ِل َش ْيء عَل ٌ‬
‫يم‬ ‫اّلل َو ّ َُ‬
‫(‪)282‬‬
‫إهنا أطول آية يف آيات القرآن‬
‫ويستهلها اهلل بقوله ‪ { :‬ياأيها‬
‫الذين آمنوا } وهذا االستهبلل‬
‫كما نعرف يوحي بأن ما يأيت بعد‬
‫هذا االستهبلل من حكم ‪ ،‬يكون‬
‫اإلٯتان هو حيثية ذلك ا‪ٟ‬تكم ‪ ،‬فما‬
‫دمت قد آمنت باهلل فأنت تطبق ما‬
‫كلفك به؛ ألن اهلل لم يكلف كافرا ً‪،‬‬
‫فاإلنسان كما قلنا سابقا ًحر يف أن‬
‫يُقبل عىل اإلٯتان باهلل أو ال يُقبل ‪.‬‬
‫فإن أقبل اإلنسان باإلٯتان‬
‫فليستقبل كل حكم ن اهلل بالتزام‬
‫‪ .‬ونضرب هذا ا‪١‬تثل وهلل ا‪١‬تثل‬
‫األعىل إن اإلنسان حُت يكون‬
‫مريضا ً‪ ،‬هو حر يف أن يذهب إىل‬
‫الطبيب أو ال يذهب ‪ ،‬ولكن حُت‬
‫يذهب اإلنسان إىل الطبيب‬
‫ويكتب له الدواء فاإلنسان ال‬
‫يسأل الطبيب وهو ‪٥‬تلوق مثله ‪:‬‬
‫‪١‬تاذا كتبت هذه العقاقَت؟ ‪.‬‬
‫إن الطبيب ٯتكن أن يرد ‪ :‬إنك‬
‫كنت حرا يف أن تأيت إيل ّأو ال تأيت ‪،‬‬
‫لكن ما دمت قد جئت إىل فا‪ٝ‬تع‬
‫الكبلم ونفذه ‪ .‬والطبيب ال يشرح‬
‫التفاعبلت وا‪١‬تعادالت ال ‪ ،‬إن‬
‫الطبيب يشخص ا‪١‬ترض ‪ ،‬ويكتب‬
‫الدواء ‪ .‬فما بالنا إذا أقبلنا عىل ا‪٠‬تالق‬
‫األعىل باإلٯتان؟‬
‫إننا نفذ أوامره سبحانه ‪ ،‬واهلل ال‬
‫يأمر ا‪١‬تؤمن إال عن حكمة ‪ ،‬وقد‬
‫تتجىل للمؤمن بعد ذلك آثار‬
‫ا‪ٟ‬تكمة ويزداد ا‪١‬تؤمن ثقة يف‬
‫إٯتانه باهلل ‪ .‬يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ياأيها‬
‫الذين آمنوا إِذَا تَ َداي َ ُنتم بِ َديْنٍ إىل‬
‫أ َ َج ٍل ُّم َس ًّىم فاكتبوه } وعندما‬
‫نتأمل قول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬تَ َداي َ ُنتم }‬
‫‪٧‬تد فيها « دَيْن » ‪ ،‬وهناك « دِين »‬
‫‪ ،‬ومن معٌت ال ِديّن ا‪ٞ‬تزاء ‪ ،‬ومن‬
‫معٌت ال ِ ّدين منهج السماء ‪ ،‬وأما‬
‫ال َّديْن فهو االقًتاض إىل موعد‬
‫يسدد فيه ‪ .‬هكذا ‪٧‬تد ثبلثة معان‬
‫واضحة ‪ :‬ال ِ ّدين ‪ :‬وهو يوم ا‪ٞ‬تزاء ‪،‬‬
‫وال َّديْن وهو ا‪١‬تنهج السماوي‬
‫وال َّديْن ‪ :‬هو ا‪١‬تال ا‪١‬تقًتض ‪.‬‬
‫واهلل يريد من قوله ‪ { :‬تَ َداي َ ُنتم‬
‫بِ َديْنٍ } أن يزيل اللبس يف معنيُت‬
‫‪ ،‬ويبىق معٌت واحدا ًوهو االقًتاض‬
‫فقال ‪ { :‬بِ َديْنٍ } فالتفاعل هنا يف‬
‫مسألة ال َديْن ال يف ا‪ٞ‬تزاء وال يف‬
‫ا‪١‬تنهج ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق ٭تدد ال َديْن بأجل‬
‫ُمس ّىم ‪ .‬وقد أراد اهلل بكلمة «‬
‫ُمس ّىم » مزيدا ًمن التحديد ‪،‬‬
‫فهناك فرق بُت أجل لزمن ‪ ،‬وبُت‬
‫أجل ‪ٟ‬تدث ٭تدث ‪ ،‬فإذا قلت ‪:‬‬
‫األجل عندي مقدم ا‪ٟ‬تجيج ‪ .‬فهذا‬
‫حدث يف زمن ‪ ،‬ومقدم ا‪ٟ‬تجيج ال‬
‫يضمنه أحد ‪ ،‬فقد تتأخر الطائرة ‪،‬‬
‫أو يصاب بعض من ا‪ٟ‬تجيج ٔترض‬
‫فيتم حجز الباقُت يف ا‪ٟ‬تجر الصحي‬
‫‪.‬‬
‫أما إذا قلت ‪ :‬األجل عندي شهران‬
‫أو ثبلثة أشهر فهذا يعٍت أن األجل‬
‫هو الزمن نفسه ‪ ،‬لذلك ال يصح أن‬
‫يؤجل أجل دينه إىل شي ء ٭تدث يف‬
‫الزمن؛ ألنه من ا‪ٞ‬تائز أال ٭تدث‬
‫ذلك الشيء يف هذا الزمن ‪ .‬إن‬
‫التداين بديْن إىل أجل ُمس ىم‬
‫يقتضي ٖتديد الزمن ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق يوضح‬
‫لنا ‪ { :‬إِذَا تَ َداي َ ُنتم بِ َديْنٍ إىل أ َ َج ٍل‬
‫ُّم َس ًّىم فاكتبوه } وكلمة { فاكتبوه‬
‫} هي رفع ‪ٟ‬ترج األحباء من األحباء‬
‫‪.‬‬

‫إنه تشريع سماوي ‪ ،‬فبل تأخذ أحد‬


‫األر٭تية ‪ ،‬فيقول لصاحبه ‪٨ « :‬تن‬
‫أصحاب » ‪ ،‬إنه تشريع ‪ٝ‬تاوي‬
‫يقول لك ‪ :‬اكتب الديْن ‪ ،‬وال تقل‬
‫‪٨ « :‬تن أصدقاء » فقد ٯتوت‬
‫واحد منكما فإن لم تكتب الديْن‬
‫حرجا ًفماذا يفعل األبناء ‪ ،‬أو‬
‫األرامل ‪ ،‬أو الورثة؟ ‪.‬‬
‫إذن فإلزام ا‪ٟ‬تق بكتابة الديْن هو‬
‫تنفيذ ألمر من اهلل ٭تقق رفع ا‪ٟ‬ترج‬
‫بُت األحباء ‪ .‬ويظن كثَت من الناس‬
‫أن اهلل يريد بالكتابة ‪ٛ‬تاية الدائن‬
‫‪ .‬ال ‪ ،‬إن ا‪١‬تقصود بذلك وا‪١‬تهم هو‬
‫‪ٛ‬تاية ا‪١‬تدين ‪ ،‬ألن ا‪١‬تدين إن علم‬
‫أن الديْن عليه موثق حرص أن‬
‫يعمل ليؤدي ديْنه ‪ ،‬أما إذا كان‬
‫الدين َت موثق فيمن ا‪ٞ‬تائز أن‬
‫يكسل عن العمل وعن سداد‬
‫الديْن ‪ .‬وبذلك ٭تصل هو وأسرته‬
‫عىل حاجته مرة واحدة ‪ ،‬ثم يضن‬
‫ا‪١‬تجتمع الغٍت عىل ا‪١‬تجتمع الفقَت‬
‫فبل يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك‬
‫اإلنسان عن السداد ذريعة لذلك ‪،‬‬
‫ويقع هذا اإلنسان الذي لم يؤد‬
‫دينه يف دائرة ٖتمل الوزر ا‪١‬تضاعف‬
‫‪ ،‬ألنه ضيّق باب القرض اٌفسن ‪.‬‬
‫إن اهلل يريد أن يسَت دوالب ا‪ٟ‬تياة‬
‫االقتصادية عند من ال ٯتلك ‪ ،‬ألن‬
‫من ٯتلك يستطيع أن ّ‬
‫يسَت حياته ‪،‬‬
‫أما من ال ٯتلك فهو ا‪١‬تحتاج ‪.‬‬
‫ولذلك فهناك مثل يف الريف‬
‫ا‪١‬تصري يقول ‪ :‬من يأخذ ويعطي‬
‫يصَت ا‪١‬تال ماله ‪ .‬إنه يقًتض‬
‫ويسدد ‪ ،‬لذلك يثق فيه كل الناس ‪،‬‬
‫أمُتويرونه ُ‪٣‬تدا ً‪ ،‬ويرونه‬
‫ويرونه ا ً‬
‫‪٥‬تلصا ً‪ ،‬ويعرفون عنه أنه إذا أخذ‬
‫وىف ‪ ،‬فكل ا‪١‬تال يصبح ماله ‪.‬‬
‫ّ‬
‫إذن فاهلل سبحانه بكتابة الديْن‬
‫يريد ‪ٛ‬تاية حركة ا‪ٟ‬تياة عند َت‬
‫الواجد؛ ألن الواجد يف َت حاجة‬
‫إىل القرض ‪ .‬لذلك جاء األمر من‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪ { :‬إِذَا تَ َداي َ ُنتم بِ َديْنٍ‬
‫إىل أ َ َج ٍل ُّم َس ًّىم فاكتبوه } ‪ .‬ومن‬
‫الذي يكتب الديْن؟ ‪.‬‬
‫انظر الدقة ‪ :‬ال أنت أيها الدائن‬
‫الذي تكتب ‪ ،‬وال أنت أيها ا‪١‬تدين‬
‫‪ ،‬ولكن البد أن يأيت كاتب َت‬
‫االثنُت ‪ ،‬فبل مصلحة ‪٢‬تذا الثالث‬
‫من عملية الدين { َولْي َ ْك ُتب‬
‫ب‬‫بَّيْن َ ُكم كَاتِب بالعدل وال َيَأْب كَاتِ‬
‫َ َ ٌ‬ ‫ْ ٌ‬
‫ب َك َما عَل َّ َم ُه اهلل } ‪ .‬ويف‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫أَ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ذلك إيضاح بأن اإلنسان الذي‬
‫يعرف الكتابة إن ُطلب منه أن‬
‫يكتب ديْنا ًأال ٯتتنع عن ذلك ‪،‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن اْلية آية الديْن قد نزلت‬
‫وكانت الكتابة عند العرب قليلة ‪،‬‬
‫كان هناك عدد قليل فقط هم‬
‫الذين يعرفون الكتابة ‪ ،‬فكان‬
‫هناك طلب شديد عىل من يعرف‬
‫الكتابة ‪.‬‬
‫ولكن إن لم يُ ْطلَب أحد من الذين‬
‫يعرفون الكتابة أن يكتب الديْن‬
‫فماذا يفعل؟ ‪ .‬إن ا‪ٟ‬تق يأمره بأن‬
‫يتطوع ‪ ،‬ويف ذلك يأيت األمر الواضح‬
‫« فليكتب »؛ ألن اإلنسان إذا ما‬
‫كان هناك أمر يقتضي منه أن‬
‫يعمل ‪ ،‬والظرف ال ٭تتمل ٕتربة ‪،‬‬
‫فالشرع يلزمه أن يندب نفسه‬
‫للعمل ‪.‬‬
‫هب أنكم يف زورق وبعد ذلك‬
‫جاءت عاصفة ‪ ،‬وأغرقت الذي‬
‫ٯتسك بدفة الزورق ‪ ،‬أو هو َت‬
‫قادر عىل إدارة الدفة ‪ ،‬هنا ‪٬‬تب أن‬
‫يتقدم من يعرف ليدير الدفة ‪ ،‬إنه‬
‫يندب نفسه للعمل ‪ ،‬فبل ‪٣‬تال‬
‫للتجربة ‪.‬‬

‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل حُت عرض‬


‫قضية ا‪ٞ‬تدب يف قصة سيدنا يوسف‬
‫ُت دَأَبا ً‬ ‫ِِ‬
‫ون َسب ْ ُع سن َ‬
‫قال ‪ { :‬تَ ْز َر ُع َ‬
‫فَما َح َصد ّتُم فَ َذر ُوه ِيف سنبلِ ِه إِال َّ‬
‫ْ ُ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ون * ُث َّم يَأ ْ ِيت ِمن بَعْ ِد‬ ‫ِ ِ ْ‬
‫قَليبل ً ّ‪٦‬تَّا تَأكُل ُ َ‬
‫ذلك َسب ْ ٌع ِش َد ٌاد يَأْكُل َْن َما قَ ّد َْم ُت ْم َ‪٢‬ت ُ َّن‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ون } ػ يوسف ‪:‬‬ ‫إِال َّقَليبل ً ّ‪٦‬تَّا ُٖتْص ُن َ‬
‫‪] 48-47‬‬
‫ال اجعلٍت‬ ‫وقال سيدنا يوسف ‪ { :‬قَ َ‬
‫يم‬ ‫عىل َخ َزآ ِئ ِن األرض إ ِِّين َح ِف ٌيظ عَلِ‬
‫ٌ‬
‫} ػ يوسف ‪] 55 :‬‬
‫إن ا‪١‬تسألة جدب فبل ٖتتمل‬
‫التجربة ‪ ،‬وهو كفء ‪٢‬تذه ا‪١‬تهمة ‪،‬‬
‫ٯتلك موهبة ا‪ٟ‬تفظ والعلم ‪،‬‬
‫فيندب نفسه للعمل ‪ .‬كذلك هنا‬ ‫ُ‬
‫ب َك َما‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫{ وال َيَأْب كَاتِب أ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ٌ‬
‫عَل َّ َم ُه اهلل } إذا طلب منه وإن لم‬
‫ب} ‪.‬‬ ‫يطلب منه وتعُت { فَلْي َ ْك ُت ْ‬
‫وهذه علة األمرين االثنُت ‪ ،‬وما‬
‫دامت الكتابة للتوثيق يف ال َّديْن؛‬
‫فمن الضعيف؟ إنه ا‪١‬تدين ‪،‬‬
‫والكتابة حجة عليه للدائن ‪ ،‬لذلك‬
‫٭تدد اهلل الذي ٯتلل ‪ :‬الذي عليه‬
‫الديْن ‪ ،‬أي ٯتلي الصيغة اليت تكون‬
‫حجة عليه { َولْي ْملِ ِل الذي عَلَي ْ ِه‬
‫ُ‬
‫ا‪ٟ‬تق } و‪١‬تاذا ال ٯتلي الدائن؟ ألن‬
‫ا‪١‬تدين عادة يف مركز الضعف ‪،‬‬
‫فلعل الدائن عندما تأيت ‪ٟ‬تظة‬
‫كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا‬
‫ا‪١‬تيعاد ‪ ،‬وقد ٮتجل ا‪١‬تدين أن‬
‫يتكلم ويصمت؛ ألنه يف مركز‬
‫الضعف ‪ .‬وٮتتار اهلل الذي يف مركز‬
‫الضعف ليملي صيغة الديْن ‪ ،‬ٯتلي‬
‫عىل راحته ‪ ،‬ويضمن أال يُؤخذ‬
‫بسيف ا‪ٟ‬تاجة يف أن موضع من‬
‫ا‪١‬تواضع ‪.‬‬
‫لكن ماذا نفعل عندما يكون الذي‬
‫عليه الديْن سفيها أو ضعيفا أو ال‬
‫يستطيع أن ٯتل هو؟ إن ا‪ٟ‬تق يضع‬
‫ان الذي عَلَي ْ ِه ا‪ٟ‬تق‬ ‫القواعد { فَإن ك َ َ‬
‫يست َ ِطي ُع أَن‬
‫َس ِفيها ًأ َ ْو َضعِيفا ًأ َ ْو ال َ َ ْ‬
‫ُ ِٯت َّل ُه َو فَلْي ْملِ ْل َولِي ُّ ُه بالعدل }‬
‫ُ‬
‫والسفيه هو البالغ مبلغ الرجال إال‬
‫أنه ال ٯتتلك أهلية التصرف ‪.‬‬
‫والضيف هو الذي ال ٯتلك القدرة‬
‫اليت ُتبلغه أن يكون ناضجا النضج‬
‫العقلي للتعامل ‪ ،‬كأن يكون طفبل‬
‫صغَتا ‪ ،‬أو شيخا بلغ من الكْب حىت‬
‫صار ال يعلم من بعد علمه شيئا ‪ ،‬أو‬
‫ال يستطيع أن ٯتل ‪ .‬أي أخرس‬
‫فيقول باإلمبلء الويل أو ّ‬
‫القيم أو‬
‫الوص ّي ‪.‬‬
‫ويأيت التوثيق الزائد ‪ :‬بقوله تعاىل ‪:‬‬
‫{ واستشهدوا َش ِهي َدي ْ ِن ِّمن‬
‫ِّر َجال ِ ُك ْم فَإِن ل َّ ْم ي َ ُكونَا َر ُجل َ ْ ِ‬
‫ُت‬
‫فَ َر ُج ٌل وامرأتان ِ‪٦‬تَّن تَ ْر َض ْو َن ِم َن‬
‫ا‪٫‬تا فَ ُت َذ ِ ّك َر‬ ‫َ‬
‫الشهدآء أن تَ ِض َّل إ ِْح َد ُ َ‬
‫ا‪٫‬تا األخرى } ‪.‬‬ ‫إ ِْح َد ُ َ‬
‫ولننظر إىل الدقة يف التوثيق عندما‬
‫يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬واستشهدوا }‬
‫نستشهد ونكتب ‪ ،‬ألنه سبحانه‬
‫يريد بهذا التوثيق أن يؤ ّمن ا‪ٟ‬تياة‬
‫االقتصادية عند َت الواجد؛ ألن‬
‫ؤمنَة عند َت‬‫ا‪ٟ‬تاجة عندما تكون م َّ‬
‫الواجد فالدوالب ٯتشي وتسَت‬
‫حركة ا‪ٟ‬تياة االقتصادية؛ ألن‬
‫الواجد هو القليل ‪ ،‬و َت الواجد هو‬
‫الكثَت ‪ ،‬فكل فكر جاد ومفيد ٭تتاج‬
‫إىل مائة إنسان ينفذون التخطيط ‪.‬‬
‫أن ا‪ٞ‬تيب الواجد الذي يصرف‬
‫٭تتاج إىل مائة لينفذوا ‪ ،‬و‪٢‬تذا‬
‫تكون ا‪ٞ‬تمهرة من الذين ال ‪٬‬تدون‬
‫‪ ،‬وذلك حىت يسَت نظام ا‪ٟ‬تياة؛ ألن‬
‫اهلل ال يريد أن يكون نظام ا‪ٟ‬تياة‬
‫تفضبل من ا‪٠‬تلق عىل ا‪٠‬تلق ‪ ،‬إ‪٪‬تا‬
‫يريد اهلل نظام ا‪ٟ‬تياة نظاما‬
‫ضروريا؛ فالعامل الذي ال يعول‬
‫أسرة قد ال ٮترج إىل العمل ‪ ،‬لذلك‬
‫فا‪ٟ‬تق يربط خروج العامل ْتاجته ‪.‬‬
‫إنه ٭تتاج إىل الطعام ورعاية نفسه‬
‫وأسرته فيخرج اضطرارا إىل‬
‫العمل ‪ ،‬وبتكرار األمر يعشق‬
‫عمله ‪ ،‬وحُت يعشق العمل فهو‬
‫٭تب العمل يف ذاته ‪.‬‬
‫وبذلك ينتقل من ا‪ٟ‬تاجة إىل‬
‫العمل ‪ ،‬إىل حب العمل يف ذاته ‪،‬‬
‫وإذا ما أحب العمل يف ذاته ‪ ،‬فعجلة‬
‫ا‪ٟ‬تياة تسَت ‪ .‬وا‪ٟ‬تق سبحانه حُت‬
‫٭تدد الشهود بهذا القول ‪{ :‬‬
‫واستشهدوا َش ِهي َدي ْ ِن ِّمن ِّر َجا ل ِ ُك ْم‬
‫}‪.‬‬
‫و‪١‬تاذا قال ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬ش ِهي َدي ْ ِن } ولم‬
‫يقل « شاهدان »؟ ألن مطلق‬
‫شاهد قد يكون زورا ً‪ ،‬لذلك جاء‬
‫ا‪ٟ‬تق بصيغة ا‪١‬تبالغة ‪ .‬كأنه شاهد‬
‫عرفه الناس بعدالة الشهادة حىت‬
‫صار شهيدا ‪ .‬إنه إنسان تكررت‬
‫منه الشهادة العادلة؛ واستأمنه‬
‫الناس عىل ذلك ‪ ،‬وهذا دليل عىل ه‬
‫أن‬
‫شهيد ‪ .‬وإن لم يكن هناك‬
‫شهيدان من الرجال فا‪ٟ‬تق ٭تدد لنا‬
‫{ فَ َر ُج ٌل وامرأتان ِ‪٦‬تَّن تَ ْر َض ْو َن‬
‫ِم َن الشهدآء } ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل قد طلب منا‬
‫عىل قدر طاقتنا أي من نرىض ‪٨‬تن‬
‫عنهم ‪ ،‬وعلل ا‪ٟ‬تق ‪٣‬تيء ا‪١‬ترأتُت يف‬
‫مقابل رجل ٔتا يلي ‪ { :‬أَن تَ ِض َّل‬
‫ا‪٫‬تا األخرى‬ ‫ِ‬
‫ا‪٫‬تا فَ ُت َذ ّك َر إ ِْح َد ُ َ‬
‫إ ِْح َد ُ َ‬
‫} ؛ ألن الشهادة هي احتكاك‬
‫ٔتجتمع لتشهد فيه وتعرف ما‬
‫٭تدث ‪ .‬وا‪١‬ترأة بعيدة عن كل ذلك‬
‫البا ‪.‬‬
‫أن األصل يف ا‪١‬ترأة أال عبلقة ‪٢‬تا‬
‫ٔتثل هذه األعمال ‪ ،‬وليس ‪٢‬تا‬
‫شأن بهذه العمليات ‪ ،‬فإذا ما‬
‫اضطرت األمور إىل شهادة ا‪١‬ترأة‬
‫فلتكن الشهادة لرجل وامرأتُت؛‬
‫ألن األصل يف فكر ا‪١‬ترأة أنه َت‬
‫مشغول با‪١‬تجتمع االقتصادي الذي‬
‫٭تيط بها ‪ ،‬فقد تضل أو تنَس‬
‫إحدا‪٫‬تا فتذكر إحدا‪٫‬تا األخرى‬
‫‪ ،‬وتتدارس كلتا‪٫‬تا هذا ا‪١‬توقف ‪،‬‬
‫ألنه ليس من واجب ا‪١‬ترأة‬
‫االحتكاك ّتمهرة الناس وٓتاصة‬
‫ما يتصل باألعمال ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وال َيَأ ْ َب‬
‫الشهدآء إِذَا َما ُد ُعوا ْ} فكما قال‬
‫ا‪ٟ‬تق عن الكاتب أال ٯتتنع عن توثيق‬
‫الديْن ‪ ،‬كذلك الشهادة عىل هذا‬
‫الديْن ‪ .‬وكيف تكون الشهادة ‪،‬‬
‫هل هي يف األداء أو التحمل؟ إن هنا‬
‫مرحلتُت ‪ :‬مرحلة ٖتمل ‪ ،‬ومرحلة‬
‫أداء ‪.‬‬
‫وعندما نطلب من واحد قائلُت ‪:‬‬
‫تعال اشهد عىل هذا الديْن ‪ .‬فليس‬
‫له أن ٯتتنع ‪ ،‬وهذا هو التحمل ‪.‬‬
‫وبعدما وثقنا الديْن ‪ ،‬وسنطلب هذا‬
‫الشاهد أمام القاضي ‪ ،‬والوقوف‬
‫أمام القاضي هو األداء ‪ .‬وهكذا ال‬
‫يأىب الشهداء إذا ما دعوا ٖتمبل أو‬
‫أداء ً‪.‬‬
‫لكن ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يعلم أن‬
‫كل نفس بشرية ‪٢‬تا ‪٣‬تال حركتها‬
‫يف الوجود و‪٬‬تب أال تطىغ حركة‬
‫حدث عىل حدث ‪ ،‬فالشاهد حُت‬
‫يُستدىع بضم الياء ليتحمل أوال أو‬
‫ليؤدي ثانيا ينبغي أال ّتتعطل‬
‫مصا‪ٟ‬ته؛ إن مصا‪ٟ‬ته ستتعطل؛‬
‫ألنه عادل ‪ ،‬وألنه شهيد ‪ ،‬لذلك‬
‫يضع اهلل لذلك األمر حدا ًفيقول ‪:‬‬
‫ب َوال َ َش ِهي ٌد } ‪.‬‬ ‫{ وال َي َض َ ِ‬
‫آر كَات ٌ‬
‫َ ُ ّ‬
‫إذن فالشهادة هنا تتطلب أن ‪٨‬تًتم‬
‫ظرف الشاهد ‪ .‬فإن كان عند‬
‫الشاهد عمل أو امتحان أو صفقة‬
‫أو َت ذلك ‪ ،‬فلنا أن نقول للشاهد ‪:‬‬
‫إما أن تتعُت يف التحمل حيث ال‬
‫يوجد من يوثق به ويطمأن إليه أما‬
‫يف األداء فأنت مضطر ‪.‬‬
‫إن الشاهد ٯتكنه أن يذهب إىل‬
‫أمره الضروري الذي ‪٬‬تب أن‬
‫يفعله ‪ ،‬فبل يطىغ حدث عىل حدث ‪،‬‬
‫لذلك علينا أن نبحث عن شاهد له‬
‫قدرة السيطرة عىل عمله بدرجة ما‬
‫‪ .‬وإن لم ‪٧‬تد َته ‪ ،‬فماذا يكون‬
‫ا‪١‬توقف؟‬
‫ب‬ ‫لقد قال ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬وال َي َض َ ِ‬
‫آر كَات ٌ‬
‫َ ُ ّ‬
‫َوال َ َش ِهي ٌد } إذن فعلينا أن نبحث له‬
‫عن « ُجعْل » يعوض عليه ما فاته ‪،‬‬
‫فبل نلزمه أن يعطل عمله وإال‬
‫كانت عدالته َوباال ًعليه ‪ ،‬ألن كل‬
‫إنسان يُطلب للشهادة تتعطل‬
‫أعماله ومصا‪ٟ‬ته ‪ .‬واهلل ال ٭تمي‬
‫الدائن وا‪١‬تدين ليضر الكاتب أو‬
‫الشهيد ‪.‬‬
‫آر } فمن‬
‫وقوله ا‪ٟ‬تق لكلمة ‪ { :‬يُ َض َّ‬
‫ا‪١‬تمكن أن تأيت الكلمة عىل وجهُت‬
‫يف اللغة ‪ ،‬فمرة تأيت { يُ َض َّ‬
‫آر }‬
‫ٔتعٌت أن الضرر يأيت من الكاتب أو‬
‫الشهيد ‪ ،‬ومرة أخرى تأيت كلمة {‬
‫آر } ٔتعٌت الضرر يقع عىل‬ ‫يُ َض َّ‬
‫الكاتب أو الشهيد ‪ .‬فاللفظ واحد ‪،‬‬
‫ولكن حالة اللفظ بُت اإلد ام الذي‬
‫هو عليه حسب قواعد اللغة وبُت‬
‫ه‬
‫فكه ي اليت ُتب َ ِّ ُ‬
‫ُت لنا إتاه ا‪١‬تعٌت ‪.‬‬
‫ب َوال َ‬ ‫فإن قلنا ‪ { :‬وال َي َض َ ِ‬
‫آر كَات ٌ‬
‫َ ُ ّ‬
‫َش ِهي ٌد } بكسر الراء ‪ ،‬فا‪١‬تعٌت يف‬
‫هذه ا‪ٟ‬تالة هو أن يقع الضرر من‬
‫الكاتب فيكتب َت ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬أو أن يقع‬
‫الضرر من الشهيد فيشهد بغَت‬
‫العدل ‪.‬‬
‫ب َوال َ‬ ‫وإن قلنا ‪ { :‬وال َي َض َ ِ‬
‫آر كَات ٌ‬
‫َ ُ ّ‬
‫َش ِهي ٌد } بفتح الراء فا‪١‬تنهي عنه هو‬
‫أن يقع الضرر عىل الكاتب أو‬
‫الشهيد من الذين تؤدي الكتابة‬
‫غرضا ‪٢‬تم ‪ ،‬وتؤدي الشهادة واجبا‬
‫بالنسبة ‪٢‬تم؛ ليضمن الدائن دَيْنه‬
‫‪ ،‬وليستوثق أن أداءه ‪٤‬تتم ‪.‬‬
‫والكاتب والشهيد شخصان ‪٢‬تما‬
‫يف ا‪ٟ‬تياة حركة ‪ ،‬ولكل منهما عمل‬
‫يقوم به ليؤدي مطلوبات ا‪ٟ‬تياة ‪،‬‬
‫فإذا ُعلِ َم بضم العُت وكسر البلم‬
‫وفتح ا‪١‬تيم أنه كاتب أو شهد بأنه‬
‫عادل ‪ ،‬عند ذلك يتم استدعاؤه يف‬
‫كل وقت من أصحاب ا‪١‬تصلحة يف‬
‫ورٔتا تعطلت مصاٌف‬‫ا‪١‬تداينة ‪ّ ،‬‬
‫الكاتب أو الشهيد ‪.‬‬
‫ويريد اهلل أن يضمن لذلك الكاتب‬
‫أو الشهيد ما يبىق عىل مصلحته ‪.‬‬
‫ولذلك أخذت القوانُت الوضعية‬
‫من القرآن الكريم هذا ا‪١‬تبدأ ‪،‬‬
‫فهي إن استدعت شاهدا من مكان‬
‫فإهنا تقوم له‬
‫ليشهد يف قضية ّ‬
‫بالنفقة ذهابا وبالنفقة إيابا ‪ ،‬وإن‬
‫اقتىض األمر أن يبيت فله حق‬
‫ا‪١‬تبيت وذلك حىت ال يضار ‪ ،‬وهو‬
‫يؤدي الشهادة ‪ ،‬وحىت ال يتعطل‬
‫الشاهد عن عمله أو يصرف من‬
‫جيبه ‪.‬‬
‫ويريد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل أيضا أن‬
‫يضمن مصاٌف ا‪ٞ‬تميع ال مصلحة‬
‫‪ٚ‬تاعة عىل حساب جماعة ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق يف هذه « ا‪١‬تضارة » ‪:‬‬
‫{ َوإِن تَ ْفعَلُوا ْفَإِن ّ َُه ُف ُس ٌ‬
‫وق بِ ُك ْم }‬
‫أي وإن تفعلوا الضرر من هذا أو‬
‫من ذاك فإنه فسوق بكم ‪ ،‬إنه‬
‫سبحانه ٭تذر أن يقع الضرر من‬
‫الكاتب أو الشهيد ‪ ،‬أو أن يقع‬
‫الضرر عىل الكاتب أو الشهيد ‪.‬‬

‫ففعل الضرر فسوق ‪ ،‬أي خروج‬


‫عن الطاعة ‪.‬‬
‫واألصل يف « الفسق » هو خروج‬
‫الرطبة من قشرهتا ‪ ،‬فالبلح حُت‬
‫يرطب تكون القشرة قد خلعت‬
‫عن األصل من البلحة ‪ ،‬فتخرج‬
‫الثمرة من القشرة فيقال ‪« :‬‬
‫فسقت الرطبة » ‪ .‬ومنها أخذ معٌت‬
‫الفسوق وهو ا‪٠‬تروج عن طاعة اهلل‬
‫يف كل ما أمر ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق سبحانه من بعد ذلك ‪:‬‬
‫{ واتقوا اهلل } وعلمنا من قبل‬
‫معٌت كلمة « التقوى » حُت يقول‬
‫اهلل ‪ { :‬واتقوا اهلل } أو يقول‬
‫سبحانه ‪ { :‬واتقوا النار } {‬
‫ون فِي ِه إ َِىل اهلل } ‪،‬‬
‫واتقوا ي َ ْوما ً ُت ْر َج ُع َ‬
‫وكل هذه ا‪١‬تعاين مبنية عىل الوقاية‬
‫من صفات جبلل اهلل ‪ ،‬وجْبوته ‪،‬‬
‫وقهره ‪ ،‬وإذا قلنا ‪ { :‬واتقوا النار }‬
‫فالنار من جنود صفات القهر هلل ‪،‬‬
‫ف { واتقوا اهلل } هي بعينها {‬
‫واتقوا النار } هي بعينها { واتقوا‬
‫ون فِي ِه إ َِىل اهلل } ‪.‬‬
‫ي َ ْوما ً ُت ْر َج ُع َ‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪ { :‬واتقوا اهلل‬
‫َويُعَلِ ّ ُم ُك ُم اهلل } ‪ .‬وهنا مبدأ إٯتاين‬
‫‪٬‬تب أن نأخذه يف كل تكليف من‬
‫اهلل؛ فإن التكاليف إن جاءت من‬
‫بشر لبشر ‪ ،‬فأنت ال تنفذ التكليف‬
‫من البشر إال إن أقنعك ْتكمته‬
‫وعلته؛ ألن التكليف يأيت من مسا ٍو‬
‫لك ‪ ،‬وال توجد عقلية أكْب من‬
‫عقلية ‪ ،‬وقد تقول ‪١‬تن يكلفك ‪:‬‬
‫و‪١‬تاذا أكون تبعا لك وأنت ال تكون‬
‫تبعا يل؟ إنك إذا أردت أن تكلفٍت‬
‫بأمر من األمور وأنت مساو يل يف‬
‫اإلنسانية والبشرية وعدم‬
‫العصمة فبل بد أن تقنعٍت ْتكمة‬
‫التكليف ‪.‬‬
‫أما إن كان التكليف من أعىل وهو‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه وهو اهلل الذي آمنا‬
‫بقدرته وعلمه وحكمته وتزنهه‬
‫عن الغرض العائد عليه فا‪١‬تؤمن يف‬
‫هذه ا‪ٟ‬تالة يأخذ األمر قبل أن‬
‫يبحث يف ا‪ٟ‬تكمة؛ ألن ا‪ٟ‬تكمة يف‬
‫هذا األمر أنه صادر من اهلل ‪ ،‬وحُت‬
‫ينفذ ا‪١‬تؤمن التكليف الصادر من‬
‫اهلل فسيعلم سر هذه ا‪ٟ‬تكمة فيما‬
‫بعد؛ فأسرار ا‪ٟ‬تكم عند اهلل تأيت‬
‫للمؤمن بعد أن يقبل عىل تنفيذ‬
‫التكاليف اإلٯتانية ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق سبحانه عىل سبيل ا‪١‬تثال ال‬
‫يقنع العبد بأسرار الصوم ‪ ،‬ولكن‬
‫إن صام العبد ا‪١‬تؤمن كما قال اهلل‬
‫وعند ‪٦‬تارسة ا‪١‬تؤمن لعبادة الصوم‬
‫سيجد أثر حكمة الصوم يف نفسه‬
‫ٔتا ال ٯتكن إقناعه به أوال ‪ .‬إن‬
‫ا‪١‬تؤمن حُت يفعل التكليف اإلٯتاين‬
‫فإن اهلل يعلمه حكمة التكليف ‪.‬‬
‫ولنا يف قوله سبحانه الدليل الواضح‬
‫‪ِ { :‬يا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّ ُقوا ْاهلل‬
‫َ‪٬‬تْعَل ل َّ ُك ْم ُف ْرقَانا ً َويُ َك ِّف ْر َعن ُك ْم‬
‫َس ِيّئَاتِ ُك ْم َويَغ ْ ِف ْر ل َ ُك ْم واهلل ُذو‬
‫الفضل العظيم } ػ األنفال ‪29 :‬‬
‫]‬
‫إن اهلل سبحانه يَعِ ُد عباده ا‪١‬تؤمنُت‬
‫أهنم عندما يتقونه فإنه ‪٬‬تعل ‪٢‬تم‬
‫دالئل تبُت ‪٢‬تم ا‪ٟ‬تق من الباطل‬
‫ويسًت عنهم السيئات ويغفر ‪٢‬تم ‪.‬‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن اهلل الذي يعلمنا هو ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه العليم بكل شيء ‪.‬‬

‫وعلم اهلل ذايت ‪ ،‬أما علم اإلنسان‬


‫فقد يكون أثرا من ضغط األحداث‬
‫عليه فيفكر اإلنسان يف تقنُت شيء‬
‫ٮترجه ‪٦‬تا يكون فيه من شر ولكن‬
‫علم العليم األعىل سابق عىل ذلك‬
‫ألنه علم ذايت ‪.‬‬
‫وفيما سبق علمنا أن اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل قد أعىط الديْن هذه العناية‬
‫ليضمن للحياة حركتها الطاهرة ‪،‬‬
‫حركتها السليمة؛ ألن ا‪١‬تعدم ال‬
‫وسيلة له يف حركة ا‪ٟ‬تياة إال أمور‬
‫ثبلثة ‪ ،‬األمر األول ‪ :‬ال ّ ِرفْ ُد أي‬
‫عطاء تطوعي يستعُت به عىل حركة‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ .‬واألمر الثاين ‪ :‬الفرض‬
‫الذي فرضه اهلل يف الزكاة ‪ .‬واألمر‬
‫الثالث ‪ :‬القرض الذي شرعه ‪.‬‬
‫فعندما ال ‪٬‬تد ا‪١‬تؤمن ا‪١‬تعدم الرفد‬
‫أو الفرض فماذا يكون بعد ذلك؟‬
‫إنه القرض ‪ .‬إذن فالقرض هو‬
‫ا‪١‬تف َزع الثالث للحركة االقتصادية‬
‫عند ا‪١‬تعدمُت ‪ .‬وعرفنا أن القرض‬
‫عند اهلل يفوق ويعلو الصدقة يف‬
‫الثواب؛ ألن الصدقة حُت تتصدق‬
‫بها تكون قد خرجت من نفسك‬
‫من أول األمر فبل مشغولية لذهنك‬
‫بعد ذلك ‪ ،‬ولكن القرض نفسك‬
‫تكون متعلقة به؛ ألنك ال تزال‬
‫مالكا ًله ‪ ،‬وكلما صْبت عليه أخذت‬
‫ثوابا ًمن اهلل عىل كل صْبة تصْبها‬
‫عىل ا‪١‬تدين ‪.‬‬
‫وعرفنا كذلك أن ا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل قد استوثق لعملية الديْن‬
‫استيثاقا ‪٬‬تب أن نفهمه من وجهيه‬
‫‪ ،‬الوجه األول ‪ :‬أنه ٭تفظ بذلك‬
‫‪ٙ‬ترة حركة ا‪١‬تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة وهي‬
‫أن يتمول ‪ ،‬أي أن يكون عنده‬
‫مال؛ فإن لم َ‪٨‬تْم له ‪ٙ‬ترة حركته يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة استهان با‪ٟ‬تركة ‪ ،‬وإذا‬
‫استهان با‪ٟ‬تركة تَعطلت مصاٌف‬
‫كثَتة؛ ألن حركة ا‪١‬تتحرك يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة تنفع بشرا ًكثَتين قصد‬
‫المٖترك ذلك أو لم يقصد ‪،‬‬
‫وضربنا ا‪١‬تثل ٔتن يريد بناء‬
‫عمارة ‪ ،‬وعنده مال ‪ ،‬فيسلط اهلل‬
‫عليه خاطرا ًمن خواطره مصداقا ً‬
‫ك‬‫لقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬و َما يَعْل َ ُم ُج ُنودَ َربِّ َ‬
‫إِال َّ ُه َو } ػ ا‪١‬تدثر ‪] 31 :‬‬
‫فيقول ‪ :‬و‪١‬تاذا أكزن ا‪١‬تال؟ و‪١‬تاذا ال‬
‫أبٍت عمارة أستفيد من إ‪٬‬تارها؟ ‪.‬‬
‫وبذلك ال يتناقص ا‪١‬تال بل يزيد ‪.‬‬
‫وليس يف بال ذلك الرجل أن ينف َع‬
‫أحدا ً‪ .‬إن باله مشغول بأن ينفع‬
‫نفسه ‪ ،‬لكن حركته وإن لم يقصد‬
‫نف َع الغَت ستنفع الغَت ‪ . .‬فالذي‬
‫٭تفر األرض سيأخذ أجرا ًلذلك ‪،‬‬
‫والذي يضرب الطوب سيأخذ‬
‫أجرا ًلذلك ‪ ،‬وكل من يشًتك يف‬
‫عمل إلقامة هذا البنيان من بناء أو‬
‫إدخال كهرباء أو توصيل مياه أو‬
‫ٖتسُت وٕتميل كل واحد من هؤالء‬
‫سيأخذ أجره ‪ ،‬وبذلك يستفيد‬
‫ا‪ٞ‬تميع وإن لم يقصد ا‪١‬تتحرك يف‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪.‬‬
‫إذن فا‪ٟ‬تق يريد أن ٭تمي حركة‬
‫ا‪١‬تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة ألنه لو لم ٭تم‬
‫اهلل ‪ٙ‬ترة حركته يف ا‪ٟ‬تياة؛ الكتىف‬
‫ا‪١‬تتحرك يف حركته ا‬
‫بميقوته‬
‫ويقوت من يقول ‪ ،‬ويبىق الضعيف‬
‫يف ا‪ٟ‬تياة؛ فمن ذا يعوله؟ ‪ .‬إذن البد‬
‫أن يضمن للمتحرك ماله حىت‬
‫يتشجع عىل ا‪ٟ‬تركة إن اهلل الذي‬
‫وهب الناس أرزاقهم ‪ ،‬عندما‬
‫يطلب من القوي ا‪١‬تتحرك أن‬
‫يعطي أخاه الضعيف ا‪١‬تحتاج قرضا ً‬
‫‪ ،‬ال يقول اهلل ‪ « :‬اقرض ا‪١‬تحتاج »‬
‫‪ ،‬ولكنه جل وعبل يقول ‪:‬‬

‫{ َّمن ذَا الذي يُ ْق ِر ُض اهلل قَ ْرضا ً‬


‫َح َسنا ً} ػ البقرة ‪] 245 :‬‬
‫إن اهلل سبحانه وتعاىل قد احًتم‬
‫حركة اإلنسان ا‪١‬تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫وجعل ا‪١‬تال مال ا‪١‬تتحرك ‪ ،‬فبل‬
‫يقول اهلل للمتحرك ‪ :‬أعط‬
‫ا‪١‬تحتاج من ا‪١‬تال الذي وهبتك إياه‬
‫‪ .‬ال ‪ ،‬إنه مال ا‪١‬تتحرك ‪ ،‬ويقول اهلل‬
‫للمتحرك ‪ :‬اقرضٍت ألن أخاك يف‬
‫حاجة إليه ‪ ،‬كما نقول للتقريب ال‬
‫للتشبيه وهلل ا‪١‬تثل األعىل أنت‬
‫تأخذ من حصالة ابنك ‪١‬تصلحة‬
‫أخيه ‪ ،‬وتعد ابنك الذي أخذت من‬
‫حصالته أنك سوف تعطيه الكثَت ‪.‬‬
‫وا‪١‬تال الذي أخذته من حصالة‬
‫ابنك قرضا أنت الذي أعطيته له‬
‫أوال ‪.‬‬
‫إذن فاهلل يريد أن ٭تمي حركة‬
‫ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وإن لم ‪٨‬تم حركة ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬ال‬
‫يكون كل إنسان آمنا ًعىل ‪ٙ‬ترة‬
‫حركته ‪ ،‬فستفسد ا‪ٟ‬تياة كلها‬
‫ويستشري الضغن وا‪ٟ‬تقد والذي‬
‫يقول اهلل سبحانه وتعاىل ‪َ { :‬وال َ‬
‫ي َ ْسأَل ْ ُك ْم أ َ ْم َوال َ ُك ْم * إِن‬
‫وها فَي ْح ِف ُك ْم تَب ْ َخلُوا ْ‬
‫َ‬ ‫ي َ ْسأَل ْ ُك ُم‬
‫ُ‬
‫َو ُٮت ْ ِر ْج أ َ ْضغَان َ ُك ْم } ػ ‪٤‬تمد ‪:‬‬
‫‪] 37-36‬‬
‫وساعة يتفىش الضغن يف ا‪١‬تجتمع‬
‫فبل فائدة يف هذا ا‪١‬تجتمع أبدا ً‪ .‬إذن‬
‫فا‪ٟ‬تق حُت يوثق الديْن يريد أن‬
‫٭تمي حركة ا‪١‬تتحرك؛ ألن الناس‬
‫ٗتتلف فيما بينها يف ا‪ٟ‬تركات‬
‫الطموحية ‪ .‬وال توجد ا‪ٟ‬تركات‬
‫الطموحية يف كل الناس ‪ ،‬بل توجد‬
‫يف بعضهم ‪ ،‬فلنستغل حركة‬
‫الطموح عند بعض الناس؛ ألهنم‬
‫سيفيدون ا‪١‬تجتمع ‪ :‬قصدوا ذلك‬
‫أو لم يقصدوا ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يريد ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫أن ٭تمي أيضا ًاإلنسان من نفسه؛‬
‫ألنه إن علم أن الديْن الذي عليه‬
‫موثق ‪ ،‬وال وسيلة إلنكاره حاول‬
‫جاهدا ًأن يتحرك يف ا‪ٟ‬تياة ليؤديه ‪.‬‬
‫وحُت يتحرك اإلنسان ليؤدي عن‬
‫نفسه الدين فإن ذلك يزيد ا‪ٟ‬تركة‬
‫يف ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬ويزداد النفع ‪ .‬وهكذا‬
‫نرى أن اهلل أراد بالتوثيق للدين‬
‫‪ٛ‬تاية ا‪١‬تديْن من نفسه؛ ألن‬
‫ا‪١‬تدين قد تطرأ عليه ظروف‬
‫فيماطل ‪ ،‬وإذا ما ماطل فلن تكون‬
‫ا‪٠‬تسارة فيه وحده ‪ ،‬ولكنه سيصبح‬
‫أسوة عند ‪ٚ‬تيع الناس وسيقول كل‬
‫من عنده مال ‪ :‬ال أعطي أحدا ًشيئا ً‬
‫ألن فبلنا ًالغٍت مثلي قد أعىط فبلنا ً‬
‫الفقَت وماطله وأكله ‪ ،‬وعند ذلك‬
‫تتوقف حركة ا‪ٟ‬تياة ولكن إذا كان‬
‫الدين موثقا ومكتوبا فإن ا‪١‬تدين‬
‫يكون حريصا عىل أدائه ‪ .‬واهلل‬
‫يريد أن يضمن ‪ٟ‬تركة ا‪ٟ‬تياة دواما ً‬
‫واستمرارا ًشريفا ًنظيفا ً‪ .‬ولذلك‬
‫‪٧‬تد يف آية ال َّدين أن كلمة «‬
‫الكتابة » ومادهتا « الكاف والتاء‬
‫والباء » تتكرر أكثر من مرة بل‬
‫مرات كثَتة ‪.‬‬
‫{ ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَ َداي َ ُنتم‬
‫بِ َديْنٍ إىل أ َ َج ٍل ُّم َس ًّىم فاكتبوه‬
‫ب بالعدل َوال َ‬ ‫ِ‬
‫َولْي َ ْك ُتب بَّيْن َ ُك ْم كَات ٌ‬
‫ب َك َما عَل َّ َم ُه‬ ‫ك‬
‫ت‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫يَأْب كَاتِب أ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٌ‬
‫ب َولْي ْملِ ِل الذي عَلَي ْ ِه‬ ‫اهلل فليكت‬
‫ََْ ُْ ْ ُ‬
‫ا‪ٟ‬تق َولْيَتَّ ِق اهلل َربَّ ُه َوال َيَب ْ َخ ْس ِمن ْ ُه‬
‫ان الذي عَلَي ْ ِه ا‪ٟ‬تق َس ِفيها ً‬ ‫َشيْئا ًفَإن ك َ َ‬
‫أ َ ْو َضعِيفا ًأ َ ْو ال َي َ ْست َ ِطي ُع أَن ُ ِٯت َّل ُه َو‬
‫فَلْي ْملِ ْل َولِي ُّ ُه بالعدل واستشهدوا‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َش ِهي َدي ْ ِن ّمن ِّر َجال ُك ْم فَإِن ل َّ ْم‬
‫ُت فَ َر ُج ٌل وامرأتان ِ‪٦‬تَّن‬ ‫ي َ ُكونَا َر ُجل َ ْ ِ‬
‫تَ ْر َض ْو َن ِم َن الشهدآء أَن تَ ِض َّل‬
‫ا‪٫‬تا األخرى‬ ‫ِ‬
‫ا‪٫‬تا فَ ُت َذ ّك َر إ ِْح َد ُ َ‬
‫إ ِْح َد ُ َ‬
‫َوال َيَأ ْ َب الشهدآء إِذَا َما ُد ُعوا ْ َوال َ‬
‫وه َصغَِتا ًأَو َكبَِتا ً‬ ‫تسأموا أَن تَ ْك ُتب ُ ُ‬
‫إىل أ َ َجلِ ِه ذَل ِ ُك ْم أَقْ َس ُط ِعن َد اهلل‬
‫وأَقْوم لِل َّشهَادَ ِة وأدىن أَال َّترتابوا إِال َّ‬
‫َ ُ‬
‫ارة ً َحا ِض َرة ً ُت ِدي ُر َ‬
‫وهنَا‬ ‫أَن تَ ُك ِ‬
‫ون ٕتَ َ‬‫َ‬
‫اح أَال َّ‬
‫بَيْن َ ُك ْم فَلَي ْ َس عَلَي ْ ُك ْم ُجن َ ٌ‬
‫وها وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْ ُت ْم َوال َ‬ ‫تَ ْك ُتب ُ َ‬
‫ب َوال َ َش ِهي ٌد َوإِن تَ ْفعَلُوا ْ‬ ‫ي َض َ ِ‬
‫آر كَات ٌ‬ ‫ُ ّ‬
‫وق بِ ُك ْم واتقوا اهلل‬ ‫فَإِن ّ َُه ُف ُس ٌ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫َويُعَل ّ ُم ُك ُم اهلل واهلل بِ ُك ّ ِل َش ْيء عَل ٌ‬
‫يم‬
‫} ػ البقرة ‪] 282 :‬‬
‫وهذا التكرار يف هذه اْلية لعملية‬
‫الكتابة يؤصل العبلقة بُت الناس؛‬
‫فالكتابة هي عمدة التوثيق ‪ ،‬وهي‬
‫اليت ال تغش ‪ ،‬ألنك إن سجلت شيئا ً‬
‫عىل ورقة فلن تأيت الورقة لتنكر ما‬
‫كتبته أنت فيها ‪ ،‬ولكن األمر يف‬
‫الشهادة قد ٮتتلف ‪ ،‬فمن ا‪ٞ‬تائز أن‬
‫ٮتضع الشاهد لتأثَت ما فينكر‬
‫ا‪ٟ‬تقيقة ‪ ،‬ولذلك فإن ا‪ٟ‬تق يعطينا‬
‫قضية إٯتانية جديدة حُت يقول ‪:‬‬
‫« أن يكتب كما علمه اهلل » أي‬
‫أن يكتب الكاتب عىل وفق ما علمه‬
‫اهلل ‪ ،‬فكأنه البد أن يكون فقيها ً‬
‫عا‪١‬تا ًبأمور الكتابة ‪ ،‬أو « كما‬
‫أن اهلل أحسن إليه‬ ‫علمه اهلل » أي ّ‬
‫وعلمه الكتابة دون َته ‪ ،‬فكما‬
‫أحسن اهلل إليه بتعلم الكتابة‬
‫فليحسن ولْيعَ ِ ّد أثر الكتابة إىل‬
‫ُ‬
‫الغَت ‪.‬‬
‫وليست ا‪١‬تسألة مسألة كتابة فقط‬
‫‪ ،‬إ‪٪‬تا ذلك يشمل ويضم كل شيء‬
‫أو موهبة خص اهلل بها فردا ًمن‬
‫الناس من مواهب اهلل عىل خلقه؛‬
‫فا‪١‬تؤمن هو من يعمل عىل أن يعدي‬
‫أثر النعمة وا‪١‬توهبة إىل الغَت ‪.‬‬
‫وعليك أن تعدي أثر مواهب الغَت‬
‫إليك فتنفع بها سواك ‪ ،‬وبذلك‬
‫يشيع ا‪٠‬تَت ويعم النفع ألنك إن‬
‫أخذت موهبة فستأخذ موهبة‬
‫واحدة تكفيك يف زاوية واحدة من‬
‫زوايا حياتك ‪ ،‬وعندما تعديها‬
‫للجميع وتنقلها إليهم فيعدي‬
‫ا‪ٞ‬تميع مواهبهم ا‪١‬تجتمعة‬
‫‪١‬تصلحتك ‪ ،‬فأيهما أكسب؟‬
‫حُت تعدي وتنقل موهبتك إىل‬
‫الناس ‪ ،‬تكون أنت األكثر كسبا ً؛‬
‫ألن ا‪ٞ‬تميع يعدون وينقلون‬
‫مواهبهم إليك ‪ .‬وإذا أتقنت‬
‫صنعك للناس فالصنعة اليت يف يدك‬
‫واحدة ‪ ،‬وعندما تتقنها فإن اهلل‬
‫يسلط جنود ا‪٠‬تواطر عىل كل من‬
‫يصنع لك شيئا ًأن يتقنه ‪ ،‬كما‬
‫أتقنْت أنت لسواك ‪ .‬وبعد ذلك‬
‫يعلمنا ا‪ٟ‬تق سبحانه شدة ا‪ٟ‬ترص‬
‫عىل التوثيق فيقول ‪َ { :‬وإِن ُك ُنت ْم‬
‫عىل َس َف ٍر َول َ ْم َ ِٕت ُدوا ْكَاتِبا ًفَ ِر َه ٌ‬
‫ان‬
‫وض ٌة ‪} . . .‬‬ ‫َّمقْب ُ َ‬
‫َوإ ِْن ُكن ْ ُت ْم عَىلَ َس َف ٍر َول َ ْم َ ِٕت ُدوا كَاتِبًا‬
‫وض ٌة فَإ ِْن أ َ ِم َن بَعْ ُض ُك ْم‬ ‫ان َم ْقب ُ َ‬ ‫فَ ِر َه ٌ‬
‫بَعْ ًضا فَلْي ُ َؤ ِّد ال َّ ِذي ا ْؤ ُ ِ٘ت َن أ َ َمانَت َ ُه‬
‫اّللَ َربَّ ُه َو َال تَ ْك ُت ُموا ال َّشهَادَةَ‬ ‫َولْيَتَّ ِق َّ‬
‫َو َم ْن ي َ ْك ُت ْمهَا فَإِن ّ َُه آثِ ٌم قَلْب ُ ُه َو ّ َُ‬
‫اّلل‬
‫يم (‪)283‬‬ ‫ِٔتا تَعْ َملُون عَلِ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ‬
‫والسفر كما نعلم هو خروج عن‬
‫رتابة ا‪ٟ‬تياة يف ا‪١‬تواطن ‪ ،‬ورتابة‬
‫ا‪ٟ‬تياة يف ا‪١‬توطن ٕتعل اإلنسان‬
‫يعلم ٘تام العلم مقومات حياته ‪،‬‬
‫لكن السفر ٮترج اإلنسان عن‬
‫رتابة ا‪ٟ‬تياة فبل يتمكن من كثَت‬
‫من األشياء اليت يتمكن بها يف‬
‫اإلقامة ‪ .‬فهب أنك مسافر ‪،‬‬
‫واضطررت إىل أن تستدين ‪ ،‬وال‬
‫يوجد كاتب وال يوجد شهيد ‪ ،‬فماذا‬
‫يكون ا‪١‬توقف؟ هاهو ذا ا‪ٟ‬تق يوضح‬
‫لك ‪ { :‬فَ ِر َه ٌ‬
‫ان َّمقْب ُ َ‬
‫وض ٌة } ‪ .‬إذن‬
‫فلم يًتك اهلل مسألة الديْن حىت يف‬
‫السفر فلم يش ّ ِرع فقط لئلقامة‬
‫ولكن ا‪ٟ‬تق قد ش َّرع أيضا للسفر {‬
‫فَ ِر َه ٌ‬
‫ان َّم ْقب ُ َ‬
‫وض ٌة } وهكذا الكتابة‬
‫‪ ،‬والشهادة يف اإلقامة والرهان‬
‫ا‪١‬تقبوضة يف السفر هدفها ‪ٛ‬تاية‬
‫اإلنسان أمام ظروف ضغط‬
‫ا‪١‬تجتمع ‪.‬‬
‫ولكن هل ٯتنع ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫طموحية اإليثار؟ هل ٯتنع ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل رجولية التعامل؟‬
‫يمع ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬ ‫هل ن‬
‫ا‪١‬تروءات من أن تتغلغل يف الناس؟‬
‫ال ‪ .‬إنه ا‪ٟ‬تق سبحانه يقول ‪ { :‬فَإ ِْن‬
‫أ َ ِم َن بَعْ ُض ُكم بَعْضا ًفَلْي ُ َؤ ِّد الذي‬
‫اؤ٘تن أ َ َمانَت َ ُه } إنه الطموح‬
‫اإلٯتاين ‪ ،‬لم ي َ ُس ّد اهلل مسألة‬
‫ا‪١‬تروءة واإليثار يف التعامل ‪ .‬إن‬
‫كتابة الديْن واإلشهاد والرهن‬
‫ليس إلزاما ًألن اهلل قال ‪ { :‬فَإ ِْن‬
‫أ َ ِم َن بَعْ ُض ُكم بَعْضا ًفَلْي ُ َؤ ِّد الذي‬
‫اؤ٘تن أ َ َمانَت َ ُه } ‪ .‬وأيضا قد نفهم‬
‫أن الذي اؤ٘تن هو ا‪١‬تدين ‪ ،‬وهنا‬
‫نقول ‪ :‬ال ‪ ،‬إن األمر ‪٥‬تتلف ‪ ،‬فهنا‬
‫رهان ‪ ،‬وذلك معناه وجود مسألتُت‬
‫‪ ،‬ا‪١‬تسألة األوىل هي « الديْن » ‪،‬‬
‫وا‪١‬تسألة الثانية هي « الرهان‬
‫ا‪١‬تقبوضة » وهي مقابل الديْن ‪.‬‬
‫فواحد مأمون عىل الرهن يف يده ‪.‬‬
‫واْلخر مأمون عىل الديْن ‪ .‬و‪٢‬تذا‬
‫يكون القول ا‪ٟ‬تكيم مقصودا به‬
‫من بيده الرهن ‪ ،‬ومن بيده ال َّديْن‬
‫ومعٌت ذلك أن يؤدي َمن معه الرهن‬
‫أمانته ‪ ،‬وأن يؤدي اْلخر ديْنه ‪.‬‬
‫وحُت نرتقي إىل هذا ا‪١‬تستوى يف‬
‫التعامل فإن وازع اإلنسان ليس يف‬
‫التوثيق ا‪٠‬تارج عن ذات النفس ‪،‬‬
‫ولكنه التوثيق اإلٯتاين بالنفس ‪،‬‬
‫ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق‬
‫اإلٯتاين عند كل الناس؟ ‪.‬‬
‫أنضمن الظروف؟ ‪٨ .‬تن ال نضمن‬
‫الظروف ‪ ،‬فقد توجد األمانة‬
‫اإلٯتانية وقت التحمل واألخذ ‪،‬‬
‫وال نضمن أن توجد األمانة‬
‫اإلٯتانية وقت األداء فقد يأيت‬
‫واحد ويقول لك ‪ :‬إن عندي مائة‬
‫جنيه وخذها أمانة عندك ‪.‬‬
‫ومعٌت « أمانة » أنه ال يوجد صك‬
‫‪ ،‬وال شهود ‪ ،‬وتكون الذمة هي‬
‫ا‪ٟ‬تكم ‪ ،‬فإن شئت أقررت بهذه‬
‫ا‪ٞ‬تنيهات ا‪١‬تائة ‪ ،‬وإن شئت‬
‫أنكرهتا ‪ .‬إن الرجل الذي يفعل‬
‫معك ذلك إ‪٪‬تا يطلب منك توثيق‬
‫ا‪١‬تائة جنيه يف الذمة اإلٯتانية ‪،‬‬
‫ومن ا‪ٞ‬تائز أن تقول له ‪ٟ‬تظة أن‬
‫يفعل معك ذلك ‪ :‬نعم سأحتفظ‬
‫لك با‪١‬تائة جنيه ٔتنتىه األمانة ‪.‬‬
‫وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة‬
‫أن يطلبها ‪ ،‬ولكنك ال تضمن‬
‫ظروف ا‪ٟ‬تياة بالنسبة لك ‪ ،‬وأنت‬
‫كإنسان من األغيار ‪ .‬ومن ا‪ٞ‬تائز‬
‫أن تضغط عليك ا‪ٟ‬تياة ضغطا‬
‫‪٬‬تعلك ٘تاطل معه يف أداء األمانة ‪،‬‬
‫أو ‪٬‬تعلك تنكرها ‪ ،‬فتقول ‪١‬تن‬
‫ائتمنك ‪:‬‬
‫ابعد عٍت؛ أنا ال أملك نفسي يف‬
‫وقت األداء ‪ ،‬وإن ملكت نفسي‬
‫وقت التحمل ‪.‬‬

‫واألمانة هي القضية العامة يف‬


‫الكون ‪ ،‬وإن كانت خاصة اْلن‬
‫بالنسبة لآلية الكرٯتة اليت ‪٨‬تن‬
‫بصددها وا‪ٟ‬تق سبحانه يعرضها‬
‫بعمومها عىل الكون كله فيقول جل‬
‫شأنه ‪ { :‬إِن َّا َع َر ْضنَا األمانة عَىلَ‬
‫ُت‬
‫السماوات واألرض وا‪ٞ‬تبال فَأب َ ْ َ‬
‫‪ٛ‬تلَهَا‬‫أَن َ٭ت ْ ِملْنَهَا َوأ َ ْش َفق َْن ِمنْهَا َو َ َ‬
‫ان َظلُوما ً َج ُهوال ً} ػ‬ ‫اإلنسان إِن ّ َُه ك َ َ‬
‫األحزاب ‪] 72 :‬‬
‫إن الكون كله أشفق عىل نفسه من‬
‫ٖتمل األمانة وهذا يعٍت أن األمانة‬
‫سوف تكون عرضة للتصرف‬
‫واالختيار ‪ ،‬وال كائن يف الكون قد‬
‫ضمن لنفسه القدرة عىل الوفاء‬
‫وقت األداء ‪ .‬لقد أعلنت الكائنات‬
‫قو‪٢‬تا فأبُت ُّ‬
‫ٖتمل األمانة وكأهنا‬
‫قالت ‪ :‬إنّا يا ربنا نريد أن نكون‬
‫مسخرين مقهورين ال اختيار لنا؛‬
‫ولذلك نجد الكون كله يؤدي‬
‫مهمته كما أرادها اهلل ‪ ،‬ما عدا‬
‫اإلنسان ‪ ،‬أي أنه الذي قبل ٔتا له‬
‫من عقل وتفكَت أن يتحمل أمانة‬
‫االختيار ‪ ،‬وبلسان حاله أو بلسان‬
‫مقاله قال ‪ :‬إنٍت قادر عىل ٖتمل‬
‫األمانة؛ ألين أستطيع االختيار بُت‬
‫البدائل ‪.‬‬
‫وهنا ن ُ َذ ِ ّكر اإلنسان ‪ :‬إنك قد‬
‫تكون قويا ً‪ٟ‬تظة التحمل ‪ ،‬ولكن‬
‫ماذا عن حالك وقت األداء؟ لذلك‬
‫قال اهلل عن اإلنسان ‪َ { :‬و َ َ‬
‫‪ٛ‬تلَهَا‬
‫ان َظلُوما ً َج ُهوال ً}‬
‫اإلنسان إِن ّ َُه ك َ َ‬
‫لقد ظلم اإلنسان نفسه حيث‬
‫‪ٛ‬تل األمانة ولم يف بها فلذلك‬
‫فهو ظلوم ‪ .‬وهو جهول ألنه ق ّد َر‬
‫وقت التحمل ‪ ،‬ولم يق ّدر وقت‬
‫األداء ‪ ،‬أو ضمنها ثم خاس وخالف‬
‫ما عاهد نفسه عىل أدائها ‪.‬‬
‫إذن فاإلنسان وإن كان واثقا ًأنه‬
‫سيؤدي األمانة إال ّأنه عرضة‬
‫لؤلغيار ‪ ،‬لذلك قال ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪:‬‬
‫وه َصغَِتا ًأَو‬‫{ َوال َتسأموا أَن تَ ْك ُتب ُ ُ‬
‫َكبَِتا ًإىل أ َ َجلِ ِه ذَل ِ ُك ْم أَقْ َس ُط ِعن َد اهلل‬
‫} فالكتابة فرصة ليحمي اإلنسان‬
‫نفسه من الضعف وقت األداء ‪،‬‬
‫فاهلل سبحانه وتعاىل يريد أن يوثق‬
‫األمر توثيقا ًال ‪٬‬تعلك أيها العبد‬
‫خاضعا ًلذمتك اإلٯتانية فقط ‪،‬‬
‫ولكنّك تكون خاضعا ًللتوثيق‬
‫ا‪٠‬تارج عن إٯتانيتك أيضا ً‪ ،‬وذلك‬
‫يكون بكتاب الدين صغَتا أو‬
‫كبَتا إىل أجله ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪َ { :‬وال َ‬
‫تَ ْك ُت ُموا ْالشهادة} وهذه الكلمة {‬
‫َوال َتَ ْك ُت ُموا ْ} إ‪٪‬تا هي أداء معْب ‪،‬‬
‫ألن كلمة « شهادة » تعٍت الشيء‬
‫الذي شهدته ‪ ،‬فما دمت قد شهدت‬
‫شيئا ًفهو واقع ‪ ،‬والواقع ال يتغَت أبدا ً‬
‫‪ ،‬ولذلك فاإلنسان الذي ٭تكي لك‬
‫حكاية صدق ال ٮتتلف قوله يف هذه‬
‫ا‪ٟ‬تكاية حىت وإن رواها ألف مرة؛‬
‫ألنه يستوحي واقعا ً‪.‬‬
‫لكن الك ّذاب يستوحي َت واقع ‪،‬‬
‫فيقول كلمة ‪ ،‬وينَس أنه كذب من‬
‫قبل فيكذب كذبة أخرى؛ ألنه ال‬
‫يستوحي واقعا ً‪ .‬فكلمة الشهادة هي‬
‫عن أمر مشهود واقع ‪ ،‬وما دام األمر‬
‫مشهودا ًوواقعا ً‪ ،‬فإنه يلح عىل نفس‬
‫من يراه أن ٮترج ‪ ،‬فإياك أن تكبته‬
‫بالكتم؛ ألن كلمة « الكتم » تعٍت‬
‫أن شيئا ً٭تاول أن ٮترج وأنت‬
‫ٖتاول كتمانه ‪ ،‬لذلك يقول ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫{ َوال َتَ ْك ُت ُموا ْالشهادة } فكأن‬
‫الطبيعة اإلٯتانية الفطرية تلح عىل‬
‫صاحبها لتنطقه ٔتا كان مشهودا ًله‬
‫ألنه واقع ‪.‬‬

‫لذلك يأيت األمر من ا‪ٟ‬تق؛ { َوال َ‬


‫تَ ْك ُت ُموا ْالشهادة َو َمن ي َ ْك ُت ْمهَا فَإِن ّ َُه‬
‫آثِ ٌم قَلْبُه } ‪ .‬وقد يسأل اإلنسان ‪:‬‬
‫هل الكتم هنا صفة للقلب أو‬
‫لئلنسان الذي لم يقل الشهادة؟ ‪.‬‬
‫إن الشاعر يقول ‪:‬‬
‫إن الكبلم لفي الفؤاد وإ‪٪‬تا ‪ ...‬جعل‬
‫اللسان عىل الفؤاد دليبل ً‬
‫وساعة يؤكد اهلل شيئا ًفهو يأيت‬
‫با‪ٞ‬تارحة اليت ‪٢‬تا عالقة بهذا الصدد‬
‫‪ ،‬فتقول ‪ :‬أنا رأيته بعيٍت و‪ٝ‬تعته‬
‫بأذين ‪ ،‬وأعطيته بيدي ومشيت له‬
‫برجلي ‪ .‬إنّك ت ْذكر ا‪ٞ‬تارحة اليت‬
‫‪٢‬تا دخل يف هذه ا‪١‬تسألة ‪.‬‬
‫وعندما يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬فَإِن ّ َُه آثِ ٌم‬
‫إن كل ا‪ٞ‬توارح ٗتضع للقلب‬ ‫قَلْبُه } ّ‬
‫يم } أي‬ ‫‪ { :‬واهلل ِٔتا تَعْ َمل ُ ِ‬
‫ون عَل ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أن كتمك للحقيقة لن يغَت من‬
‫واقع علم اهلل شيئا ً‪ ،‬وحينما تنتهي‬
‫مسألة ا‪١‬تداينة والتوثيق فيها‬
‫وظروفها سواء كانت يف ا‪١‬توطن‬
‫العادي أو يف أثناء السفر فإن اهلل‬
‫يضمن لئلنسان ا‪١‬تتحرك يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫حركة شريفة وطاهرة ‪.‬‬
‫فإن لم تكن هذه فا‪١‬تصاٌف تتوقف ‪،‬‬
‫ويصيبها العطل ‪ ،‬فالذي ال يقدر‬
‫عىل ا‪ٟ‬تركة فماذا يصنع يف ا‪ٟ‬تياة؟ ‪.‬‬
‫إن قلبه ٯتتلئ با‪ٟ‬تقد عىل الواجد ‪،‬‬
‫وحُت ٯتتلئ قلبه با‪ٟ‬تقد عىل الواجد‬
‫فإنه يكره النعمة عنده ‪ ،‬وحُت‬
‫يكره ا‪١‬تعدم النعمة عند أخيه‬
‫الواجد ‪ ،‬فالنعمة نفسها تكره أن‬
‫تذهب إىل من كره النعمة عند‬
‫أخيه ‪ .‬إهنا مسائل قد رتبها ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه بعضها متعلق بالبعض‬
‫اْلخر ‪.‬‬
‫إن النعمة ٖتب ا‪١‬تُنعم عليه بضم‬
‫ا‪١‬تيم وفتح العُت أكثر من حب‬
‫ا‪١‬تنعم عليه للنعمة وتذهب إىل من‬
‫أنعم اهلل عليه بها بعشق ‪ ،‬فمن كره‬
‫النعمة عند منعم عليه فالنعمة‬
‫تستعصي عليه حىت كأهنا تقول له ‪:‬‬
‫لن تنال مٍت خَتا ً‪ .‬وليجربها كل‬
‫إنسان ‪.‬‬
‫أحبب النعمة عند سواك فستجد‬
‫إن‬
‫نعمة الكل يف خدمتك ‪ ،‬إنك ْ‬
‫أحببت النعمة عند َتك فإهنا تأيت‬
‫إليك لتخدمك ‪ .‬وأيضا ًفعىل‬
‫ا‪١‬تؤمن أن يعرف أن بعض النعم‬
‫ليست وليدة كد وجهد ‪ ،‬قد تكون‬
‫النعمة ‪٣‬ترد فضل من اهلل ‪ ،‬يفضل‬
‫به بعض خلقه ‪ ،‬فحُت تكرهها‬
‫أنت عند ا‪١‬تنعم عليه تكون قد‬
‫اعًتضت عىل قدر اهلل يف النعمة ‪.‬‬
‫وحُت تعًتض عىل قدر اهلل يف‬
‫النعمة فإن ا‪ٟ‬تق سبحانه ال ‪٬‬تعلك‬
‫تنتفع منها بشيء ‪.‬‬
‫فإن رأيت قريبا ًحبس نعمته عن‬
‫أقاربه فاعلم أهنم يكرهون النعمة‬
‫عنده ‪ .‬ولو أحبوها لسعت النعمة‬
‫إليهم ‪ .‬إن ا‪١‬تنهج اإل‪٢‬تي يريد أن‬
‫‪٬‬تعل الناس كتلة متكافلة متكاملة‬
‫ْتيث إذا رأيت أنا النعمة عندك‬
‫ونلت منها ‪ ،‬أحببتها عندك ‪،‬‬
‫وحُت أحب النعمة عندك فإن‬
‫العطاء ‪٬‬تيء من هذه النعمة إيل ّ‪ ،‬وال‬
‫ٕتد فارقا ًبُت واجد ومعدم ‪ .‬إنك‬
‫ال ٕتد فارقا ًبُت واجد ومعدم إال يف‬
‫‪٣‬تتمع ال يؤدي حكم اهلل يف شيء ‪.‬‬
‫لقد قلنا ذلك يف ‪٣‬تال اضطرار‬
‫اإلنسان إىل الربا ألنه لم ‪٬‬تد من‬
‫يقرضه قرضا ًحسنا ً‪ ،‬ولم ‪٬‬تد من‬
‫يؤدي فرض اهلل له من الزكاة لتسع‬
‫حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا ‪،‬‬
‫وبذلك يدخل ا‪١‬تجتمع الربوي يف‬
‫حرب مع اهلل ‪ ،‬وهل ألحد جلد عىل‬
‫أن يدخل يف حرب مع اهلل؟ ال ‪.‬‬

‫وا‪١‬تجتمع الربوي يدخل يف حرب‬


‫مع رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقد حرم رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم الربا وقال يف حجة الوداع ‪:‬‬
‫« إن كل ربا موضوع ولكن رءوس‬
‫أموالكم ال تظلمون وال ُتظلمون‬
‫قىض اهلل أنه ال ربا وإن ربا عباس‬
‫بن عبد ا‪١‬تطلب موضوع كله » ‪.‬‬
‫وتلك ‪ٝ‬تة ‪ٝ‬تو التشريع السماوي‬
‫‪ ،‬إن التشريع البشري يحمي به‬
‫صاحبه أقاربه من التقنُت ‪ ،‬لكن‬
‫التشريع السماوي يفرض‬
‫تطبيقاته أوال عىل األقارب ‪ .‬وكان‬
‫األسوة يف ذلك سيدنا عمر بن‬
‫ا‪٠‬تطاب ‪ ،‬فساعة يريد عمر أن‬
‫يضع التشريع فإنه ‪٬‬تمع أهله‬
‫وأقاربه ويقول ‪:‬‬
‫سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي‬
‫نفسي بيده من خالفٍت يف شيء من‬
‫هذا ألجعل هننكاال ًللمسلمُت ‪.‬‬
‫ويعلنها عمر أمام الناس ‪ ،‬و‪١‬تاذا‬
‫أعلن عمر ذلك؟؛ ألن كثَتا من‬
‫الناس ‪٬‬تاملون أولياء األمور ‪ ،‬وقد‬
‫ال يكون أولياء األمور عىل دراية‬
‫بذلك؛ فقد ‪٧‬تد واحدا ًيدخل عىل‬
‫قوم عىل أساس أنه فبلن بن فبلن ‪،‬‬
‫وبالرعب يقضي هذا اإلنسان‬
‫مصا‪ٟ‬ته عند الناس برغم أنف‬
‫الناس ‪ .‬وقد يكون ويل األمر ال‬
‫يعرف عن مثل هذا التصرف شيئا ً‬
‫‪.‬‬
‫لكن حُت يعلن ويل األمر عىل الناس‬
‫وألقاربه أنه ال تفرقة أبدا ًفيما‬
‫يقنن وأن القانون سائر عىل نفسه‬
‫وعىل أهله فمن استغل ا‪ٝ‬تا ًلويل‬
‫األمر أو اصطنع شيئا ًفالتبعة عىل من‬
‫فعل له وعليه ‪ ،‬وبذلك تستقيم‬
‫األمور ‪ .‬لكن أن تظهر ا‪ٟ‬تقائق يف‬
‫استغبلل أقارب ا‪ٟ‬تكام بعد انتهاء‬
‫فًتات حكم ا‪ٟ‬تكام ‪ ،‬فهنا نقول ‪:‬‬
‫و‪١‬تاذا لم نعرف كل شيء من‬
‫البداية؟ ‪ .‬وأين كانت ا‪ٟ‬تقائق يف‬
‫وقتها؟ ‪.‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تاكم ا‪١‬تسلم عليه أن يعلن‬
‫للمحكومُت أن القوانُت إ‪٪‬تا‬
‫ُتطبق عليه أوال ًوعىل من يعول ‪.‬‬
‫هكذا قال رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يف حجة الوداع « وربَا‬
‫ا‪ٞ‬تاهلية موضوع ‪ ،‬وأول ربا أضع‬
‫ِربَانا ‪ِ ،‬ربَا عباس عبد ا‪١‬تطلب فإنه‬
‫موضوع كله » ‪.‬‬
‫ويف معركة بدر ‪ ،‬أخرج الرسول‬
‫صىل اهلل عليه وسلم أهل بيته‬
‫ليحاربوا؛ ألنه لو لم ٮترج أحدا ًمن‬
‫أَهل بيت ِه لقال واحد من الكفار ‪:‬‬
‫إنه ٭تمي أهل بيته ‪ ،‬ولو أن أجر‬
‫االستشهاد هو ا‪ٞ‬تنة فلماذا يقدم‬
‫األباعد وال يقدم أحبابه للقتال؟‬
‫لكن هاهو ذا رسول اهلل صىل اهلل‬
‫عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه ‪،‬‬
‫فهو العارف من ربه بأمر الشهادة‬
‫وكيف أهنا تقصر عىل اإلنسان‬
‫متاعب ا‪ٟ‬تياة وتدخل ا‪ٞ‬تنة ‪ .‬هكذا‬
‫كانت ا‪١‬تحاباة يف صدر اإلسبلم ‪،‬‬
‫إهنا ‪٤‬تاباة يف البايق ‪ ،‬ولم تكن‬
‫كمحاباة ا‪ٟ‬تمىق يف الفاين ‪.‬‬

‫وحُت يعلمنا الرسول صىل اهلل عليه‬


‫وسلم ذلك ويضرب عىل أيدي‬
‫ا‪١‬ترابُت فهذه هي ا‪ٟ‬ترب اليت ‪٬‬تب‬
‫أن تقوم ‪ ،‬حرب من اهلل ا‪١‬تالك‬
‫القادر عىل ا‪١‬تحاربة ‪ ،‬أما الضعاف‬
‫الذين ال يستطيعون القتال فهم ال‬
‫٭تاربون؛ ألهنم أمام خالقهم‬
‫وقاهرهم فبل يقدرون عىل حربه‬
‫ولذلك ‪٬‬تب أن تتنبه الدولة إىل‬
‫مثل هذه األمور وتقنن تقنينا‬
‫إسبلميا ًوبعد ذلك إذا لم تتسع‬
‫الزكاة ا‪١‬تفروضة إىل ما يقوم بأود‬
‫ا‪١‬تحتاجُت فلتفرض الدولة ما‬
‫تشاء لتفي ْتاجة ا‪١‬تحتاجُت ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل بعد أن أوضح‬
‫األمر عقيدة يف قوله ‪ { :‬اهلل ال َإله‬
‫إِال َّ ُه َو ا‪ٟ‬تي القيوم } ‪ ،‬وتقنينا ً‬
‫للعقيدة يف قوله ‪ { :‬ال َإِك َْر َاه ِيف‬
‫الدين } ‪ ،‬و‪ٛ‬تاية للعقيدة بأمره‬
‫سبحانه ا‪١‬تؤمنُت أن يقاتلوا لتكون‬
‫كلمة اهلل هي العليا ‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫تكلم ا‪ٟ‬تق عن ‪ٛ‬تاية حركة‬
‫االقتصاد يف اإلنفاق أوال ًيف سبيل‬
‫اهلل ‪ ،‬واإلنفاق عىل ا‪١‬تحتاجُت ‪.‬‬
‫يقول سبحانه بعد ذلك ‪ِ َ { :‬‬
‫ّلل ما ِيف‬‫ّ‬
‫السماوات َو َما ِيف األرض َوإِن‬
‫ُتب ْ ُدوا ْ َما يف أَن ْ ُف ِس ُك ْم أ َ ْو ُٗت ْ ُف ُ‬
‫وه ‪. . .‬‬
‫}‬

‫ات َو َما ِيف ْاأل َ ْر ِض‬ ‫السماو ِ‬ ‫ِِ‬


‫َّّلل َما ِيف َّ َ َ‬
‫َوإ ِْن ُتب ْ ُدوا َما ِيف أ َن ْ ُف ِس ُك ْم أ َ ْو ُٗت ْ ُف ُ‬
‫وه‬
‫اّلل فَيَغ ْ ِف ُر ِ‪١‬ت َ ْن ي َ َش ُاء‬
‫ُ٭تَا ِسب ْ ُك ْم بِ ِه ّ َُ‬
‫اّلل عَىلَ كُ ّ ِل َشيءٍ‬
‫َويُعَ ِ ّذ ُب َم ْن ي َ َش ُاء َو ّ َُ‬
‫ْ‬
‫قَ ِدي ٌر (‪)284‬‬

‫استهلت اْلية بتقديم { هلل } عىل‬


‫ما يف السماوات واألرض ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه يقول ‪ِ َ { :‬‬
‫ّلل ما ِيف‬‫ّ‬
‫السماوات َو َما ِيف األرض} ذلك‬
‫هو الظرف الكائنة فيه ا‪١‬تخلوقات ‪،‬‬
‫السماوات واألرض لم يدع أحد‬
‫أهنا له ‪ ،‬لكن قد يوجد يف‬
‫السماوات أو يف األرض أشياء‬
‫يدعي ملكيتها ا‪١‬تخلوقون ‪ ،‬فإذا ما‬
‫نظرنا إىل خَتات األرض فإننا‬
‫‪٧‬تدها ‪٦‬تلوكة يف بعض األحيان‬
‫ألناس ٔتا ملكهم اهلل ‪ ،‬والبشر‬
‫الذين صعدوا إىل السماء وأداروا‬
‫يف جوها ما أداروا من أقمار‬
‫صناعية ومراكب فضائية فمن‬
‫ا‪١‬تمكن أن يعلنوا ملكيتهم ‪٢‬تذه‬
‫األقمار وتلك ا‪١‬تراكب ‪.‬‬
‫ويلفتنا ا‪ٟ‬تق سبحانه هنا بقوله ‪{ :‬‬
‫َِ‬
‫ّلل ما ِيف السماوات َو َما ِيف األرض}‬‫ّ‬
‫وهو يوضح لنا ‪ :‬إنه إن كان يف ظاهر‬
‫األمر أن اهلل قد أعىط ملكية‬
‫السببية ‪٠‬تلقه فهو لم يعط هذه‬
‫ا‪١‬تلكية إال َع َر َضا ًيؤخذ منهم ‪،‬‬
‫فإما أن يزولوا عنه فيموتوا ‪ ،‬وإما‬
‫أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن‬
‫بيع أو هبة أو غصب أو هنب ‪.‬‬
‫وكلمة « هلل » تفيد االختصاص ‪،‬‬
‫وتفيد القصر ‪ ،‬فكل ما يف الوجود‬
‫أمره إىل اهلل ‪ ،‬وال يدعي أحد‬
‫بسببية ما آتاه اهلل أنه ٯتلك شيئا‬
‫‪١‬تاذا؟ ألن ا‪١‬تالك من البشر ال ٯتلك‬
‫نفسه أن يدوم ‪.‬‬
‫‪٨‬تن لم نر واحدا ًلم تنله األغيار ‪،‬‬
‫وما دامت األغيار تنال كل إنسان‬
‫فعلينا أن نعلم أن اهلل يريد من‬
‫خلقه أن يتعاطفوا ‪ ،‬وأن يتكاملوا ‪،‬‬
‫ويريد اهلل من خلقه أن يتعاونوا ‪،‬‬
‫وا‪ٟ‬تق ال يفعل ذلك ألن األمر خرج‬
‫من يده والعياذ باهلل ال ‪ ،‬إن اهلل‬
‫يبلغنا ‪ :‬أنا يل ما يف السماوات وما يف‬
‫األرض ‪ ،‬وأستطيع أن أجعل دوال ً‬
‫بُت الناس ‪.‬‬
‫ولذلك نقول للذين يَصلون إىل‬
‫ا‪١‬ترتبة العالية يف الغٌت ‪ ،‬أو ا‪ٞ‬تاه ‪ ،‬أو‬
‫أي ‪٣‬تال ‪٢ ،‬تؤالء نقول ‪ :‬احذر حُت‬
‫تتم لك النعمة ‪١ ،‬تاذا؟ ألن النعمة‬
‫إن ٘تت لك علوا ًوغٌتً وعافيةً‬
‫وأوالدا ً‪ ،‬أنت من األغيار ‪ ،‬وما‬
‫دامت قد ٘تت وصارت إىل النهاية‬
‫وأنت الشك من األغيار ‪ ،‬فإن‬
‫النعمة تتغَت إىل األقل ‪ .‬فإذا ما‬
‫صعد إنسان إىل القمة وهو متغَت‬
‫فبل بد له أن يزنل عن هذه القمة ‪،‬‬
‫ولذا يقول الشاعر ‪:‬‬
‫إذا تم شيء بدا نقصه ‪ ...‬ترقب‬
‫زواال ًإذا قيل تم‬
‫والتاريخ ٭تمل لنا قصة ا‪١‬ترأة‬
‫العربية اليت دخلت عىل ا‪٠‬تليفة‬
‫وقالت له ‪ :‬أتم اهلل عليك نعمته ‪.‬‬
‫و‪ٝ‬تعها ا‪ٞ‬تالسون حول ا‪٠‬تليفة‬
‫ففرحوا ‪ ،‬وأعلنوا سرورهم ‪ ،‬لكن‬
‫ا‪٠‬تليفة قال ‪٢‬تم ‪ :‬واهلل ما فهمتم ما‬
‫تقول ‪ ،‬إهنا تقول ‪ :‬أتم اهلل عليك‬
‫نعمته ‪ ،‬فإهنا إن ٘تت تزول؛ ألن‬
‫األغيار تبلحق ا‪٠‬تلق ‪ .‬وهكذا فهم‬
‫ا‪٠‬تليفة مقصد ا‪١‬ترأة ‪.‬‬
‫والشاعر يقول ‪:‬‬
‫نفسي اليت ٘تلك األشياء ذاهبة ‪...‬‬
‫فكيف آىس عىل شيء ‪٢‬تا ذهبا‬
‫إن النفس ا‪١‬تالكة هي نفسها‬
‫ذاهبة؛ فكيف ٭تزن عىل شيء له‬
‫ضاع منه؟‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه يطلب منا أن نكون‬
‫دائما عىل ذكر من قضية واضحة‬
‫هي ‪ :‬أن الكون كله هلل ‪ ،‬والبشر‬
‫‪ٚ‬تيعا بذواهتم ونفوسهم وما ظهر‬
‫منها وما بطن ال ٮتفر عىل اهلل ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه ال ٭تاسبنا عىل مقتىض ما‬
‫علم فحسب ‪ ،‬بل ٭تاسبنا عىل ما تم‬
‫تسجيله علينا ‪.‬‬
‫إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه ‪. .‬‬
‫فسبحانه يقول ‪َ { :‬وكُ َّل إِن ْ َسانٍ‬
‫أَل ْ َز ْمن َ ُاه َطآ ِئ َر ُه ِيف ُع ُنقِ ِه َو ُ‪٩‬ت ْ ِر ُج ل َ ُه‬
‫ي َ ْو َم القيامة ِكتَابا ًيَلْقَ ُاه َمن ْ ُشورا ً*‬
‫ك اليوم‬ ‫اقرأ كتابك كىف بِن َ ْف ِس َ‬
‫ك َح ِسيبا ً} ػ اإلسراء ‪-13 :‬‬ ‫عَلَي ْ َ‬
‫‪] 14‬‬
‫وا‪ٟ‬تساب معناه أن لئلنسان‬
‫رصيدا ‪ ،‬وعليه أيضا رصيد ‪ .‬وا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل يفسر لنا ( له وعليه )‬
‫با‪١‬تيزان كما نعرف يف موازين‬
‫األشياء عندنا وهو سبحانه يقول ‪:‬‬
‫{ والوزن ي َ ْو َمئِ ٍذ ا‪ٟ‬تق فَ َمن ثَ ُقل َ ْت‬
‫َم َوا ِز ُين ُه فأولئك ُه ُم ا‪١‬تفلحون *‬
‫َت َم َوا ِز ُين ُه فأولئك الذين‬ ‫َو َم ْن َخ ّف ْ‬
‫خسروا أَن ْ ُف َس ُهم ِٔتَا كَانُوا ْبِآيَاتِنَا‬
‫ِ‬
‫ون } ػ األعراف ‪] 9-8 :‬‬ ‫ِي ْظل ُم َ‬
‫إن حساب ا‪ٟ‬تق دقيق عادل ‪،‬‬
‫فالذين ثقلت كفة أعما‪٢‬تم‬
‫ا‪ٟ‬تسنة هم الذين يفوزون‬
‫بالفردوس ‪ ،‬والذين باعوا أنفسهم‬
‫للشيطان وهوى النفس تثقل كفة‬
‫أعما‪٢‬تم السيئة ‪ ،‬فصاروا من‬
‫أصحاب النار ‪.‬‬
‫إذن ‪٨‬تن أمام نوعُت من البشر ‪،‬‬
‫هؤالء الذين ثقلت كفة ا‪٠‬تَت يف‬
‫ميزان ا‪ٟ‬تساب ‪ ،‬وهؤالء الذين‬
‫ثقلت كفة السيئات والشرور يف‬
‫ميزان ا‪ٟ‬تساب ‪ .‬فماذا عن الذين‬
‫تساوت الكفتان يف أعما‪٢‬تم ‪.‬‬
‫استوت حسناهتم مع سيئاهتم؟‬
‫إهنم أصحاب األعراف ‪ ،‬الذين‬
‫ينالون ا‪١‬تغفرة من اهلل؛ ألن مغفرة‬
‫اهلل وهو الر‪ٛ‬تن الرحيم قد سبقت‬
‫غضبه جل وعبل ‪ .‬ولو لم ‪٬‬تيء أمر‬
‫أصحاب األعراف يف القرآن لقال‬
‫واحد ‪ :‬لقد قال اهلل لنا خْب الذين‬
‫ثقلت موازينهم ‪ ،‬وأخبار الذين‬
‫خفت موازين ا‪٠‬تَت عندهم ‪ ،‬ولم‬
‫يقل لنا خْب الذين تساوت‬
‫شرورهم مع حسناهتم ‪.‬‬
‫لكن ا‪ٟ‬تليم ا‪٠‬تبَت قد أوضح لنا خْب‬
‫كل أمر وأوضح لنا أن ا‪١‬تغفرة تسبق‬
‫الغضب عنده ‪ ،‬لذلك فا‪ٟ‬تساب ال‬
‫يكتفي ا‪ٟ‬تق فيه بالعلم فقط ‪ ،‬ولكن‬
‫بالتسجيل الواضح الدقيق ‪ ،‬لذلك‬
‫يطمئننا ا‪ٟ‬تق سبحانه فيقول ‪{ :‬‬
‫اب َوآ َم َن َو َع ِم َل َع َمبل ً‬ ‫َ‬
‫إِال ّ َمن تَ َ‬
‫َص ِا‪ٟ‬تا ًفأولئك يُب َ ِ ّد ُل اهلل َس ِيّئ َ ِ ِ‬
‫اهت ْم‬
‫ان اهلل َغ ُفورا ً َّر ِحيما ً}‬ ‫ٍ‬
‫َح َسنَات َوك َ َ‬
‫ػ الفرقان ‪] 70 :‬‬
‫إن ا‪ٟ‬تق يطمئننا عىل أن ما نصنعه‬
‫من خَت ‪٧‬تده يف كفة ا‪١‬تيزان ‪،‬‬
‫ويطمئننا أيضا عىل أنه سبحانه‬
‫سيجازينا عىل ما أصابنا من شر‬
‫األشرار وأننا سنأخذ من حسناهتم‬
‫لتضاف إىل ميزاننا ‪ ،‬إذن‬
‫فالطمأنينة جاءت من طرفُت ‪:‬‬
‫طمأننا ا‪ٟ‬تق عىل ما فعلناه من خَت ‪،‬‬
‫فبل يُنَس أنه يدخل يف حسابنا ‪،‬‬
‫وطمأننا أيضا عىل ما أصابنا من شر‬
‫األشرار وسيأخذ ا‪ٟ‬تق من‬
‫حسناهتم ليضيفها لنا ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن ‪٧‬تد يف الكون كثَتا ًمن الناس‬
‫قد ٭تبهم اهلل ‪٠‬تصلة من خصال‬
‫ا‪٠‬تَت فيهم ‪ ،‬وقد تكون هذه‬
‫ا‪٠‬تَتة خفية فبل يراها أحد‬
‫ا‪٠‬تصلة ّ‬
‫‪ ،‬لكن اهلل الذي ال ٗتىف عليه خافية‬
‫يرى هذه ا‪٠‬تصلة يف اإلنسان ‪،‬‬
‫و٭تبه اهلل من أجلها ‪ ،‬ويرى ا‪ٟ‬تق أن‬
‫حسنات هذا الرجل قليلة ‪،‬‬
‫فيجعل بعض ا‪٠‬تلق يصيبون هذا‬
‫الرجل بشرورهم وسيئاهتم حىت‬
‫يأخذ من حسنات هؤالء ليزيد يف‬
‫حسنات هذا الرجل ‪.‬‬
‫ومعٌت { ُتب ْ ُدوا ْ َما يف أَن ْ ُف ِس ُك ْم } أي‬
‫تصَتوا الوجدانيات إىل نزوعيات‬
‫عملية ‪ ،‬ولكن هل معٌت { أ َ ْو ُٗت ْ ُف ُ‬
‫وه‬
‫} هو أال تصَتوا الوجدانيات‬
‫النفسية إىل نزوعيات عملية؟ ال ‪،‬‬
‫فليس لكل شيء نزوع عملي ‪،‬‬
‫ومثال ذلك ا‪ٟ‬تب؛ إن اإلنسان قد‬
‫٭تب ‪ ،‬وال ‪٬‬تد القدرة عىل الزنوع‬
‫ليعلن بهذا الزنوع أنه ‪٤‬تًتق يف حبه‬
‫‪ ،‬وكذلك الذي ٭تقد قد ال ‪٬‬تد‬
‫القدرة عىل الزنوع ليعلن بهذا‬
‫الزنوع عن حقده ‪ ،‬إذن فهناك‬
‫أعمال تستقر يف القلوب ‪ ،‬فهل‬
‫يؤاخذ اهلل ٔتا استقر يف النفوس؟‬
‫إن هذه ا‪١‬تسألة ٖتتاج إىل دقة بالغة؛‬
‫ألننا وجدنا بعضا من صحابة‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قد‬
‫وقفوا فيها موقفا أبىك بعضهم ‪،‬‬
‫هذا عبد اهلل بن عمر رضي اهلل‬
‫عنهما حينما ‪ٝ‬تع هذه اْلية قال ‪:‬‬
‫لئن آخذنا اهلل عىل ما أخفينا يف‬
‫نفوسنا لنهلكن ‪ .‬وبىك حىت ُ‪ٝ‬تع‬
‫نشيجه بالبكاء ‪ .‬وبلغ ذلك األمر‬
‫ابن عباس فقال ‪ :‬يرحم اهلل أبا‬
‫عبد الر‪ٛ‬تن لقد وجد إخوانه‬
‫ا‪١‬تسلمون مثلما وجد من هذه‬
‫اْلية ‪ .‬فأنزل اهلل بعدها { ال َيُكَلِ ّ ُف‬
‫اهلل ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا } إىل آخر‬
‫السورة ‪ .‬ولنعلم أن نوازع النفس‬
‫كثَتة؛ فهناك شيء ا‪ٝ‬ته « هاجس‬
‫» وهناك شيء آخر ا‪ٝ‬ته « خاطر‬
‫» وهناك ما يس ىم « حديث نفس‬
‫» ‪ ،‬وهناك « هم » وهناك « عزم‬
‫» ‪ ،‬إهنا ‪ٜ‬تس حاالت ‪ ،‬واألربع‬
‫األوىل من هذه ا‪ٟ‬تاالت ليس فيها‬
‫شيء ‪ ،‬إ‪٪‬تا األخَتة اليت يكون فيها‬
‫القصد واضحا ‪٬‬تب أن نتنبه ‪٢‬تا‬
‫ولنتناول كل حالة بالتفصيل ‪.‬‬
‫إن ا‪٢‬تاجس هو ا‪٠‬تطرة اليت ٗتطر‬
‫دفعة واحدة ‪ ،‬أما ا‪٠‬تاطر فهو ٮتطر ‪.‬‬
‫‪ .‬أي يسَت يف النفس قليبل ‪ ،‬وأما‬
‫حديث النفس فإن النفس تظل‬
‫تًتدد فيه ‪ ،‬وأما ا‪٢‬تم فهو استجماع‬
‫الوسائل ‪ ،‬وسؤال النفس عن كل‬
‫الوسائل اليت ينفذ بها اإلنسان‬
‫رغباته ‪ ،‬أما العزم( القصد ) فهو‬
‫الوصول إىل النهاية والبدء يف تنفيذ‬
‫األمر ‪.‬‬
‫والقصد هو الذي يُعٍت به قوله تعاىل‬
‫‪َ { :‬وإِن ُتب ْ ُدوا ْ َما يف أَن ْ ُف ِس ُك ْم أ َ ْو‬
‫وه ُ٭تَا ِسب ْ ُك ْم بِ ِه اهلل } وقد‬ ‫ُٗت ْ ُف ُ‬
‫وجدنا كثَتا من العلماء قد وقفوا‬
‫عند هذا القول وتساءل بعض من‬
‫العلماء ‪ :‬هل اْلية اليت جاءت بعد‬
‫ذلك واليت يقول فيها ‪ { :‬ال َيُكَلِ ّ ُف‬
‫اهلل ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا } هل هي نسخ‬
‫لآلية السابقة عليها؟‬
‫ولكن ‪٨‬تن نعرف أن اْلية هي خْب ‪،‬‬
‫واألخبار ال تنسخ إ‪٪‬تا األحكام هي‬
‫اليت يتم نسخها ‪ ،‬وعىل ذلك يكون‬
‫القصد والعزم عىل تنفيذ األمر هو‬
‫ا‪١‬تعٌت بقوله ا‪ٟ‬تق ‪َ { :‬وإِن ُتب ْ ُدوا ْ َما‬
‫يف أَن ْ ُف ِس ُك ْم أ َ ْو ُٗت ْ ُف ُ‬
‫وه ُ٭تَا ِسب ْ ُك ْم بِ ِه‬
‫اهلل } فهذا هو الذي ٭تاسبنا اهلل‬
‫عليه ‪.‬‬
‫وعندما يقول ا‪ٟ‬تق سبحانه ‪{ :‬‬
‫آء } فمن هم؟ لقد‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫فَيغ ْ ِفر ِ‬
‫‪١‬ت‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫بُت اهلل من يشاء ا‪١‬تغفرة لهم ‪ ،‬إهنم‬
‫الذين تابوا ‪ ،‬وهم الذين أنابوا إىل‬
‫اهلل ‪ ،‬هم الذين قال فيهم ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫اب َوآ َم َن َو َع ِم َل َع َمبل ً‬ ‫َ‬
‫{ إِال ّ َمن تَ َ‬
‫َص ِا‪ٟ‬تا ًفأولئك يُب َ ِ ّد ُل اهلل َس ِيّئ َ ِ ِ‬
‫اهت ْم‬
‫ان اهلل َغ ُفورا ً َّر ِحيما ً}‬ ‫ٍ‬
‫َح َسنَات َوك َ َ‬
‫ػ الفرقان ‪] 70 :‬‬
‫وتبديل ا‪١‬تغفرة حسنة مسألة يجب‬
‫أن يقف عندها اإلنسان ا‪١‬تكلف من‬
‫اهلل وقفة لَتى فضل اهلل ‪ ،‬ألن‬
‫الذي صنع سيئة ثم آ‪١‬تته ‪ ،‬فكما‬
‫آ‪١‬تته السيئة اليت ارتكبها وحزن‬
‫منها ‪ ،‬فإن اهلل يكتب له حسنة ‪.‬‬
‫ولكن الذي لم يصنع سيئة ال‬
‫تفزعه هذه ‪ ،‬وبعض العارفُت‬
‫يقول ‪ُ :‬ر ّب معصية أورثت ذال‬
‫وانكسارا خَت من طاعة ‪ .‬أورثت‬
‫عزا واستكبارا ‪.‬‬
‫إنك لتجد ا‪٠‬تَت الشائع يف الوجود‬
‫كله رٔتا كان من أصحاب اإلسراف‬
‫عىل أنفسهم يف شيء ما قد اقًتفوه‬
‫وتابوا عنه ولكنه ال يزال يؤرقهم ‪.‬‬
‫يكون الواحد منهم قويا يف كل شيء‬
‫‪ ،‬إال أنه ضعيف أمام مسألة واحدة‬
‫‪ ،‬وضعفه أمام هذه ا‪١‬تسألة‬
‫الواحدة جعله يعصي اهلل بها وهو‬
‫٭تاول جاهدا ًيف النواحي اليت ليس‬
‫ضعيفا ًفيها أن يزيد كثَتا ًيف‬
‫حسناته ‪ ،‬حىت ٯتحو ويذهب اهلل‬
‫هذه بهذه ‪ .‬فا‪٠‬تَت الشائع يف الوجود‬
‫رٔتا كان من أصحاب السيئات‬
‫الذين أسرفوا عىل أنفسهم يف‬
‫ناحية من النواحي ‪ ،‬فيشاء اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل أن ‪٬‬تعلهم متجهُت‬
‫إىل نوا ٍح من ا‪٠‬تَت قائلُت ‪ :‬رٔتا هذه‬
‫ٖتمل تلك ‪.‬‬
‫لكن الذي يظل رتيبا ًهكذا ال‬
‫تلذعه معصية رٔتا تظل ا‪١‬تسائل‬
‫فاترة يف نفسه ‪ .‬ولذلك ‪٬‬تب أن‬
‫ننظر إىل الذين أسرفوا عىل‬
‫أنفسهم ال يف زاوية واحدة ‪ ،‬ولكن‬
‫يف زوايا متعددة ‪ ،‬ونتأدب أمامهم‬
‫وندعو اهلل أن يعفيهم ‪٦‬تا نعرفه‬
‫عنهم ‪ ،‬وأن يبارك ‪٢‬تم فيما‬
‫قدموه؛ ليزيل اهلل عنهم أوزار ما‬
‫فعلوا ‪.‬‬
‫وبعض العلماء يرى يف قوله ا‪ٟ‬تق ‪:‬‬
‫آء َويُعَ ِ ّذ ُب َمن‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫{ فَيغ ْ ِفر ِ‬
‫‪١‬ت‬
‫َ ُ َ َ ُ‬
‫آء } أن اهلل قد جعل ا‪١‬تغفرة‬ ‫ي َ َش ُ‬
‫أمرا ًمتعلقا ًبالعابد هلل ‪ ،‬فإن شئت‬
‫أن يغفر اهلل لك فاكثر من ا‪ٟ‬تسنات‬
‫حىت يبدل اهلل سيئاتك إىل حسنات‬
‫‪ .‬وإن شئت أن تعذب وهذا أمر ال‬
‫يشاؤه أحد فبل تصنع ا‪ٟ‬تسنات ‪.‬‬
‫وهذه ا‪١‬تسألة ٕتعلنا نعرف أن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل حُت يطلب منا‬
‫اإلٯتان به فإنه ُٯتلكنا الزمام ‪.‬‬
‫ؤتجرد إٯتاننا به فنحن نتلىق منه‬
‫زمام االختيار ‪ ،‬والدليل واضح يف‬
‫ا‪ٟ‬تديث القدسي ‪ :‬عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم يقول اهلل عز‬
‫وجل ‪ « :‬أنا عند ظن عبدي يب ‪،‬‬
‫وأنا معه حُت يذكرين ‪ .‬إن ذكرين يف‬
‫نفسه ذكرته يف نفسي ‪ ،‬وإن ذكرين‬
‫يف مؤل ذكرته يف مؤلهم خَتٌمنهم‬
‫وان تقرب مٍت شْبا تقربت إليه‬
‫ذراعا ‪ ،‬وإن تقرب إىلّ ذراعا ‪،‬‬
‫تقربت منه باعا ‪ ،‬وإن أتاين ٯتشي‬
‫أتيته َه ْر َولَةً » ‪.‬‬
‫ُ‬
‫إذن فبمجرد إٯتانك ملكك اهلل‬
‫الزمام ‪ ،‬فإن أردت أن يتقرب اهلل‬
‫إليك ذراعا ‪ ،‬فتقرب أنت إليه شْبا‬
‫‪ ،‬فالزمام يف يدك ‪.‬‬

‫وإن شئت أن يتقرب اهلل منك باعا‬


‫‪ ،‬فتقرب أنت ذراعا ‪ .‬وإن شئت‬
‫أنت أن يأيت ربك إليك مهروال ً‬
‫جريا ًفأت إليه مشيا ‪ .‬فبمجرد أن‬
‫يراك اهلل وأنت تقبل وتتجه إليه ‪،‬‬
‫كأنه يقول لك ‪ :‬ال ‪ . .‬اسًتح أنت ‪،‬‬
‫أنا الذي آيت إليك ‪.‬‬
‫ولذلك قلنا من قبل يف مسألة‬
‫الصبلة حُت تؤمن أيها العبد باهلل‬
‫وبعد ذلك ينادي ا‪١‬تؤذن للصبلة ‪،‬‬
‫فتذهب أنت إىل الصبلة ‪ ،‬صحيح‬
‫أنت تذهب إىل الصبلة ا‪١‬تفروضة ‪،‬‬
‫لكن هل منعك اهلل أن تقف بُت‬
‫يديه يف أية ‪ٟ‬تظة؟ ‪ .‬لقد طلب اهلل‬
‫منك أن ٖتضر بُت يديه ‪ٜ‬تس‬
‫مرات يف اليوم ‪ ،‬وبعد ذلك ترك‬
‫الباب مفتوحا ًلك أيها ا‪١‬تؤمن فاهلل‬
‫ال ٯتل حىت ٯتل العبد ‪.‬‬
‫واإلنسان يف حياته العادية وهلل‬
‫ا‪١‬تثل األعىل إذا أراد أن يقابل‬
‫عظيما ًمن العظماء فإن اإلنسان‬
‫يطلب ا‪١‬تيعاد ‪ ،‬فإما أن يقبل‬
‫العظيم من البشر لقاء من يطلب‬
‫ا‪١‬تيعاد أو يرفض ‪ .‬وإذا قبل العظيم‬
‫من البشر لقاء من يطلب ا‪١‬تيعاد ‪،‬‬
‫فإن العظيم من البشر ٭تدد الزمن ‪،‬‬
‫و٭تدد ا‪١‬تكان ‪ ،‬ورٔتا طلب العظيم‬
‫من البشر أن يعرف سبب وموضوع‬
‫ا‪١‬تقابلة ‪ .‬لكن اهلل يًتك الباب‬
‫مفتوحا ًأمام العبد ا‪١‬تؤمن ‪ ،‬يلىق اهلل‬
‫عبده يف أي شيء ‪ ،‬ويف أي وقت ‪ ،‬ويف‬
‫أي مكان ‪ ،‬ويف أي زمان ‪.‬‬
‫حسب نفسي عزا ً َّ‬
‫بأين َعبد ‪...‬‬
‫٭تتفي يب ببل مواعيد ُّ‬
‫رب‬
‫هو يف قدسه األعز ولكن ‪ ...‬أنا ألىق‬
‫مىت وأين ُّ‬
‫أحب‬
‫الزمام إذن يف يد من؟ ‪ .‬إن الزمام‬
‫يف يد العبد ا‪١‬تؤمن ‪ .‬لذلك فالذين‬
‫آء }‬ ‫ش‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫قالوا يف فهم { فَيغ ْ ِفر ِ‬
‫‪١‬ت‬
‫َ ُ َ َ ُ‬
‫إن البشر يف أيديهم أمر ا‪١‬تغفرة‬
‫‪٢‬تم ‪ ،‬فإن شاء البشر أن يغفر اهلل‬
‫‪٢‬تم فإهنم يفعلون أسباب ا‪١‬تغفرة ‪،‬‬
‫ويتوبون إىل اهلل ‪ ،‬ويكثرون من‬
‫ا‪ٟ‬تسنات ‪ ،‬ومن يريد أن يتعذب‬
‫فليظل سادرا ًيف غيه يف فعل‬
‫السيئات ‪ .‬ثم بعد ذلك يقول اهلل‬
‫عز وجل ‪ { :‬آ َم َن الرسول ِٔتَآ‬
‫أُن ْ ِز َل إِلَي ْ ِه ِمن َّربِّ ِه وا‪١‬تؤمنون ‪. . .‬‬
‫}‬

‫ول ِٔتَا أُن ْ ِز َل إِلَي ْ ِه ِم ْن َر ِبّ ِه‬


‫آ َم َن ال َّر ُس ُ‬
‫وا ْ‪١‬ت ْؤ ِم ُنون كُ ٌّل آ َم َن بِ َ ِ‬
‫اّلل َو َم َبل ِئ َكتِ ِه‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ُت أ َ َح ٍد ِم ْن‬ ‫ِ ِِ‬
‫َو ُك ُتبِه َو ُر ُسله َال ن ُ َف ّ ِر ُق ب َ ْ َ‬
‫‪ٝ‬تعْنَا َوأ َ َطعْنَا ُغ ْف َران َ َ‬
‫ك‬ ‫رسلِ ِه َوقَالُوا َ ِ‬
‫ُُ‬
‫َت (‪)285‬‬ ‫ربَّنَا وإِلَي َ ِ‬
‫ك ا ْ‪١‬تَص ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫عندما نتأمل هذه اْلية الكرٯتة‬
‫‪٧‬تد أن اإلٯتان األول باهلل كان من‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم ‪{ :‬‬
‫آ َم َن الرسول ِٔتَآ أُن ْ ِز َل إِلَي ْ ِه ِمن َّر ِبّ ِه‬
‫} ‪ .‬وبعد ذلك يأيت إٯتان الذين‬
‫بلغهم الرسول بالدعوة {‬
‫وا‪١‬تؤمنون } ‪ .‬وبعد ذلك ٯتتزج‬
‫إٯتان الرسول بإٯتان ا‪١‬تؤمنُت {‬
‫كُ ٌّل آ َم َن باهلل ومبلئكته َو ُك ُتبِ ِه‬
‫ُت أ َ َح ٍد ِّمن ُّر ُسلِ ِه‬ ‫ِِ‬
‫َو ُر ُسله ال َن ُ َف ّ ِر ُق ب َ ْ َ‬
‫ك َربَّنَا‬ ‫‪ٝ‬تعْنَا َوأ َ َطعْنَا ُغ ْف َران َ َ‬ ‫َوقَالُوا ْ َ ِ‬
‫ك ا‪١‬تصَت } ‪.‬‬‫َوإ َِيل ْ َ‬
‫أي أن كبل من الرسول وا‪١‬تؤمنُت‬
‫آمنوا باهلل ‪ .‬إن اإلٯتان األول هو‬
‫إٯتان الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬
‫‪ ،‬واإلٯتان أيضا ًمن ا‪١‬تؤمنُت‬
‫بالرسالة اليت جاء بها الرسول بناء ً‬
‫عىل توزيع الفاعل يف { آ َم َن } بُت‬
‫الرسول وا‪١‬تؤمنُت ‪ .‬وبعد ذلك‬
‫‪٬‬تمعهما اهلل الرسول وا‪١‬تؤمنُت يف‬
‫إٯتان واحد ‪ ،‬وهذا أمر طبيعي ‪،‬‬
‫ألن الرسول صىل اهلل عليه وسلم‬
‫آمن باهلل أوال ً‪ ،‬وبعد ذلك بلغنا‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسلم وآمنا‬
‫باهلل وبه ثم امتزج اإلٯتان فصار‬
‫إٯتاننا هو إٯتان الرسول وإٯتان‬
‫الرسول هو إٯتاننا ‪ ،‬وهذا ما‬
‫يوضحه القول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬كُ ٌّل آ َم َن‬
‫باهلل } ‪.‬‬
‫إذن فالرسول يف مرحلته األوىل سبق‬
‫باإلٯتان باهلل ‪ ،‬والرسول مطلوب‬
‫منه حىت حُت يؤمن باهلل أن يؤمن‬
‫بأنه رسول اهلل ‪ ،‬ألم يقل الرسول‬
‫صىل اهلل عليه وسلم ‪ :‬أشهد أن‬
‫‪٤‬تمدا ًرسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم ؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه‬
‫أمر يف سَتته ذاهتا يقول ‪ :‬أشهد أين‬
‫رسول اهلل ‪ . .‬إنّه يقو‪٢‬تا بفرحة ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ما روي « عن جابر بن‬
‫عبد اهلل رضي اهلل عنهما قال ‪» :‬‬
‫كان با‪١‬تدينة يهودي وكان يسلفٍت‬
‫يف ٘تري إىل ا‪ٞ‬تذاذ ‪ ،‬وكان ‪ٞ‬تابر‬
‫األرض اليت بطريق رومة فجلست‬
‫فخبل عاما فجاءين اليهودي عند‬
‫ا‪ٞ‬تذاذ ولم أجد منها شيئا فجعلت‬
‫أستنظره إىل قابل « أي أطلب منه‬
‫أن ٯتهلٍت إىل عام ثان » فيأىب‬
‫فَأخْب بذلك النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم فقال ألصحابه ‪ :‬امشوا‬
‫نستنظر ‪ٞ‬تابر من اليهودي فجاءوين‬
‫يف ‪٩‬تلي ‪ ،‬فجعل النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يكلم اليهودي فيقول (‬
‫اليهودي ) أبا القاسم ‪ ،‬ال أنظره‬
‫فلما رأى النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫قام فطاف يف النخل ثم جاءه فكلمه‬
‫فأىب فجئت بقليل رطب فوضعته‬
‫بُت يدي النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫فأكل ثم قال ‪ :‬أين عريشك يا‬
‫جابر فأخْبته ‪ ،‬فقال ‪ :‬افرش يل‬
‫فيه ففرشته ‪ ،‬فدخل فرقد ثم‬
‫استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل‬
‫منها ‪ ،‬ثم قام فكلم اليهودي فأىب‬
‫عليه ‪ ،‬فقام يف الرطاب يف النخل‬
‫الثانية ثم قال يا جابر ‪ ،‬ج ّذ واقض‬
‫فوقف يف ا‪ٞ‬تذاذ فَجذذْ ُت منها ما‬
‫قضيته ‪ ،‬وفضل منه فخرجت حىت‬
‫جئت النبي صىل اهلل عليه وسلم‬
‫فبشرته فقال ‪ :‬أشهد أين رسول اهلل‬
‫«‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل يشهد أن ال‬
‫إله إال هو ‪:‬‬

‫{ َش ِه َد اهلل أ َن ّ َُه ال َإله إِال َّ ُه َو‬


‫وا‪١‬تبلئكة َوأُ ْولُوا ْالعلم قَ ِآئ َما ً‬
‫بالقسط ال َإله إِال َّ ُه َو العزيز ا‪ٟ‬تكيم‬
‫} ػ آل عمران ‪] 18 :‬‬
‫إذن فاهلل يشهد أن ال إله إال هو ‪،‬‬
‫ورسول اهلل يشهد أن ال إله إال اهلل ‪،‬‬
‫ويشهد أيضا ًأنه رسول اهلل ‪ ،‬يبلغ‬
‫ذلك للمؤمنُت فيكتمل التكوين‬
‫اإلٯتاين ‪ ،‬ولذلك يقول ا‪ٟ‬تق عن‬
‫ذلك ‪ { :‬كُ ٌّل آ َم َن باهلل ومبلئكته‬
‫َو ُك ُتبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه } ‪ .‬وا‪ٟ‬تق يأيت ب «‬
‫كل » بالتنوين أي كل من الرسول‬ ‫ً‬
‫وا‪١‬تؤمنُت ‪.‬‬
‫ويورد لنا سبحانه عناصر اإلٯتان ‪:‬‬
‫{ كُ ٌّل آ َم َن باهلل ومبلئكته َو ُك ُتبِ ِه‬
‫ُت أ َ َح ٍد ِّمن ُّر ُسلِ ِه‬ ‫ِِ‬
‫َو ُر ُسله ال َن ُ َف ّ ِر ُق ب َ ْ َ‬
‫ك َربَّنَا‬‫‪ٝ‬تعْنَا َوأ َ َطعْنَا ُغ ْف َران َ َ‬
‫َوقَالُوا ْ َ ِ‬
‫ك ا‪١‬تصَت } ‪ .‬و‪٨‬تن نعرف أن‬ ‫َوإِلَي ْ َ‬
‫اإلٯتان باهلل وكل ما يتعلق باإلٯتان‬
‫البد أن يكون يبا ً؛ فبل يوجد‬
‫إٯتان ٔتحس أبدا ً‪ .‬فاألشياء‬
‫ا‪١‬تحسة ال يدخلها إٯتان؛ ألهنا‬
‫مشهودة ‪ .‬وعناصر اإليمان يف هذه‬
‫اْلية هي ‪:‬‬
‫إٯتان باهلل وهو غيب ‪ .‬وإٯتان‬
‫با‪١‬تبلئكة وهي غيب من خلق اهلل ‪،‬‬
‫ولو لم يبلغنا اهلل أن له خلقا ًهم‬
‫ا‪١‬تبلئكة ‪١‬تا عرفنا ‪ ،‬إن ا‪ٟ‬تق أخْبنا‬
‫أنه خلق ا‪١‬تبلئكة وهم ال يعصون‬
‫اهلل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‬
‫وهم غيب ‪ ،‬ولوال ذلك ‪١‬تا عرفنا‬
‫ا‪١‬تبلئك إٯتان بالكتب‬
‫ة‬ ‫أمر‬
‫والرسل ‪.‬‬
‫وقد يقول قائل ‪ :‬هل الرسل‬
‫غيب؟ وهل الكتب السماوية‬
‫غيب؟ إن الرسل بشر ‪ ،‬والكتب‬
‫مشهودة ‪ .‬و‪١‬تثل هذا القائل نقول‬
‫‪ :‬ال ‪ ،‬ال يوجد واحد منا قد رأى‬
‫الكتاب يزنل عىل الرسول ‪ ،‬وهذا‬
‫يعٍت أن عملية الوحي للرسول‬
‫بالكتاب هي غيب يعلمه اهلل‬
‫ويؤمن به ؤ‬
‫الممنون ‪.‬‬
‫وكيف نؤمن بكل الرسل وال نفرق‬
‫بُت أحد منهم؟ ‪ .‬ونقول ‪ :‬إن‬
‫الرسل ا‪١‬تبلغُت عن اهلل إ‪٪‬تا يبلغون‬
‫منهجا ًعن اهلل فيه العقائد اليت‬
‫ٗتتلف باختبلف العصور ‪ ،‬وفيه‬
‫األحكام اليت ٗتتلف باختبلف‬
‫العصور ومواقع القضايا فيها ‪.‬‬
‫إذن فاألصل العقدي يف كل‬
‫الرساالت أمر واحد ‪ ،‬ولكن‬
‫ا‪١‬تطلوب يف حركة ا‪ٟ‬تياة ٮتتلف؛‬
‫ألن أقضية ا‪ٟ‬تياة ٗتتلف ‪ ،‬وحُت‬
‫ٗتتلف أقضية ا‪ٟ‬تياة فإن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه يزنل التشريع ا‪١‬تناسب ‪،‬‬
‫لكن األصل واحد والببلغ من‬
‫خالق ال إله إال هو ‪ ،‬ولذلك يأيت‬
‫القول ا‪ٟ‬تكيم ‪ { :‬ال َن ُ َف ّ ِر ُق ب َ ْ َ‬
‫ُت‬
‫أ َ َح ٍد ِّمن ُّر ُسلِ ِه } فنحن ال فنرق بُت‬
‫الرسل يف أهنم يبلغون عن اهلل ما‬
‫تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية‬
‫االعتقاد ‪ ،‬وما ٗتتلف من ناحية‬
‫األحكام اليت تناسب أقضية كل‬
‫عصر ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق؛ { َوقَالُوا ْ‬
‫‪ٝ‬تعْنَا َوأ َ َطعْنَا } إذن السماع هو‬
‫َِ‬
‫بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال‬
‫با‪١‬تطلوب ‪ ،‬وأن ٯتتثل ا‪١‬تؤمن أمرا ً‬
‫وٯتتثل ا‪١‬تؤمن هنيا ًيف كل أمر يتعلق‬
‫ْتركة الكون ‪ .‬فالذين يريدون أن‬
‫يعزلوا الدين عن حركة ا‪ٟ‬تياة‬
‫يقولون ‪ :‬إن الدين يهتم بالعبادات‬
‫كالصبلة والصوم والزكاة وا‪ٟ‬تج‪.‬‬
‫وبعد ذلك ٭تاولون عزل حركة‬
‫ا‪ٟ‬تياة عن الدين ‪.‬‬
‫‪٢‬تؤالء نقول ‪ :‬أنتم تتكلمون عما‬
‫بلغكم من دين لم ‪٬‬تئ لينظم‬
‫حركة ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وإ‪٪‬تا جاء ليعطي‬
‫ا‪ٞ‬ترعة ا‪١‬تفقودة عند اليهود وهي‬
‫ا‪ٞ‬ترعة الروحية ‪ ،‬لكن الدين‬
‫اإلسبلمي جاء خا٘تا ًلؤلديان منظما ً‬
‫‪ٟ‬تركة ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬فكل أمر يف ا‪ٟ‬تياة‬
‫وكل حركة فيها داخلة يف حدود‬
‫الطاعة ‪.‬‬
‫و‪٨‬تن حُت نقرأ القرآن الكريم ‪،‬‬
‫‪٧‬تد القول ا‪ٟ‬تكيم ‪ { :‬ياأيها الذين‬
‫لصبل َ ِة ِمن ي َ ْو ِم‬
‫آمنوا إِذَا نُو ِد َي ل ِ َّ‬
‫ا‪ٞ‬تمعة فاسعوا إىل ِذ ْك ِر اهلل َوذَ ُروا ْ‬
‫البيع ذَل ِ ُك ْم َخ َْتٌ ل َّ ُك ْم إِن ُك ُنت ْم‬
‫ون } ػ ا‪ٞ‬تمعة ‪] 9 :‬‬ ‫تَعْل َ ُم َ‬
‫إذن ا‪ٟ‬تق سبحانه يأمر ا‪١‬تؤمنُت‬
‫وٮترجهم من حركة من حركات‬
‫ا‪ٟ‬تياة إىل حركة أخرى ‪ ،‬فهو لم‬
‫يأخذهم من فراغ ‪ ،‬إ‪٪‬تا ناداهم‬
‫إلعبلن الوالء ا‪ٞ‬تماعي ‪ ،‬وهو إعبلن‬
‫من كل مؤمن بالعبودية هلل أمام‬
‫بقية ا‪١‬تخلوقات ‪ .‬وبعد أن يقضي‬
‫ا‪١‬تؤمنون الصبلة ماذا يقول ‪٢‬تم‬
‫ا‪ٟ‬تق سبحانه؟ يقول ‪٢‬تم ‪ { :‬فَإِذَا‬
‫ُق ِضي َ ِت الصبلة فانتشروا ِيف األرض‬
‫وابتغوا ِمن فَ ْض ِل اهلل واذكروا اهلل‬
‫ون} ػ ا‪ٞ‬تمعة ‪:‬‬ ‫ح‬ ‫كَثَِتا ًلَّعل َّ ُكم ُت ْفلِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫‪] 10‬‬
‫إذن فاالنتشار يف األرض هو حركة‬
‫يف ا‪ٟ‬تياة ‪٘ ،‬تاما ًكما كان النداء إىل‬
‫السعي لذكر اهلل ‪ .‬وهكذا تكون‬
‫كل حركة يف ا‪ٟ‬تياة داخلة يف إطار‬
‫الطاعة ‪ ،‬إذن « ‪ٝ‬تعنا وأطعنا » أي‬
‫‪ٝ‬تعنا كل ا‪١‬تنهج ‪ ،‬ولكن ‪٨‬تن حُت‬
‫سع ا‪١‬تنهج ‪ ،‬وحُت نطيع فهل لنا‬‫ن م‬
‫قدرة عىل أن نطيع كل ا‪١‬تنهج أو أن‬
‫لنا هفوات؟ ‪.‬‬
‫وألن أحدا ًلن يتم كل الطاعة ولنا‬
‫هفوات جاء قوله ا‪ٟ‬تق ‪ُ { :‬غ ْف َران َ َ‬
‫ك‬
‫ك ا‪١‬تصَت } فالغاية‬ ‫َربَّنَا َوإِلَي ْ َ‬
‫والنهاية كلها عائدة إليك ‪ ،‬وأنت‬
‫اإلله ا‪ٟ‬تق ‪ ،‬لذلك فنحن العباد‬
‫نطلب منك المغف َرة حىت نلقاك ‪،‬‬
‫و‪٨‬تن آمنون عىل أن ر‪ٛ‬تتك سبقت‬
‫غضبك ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬ال َيُكَلِ ّ ُف‬
‫اهلل ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا ‪} . . .‬‬

‫اّلل ن َ ْف ًسا إ َِّال ُو ْسعَهَا َ‪٢‬تَا َما‬ ‫ِ‬


‫َال يُكَل ّ ُف َّ ُ‬
‫َك َسب َ ْت َوعَلَيْهَا َما ا ْكت َ َسب َ ْت َربَّنَا َال‬
‫ُت َؤا ِخ ْذنَا إ ِْن ن َ ِسينَا أ َ ْو أ َ ْخ َطأْنَا َربَّنَا‬
‫َو َال َٖتْ ِم ْل عَلَيْنَا إِ ْص ًرا َك َما َ َ‬
‫‪ٛ‬تلْت َ ُه‬
‫عَىلَ ال َّ ِذي َن ِم ْن قَبْلِنَا َربَّنَا َو َال ُٖتَ ِ ّملْنَا َما‬
‫اع ُف َعنَّا َوا ْغ ِف ْر لَنا‬ ‫َال َطاقَةَ لَنا بِ ِه َو ْ‬
‫‪ٛ‬تنَا أَن ْ َت َم ْو َالنَا فَان ْ ُص ْرنَا عَىلَ‬ ‫َو ْار َ ْ‬
‫ال ْ َق ْو ِم الْكَافِرِي َن (‪)286‬‬

‫{ ال َيُكَلِ ّ ُف اهلل ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا }‬


‫إنّه سبحانه لم يكلفكم إال ما هو يف‬
‫الوسع ‪١ .‬تاذا؟ ألن األحداث‬
‫بالنسبة لعزم النفس البشرية‬
‫ثبلثة أقسام ‪ :‬القسم األول ‪ :‬هو ما‬
‫ال قدرة لنا عليه ‪ ،‬وهذا بعيد عن‬
‫التكليف ‪ .‬القسم الثاين ‪ :‬لنا قدرة‬
‫عليه لكن ٔتشقة أي ‪٬‬تهد طاقتنا‬
‫قليبل ‪ .‬القسم الثالث ‪ :‬التكليف‬
‫بالوسع ‪ .‬إذن { ال َيُكَلِ ّ ُف اهلل ن َ ْفسا ً‬
‫إِال َّ ُو ْسعَهَا } أي أن ا‪ٟ‬تق ال يكلف‬
‫النفس إال بتكليف تكون فيه‬
‫طاقتها أوسع من التكليف ‪ ،‬كلف‬
‫ا‪ٟ‬تق كل مسلم بالصبلة ‪ٜ‬تسة‬
‫فروض كل يوم ‪ ،‬و٘تؤل أوقاهتا‬
‫بالصبلة وكان من ا‪١‬تمكن أن‬
‫تكون عشرة ‪ ،‬بدليل أن هناك‬
‫أناسا ًتتطوع وهو سبحانه كلف كل‬
‫مسلم بالصوم شهرا ً‪ ،‬أال يوجد من‬
‫يصوم ثبلثة أشهر؟ ومثل هذا يف‬
‫الزكاة؛ فهناك من كان ٮترج عن‬
‫ماله كله هلل ‪ ،‬وال يقتصر عىل ما ‪٬‬تب‬
‫عليه من زكاة ‪.‬‬
‫إذن فهذا يف الوسع ‪ ،‬ومن ا‪١‬تمكن‬
‫أن تزيد ‪ ،‬إذن فاألشياء ثبلثة ‪ :‬شيء‬
‫ال يدخل يف القدرة فبل تكليف به ‪،‬‬
‫شيء يدخل يف القدرة بشيء من‬
‫التعب ‪ ،‬وشيء يف الوسع ‪ ،‬وا‪ٟ‬تق حُت‬
‫كلف ‪ ،‬كلف ما يف الوسع ‪ .‬ومادام‬
‫كلف ما يف الوسع فإن تطوعت أنت‬
‫بأمر زائد فهذا موضوع آخر {‬
‫فَ َمن تَ َط َّوعَ َخ َْتا ًفَ ُه َو َخ َْتٌ ل َّ ُه }‬
‫مادمت تتطوع من جنس ما فرض‬
‫‪.‬‬
‫إذن فالتكليف يف الوسع وإال لو لم‬
‫يكن يف الوسع ‪١‬تا تطوعت بالزيادة ‪.‬‬
‫فسبحانه يقول ‪ { :‬ال َيُكَلِ ّ ُف اهلل‬
‫ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا } ويأيت بعد ذلك‬
‫ليعلمنا فيقول ‪َ { :‬ربَّنَا َوال َ َٖتْ ِم ْل‬
‫‪ٛ‬تلْت َ ُه عَىلَ الذين‬ ‫عَلَيْنَآ إِ ْصرا ً َك َما َ َ‬
‫ِمن قَبْلِنَا َربَّنَا َوال َ ُٖتَ ِ ّملْنَا َما ال َ َطاقَةَ لَنا‬
‫بِ ِه } ‪ ،‬وهو القائل ‪ { :‬ال َيُكَلِ ّ ُف اهلل‬
‫ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا } إذن سبحانه‬
‫يكلفنا ٔتا نقدر عليه ونطيقه ‪.‬‬
‫فقد روي أن اهلل حينما ‪ٝ‬تع رسوله‬
‫و‪ٝ‬تع ا‪١‬تؤمنُت يقولون ‪َ { :‬ربَّنَا َوال َ‬
‫َٖتْ ِم ْل عَلَيْنَآ إِ ْصرا ً َك َما َ َ‬
‫‪ٛ‬تلْت َ ُه عَىلَ‬
‫الذين ِمن قَبْلِنَا } قال سبحانه ‪ :‬قد‬
‫فعلت ‪.‬‬
‫وعندما قالوا ‪َ { :‬ربَّنَا َوال َ ُٖتَ ِ ّملْنَا َما‬
‫ال َ َطاقَ َة لَنا بِ ِه } قال سبحانه ‪ :‬قد‬
‫فعلت ‪ .‬ولم يكلفنا سبحانه إال ٔتا‬
‫يف الوسع ‪ ،‬وهو القدر ا‪١‬تشًتك عند‬
‫كل ا‪١‬تؤمنُت ‪ .‬وهناك أناس تكون‬
‫‪٫‬تتهم أوسع من ‪٫‬تة َتهم ‪ ،‬ومن‬
‫تتسع ‪٫‬تته فإنه يدخل بالعبادات‬
‫اليت يزيد منها يف باب التطوع ‪،‬‬
‫ومن ال تتسع ‪٫‬تته فهو يؤدي‬
‫الفروض ا‪١‬تطلوبة منه فقط وعندما‬
‫يطرأ عىل اإلنسان ما ‪٬‬تعل ا‪ٟ‬تكم يف‬
‫َت الوسع؛ فإن اهلل ٮتفف التكليف؛‬
‫فا‪١‬تسافر تقول له الشريعة ‪ :‬أنت‬
‫ٗترج عن حياتك الرتيبة ‪،‬‬
‫وتذهب إىل أماكن ليس لك بها‬
‫مستقر ‪ ،‬لذلك ٮتفف ا‪ٟ‬تق عليك‬
‫التكليف؛ فلك أن تفطر يف هنار‬
‫رمضان ‪ ،‬ولك أن ُتقصر الصبلة ‪.‬‬
‫وا‪ٟ‬تق سبحانه يعلم أن الوسع قد‬
‫يضيق لذلك فإنه جل شأنه ٮتفف‬
‫حكم التكليف وٯتنح الرخص عند‬
‫ضيق الوسع ‪ ،‬ومثال ذلك قوله ا‪ٟ‬تق‬
‫‪:‬‬
‫{ اْلن َخ ّف ََف اهلل َعن ُك ْم َوعَلِ َم أ َ َّن‬
‫فِي ُك ْم َضعْفا ًفَإِن ي َ ُك ْن ِّمن ُك ْم ِّمأْئَ ٌة‬
‫ُت} ػ األنفال ‪:‬‬ ‫َصابِ َرةٌ يَغْلِبُوا ْ ِماْئَت َ ْ ِ‬
‫‪] 66‬‬
‫كانت النسبة يف القتال قبل هذه‬
‫اْلية هي واحدا ًلعشرة ‪ ،‬وخففها‬
‫ا‪ٟ‬تق وجعلها واحدا ًإىل اثنُت ألن‬
‫هناك ضعفا ‪ ،‬وهكذا نرى أنه‬
‫سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد‬
‫عن الوسع ‪ .‬وكثَت من الناس‬
‫ٮتطئون التفسَت؛ فيقولون عن‬
‫بعض التكاليف ‪ :‬إهنا فوق وسعهم‬
‫و‪٢‬تؤالء نقول ‪ :‬ال ‪ .‬ال ٖتدد أنت‬
‫الوسع ‪ ،‬ثم تقيس التكليف عليه ‪،‬‬
‫بل انظر هل كلفك أو لم يكلفك؟‬
‫فإذا كان قد كلفك ا‪ٟ‬تق فاحكم‬
‫بأنه كلفك ٔتا يف الوسع ‪ ،‬وكل‬
‫تكاليف الر‪ٛ‬تن تدخل يف الوسع {‬
‫ال َيُكَلِ ّ ُف اهلل ن َ ْفسا ًإِال َّ ُو ْسعَهَا َ‪٢‬تَا َما‬
‫كَ َسب َ ْت َوعَلَيْهَا َما اكتسبت } ‪.‬‬
‫و { َ‪٢‬تَا } تفيد ا‪١‬تلكية‬
‫واالختصاص وهي ما ُتفيد‬
‫و ُت ْك ِس ُب النف َس ثوابا ‪ ،‬و { عَلَيْهَا‬
‫} تفيد الوزر ‪ ،‬ونبلحظ أن كل {‬
‫َ‪٢‬تَا } جاءت مع { كَ َسب َ ْت } ‪ ،‬وكل‬
‫{ عَلَيْهَا } جاءت مع { اكتسبت }‬
‫إال يف آية واحدة يقول فيها ا‪ٟ‬تق ‪{ :‬‬
‫ب َس ِيّئَةً َوأ َ َح َاط ْت بِ ِه‬ ‫ب م‬
‫ىل َن َك َس َ‬
‫اب النار‬ ‫َ‬
‫خطيائته فأولئك أ ْص َح ُ‬
‫ون } ػ البقرة ‪81 :‬‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫هم فِيها َخال ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫]‬
‫وهنا وقفة يف األسلوب؛ ألن «‬
‫كسب » تعٍت أن هناك فرقا ًيف‬
‫ا‪١‬تعا‪ٞ‬تة الفعلية ا‪ٟ‬تدثية بينها وبُت‬
‫كلمة { اكتسبت } ‪ ،‬ألن «‬
‫اكتسب » فيها « افتعل » أي‬
‫تكلف ‪ ،‬وقام بفعل أخذ منه عبلجا ً‪،‬‬
‫أما « كسب » فهو أمر طبيعي إذن‬
‫ف « كسب » َت « اكتسب »‬
‫وكل أفعال ا‪٠‬تَت تأيت كسبا ًال‬
‫اكتسابا ً‪.‬‬
‫مثال ذلك عندما ينظر الرجل إىل‬
‫زوجته ‪ ،‬ويرى ‪ٚ‬تا‪٢‬تا ‪ ،‬فهل هو‬
‫يفتعل شيئا ً‪ ،‬أو أن ذلك أمر‬
‫طبيعي؟ إنه أمر طبيعي ‪ ،‬ولكن‬
‫عندما ينظر الرجل إىل َت ‪٤‬تارمه‬
‫فإنه يرقب هل يرى أحد النظرة؟‬
‫وهل رآه أحد من الناس؟ وهل‬
‫سينال سخرية واستهزاء عىل ذلك‬
‫الفعل أو ال؟ ‪١‬تاذا؟ ألنه ارتكب‬
‫عمبل ًمفتعبل ً ‪.‬‬
‫مثال آخر ‪ ،‬إنسان يأكل من ماله ‪،‬‬
‫أو من مال أبيه ‪ ،‬إنه يأكل كأمر‬
‫طبيعي ‪ ،‬أما من يدخل بستانا ً‬
‫ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف‬
‫ذلك الفعل ‪ ،‬ويريد أن يسًت نفسه‬
‫‪ ،‬فصاحب الشر يفتعل ‪ ،‬أما‬
‫صاحب ا‪٠‬تَت فإن أفعاله سهلة ال‬
‫افتعال فيها ‪ . .‬فالشر هو الذي‬
‫٭تتاج إىل افتعال ‪.‬‬
‫وا‪١‬تصيبة الكْبى أال ٭تتاج الشر إىل‬
‫افتعال؛ ألن صاحبه يصَت إىل ببلدة‬
‫ا‪ٟ‬تس اإلٯتاين ‪ ،‬وتكون الشرور‬
‫بالنسبة إليه سهلة؛ ألنه تعود عليها‬
‫كثَتا ً‪ ،‬ويقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬بىل َمن‬
‫ب َس ِيّئَةً َوأ َ َح َاط ْت بِ ِه خطيائته‬
‫َك َس َ‬
‫} إن ا‪٠‬تطيئة ٖتيط به من كل‬
‫ناحية ‪ ،‬ولم يعد هناك منفذ ‪ ،‬وهو‬
‫ال يفتعل حىت صارت له ملكة يف‬
‫الشر؛ فاللص مثبل ًيف بداية عمله‬
‫ٮتاف ويًتقب ‪ ،‬لكن عندما تصبح‬
‫اللصوصية مهنته فإنه ٭تمل‬
‫أدوات السرقة ويصَت حسه متبلدا ً‬
‫‪.‬‬

‫ففي ا‪١‬ترحلة األوىل من الشر يكون‬


‫أهل الشر يف حياء من فعل الشر ‪،‬‬
‫وذلك دليل عىل أن ضمائرهم‬
‫وقلوبهم مازال فيها بعض من خَت‬
‫‪ ،‬لكن عندما يعتْبون الشر حرفة‬
‫وملكة فهنا ا‪١‬تصيبة ‪ ،‬وٖتيط بكل‬
‫منهم خطيئة وتطوقه وال ٕتعل له‬
‫منفذا ًإىل اهلل ليتوب ‪.‬‬
‫فالذي يلعب ا‪١‬تيسر ‪ ،‬أو طوقته‬
‫خطيئة الفحش قد يقول فرحا ً‪« :‬‬
‫كانت سهرة األمس رائعة » ‪ ،‬أما‬
‫الذي يرتكب ا‪٠‬تطأ ألول مرة فإنه‬
‫يقول ‪ « :‬كانت ليلة سوداء يا ليتها‬
‫ما حدثت » ‪ ،‬ويظل يؤنب نفسه‬
‫ويلومها؛ ألنه تعب وأرهق نفسه؛‬
‫ألنه ارتكب ا‪٠‬تطأ ‪.‬‬
‫إذن فقول ا‪ٟ‬تق ‪٢َ { :‬تَا َما َك َسب َ ْت‬
‫َوعَلَيْهَا َما اكتسبت } يوضح لنا أن‬
‫فعل الشر هو الذي ٭تتاج إىل ‪٣‬تهود‬
‫‪ ،‬فإن انتقلت ا‪١‬تسألة من اكتسبت‬
‫إىل كسبت فهذه هي الطامة‬
‫الكْبى ‪ ،‬ويكون قد أحاطت به‬
‫خطيئته ‪ .‬ويكون عىل كل نفس ما‬
‫اكتسبت ‪ .‬والعاقل هو من يكثر ما‬
‫لنفسه ‪ ،‬وال ما عليها؛ ألن الذي‬
‫يقول ذلك هو ا‪ٟ‬تق العالم ا‪١‬تالك‬
‫الذي إليه ا‪١‬تصَت ‪ ،‬فليس من هذا‬
‫األمر فِكاك ‪ .‬وبعد ذلك يقول ا‪ٟ‬تق‬
‫عىل لسان عباده ا‪١‬تؤمنُت ‪َ { :‬ربَّنَا ال َ‬
‫ُت َؤا ِخ ْذنَا إِن ن َّ ِسينَآ أ َ ْو أ َ ْخ َطأْنَا } ‪،‬‬
‫ولقائل أن يقول ‪ :‬إن الرسول صىل‬
‫اهلل عليه وسلم طمأننا ‪ ،‬فقال ‪« :‬‬
‫رفع عن أميت ا‪٠‬تطأ والنسيان ‪ ،‬وما‬
‫استكرهوا عليه » ‪.‬‬
‫فكيف يأيت القرآن بشيء مرفوع‬
‫عن األمة اإلسبلمية ليدعو به‬
‫الناس ربهم لَتفعه عنهم؟ ‪.‬‬
‫عىل مثل هذا القائل نرد ‪ :‬هل قال‬
‫لك أحد ‪ :‬إن رفع ا‪٠‬تطأ والنسيان‬
‫واالستكراه كان من أول األمر؟ ‪.‬‬
‫لعل الرفع حدث بعد أن دعا‬
‫الرسول والسابقون من ا‪١‬تؤمنُت ‪،‬‬
‫فما دام قد ُرفِ َع بضم الراء وكسر‬
‫الفاء وفتح العُت فمعٌت ذلك أنه‬
‫كان موجودا ً‪ ،‬إذن فبل يقولن أحد ‪:‬‬
‫كيف تدعو بشيء َت موجود ‪ .‬أو‬
‫أن ذلك يدل عىل منتىه الصفاء‬
‫اإلٯتاين ‪ ،‬أي اهلل ‪٬‬تب أال ّيُعْىص إال‬
‫خطأ أو نسيانا ً‪ ،‬وأن اهلل ال يصح وال‬
‫يستقيم أن يُعىص قصداً؛ ألن الذي‬
‫يعرف قدر اهلل حقا ً‪ ،‬ال يليق منه أن‬
‫يعصي اهلل إال نسيانا ًأو خطأ؛ ألن‬
‫ا‪٠‬تالق هو ا‪١‬تنعم بكل النعم ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك كلفنا ‪ ،‬وكان ‪٬‬تب أال نقصد‬
‫ا‪١‬تعصية ‪ .‬ولذلك فا‪ٟ‬تق سبحانه‬
‫وتعاىل قد ‪ٝ‬تى ما حدث من آدم‬
‫معصية مع أنه يقول ‪َ { :‬ولَقَ ْد‬
‫َع ِه ْدنَآ إىل ءَادَ َم ِمن قَب ْ ُل فَن َ ِس َي َول َ ْم‬
‫َ ِ‪٧‬ت ْد ل َ ُه َع ْزما ً} ػ طه ‪] 115 :‬‬
‫و‪ٝ‬تى اهلل النسيان يف قصة آدم‬
‫معصية ‪ { :‬وعىص ءَادَ ُم َربَّ ُه فغوى‬
‫} فكان النسيان أوال ًمعصية ‪،‬‬
‫ولكن اهلل أكرم أمة ‪٤‬تمد ‪ ،‬فرفع‬
‫عنها النسيان ‪ .‬ويف مسألة آدم‬
‫هناك ملحظ ‪٬‬تب عىل ا‪١‬تؤمن أن‬
‫يتنبه إليه؛ فآدم ُخلِ َق بيد اهلل ‪،‬‬
‫و‪٨‬تن ‪٥‬تلوقون بقانون التكاثر ‪،‬‬
‫وآدم تلىق التكليف من اهلل مباشرة‬
‫وليس بواسطة رسول ‪ ،‬وكُلِ ّ َف بأمر‬
‫واحد وهو أال يأكل من الشجرة ‪.‬‬
‫فإذا كان آدم ‪٥‬تلوقا ًمن اهلل مباشرة‬
‫ومكلفا ًمن اهلل مباشرة ‪ ،‬ولم يكلف‬
‫إال بأمر واحد وهو أال يقرب هذه‬
‫الشجرة ‪ ،‬ولم تكن هناك تكاليف‬
‫كثَتة فماذا نَس؟ وماذا تذكر؟ إهنا‬
‫معصية إذن ‪ .‬لقد كان النسيان‬
‫بالنسبة ْلدم معصية؛ ألنه ‪٥‬تلوق‬
‫ال ياإبليس َما َمنَعَ َ‬
‫ك‬ ‫بيد اهلل ‪ { .‬قَ َ‬
‫أَن تَ ْس ُج َد ِ‪١‬تَا َخلَقْ ُت بِي َ َد َّي } ػ ص‬
‫‪] 75 :‬‬
‫لذلك فلم يكن من ا‪١‬تناسب أن‬
‫ينَس هذا التكليف الواحد ‪ ،‬وما‬
‫عل سيدنا‬ ‫كان يصح له أن ينَس ‪َ ،‬ول َ ّ‬
‫آدم ن ُ ّ ِس َي ‪ٟ‬تكمة يعلمها اهلل ُر َّٔتا‬
‫تكون ليعمر األرض اليت جعله اهلل‬
‫خليفة فيها؛ أما بالنسبة ألمة ‪٤‬تمد‬
‫فحينما نقول ‪َ { :‬ربَّنَا ال َ ُت َؤا ِخ ْذنَا‬
‫إِن ن َّ ِسينَآ أ َ ْو أ َ ْخ َطأْنَا } فكأننا يا رب‬
‫نقدرك ‪ ،‬حق قدرك ‪ ،‬وال ‪٧‬تًتئ‬
‫عىل عصيانك عمدا ‪ ،‬وإن عصينا‬
‫فإ‪٪‬تا يكون العصيان نسيانا ً ْأو‬
‫خطأ ‪ ،‬وهذه معرفة لقدر ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل ‪.‬‬
‫ولكن ما النسيان؟ وما ا‪٠‬تطأ؟‬
‫أخ َطأ » وفيه « َخ ِطئَ » و‬
‫أوال ًفيه « ْ‬
‫« ا‪٠‬تِ ْطء » ال يكون إال إ‪ٙ‬تا؛ ألنه‬
‫تعمد ما ال ينبغي ‪ ،‬فأنت تعلم‬
‫قاعدة وٗتطئ ‪ ،‬والذي أخطأ قد ال‬
‫يعرف القاعدة ‪ ،‬فأنت تصوب له‬
‫خطأه ألنه حاد عن الصواب ‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ :‬عندما تتعلم يف‬
‫ا‪١‬تدرسة أن الفاعل مرفوع ‪،‬‬
‫وا‪١‬تفعول منصوب ويف وسط السنة‬
‫يصححون لك القاعدة حىت تستقر‬
‫يف ذهنك ‪ ،‬إ‪٪‬تا يف أيام االمتحان‬
‫أيصحح لك ا‪١‬تدرس أم يؤاخذك؟‬
‫إنه يؤاخذك؛ ألنك درست طوال‬
‫السنة هذه القاعدة ‪ ،‬إذن ففيه َخ ِطئ‬
‫وفيه أخطأ ‪ ،‬فأخطأ مرة تأيت عن‬
‫َت قصد؛ ألنه ال توجد قاعدة أنا‬
‫خالفتها ‪ ،‬أو لم أعرف القاعدة‬
‫وإ‪٪‬تا نطقت خطأ؛ ألهنم لم يقولوا‬
‫يل ‪ ،‬أو قالوا يل مرة ولم أتذكر ‪ ،‬أي‬
‫لم تستقر ا‪١‬تسألة كملكة يف‬
‫نفسي؛ ألن التلميذ ٮتطئ يف‬
‫الفاعل وا‪١‬تفعول مدة طويلة ‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك ينضج وتصَت اللغة ملكة يف‬
‫نفسه إن كان مواظبا عىل صيانتها ‪.‬‬
‫كان الت‪١‬تيذ يف البداية يقول ‪ :‬قطع‬
‫‪٤‬تمد الغصن ‪ ،‬وال يقو‪٢‬تا ُم َش َّكلةً‬
‫ولكن يسكن اْلخر يف هناية نطقه‬
‫السم ‪٤‬تمد ‪ ،‬وساعة يتذكر‬
‫القاعدة ينطقها « ‪٤‬تمد » بالرفع‬
‫وينطق « الغصن » بالنصب ‪١‬تاذا؟‬
‫ألنه ترد ثبلث قواعد عىل ذهنه ‪،‬‬
‫هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع ‪،‬‬
‫فهي مرفوعة ‪ ،‬فهو يمر بقضية‬
‫عقلية ‪ ،‬لكن بعدما ٯتر عليها‬
‫يقرأها صحيحة وقد ال يتذكر‬
‫القاعدة ‪ ،‬فقد صارت ا‪١‬تسألة‬
‫ملكة لغوية عنده ‪ ،‬هذه ا‪١‬تلكة‬
‫اللغوية مثلما نقول ‪ « :‬صارت‬
‫آلية » ‪.‬‬
‫ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم‬
‫ا‪٠‬تياطة ‪ ،‬انظر كم من الوقت ٯتر‬
‫ليتعلم كيف ٯتسك ٓتيط ليدخله‬
‫يف سم اإلبرة ‪ ،‬وقد يضربه معلمه‬
‫أكثر من مرة ليتعلمها؛ وفتلة‬
‫ا‪٠‬تيط تنثٍت منه ألهنا طويلة‬
‫فيقصرها ثم ال تدخل يف العُت‬
‫فيْبمها لتدخل ‪ ،‬إنه يأخذ وقتا‬
‫كثَتا ثم يعمل الغرزة فتخرج َت‬
‫منتظمة وبعد ذلك يظل مدة ‪ ،‬ثم‬
‫يفعل كل هذه األعمال بتلقائية‬
‫وهو يتكلم مع َته؛ ألن هذه‬
‫األعمال صارت ملكة ذاتية أي‬
‫عمبل ًآليًّا ‪.‬‬
‫والتدريب عىل العمل الذهٍت‬
‫حسب قواعد ‪٤‬تددة مثل تعلم اللغة‬
‫نسميه ملكة ‪ .‬أما التدريب عىل‬
‫عمل ا‪ٞ‬توارح مثل إدخال ا‪٠‬تيط‬
‫يف سم اإلبرة نسميه آلية ‪.‬‬
‫وعىل سبيل ا‪١‬تثال يف العمل الذهٍت‬
‫عندما تسأل سؤاال ًيف الفقه لطالب‬
‫يف األزهر فإنه يحتار قليبل إىل أن‬
‫يتعرف عىل الباب الذي فيه إجابة‬
‫للسؤال ‪ ،‬أما إذا سألت السؤال‬
‫نفسه لعالم مدرب فبمجرد أن‬
‫توجه له السؤال فإنه يقول لك‬
‫ا‪ٟ‬تكم والباب الذي فيه هذا ا‪ٟ‬تكم‬
‫‪ ،‬لقد صار الفقة بالنسبة للعالم‬
‫ملكة ‪.‬‬
‫ويقول ا‪ٟ‬تق من بعد ذلك ‪َ { :‬ربَّنَا‬
‫َوال َ َٖتْ ِم ْل عَل ْنَيَآ إِ ْصرا ً َك َما َ َ‬
‫‪ٛ‬تلْت َ ُه‬
‫عَىلَ الذين ِمن قَبْلِنَا } واإلصر هو‬
‫الشيء الثقيل الذي يثقل عىل‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ومثال ذلك اإلصر الذي‬
‫نزل عىل اليهود « إن أردتم التوبة‬
‫فاقتلوا أنفسكم أو تصدقوا أو‬
‫زكوا بربع أموالكم » لكن اهلل لم‬
‫يعاملنا كما عامل األمم السابقة‬
‫علينا ‪ ،‬وعندما نقول ‪َ { :‬ربَّنَا َوال َ‬
‫ُٖتَ ِ ّملْنَا َما ال َ َطاقَ َة لَنا بِ ِه } فنحن‬
‫نصدق أن رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم قال ‪ « :‬قال اهلل نعم »‬
‫ومعٌت قال اهلل نعم أنه سبحانه‬
‫وتعاىل أجاب الدعاء برفع ا‪١‬تشقة‬
‫عن األمة ‪.‬‬
‫أي أن اهلل لن ٭تملنا ما ال طاقة لنا به‬
‫‪ .‬وعندما نقول ‪ { :‬واعف َعنَّا }‬
‫فنحن نتوجه إىل اهلل ضارعُت ‪:‬‬
‫أنت يا حق تعلم أننا مهما أوتينا‬
‫من اليقظة اإلٯتانية وا‪ٟ‬ترص‬
‫الورعي فلن نستطيع أن نؤدي‬
‫حقك كامبل ً‪ ،‬ولذلك ال ندخل‬
‫عليك إال من باب أن تعفو عنا ‪.‬‬
‫ومعٌت العفو ‪٤‬تو األثر ‪ ،‬كالسائر يف‬
‫الصحراء تًتك قدماه عبلمة ‪،‬‬
‫وتأيت الريح لتزيل هذا األثر ‪ .‬كأن‬
‫هناك ذنبا ًوالذنب له أثر ‪ ،‬وأنت‬
‫تطلب من اهلل أن ٯتحوا الذنب ‪.‬‬
‫وعندما تقول ‪ { :‬واغفر لَنا }‬
‫فأنت تعرف أن من مظاهر‬
‫التكوين البشري النية اليت تريد‬
‫أن ٖتول العزم إىل حيز السلوك‬
‫واالنفعال الزنوعي؛ فا‪١‬تسألة‬
‫ٖتتاج منك إىل تدريب ‪ ،‬ومثال‬
‫ذلك ‪ ،‬عندما يذنب واحد يف حقك‬
‫فلك أن ترد عليه الذنب بالذنب ‪،‬‬
‫ولك أن تكظم الغيظ ‪ ،‬لكن يظل‬
‫الغيظ موجودا ًوأنت ٖتبسه ‪ ،‬ولك‬
‫أن تعفو ‪.‬‬
‫لكن ماذا عن مثل هذا األمر‬
‫بالنسبة للخالق الذي له كمال‬
‫القدرة؟ إن اهلل قد ال يعذب العبد‬
‫ا‪١‬تذنب ولكنه قد يظل اضبا عليه‬
‫‪ ،‬ومن منا قادر عىل أن يتحمل‬
‫غضب الرب؟ لذلك نطلب‬
‫ا‪١‬تغفرة ‪ ،‬ونقول ‪ { :‬واغفر لَنا‬
‫وار‪ٛ‬تنآ } فنحن ندعوه سبحانه‬
‫أال يدخلنا يف الذنب الذي يؤدي إىل‬
‫غضبه والعياذ باهلل علينا‪ .‬فالعفو هو‬
‫أن نرتكب ذنبا ونطلب من اهلل‬
‫ا‪١‬تغفرة ‪ ،‬ولكن الر‪ٛ‬تة هي الدعاء‬
‫بأال يدخلنا يف الذنب أصبل ‪.‬‬
‫نت َم ْوالَنَا‬‫وعندما يقول ا‪ٟ‬تق ‪ { :‬أ َ َ‬
‫فانصرنا عَىلَ القوم الكافرين }‬
‫فهذا اعًتاف بعبوديتنا له ‪ ،‬وأنه‬
‫ا‪ٟ‬تق خالقنا ومتويل أمورنا وناصرنا‬
‫‪ ،‬ومادام ا‪ٟ‬تق هو ناصرنا ‪ ،‬فهو‬
‫ناصرنا عىل القوم الكافرين؛ فكان‬
‫ختام سورة البقرة منسجما مع أول‬
‫ك‬ ‫سورة البقرة يف قوله ‪ { :‬الم * ذَل ِ َ‬
‫ُت‬ ‫ِ ِ‬ ‫الكتاب ال َري ْ ِ ِ‬
‫ب فيه ُه ًدى ل ّل ْ ُمتَّق َ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َ‬
‫ون‬ ‫ون بالغيب َويُق ُ‬ ‫* الذين يُ ْؤم ُن َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫ق‬
‫ُ‬ ‫الصبلة و‪٦‬تَا رزَقْن َ ُاهم يُن ْ ِ‬
‫ف‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ َ‬
‫يف أول السورة ضرب اهلل ا‪١‬تثل‬
‫بالكافرين وا‪١‬تنافقُت ‪ . .‬ويف‬
‫ختامها يقول ا‪ٟ‬تق دعاء عىل لسان‬
‫ا‪١‬تؤمنُت ‪ { :‬فانصرنا عَىلَ القوم‬
‫الكافرين } هذا القول يدل عىل‬
‫استدامة ا‪١‬تعركة بُت اإلٯتان‬
‫والكفر ‪ ،‬وأن ا‪١‬تؤمن يأخذ أحكام‬
‫اهلل دائما لينازل بها الكفر أيان‬
‫وجد ذلك الكفر ‪ ،‬ويثق ا‪١‬تؤمن‬
‫٘تام الثقة أن اهلل متوليه؛ ألن اهلل‬
‫موىل الذين آمنوا ‪ ،‬أما الكافرون فبل‬
‫موىل ‪٢‬تم ‪ .‬فإذا كان اهلل هو موىل‬
‫ا‪١‬تؤمن ‪ ،‬وإذا كان الكافر ال موىل له ‪،‬‬
‫فمعٌت ذلك أنه ‪٬‬تب أن تظل‬
‫ا‪١‬تعركة بُت ا‪١‬تؤمن والكافر قائمة ‪،‬‬
‫ْتيث إذا رأى ا‪١‬تؤمن اجًتاء ًعىل‬
‫اإلسبلم يف أي صورة من صوره‬
‫فليثق بأن اهلل ناصره ‪ ،‬وليثق بأن‬
‫اهلل معه ‪ ،‬وليثق ا‪١‬تؤمن أن اهلل ال‬
‫يطلب منه إال أن ينفعل ْتكمه‬
‫وتأييده بالنصر؛ ألنه هو الذي‬
‫يغلب فهو القائل جل وعبل ‪{ :‬‬
‫وه ْم يُعَ ِ ّذب ْ ُه ُم اهلل بِأَي ْ ِدي ُك ْم }‬ ‫ِ‬
‫قَاتل ُ ُ‬
‫‪.‬‬
‫‪٬‬تب أن تظل دائما مؤمنا ًمتيقظا ً‬
‫لعملية الكفر يف أي لون من ألواهنا؛‬
‫فهذا الكفر بعملياته يريد أن‬
‫يشوه حركة ا‪ٟ‬تياة وأن يتعب‬
‫الكون ‪ ،‬وأن ‪٬‬تعل القوانُت‬
‫الوضعية البشرية هي ا‪١‬تسيطرة ‪،‬‬
‫كما ‪٬‬تب عليك أيها ا‪١‬تؤمن أن‬
‫تكون من ا‪١‬تتقُت الذين استهل‬
‫بهم اهلل سورة البقرة ‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫تسأل اهلل أن ينصرك دائما ًعىل‬
‫القوم الكافرين ‪ .‬هذا هو مسك‬
‫ا‪٠‬تتام من سورة البقرة{ فانصرنا‬
‫عَىلَ القوم الكافرين } ‪.‬‬
‫وختام السورة بهذا النص يوحي‬
‫بأن الذي آمن ‪٬‬تب أن يعدي‬
‫إٯتانه بربه إىل ا‪٠‬تلق ‪ٚ‬تيعا ‪ ،‬حىت‬
‫تتساند حركة ا‪ٟ‬تياة ‪ ،‬وال توجد‬
‫فيها حركة مؤمن عىل هدى‬
‫لتصطدم حركة كافر عىل ضبلل؛‬
‫ألن يف ذلك إرهاقا ًللنفس البشرية‬
‫‪ ،‬وتعطيبل ًللقوى وا‪١‬تواهب اليت‬
‫أمد اهلل بها ذلك اإلنسان الذي‬
‫سخر من أجله كل الوجود ‪ ،‬فبل‬
‫ٯتكن أن يعيش اإلنسان الذي‬
‫س ّوده اهلل وك ّر َمه عىل سائر ا‪٠‬تلق إال‬
‫يف أمان واطمئنان وسبلم وحركة‬
‫تتعاون وتتساعد لتنهض با‪١‬تجتمع‬
‫الذي تعيش فيه هنضة عمرانية‬
‫تؤكد لئلنسان حقا ًأنه هو خليفة‬
‫اهلل يف األرض ‪.‬‬
‫وال يكتفي اإلٯتان منا بأن يؤمن‬
‫الفرد إٯتانا ًيعزله عن بقية الوجود‬
‫‪ ،‬ألنه يكون يف ذلك قد خسر‬
‫حركة ا‪ٟ‬تياة يف الدنيا ‪ ،‬واهلل يريد‬
‫له أن يأخذ الدنيا ٗتدمه كما شاء‬
‫اهلل ‪٢‬تا أن تكون خادمة ‪ ،‬فحُت‬
‫يعدي ا‪١‬تؤمن إٯتانه إىل َته ينتفع‬
‫ٓتَت الغَت ‪ ،‬وإن اكتىف بإٯتان نفسه‬
‫فقط وترك الغَت يف ضبللة ‪ ،‬انتفع‬
‫الغَت ٓتَت إٯتانه وأصابته مضرة‬
‫الكافر وأذاه ‪.‬‬
‫إذن فمن ا‪٠‬تَت له أن يؤمن الناس‬
‫‪ٚ‬تيعا ً‪ ،‬و‪٬‬تب أن يعدي ذلك‬
‫اإلٯتان إىل الغَت ‪.‬‬

‫ولكن الغَت قد يكون منتفعا ً‬


‫بالضبلل؛ ألنه يؤدي به طغيانه ‪،‬‬
‫عندئذ تنشأ ا‪١‬تعركة ‪ ،‬تلك‬
‫ا‪١‬تعركة اليت اية كل من دخل فيها‬
‫أن ينتصر ‪ ،‬فيعلمنا اهلل أن نطلب‬
‫النصر عىل الكافرين منه؛ ألن النصر‬
‫عىل الكافرين ال يعتْب نصر َُا ًحقيقيا ً‬
‫إال إن أ َ َّصل صفات ا‪٠‬تَت يف الوجود‬
‫كله ‪ ،‬وحُت تتأصل صفات ا‪٠‬تَت يف‬
‫الوجود كله يكون ا‪١‬تؤمن قد انتصر‬
‫ْتق ‪.‬‬
‫وحُت يطلب منا اهلل أن نسأله أن‬
‫ينصرنا البد أن نكون عىل مطلوب‬
‫اهلل منا يف ا‪١‬تعركة ‪ ،‬بأن نكون‬
‫جنودا ًإٯتانيُت ْتق ‪ .‬وقد عرفنا أن‬
‫ا‪١‬تؤمنُت حُت يدخلون يف معركة‬
‫مع َتهم يستطيعون أن ٭تددوا‬
‫مركزهم اإلٯتاين من اية ا‪١‬تعركة‬
‫‪ .‬فإن انتهت ا‪١‬تعركة بنصرهم‬
‫و لبتهم علموا أهنم من جنود اهلل ‪،‬‬
‫وإن ُهزموا و ُلبوا فلَتاجعوا‬
‫أنفسهم؛ ألن اهلل أطلقها قضية‬
‫إٯتانية يف كتابه الذي حفظه فقال‬
‫‪َ { :‬وإ َِّن ُجن َدنَا َ‪٢‬ت ُ ُم الغالبون } ػ‬
‫الصافات ‪] 173 :‬‬
‫فإن لم نغلب فلننظر يف نفوسنا ‪ :‬ما‬
‫الذي أخللنا به من واجب ا‪ٞ‬تندية‬
‫هلل ‪ .‬وحُت يعلمنا ا‪ٟ‬تق أن نقول ‪:‬‬
‫{ فانصرنا عَىلَ القوم الكافرين } ‪،‬‬
‫أي بعد أن أخذنا أسباب وجودنا‬
‫من مادة األرض ا‪١‬تخلوقة لنا‬
‫بالفكر ا‪١‬تخلوق هلل ‪ ،‬نعمل فيها‬
‫بالطاقة ا‪١‬تخلوقة هلل ‪ ،‬وحينئذ‬
‫نكون أهبل ًللنصر من اهلل؛ ألن ا‪ٟ‬تق‬
‫سبحانه وتعاىل قد مد يده بأسباب‬
‫النصر ‪َ { :‬وأَعِ ُّدوا ْ َ‪٢‬ت ُ ْم َّما استطعتم‬
‫ِ‬
‫اط ا‪٠‬تيل ُت ْرهب ُ َ‬
‫ون‬ ‫ِّمن ُق َو ٍة و ِمن ِرب َ ِ‬
‫ّ َ ّ‬
‫بِ ِه ع َ ْد َّو اهلل َوع َ ُد َّو ُك ْم َوآ َخرِي َن ِمن‬
‫ُد ِ ِ‬
‫وهن ْم ال َتَعْل َ ُم َ‬
‫وهن ُ ُم اهلل يَعْل َ ُم ُه ْم }‬
‫ػ األنفال ‪] 60 :‬‬
‫حينئذ ال ٗتافون أبداً؛ ألن هلل جنودا ً‬
‫لم تروه ا ‪ ،‬وال يتدخل اهلل با‪ٞ‬تنود‬
‫َت ا‪١‬ترئية لنا إال إذا استنفدنا ‪٨‬تن‬
‫أسباب اهلل ا‪١‬تمدودة لنا ‪.‬‬
‫وحُت ٮتتم ا‪ٟ‬تق سبحانه وتعاىل‬
‫سورة البقرة وهي الزهراء األوىل‬
‫لتأيت بعدها الزهراء الثانية وهي‬
‫سورة آل عمران ‪٧‬تد أن هذا هو‬
‫الًتتيب القرآين ( اْلن ) وهو ليس‬
‫عىل ترتيب الزنول الذي حدث ‪،‬‬
‫فللقرآن ترتيبان ‪ :‬ترتيب نزويل‬
‫حُت نزلت اْليات لتعاًف حدثا ًوقع‬
‫لؤلمة ا‪١‬تسلمة يف صراعها مع‬
‫الكافرين بربهم ‪ ،‬ويف تربيته‬
‫لنفوسهم ‪ ،‬فكانت كل آية تأيت‬
‫لتعاًف حادثة ‪ .‬واألحداث يف الوجود‬
‫إ‪٪‬تا تأيت عىل أيدي البشر ‪ ،‬فليس‬
‫من ا‪١‬تعقول أن تزنل آيات من‬
‫الرآن ‪ .‬تعاًف أحداثا أخرى ال‬‫ق‬
‫صلة بينها وبُت ما ‪٬‬تري من‬
‫أحداث يف ا‪١‬تجتمع اإلسبلمي أو ما‬
‫ينشأ يف الكون من قضايا ‪.‬‬
‫إذن فبلبد أن توجد األحداث أوال ‪،‬‬
‫ويأيت بعدها النص القرآين ليعاًف‬
‫هذه األحداث ‪ ،‬ولكن بعد أن‬
‫اكتمل الدين كما قال اهلل ‪{ :‬‬
‫اليوم أ َ ْك َمل ْ ُت ل َ ُك ْم ِدين َ ُك ْم‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫َوأ ْ٘ت َ ْم ُت عَلَي ْ ُك ْم نعْ َم ِيت َو َر ِض ُ‬
‫يت‬
‫ل َ ُك ُم اإلسبلم ِدينا ً} ػ ا‪١‬تائدة ‪] 3 :‬‬
‫جاء الًتتيب الذي يرتب القضايا‬
‫ترتيبا ًكليا ً‪ ،‬ألنه عا‪ٞ‬تها من قبل‬
‫عبلجا جزئيا ‪ .‬فحُت نقول ‪ :‬إن‬
‫هذه السورة نزلت بعد كذا ‪ ،‬أو‬
‫فيها آية كذا ‪ ،‬نزلت بعد كذا ‪،‬‬
‫و‪٧‬تد أن ذلك ٮتتلف عن النسق‬
‫الزنويل نعلم أن هلل سبحانه وتعاىل‬
‫يف كتابه ترتيبُت‪:‬‬
‫الًتتيب األول ‪ :‬حسب الزنول ‪.‬‬
‫والًتتيب الثاين ‪ :‬الذي ُوجد عليه‬
‫القرآن اْلن و٘تت به كلمة اهلل يف‬
‫خدمة ا‪٢‬تداية اإلٯتانية وهذا‬
‫األخَت من عند اهلل أيضا ‪.‬‬

Вам также может понравиться